لو كنت في القاهرة وسألني شخص متعلم عن مكان دراستي وتخصصي لأجبت بأريحية :
- أدب عربي في ألمانيا .
والصحيح أنني لم أتردد ، وأنا في نابلس ، في الإجابة نفسها بتلقائية ، فأنا حقا درست الأدب العربي في ألمانيا . ولما كانت نابلس غير القاهرة ، ولما كانت جامعتها حديثة التأسيس في مدينة وقعت تحت الاحتلال منذ العام ١٩٦٧ ، ودرس أبناؤها الأدب العربي في القاهرة ودمشق ، ولم يدرس أي منهم في دولة غربية إلا الأدب الإنجليزي أو علم الاجتماع أو الهندسة والطب والاقتصاد ، فقد استغرب كثيرون أن أكون سافرت إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه في الأدب العربي ، وغالبا ما كنت أصغي إلى المستمعين وهم يعبرون عن دهشتهم قائلين :
- أدب عربي في ألمانيا !؟
في الجامعات المصرية والسورية واللبنانية ، ولاحقا الجامعات الأردنية ، تخرج عشرات ، إن لم يكن مئات ، من جامعات غربية متخصصين في الأدب العربي .
وكان يتبع السؤال سؤال آخر متعلق به هو :
- بأية لغة درست الأدب العربي ؟
وكنت أذكر السائلين بطه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وآخرين ممن قدموا للأدب العربي خدمات جليلة وكانوا حصلوا على شهاداتهم من جامعات غربية عريقة .
مشكلة جامعة النجاح الوطنية الكبرى ، كما ذكرت من قبل ، تكمن في أن أهل المدينة يتدخلون فيما يجري فيها ويتابعون أخبارها ويعرفون ما يجري فيها ، وإن كان لهذا وجه إيجابي فله في الوقت نفسه وجه سلبي .
كيف أشرح لكثيرين أنه ما من جامعة غربية عريقة إلا كانت العلوم الإسلامية تخصصا من تخصصاتها ؟
كنت أتيت من قبل على تخصصي وكيف حصلت على البعثة والموضوع الذي كتبت الأطروحة فيه ، ولا بأس بقليل من التكرار .
تختلف دراسة الدكتوراه في الجامعات الألمانية عنها في الجامعات المصرية وبعض الجامعات العربية ، فكثيرون ممن حصلوا على الدكتوراه من جامعات عربية في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين لم يدرسوا مساقات واكتفوا بأن كتبوا الأطروحة ، وكانت هذه هي ما يحدد تخصصهم .
في ألمانيا الأطروحة مهمة ولكنها جزء من دراسة الدكتوراه ، فأنت حين تدرس العلوم العربية يجب أن تتخصص في فرعين آخرين ، ويجب أن تكتب في كل تخصص بحثا وتناقشه ، وبعد أن تنحز هذا وتنجز رسالة الدكتوراه في الموضوع الذي خضت فيه تتقدم لامتحان شفوي في التخصصات الثلاثة .
تذهب إلى الأساتذة الذين كتبت معهم الأبحاث والرسالة وتتفقون معا على أفكار معينة غير التي كتبت فيها ، وتقرأ حول هذه الأفكار ثم تتقدم ، بعد أن يجيز المشرف والمناقش الخارجي أطروحتك ، إلى امتحان شفوي يجلس فيه الممتحنون الثلاثة وعميد الكلية معك ويسجلون على " شريط تسجيل " وقائع الجلسة .
لقد كتبت في موضوع صورة اليهود في الأدب الفلسطيني ، واخترت لامتحان التخصص الرئيس الأفكار الآتية :
- أدب السجون في الرواية العربية ، رواية عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط " نموذجا ، وكتاب د.سمر روحي الفيصل " السجن السياسي في الرواية العربية "
- مسرح توفيق الحكيم بأنواعه وحددت المسرحيات الآتية مثالا : يا طالع الشجرة ، نماذج من المسرح الاجتماعي ، السلطان الحائر ، بجماليون أو شهرزاد ولم أعد أتذكر أيهما تماما .
- أبو نواس ، واخترت كتاب أستاذ ألماني أشرف على زميلي الدكتور زياد الزعبي ، والكتاب هو كتاب الأستاذية لصاحبه ، و أرجح أنه بروفيسور Ewald Wagner ولا يقل حجمه عن ٥٠٠ صفحة .
وهكذا لم أكن مقتصرا على الأدب الفلسطيني أو الأدب العربي الحديث ، عدا ما سبق فقد أنفقت فصولا في قراءة قصص وروايات نجيب محفوظ ومسرحيات صلاح عبد الصبور ، وتعلمت تحليل النص الشعري فأنفقت فصلا كاملا مع الدكتورة ( انجليكا نويفرت ) ندرس معا قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " وترجماتها إلى العبرية والتوقف أمام إشكاليات أنا المتكلم فيها ( سوف أترجم بعد عودتي دراسة نويفرت ودراسات أخرى عديدة ) .
حين طبع اتحاد الكتاب الفلسطينيين لي رسالة الدكتوراه كتب أحد أعضاء الاتحاد محددا تحصصي " دكتوراه في الأدب الفلسطيني " ، وذهب المرحوم عزت الغزاوي إلى ما هو أبعد من ذلك ، فكتب في معجم الأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين إلى أن الكتاب رسالة ماجستير مترجمة . كل ما سبق لم يصدر عن متخصصين يعرفون طبيعة الدراسة في ألمانيا ، وإنما صدر عن أشخاص يحركهم الفصيل الذي ينتمون إليه . ( أنجز أحد أعضاء الاتحاد لاحقا رسالة دكتوراه قلد فيها رسالتي ولخص الكثير منها وكتب أطروحته وهو في الضفة دون أن يتلقى العلم على يد أستاذ ) .
بقدر من النرجسية أكتب إنني أنجزت ما لم ينجزه أي أكاديمي فلسطيني في الأرض المحتلة في التخصصات الآتية :
- النقد الأدبي
- الأدب العربي الحديث
- الأدب المقارن .
وعلى الرغم مما سبق ، وعلى الرغم من إنهائي عملي في الجامعة إلا أن الجامعة قيادة وشعبا ؛ متخصصين وغير متخصصين ، منجزين وغير منجزين ،
ما زالوا يتساءلون عن تخصصي .
لعبد الحليم حافظ أغنية تقول كلماتها إن رفاق أنا المتكلم فيها حائرون في حبيبته من تكون ، وأنهم ما زالوا يتساءلون .
الرفاق حائرون .
الإدارة حائرة .
وأنا أكتب مقالاتي على مهلي ، وحين أنظر في أبحاث زملاء كثر أجد نفسي ألقي بها في سلة المهملات .
الخميس
١٢ آذار ٢٠٢٠ .
- أدب عربي في ألمانيا .
والصحيح أنني لم أتردد ، وأنا في نابلس ، في الإجابة نفسها بتلقائية ، فأنا حقا درست الأدب العربي في ألمانيا . ولما كانت نابلس غير القاهرة ، ولما كانت جامعتها حديثة التأسيس في مدينة وقعت تحت الاحتلال منذ العام ١٩٦٧ ، ودرس أبناؤها الأدب العربي في القاهرة ودمشق ، ولم يدرس أي منهم في دولة غربية إلا الأدب الإنجليزي أو علم الاجتماع أو الهندسة والطب والاقتصاد ، فقد استغرب كثيرون أن أكون سافرت إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه في الأدب العربي ، وغالبا ما كنت أصغي إلى المستمعين وهم يعبرون عن دهشتهم قائلين :
- أدب عربي في ألمانيا !؟
في الجامعات المصرية والسورية واللبنانية ، ولاحقا الجامعات الأردنية ، تخرج عشرات ، إن لم يكن مئات ، من جامعات غربية متخصصين في الأدب العربي .
وكان يتبع السؤال سؤال آخر متعلق به هو :
- بأية لغة درست الأدب العربي ؟
وكنت أذكر السائلين بطه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وآخرين ممن قدموا للأدب العربي خدمات جليلة وكانوا حصلوا على شهاداتهم من جامعات غربية عريقة .
مشكلة جامعة النجاح الوطنية الكبرى ، كما ذكرت من قبل ، تكمن في أن أهل المدينة يتدخلون فيما يجري فيها ويتابعون أخبارها ويعرفون ما يجري فيها ، وإن كان لهذا وجه إيجابي فله في الوقت نفسه وجه سلبي .
كيف أشرح لكثيرين أنه ما من جامعة غربية عريقة إلا كانت العلوم الإسلامية تخصصا من تخصصاتها ؟
كنت أتيت من قبل على تخصصي وكيف حصلت على البعثة والموضوع الذي كتبت الأطروحة فيه ، ولا بأس بقليل من التكرار .
تختلف دراسة الدكتوراه في الجامعات الألمانية عنها في الجامعات المصرية وبعض الجامعات العربية ، فكثيرون ممن حصلوا على الدكتوراه من جامعات عربية في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين لم يدرسوا مساقات واكتفوا بأن كتبوا الأطروحة ، وكانت هذه هي ما يحدد تخصصهم .
في ألمانيا الأطروحة مهمة ولكنها جزء من دراسة الدكتوراه ، فأنت حين تدرس العلوم العربية يجب أن تتخصص في فرعين آخرين ، ويجب أن تكتب في كل تخصص بحثا وتناقشه ، وبعد أن تنحز هذا وتنجز رسالة الدكتوراه في الموضوع الذي خضت فيه تتقدم لامتحان شفوي في التخصصات الثلاثة .
تذهب إلى الأساتذة الذين كتبت معهم الأبحاث والرسالة وتتفقون معا على أفكار معينة غير التي كتبت فيها ، وتقرأ حول هذه الأفكار ثم تتقدم ، بعد أن يجيز المشرف والمناقش الخارجي أطروحتك ، إلى امتحان شفوي يجلس فيه الممتحنون الثلاثة وعميد الكلية معك ويسجلون على " شريط تسجيل " وقائع الجلسة .
لقد كتبت في موضوع صورة اليهود في الأدب الفلسطيني ، واخترت لامتحان التخصص الرئيس الأفكار الآتية :
- أدب السجون في الرواية العربية ، رواية عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط " نموذجا ، وكتاب د.سمر روحي الفيصل " السجن السياسي في الرواية العربية "
- مسرح توفيق الحكيم بأنواعه وحددت المسرحيات الآتية مثالا : يا طالع الشجرة ، نماذج من المسرح الاجتماعي ، السلطان الحائر ، بجماليون أو شهرزاد ولم أعد أتذكر أيهما تماما .
- أبو نواس ، واخترت كتاب أستاذ ألماني أشرف على زميلي الدكتور زياد الزعبي ، والكتاب هو كتاب الأستاذية لصاحبه ، و أرجح أنه بروفيسور Ewald Wagner ولا يقل حجمه عن ٥٠٠ صفحة .
وهكذا لم أكن مقتصرا على الأدب الفلسطيني أو الأدب العربي الحديث ، عدا ما سبق فقد أنفقت فصولا في قراءة قصص وروايات نجيب محفوظ ومسرحيات صلاح عبد الصبور ، وتعلمت تحليل النص الشعري فأنفقت فصلا كاملا مع الدكتورة ( انجليكا نويفرت ) ندرس معا قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " وترجماتها إلى العبرية والتوقف أمام إشكاليات أنا المتكلم فيها ( سوف أترجم بعد عودتي دراسة نويفرت ودراسات أخرى عديدة ) .
حين طبع اتحاد الكتاب الفلسطينيين لي رسالة الدكتوراه كتب أحد أعضاء الاتحاد محددا تحصصي " دكتوراه في الأدب الفلسطيني " ، وذهب المرحوم عزت الغزاوي إلى ما هو أبعد من ذلك ، فكتب في معجم الأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين إلى أن الكتاب رسالة ماجستير مترجمة . كل ما سبق لم يصدر عن متخصصين يعرفون طبيعة الدراسة في ألمانيا ، وإنما صدر عن أشخاص يحركهم الفصيل الذي ينتمون إليه . ( أنجز أحد أعضاء الاتحاد لاحقا رسالة دكتوراه قلد فيها رسالتي ولخص الكثير منها وكتب أطروحته وهو في الضفة دون أن يتلقى العلم على يد أستاذ ) .
بقدر من النرجسية أكتب إنني أنجزت ما لم ينجزه أي أكاديمي فلسطيني في الأرض المحتلة في التخصصات الآتية :
- النقد الأدبي
- الأدب العربي الحديث
- الأدب المقارن .
وعلى الرغم مما سبق ، وعلى الرغم من إنهائي عملي في الجامعة إلا أن الجامعة قيادة وشعبا ؛ متخصصين وغير متخصصين ، منجزين وغير منجزين ،
ما زالوا يتساءلون عن تخصصي .
لعبد الحليم حافظ أغنية تقول كلماتها إن رفاق أنا المتكلم فيها حائرون في حبيبته من تكون ، وأنهم ما زالوا يتساءلون .
الرفاق حائرون .
الإدارة حائرة .
وأنا أكتب مقالاتي على مهلي ، وحين أنظر في أبحاث زملاء كثر أجد نفسي ألقي بها في سلة المهملات .
الخميس
١٢ آذار ٢٠٢٠ .