عبدالرحيم التدلاوي - السارد ذو اللسان الساخر في المجموعة القصصية " ترنيمة الاستجداء" للقاص لأحمد بلقاسم

ترنيمة الاستجاد، هي المجموعة الرابعة للقاص الجاد أحمد بلقاسم؛ وقد صدرت في سوريا عن مطبعة الحصاد في طبعتها الأولى سنة 2020 وتتضمن ثمانية عشر نصا، وتمتد على مساحة نصية تصل إلى 127 صفحة؛ وتنقسم من حيث الحوار إلى ستةة عشر نصا ناطقا، ونصان صامتان؛ وهما: يد كريمة ص 7 ومجرب ص83.
ما يشد الانتباه لأعمال المبدع أحمد بلقاسم هو متانة بنائها، وأسلوبها الساخر؛ فنصوص الرجل تتمتع بتماسكها وتناسقها وانسجامها، يأتي البناء فيها مرتبا بدقة، حيث تسير الأحداث وفق ترتيب يفضي إلى الدهشة، وأن القاص يعمد إلى تشعيب الأحداث في اتجاهين، ثم يجمع بينهما لتحقيق السخرية، إنه لا يكتب سخريته بشكل مجاني، بل يضبط إيقاعها وفق إيقاع الأحداث المتراكبة ليبلغ الموقف الذي يريد بسلاسة وليونة، كما في نص "قهوة محروقة" ص123. ينتقل السارد بمعية رفيقه بين فضاءين مختارين بعناية لبلوغ الدلالة الثاوية بين السطور من لحظة البدء إلى لحظة التنوير؛ هما فضاءا المطعم والمقهى، ففي الأولى يقدم الطعام الذي يسكت الجوع، وفي الثانية يقدم مشروب القهوة، بيد أن الرجلين، لم يقصدا المقهى لشرب فناجين القهوة المحمصة واللذيذة، بل بحثا عن مخرج من الورطة التي أوقعهما فيها طعام المطعم الملوث، وفي هذا المكان، أي المقهى، تتكثف الأحداث وتبلغ ذروتها المفضية إلى انفجار السخرية، إذ إن القهوة المقدمة تشبه ما في الأحشاء وترغب في الخروج حتى لا يقع المحظور المخجل. يقود السارد المتلقي بيسر ونعومة وبلغة بسيطة وعميقة، من البداية إلى النهاية الساخرة بقوتها، ولا يفصح عن مقصدتيه بذلك بل يترك للمتلقي أن يدرك الإيحاء المبطن. يوظف القاص كل التقنيات التي تخدم قصته بكفاءة، وبخاصة الحوار والوصف، فهما معا يلعبان دورا مهما في تنامي الأحداث وفي بناء السخرية المنطوية على نقد لاذع للخدمات السيئة. ولعل ضمير المتكلم الذي يجعل السارد طرفا مشاركا بل الشخصية الرئيسة جاء ليقدم لنا وصلته القصصية بكل صدق ليجعلنا شهودا على الأحداث وتطورها، دون أن يعني أن هناك تماثلا بين السارد -الشخصية المتخيلة، وبين الكاتب بصفته شخصا ماديا يعيش واقعيا خارج النص. وتبقى السخرية الناظم للمجموعة، والتقنية العابرة لها جميعا؛ وهذا ما يؤكده نص "جوارب مثقوبة" ص105، عبر تقنية الحوار الذي بواسطته كانت تنمو الأحداث- المعرفة، فبواسطة طرح السارد على محاوره مجموعة من الأسئلة بلغ إلى علمه سبب سخط صديقه، لتنقلب الأدوار حيث يصير السارد طارح الأسئلة، وصديقه المجيب، ليقوده بسهولة نحو الهدف المرسوم، والوارد في ختام القصة إذ يقول السارد بكثير من التعجب والسخرية: إذن، إذا لم تكن الصواريخ الباليستية سبب فقرنا، فمن فتح الباب على مصراعيه أمام الجوع، وأمام المرض، وأمام الجهل، ليغزونا في عقر منازلنا، ويتسللوا كالسوسة إلى عظامنا عبر ثقوب جواربنا؟ سؤال استنكاري يجعل الصديق صامتا هو الذي ينتقد الخارج وينسى نفسه.
وتحضر السخرية كنقد لاذع لبعض المظاهر الاجتماعية والثقافية، كما في نص "مجرب"، حيث يمكن نعت شخصيته الرئيسة بالمتشائل، أو المنحوس الذي جرب كل شيء من دون نجاح، لكن إصراره رغم فشله المستمر، على خوض تجارب جديدة سيمكنه من أن يتنقب ليصير مناضلا طبقيا على منوال ليش فاليسا، وأنى له ذلك، وهنا يبلغ النقد الساخر ذروته حين يصير غير مرئي "لأن النقاب الذي وشح به رأسه وكشحه ان أسود حالكا بحيث أصبح من المستحيلات السبع التعرف عليه، ومن حباه الله برؤية طلعته البهية فكأنما صادف الساعة المباركة في ليلة القدر المقدسة... ص86.
وإذا كان السابق قد انتقد ظاهرة الوصوليين في المجال السياسي والنقابي، فإن نص خيبة أمل ص77 ينتقد المجال الثقافي من خلال نقد القصة القصيرة جدا بسخرية لاذعة؛ إذ أجمع فطاحلة الأدب على عدم الاهتمام بهذا الكائن المجهري.
وإذا كانت السخرية الخيط الناظم للنصوص، فإن الحوار من التقنيات التي يبرع فيها القاص، حيث نجده يتحكم فيه، ويجعله انسيابيا لا تظهر أمارات تكلف أو تصنع عليه، وهو ما أبان عنه النص السابق، والكثير من النصوص الأخرى كقصة "كاتب رسائل" ص61. تطل السخرية برأسها من البداية باستغلال حكمة "ما خاب من استشار" ليسخر من النصيحة التي قدمها له صديقه حتى يتجنب المقاهي واغتياب الناس. صار وفق النصيحة بحمل خيمة إلى سوق، وفي اللحظة التي كاد يغادر المكان يئسا من غياب الزبائن، تمطره السماء امرأة في عقدها الخامس، تطلب منه حرزا يقي ابنتها من كذبة خطيب تقدم إليها بدعوى أنه سيكون قريبا دكتورا، اعتقدت أنه سيصير بعيادة لمعالجة الناس، وإذا بها تجده دكتور كلام وكتب. لقد كان للحوار دور مهم في بناء القصة، إذ بواسطته عرفنا قصة المرأة وسر قدومها إلى الكاتب، كانت تقاطعه لحمايتها وغضبها، ولم تترك له فرصة الكلام إلا بعد أن أكملت بناء همها، ليتبين له خطأها، وخطأ الاستشارة التي ما جلبت له سوى الغم، لينهي حواره مع زبونته بأن مقصدها في مكان آخر. صحيح أن المكان أيضا له دور في بناء القصة، فالسوق مكان شعبي يرتاده من يؤمن بالغيبيات والشعوذة، والانتقال من فضاء المقهى إلى فضاء السوق كان بغاية انتقاد ما يشتمل عليه الفضاءان من اختلالات معرفية وفكرية. كل تقنيات القصة، وبخاصة: الحوار والوصف، وسرد الأحداث، اختيار الموضوع، شكلت ضفيرة متينة البناء لتمنحنا قصصا مشوقة، ذات أبعاد دلالية متعددة، وتبقى السخرية هي أهم تقنية كللت هامة المجموعة، دون نسيان اللغة العربية السهلة الممتنعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى