بشرى البستاني - جماليات الذاكرة وجدلية الحضور.. قراءة في عينية الصمة القشيري

لأن صاحبي لا يسافر ، فأنا معه مقيم ...

أبو يزيد البسطامي



(1 )

النص: ( 1 )

حننتَ الى ريّا ونفسكَ باعدتْ مزاركَ من ريّا وشِعباكما معا
فما حسنٌ أن تأتيَ الأمر طائعاً وتجزعَ أنْ داعي الصبابة أسمعا
قفا ودّعا نجداً ومن حلَّ بالحمى وقلَّ لنجدٍ عندنا أنْ يُودّعا
ولما رأيتُ البشرَ أعرض دوننا وحالتْ بناتُ الشوقِ يحننَّ نُزّعا
تلفتُّ نحو الحيِّ حتى وجدتُني وُجعتُ من الإصغاء ليتاً ، وأخدعا
بكتْ عينيَ اليسرى فلما زجرتُها على الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكرُ أيامَ الحمى ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أنْ تَصدّعا
فليستْ عشياتُ الحمى برواجعٍ عليكَ ، ولكنْ خلِّ عينيكَ تدمعا

(2)

اذ ندخل عالم الشعر فإنما ندخل في عتمة اللغة التي تختزن كنوز الإبداع ، وعلى فدر ما في المصابيح التي بأيدينا من طاقة على الرؤية تكمن قيمة الكنوز التي نعثر فيه عليها ، من هنا فان ما قيل عن الخطاب الشعري القديم من كون لغته ليست الا اداة للتعبير عن الواقع وتشكيل مفاهيمه وأفكاره عن طريق الإخبار من خلال وظائفه الثلاث : المرجع والذاكرة التاريخية والوظيفة الإفهامية ثم الوظيفة الانفعالية التي تحصل بعد تحقق الوظيفتين السابقتين ما هو الاّ حكمٌ مجتزأ ينظر إلى الخطاب الشعري القديم بمنظار الخطاب النقدي المقارب برؤيته للخطاب الشعري الجديد وطرائق تشكله ، وليس بآليات الخطاب النقدي المتسم بعلاقة حميمة مع الوجود الانساني الرحب المحايث لأي نص من حيث عمق الرؤية وقدرتها الاستيعابية على ولوج العالم الفني لذلك الخطاب ، وفهم ماهية الاسئلة المتخفية التي تكمن وراءه ، وعليه فان قصائد تلك الحقبة المهمة ان كان بعضها لايتسم بغموض يحجبها عن القارئ المعاصر ، فذلك لايعني انها لاتمتلك ثراءً دلاليا ورؤىً مضمرة تؤهلها للدخول في فضاء التأويل ، وتضعها في صميم السؤال والاستفهام ومحاولة الكشف المشروعة ، ولعله حقٌ مشروع ذلك الذي يدفع كل جيل للنظر إلى تراثه بعينيه هو وليس بعيون الآخرين ممن سبقوه ، أو بالعيون التقليدية التي تعاصره ، ولهذا الأمر يُستدعى التأويل للتوفيق مابين النص القديم وبين الرؤية المعاصرة كونه ستراتيجية شاملة وجذرية لصيانة أي نص قديم مهم من الترك والاهمال والضياع بالنسيان من خلال قراءة معانيه الخفية ومراميه المغيبة و الماثلة في أعماقه .. (2) فالتأويل يسعى إلى السمو بالعمل الابداعي الأصيل عن القراءة السطحية المنعزلة أو المبسطة ويعمل على فتح النص من أجل تحقيق قراءات بعدد قرائه الجادين ، من هنا تتجلى العلاقة الحميمة مابين التأويل والتلقي ، ذلك ان التأويل لايتأتّى الاّ للقراءة المعمقة من قبل متلقٍ قادر على الدخول في حوار جدلي مع النص لإثارته واستنطاقه ، وإبداء ما يقوله النص له ، ويُرجع بعضهم نظرية التلقي إلى اتجاهين .. الاول يمثله ايزر الذي يركز الاهتمام على دور النص والقارئ معاً في انتاج المعنى ، ويطلق على هذا الاتجاه : التأثير والاتصال ، بينما يمثل ياوس الاتجاه الثاني في نظريته : التقبل والتلقي التي تركز على دور القارئ وحده في انتاج المعنى .. (3) فضلاً عن أهمية تأويلية جادامير في التأثير على هذا الاخير ، فجادامير ( على العكس من هيدجر ) لايعني بمادة الفن - أنغاما والوانا وحجارة - ولكنه يعني بها الحقيقة الوجودية .. ( المعاني ) التي يشكلها الفنان في العمل الفني ، والتي تتغير وتتحول وتنصهر في الشكل ، وتصبح معطىً جديداً قابلا للمشاركة من قبل المتلقي الآخر ، كما أكد جادامير ان العمل الفني لايمكن ان ينفصل عن عالمنا الذاتي لأننا حين نفهم العمل فاننا نستحضر خبراتنا الذاتية بكل تشكيلاتها التي بلورتها الحياة بواقعها وماضيها معا ، وان هذا العمل الفني انما يثير فينا معرفة هي ليست ملك العمل نفسه ولا هي كامنة في تجربتنا وحدها ، بل هي ناتج التفاعل بين تجربتنا والحقيقة التي يجسدها العمل ، وهذه المعرفة ما كانت لتكون لولا تجسد تجربة المبدع الوجودية في وسيط ثابت هو الشكل ، وهو الذي يتيح لنا فرصة لمشاركة المتلقي في عملية انتاج
المعنى ، فالاشارات التي يطلقها الفن متغيرة لكن الوسيط ( الشكل ) هو الثابت أو المحايد إلى حد كبير مما يجعل تلقيه عملية ممكنة ومتكررة من قارئ لقارئ ومن جيل إلى جيل ، كما يعود الفضل لجادامير في التأكيد على ضرورة عدم الاغتراب عن الظاهرة التاريخية المدروسة ، فالتاريخ في رأي جادامير ليس وجودا مستقلا في الماضي عن وعينا الراهن وأفق تجربتنا الحاضرة ، كما ان الحاضر ليس معزولا عن تأثير التقاليد التي انتقلت الينا عبر التاريخ ، فالوجود الانساني تاريخي ومعاصر في وقت واحد اذ لا يمكن للانسان تجاوز أفقه الراهن في فهم الظاهرة التاريخية . اننا اذ نحاول فهم الماضي علينا ان لانكون في غيبة عن التقاليد والتاريخ والقيم التي جاءتنا عبر
الزمن وشكلت هذا المحيط الذي نحيا فيه الآن ، فعلاقتنا بالتاريخ يجب ان تقوم على الجدل
والحوار .. (4) وبغض النظر عن النقد الذي وجه لموقف جادامير هذا بعدِّه الشكلَ الفني مجرد وسيط حامل للمضمون ، الا ان ما يعنينا منه في التعامل مع النصوص هو الموقف الحواري من التاريخ ، فالتاريخ ليس ما كتبه المؤرخون بأمزجتهم ، إنما هو نحن بالأمس ، إنه الانسان باشكالياته الوجودية والمصيرية ، والتاريخ هو حاضرنا في ذلك الزمن ، ولذلك فهو موجود فينا اليوم ، متحرك من حولنا، وسيظل موجودا متحركا وجدليا في الغد كذلك ، إنه نحن اليوم وما تشكل من حضوره فينا سلبا وايجابا ، من هنا فان للمدونة التاريخية دورها المهم في عملية التأويل ، وفي ترصين الاحاطة بمقاصد النص ومراميه .

(3)
تعد أبيات الصمّة بن عبد الله قصيدة اذا اعتمدنا مقولتي الأخفش وابن رشيق وغيرهما ممن عدّوا القصيدة ما بلغت ثلاثة أبيات أو سبعة (5) وقد أضاف بعضهم لهذا النص بيتاً أو بيتين ( فاكثر .. ) لكننا اعتمدنا رواية حماسة ابي تمام كونها في نظر الدراسة تشكل بنية اكثر اتساقا وتماسكا من الروايات الاخرى .
اعتمدت الدراسة قراءة القصيدة قراءة تأويلية ، والقراءة التأويلية محاولة استكشاف وحفر في أغوار النص البعيدة ، انها مغامرة ذهنية مع اللغة ورموزها ، ومع غير المقول فيها، واللامرئي المخزون في ذاكرتها ، والذي يستمد منه المقول أصوله بطرق متعددة ، فهو الاحتياطي الذي يجري الكلام عليه (6) حيث تتعزز ثنائية الحضور والغياب التي لاغنى عنها لأي نص يحمل سمات معرفية ، فالشكل بكتلته اللغوية الحيوية حاضر ، لكن الدلالة تظل شارة إغواء وغواية لأنها متخفية تغري القارئ بالبحث عنها والحوار معها .
ولذلك يفترض بالتأويل ان يحوم حول ذلك اللامرئي باحثا عن الطاقة الكامنة التي تشع وراء ظلاله ، وتنبثق من خيوط نسج النص الدقيقة ، تلك الخيوط التي تشكل نظامه الداخلي مانحة اياه نسقه الحيوي ورصيده الذي يسمه بالحياة والتجدد ، وعندما تحدد القراءة موضع الطاقة في النص عليها ان تفهمه ، والفهم هو الستراتيجية المهمة التي تمنح النصوص قيمتها ، فالتأويل لا يعمل على النص الماثل عيانا ، بل هو يشتغل فيما وراء النص ، لأن العمل في المرئيات لا يوصل الا إلى شرح بناها السطحية ، وذلك متاح لأية عملية تحليل تشتغل على المرئي ، في حين ان اللامرئي غير متاح ، فهو يتأبى على التحليل ، ويقاوم فرص الظهور ، ولذا فان الدخول في متاهة اللامرئي عملية في غاية الخطورة اذا لم تكتنفها الدقة والحذر والخبرة المعرفية بنموذج النص موضوع الدراسة بحثا عما يقوله النص للمؤول تحديدا ، وليس عما يقوله عموما .

(4)
الفضاء الشعري مصطلح شامل يتسم بالتشابك ، ويصل حد التعقيد لأنه يكاد يستوعب العناصر والأبعاد والرؤى والأنساق والمفاهيم التي تشكل النص الشعري ، ويوجزه بعضهم فيعده " الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والاشياء متلبسة بالأحداث تبعا لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية ، وبنوعية الجنس الأدبي وحساسية الكاتب (7) وربما عدّه
بعضهم " النص كله " (8) ويؤكد كثيرون على ثلاثة عناصر فيه : المكان والزمان والرؤيا ، للتلاحم مابين الذات الشعرية - باثة الرؤى - وبين فضاء الزمان الذي يتشكل عبر الحدث في الفضاء المكاني .
يتمحور نص الصمّة حول فضاء مكاني مهيمن يمتد من بداية القصيدة حتى نهايتها ويستقطب المكابدات التي زخرت بها .. ( مزارك ، شعباكما ، نجد ، الحمى ، نجد ، البشر ، دوننا ، نحو الحي ، ليتاً ، اخدعا ، كبدي ، الحمى .. ) ثم يلتحم الزمن بالمكان جاريا فيه ، منهمرا في فضائه : ايام الحمى ، عشيات الحمى .
واذا كان نجد - الحمى = ريا الفضاء الذي تمركزت حوله مفاصل القصيدة فان هذا الفضاء يحيل على المشهد الصحراوي ( ماضيا .. ) فالشاعر يبدو وقد اُخذ قلبه وعقله بذلك المشهد الشاسع الأليف المضيء الحنون ، ذلك الفضاء الذي لم يكن دوما علامة شتات وضياع وانفصال ، مما يؤكد ان الشاعر العربي قد تمكن من أنسنته كما يقول ( ديول ) للوفاق مع صخوره وصمته ووحدته ، مع صفائح ذهبه الشمسي المعلقة في السماء .. (9) فالسعة والامتداد ليست دائما مثار فزع ووحشة وليست هي رمزا للمجهول باستمرار ، يقول باشلار : " عند بودلير تثير كلمة واسع الهدوء والسلام والصفاء ، انها تعبر عن اقتناع حيوي وحميم ، انها تنقل إلى اسماعنا صدى معتزلات وجودنا الخفية ، لأن هذه الكلمة موسومة بعلاقة الجاذبية الارضية ... ان كلمة واسع يجب ان تسيطر على السكون الآمن للوجود .. " (10) واذا كانت بطولة الذات الشعرية تتجلى في القدرة الخارقة على التكيف والتكييف نفسيا ومكانيا ، فان جزءاً من ذلك الفضل يعود إلى فعل المكان في تلك النفس بلاشك ..
ان نجداً هو الفضاء المكاني الذي وعى بؤرة الحدث التاريخي العربي بزحمة أضداده : الحرب - السلام ، الكرم - البخل ، الحرية - الاستلاب ، الدم والخمر والخيل والليل ، إلى غير ذلك من جدل الحياة العربية قبل الاسلام ، ولعل مفردة ( الحمى ) تمكنت من تبئير كل دلالات الحماية النفسية للذات الشاعرة الممزقة خوفا وجزعا في بحثها عن الخلاص ، ولذلك تكررت اربع مرات في النص ، وجاء تكرارها متتاليا في الابيات الثلاثة الاخيرة ، وكأن الشاعر يقاوم بها وجع البين الذي ستعبر عنه تشكيلات القصيدة كلها وهي تصطدم بأعضاء الجسد لوعة فتصدعها .. العروق ، العيون ، الكبد وما لكل ذلك من تأثير فادح على النفس ومكابدتها .

ان تكرار المفردات ( المفقودة .. ) والتي بثت لواعج الحنين في النص ، يخلق احساسا بالتواصل داخل الغياب ، فبذكر المفقود تكمن الفة ولوعة ومعالجة للفقدان واستثارة له كذلك ، وبنسق غير منقطع هو نقيض الفناء والاندثار الذي يقترن بالغياب ، فالزمن ذاته يبدو مشبعا بتفاصيله وليس مصدرا مفتوح النهاية ، ذلك التواصل الذي ينهض من أعماق القطيعة مؤسساً لتلاحم وجودي يقاوم الموت وعوامل الإفقار ، وثمة ما هو طافح بحقيقته وتاريخه بات الان غائبا أو في طريقه إلى الغياب ، لكن هذا الموضوع - الذاكرة - هو الذي يختط واقعا جديدا مركبا هو جدل الفقدان ذاته . (11) ولعل هذه الحقيقة هي الرؤيا التي تحرك النص وتتحرك داخله وهي النسج المحكم الذي يشد عناصر الفضاء الشعري فيه .. مكانا وزمانا ماضيا يخترق الحاضر ليؤسس جذوره الحية في مستقبل قريب .

ان الزمن الذي تداخلت تشكيلاته بتشكيلات ذلك المكان الأليف الذي يبوح به النص كثيفا عارما بالجدل ، لم يكن ليثوي في صيغ الافعال ولا في زمنها النحوي ، على أهمية مايؤديه ذلك الزمن من تقاطع وتداخلات ، بل كان يتبلور عبر حركة التوتر المتأججة في ثنايا القصيدة ، انه زمن الحنين الثاوي في اعماق احداث تعاقبية - تزامنية تجمع اطراف مرحلة تاريخية كاملة تكمن في النص ، وتتمظهر عبر تركيبه ، وتشف مابين حركاته الناهضة ، انه زمن الصراع الحركي الواثب بروحه الجدلي وهو يفتح نوافذ حميمة بواسطة التذكر ، على ماضٍ بدا تواجده في الحاضر طبيعيا لشدة حضوره فيه ، حتى لقد تمكن النص من جعل ذلك الماضي ماضيا له صفة الواقعي المتحقق في الحاضر ، بحيث نحسُّ كأنْ لامسافة بين زمن القص في سرديته الحاضرة وبين زمن الماضي التذكري ، وكأنّ هذه الاطلالات في سرعتها وفي طابعها الحميم والتذكري الحي هي حضور عادي في زمن القص الذي يستمر متماثلا في زمنها (12) .
وهكذا يثابر النص على تأسيس معناه من خلال علاقة متموجة ، متواشجة مابين جمالية الذاكرة المضمرة المتوهجة الطافحة بالحضور وبين توجس الآتي ولوعته ومواجيد فقدان البهجة المحمولة إليه .

(5)
لأهمية ربط الوعي بعملية التركيب الشعري لابد من تامل المخطط الاتي :

رقم البيت الفعل الماضي الفعل المضارع فعل الامر الاسماء الصفات والاحوال الظروف
وما يوازيها الحروف ادوات العطف

1 حننت
باعدت ريا- نفسك مزارك ريا شعباكما معا الى -واو الحال
واو الحال
من

2 اسمعا تأتي
تجزع الامر
داعي الصبابة طائعا الفاء
ما ان ان واو

3 حل
قل
يودعا قفا
ودعا نجدا
الحمى نجد
من
عندنا الباء / اللام
أن واو
واو

4 رأيت
اعرض
وحالت يحننّ البشر
بنات الشوق
نزعا لما
دوننا واو
واو

5 تلفتّ
وجدتّ
وجعتُ الحي
الاصغاء
ليتاً أخدعا نحو حتى
من

6 بكت
زجرت
أسبلت عيني
الجهل
الحلم اليسرى لما
بعد
معاً عن الفاء

7 اذكر
انثني
تصدعا ايام الحمى
كبدي
خشيةٍ على
من
أن ثم / الواو

8 تدمعا خل عشيات الحمى رواجع
عينيك الباء
على
لكن الفاء
الواو

من خلال تأمل جدولة التركيب اللغوي للنص الشعري يمكن ملاحظة ما يأتي :
1- حاز الفعل الماضي على الحضور الاعلى بين الافعال في النص اذ سجل ( 14 ) حضورا في الابيات الستة المتتالية مما يؤكد تمركز حدث النص ( الحنين ) في الزمن الماضي وثويانِه فيه .
2- يبدأ الزمن بالتأرجح والتهشم من خلال التأول والتداخل في البيت الثاني ، فالفعلان المضارعان : ( تأتي وتجزع ... ) لايحملان معنى الحضور أو استمرار الحدث ، بل يندرجان من خلال تأويلهما بمصدر ضمن النفي بـ ( ما ) قبل الصفة المشبهة ، وكذلك كان الفعل ( يودعا .. ) في البيت الثالث .
3- ورد الفعل المضارع ثماني مرات ، وكانت الصيغ الثلاث الاولى فيه مندرجة في التاويل بالمصدر كما ذكرنا ، اما الفعل الرابع ( يحنن ) فقد كان يفعل بعمق ومثابرة داخل الزمن الماضي وفي اطار الحنين اليه ، مما يؤكد تواصل حالة اللوعة المسيطرة على الذات الشعرية في الحاضر الممتد نحو الزمن الاتي ، اما الافعال الاربعة الاخرى : ( اذكر ، انثنى ، تصدعا ، تدمعا ) فقد اشتمل الاول منها على ادراك داخلي ، بينما تميزت الافعال الثلاثة الأخرى بحركات تصويرية في غاية الاهمية ، لان كل حركة منها ترتبط بوشائج قوية مع الفعل الاول كونه المحرك المشعل لصميم التجربة الشعرية اللاهبة ( التذكر - الحنين ) والمعبر عنها .
4- يوشك فعل الامر الوارد في النص ثلاث مرات ان يغادر دلالته النحوية ليدخل في البيت الثالث في مهمة اسلوبية ، وربما فعل ذلك في البيت الاخير ، فصيغة : ( قفا ، ودعا ) ليس امرا للمثنى كما يوهم النص ، بل هي " صيغة اسلوبية تربط القصيدة ربطا
عضويا باسلوب الصياغة الادبية العربية مثل .. قفا نبك ، ولا تلوماني ، وخليلي ، وصاحِبَيَّ ... كما انه ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى :  القيا في جهنم كل كفار عنيد ... ق -24  واسلوب التثنية في ذلك لايعني مخاطبة المثنى وانما هو خطاب ادبي مطلق ، فالعرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان .. " (13) فإجلال المكان هنا يستدعي الاطلاق لرفع الشان كما يستدعي استحضار الكل من خلال الدعوة الى
التعظيم ، وهذا ما يمنح النص قيمة جماعية من خلال استنهاض فاعلية اللاوعي الجمعي الذي يموج في ثنايا القصيدة مستغيثا ، متشبثا بالارض .. ( نجداْ ) ، وبالحدث الذي سجلته الذاكرة التاريخية ، ذاكرة ( ايام الحمى ) و ( مَنْ حل بالحمى .. ) قوم الشاعر الذين كان لهم اكبر الصدى في حياته بدليل ورود مفردة القوم (382) مرة في القرآن الكريم ، وورود الديار (49) مرة .
5- تمركزت دلالات الاسماء في محور ثابت : ( ريا - نجد ) استطاع ان يستقطب حوله ويجذب اليه كل مفردات الشوق والحنين والتوجع ، وما يدور في فلكها من صبابة ودمع ومكابدات .
6- كانت نسبة الافعال إلى الاسماء حسب حضورها في النص (25/30) ، بينما شكلت نسبة الافعال إلى الصفات 25/1 ، وتلك اشارة مهمة تفسر الفاعلية العالية والحركية التي اتسم بها السياق ، فضلاً عن دوران هذه الافعال في دائرة انسانية عارمة .. حالة الحب وما يحيل عليه من وصل وفصل ، وهيمنة حالة الفصل وما ينجم عنها من تأزم وتوتر وعذاب .
7- وردت حروف العطف وحروف الجر والنفي والنصب والاستئناف وغيرها مما يسجله الجدول اكثر من ثلاثين مرة في صور ومواقع متباينة من النص ، واذا كانت الكلمات الكاملة لها مضمون اغنى واكثر تحديدا من الحروف ، فان لهذه الاخيرة وظيفتها في التعبير عن الترابطات المهمة والعلاقات الداخلية بين اجزاء الجملة ، وتمتاز بكثرة ورودها وأهميتها الخاصة في التراكيب العربية ، وتمثل هذه الروابط أو الادوات مرحلة الارتقاء اللغوي (14) التي تدفع النص نحو انسيابية متقنة حتى وهي تلجأ إلى القطع الذي تتطلبه الدلالة أحيانا ، من هنا يشير الحضور العالي لهذه الحروف إلى انبناء نص محكم النسج متقن التبئير .
8- تشي حركة الضمائر في القصيدة بالآتي :
أ- ضمير المتكلم الذي يمثل الفاعلية والقوة ورد قلقا ، مستفزا ومستلبا كما يبدو محاصرا مجفوا يعاني من تناقضات مشاعر يمتزج فيها لوم الذات مع لوم ٍسكت عنه الشاعر لكنه ظل يلوب في نسيج نصه الداخلي :
ولما رأيت البشر اعرض دوننا ـــــــــــ حالة احباط وجفاء .
بكت عيني اليسرى ـــــــــــــــــــــــ حالة جزع .
تلفت نحو الحيّ ــــــــــــــــــــ حالة قلق واستفزاز .
حتى وجدتني وجعت ــــــــــــــــ حالة توجع .
وأذكر ايام الحمى ثم انثني على كبدي ــــــــــــــ حالة لوعة وهيمنة عوامل السلب بسبب فقدان مقومات الحماية والشعور بالامن وغياب الانسجام .
لكن هذا الملفوظ الذي بث الوجع والقلق واللوعة في النص ، انما بث حالة عرضية نتجت عن قرار حاسم يتسم بالقوة والاصرار على المواجهة والمواصلة معا .
ب- لم يحضر ضمير المتكلمين الا في موضعين :
الاول : موضع الم متأتٍ من وداع شيء شمولي اعظم من ان يودع :
وقلّ لنجدٍ عندنا ان يودعا .
فالـ ( نا ) هنا التي تتماهى مع الأنا مرة وتشير إلى القوم مرة اخرى تبدو في حالة ضعف لانها لاتستطيع دفع الرزء الجلل الواقع ولا تغييره .
في الموضع الثاني ، يبدو الضمير في مشهد الرحيل مخذولا موجعا :
ولما رأيت البشر اعرض دوننا
لكن ذلك الخذلان يظل على مستوى الملفوظ كذلك ، لأن المسكوت عنه يؤكد حالة القوة مرة اخرى اذ يصمد ضمير الجمع / أنا الشاعر ( نا ) هو الاخر على قرار الرحيل .
جـ- ضمير المخاطب الذي تكمن فيه فاعلية الجدل والحضور بدا ملاما وقع عليه تأنيب الراوي الخارجي .. حننت ، نفسك ، مزارك ، واذ يلتحم المخاطب ( انت ) بالغائب
( هي ) ليشكلا معا واحدا متواشجا ــــ شعباكما / قلباكما وقد تداخلت شعاب احدهما بالآخر ، فان هذا التلاحم الذي يرمز لأسمى عوامل القوة وأمضاها لم يتمكن من الصبر الخالص من الجزع في مجابهة عوامل الانفصال مما يشير إلى قوة قرار الراوي وشدة وقعه على القلبين معا .
ان اسلوب التجريد العربي القديم الذي يشكله الراوي الخارجي في مطلع القصيدة كان هو التشكيل الاكثر ملاءمة في النص لانه منح ( المثالي ) حيزا لتأنيب ( الواقعي ) الذي يحب ويجفو ويتفاعل ويعيش مشاعره وضعفه وحياته بجدلية وواقعية ظروفها الحركية ، فالراوي الخارجي ( المثالي ) يلوم ويؤنب عبر دائرة داخلية مأزومة يؤول فيها كل شيء إلى التقهقر والغياب .
د- كان حضور ضمير الغائب الذي يمثل الماضي / الوصال ، أيام الحمى وعشياته = ريا حضورا فاعلا للامس المنفلت قسرا ، لكن غياب ذلك الغياب ظل غيابا تمويهيا ، فالغائب ظل مسكوتا عنه ومغيبا على مستوى التلفظ حسب ، لكنه كان يحمل استفزازه بغيابه عبر النص كله ، اذ بقي فعلُ ابداع النص يكمن فيه ، وظل الذي لم يقل عنه هو التحدي الخفي اللائب امام اية قراءة جادة لهذه القصيدة ، وظلت ( ريا ) هي المرأة المحالة التي لم تحضر الا بفعل غيابها ، ولم يكن هذا النص ليكون لولا خفاؤها الذي تشي به كل لواعج النص دون ان تبوح ، وتوحي به وتلمح اليه دون ان تصرِّح ، بحيث صار الغائب اشارةً لها دلالةٌ اخطر من دلالات الحضور ، وصارت الفجوة التي احدثها غيابه في النص مكمن احالات ثرية عمقت القصيدة من خلال الغلائل التي اسدلتها على المرأة الغائبة فيزيائيا ، والحاضرة علامة حرة بالآثار العميقة التي نجمت عن غيابها ، والشاخصة في القلب والذهن وما نتج من أثر عن فراقها في العينين والكبد حضورا شاملا يبعث على الدهشة ، فريا المغيبة قسرا هي الذات الباعثة على الفعل ، المحركة للابداع ، بل وهي صانعة خلود الشاعر نفسه ، الكامنة المتغلغلة في حركة المستقبل المستمرة فيه اشارة للتحول الكلي والتغير الشامل الذي سيكون ، انها امرأة منتجة ، محوّلة ، صانعة للحدث ، فهي امرأة الحدث الفاعل الذي ينتج المعنى ويؤسس له ، معنى الانجاز ومعنى البث القاطع الذي يصنع الدلالة ، وظلت ( ريا ) الغائبة هي نفسها الذات الفاعلة التي آل هذا النص بغيابها إلى البزوغ والاشتعال .( 15 )
ترى .. اية سلطة غيبت ( ريا ) هذا الغياب الكامل .. واي استلاب حجب عنا صوتها ومشيئتها وقرارها ، أهو قرار الشاعر - الراوي الذي انغمر بمأساة خفائها حد تصدع كبده إشارة لهيمنة الشعوري عند العربي على الحسي ، والروحي على الجسدي في مثل هذا النص الباذخ ، لا كما يرى معظم النقاد الذين أكدوا حسيته المباشرة ، لماذا اذن وكيف ؟ أهو قرار الشاعر ذاته ، أم هو رد فعل لقرار أقسى هو قرار حاجبيها ومانعيها ومستلبيها .. قرار النظام والنمط السائد .. ان ريا التي انسحبت من ظاهر النص جسدا واعضاءً وصفات وملامح وحوارات انسلت بعيدا لتثوي في أعماقه المضمرة ، تحركه وتتوهج في مكنوناته وتوجه خطاه نحو المراد الى الحد الذي سيوحي للقراءة بأن ريا الصمة ليست امرأة ولا حبيبة شخصية ، بل قد تكون رمزا لزمن الأمن أو الأرض والوطن والقوم والحماية ، وكل الدلالات التي تؤكد رمزيتها وخروجها من دائرة المحدودية الى مطلق يليق بدلالات اسمها المترع بالرواء والخصب ، وقد وردت اشارات في نقدنا القديم تؤكد هذا المرمى وان كانت قليلة ، وليس بخاف ما رواه المبرد عن الشاعر عمارة بن عقيل حين سئل عن جمانة وريا في شعر جده جرير أهما امرأتان كما فسر أبو عبيدة فضحك مؤكدا أنهما رملتان تمتدان ببيته من عن يمينه وشماله . ( 16)

(6)
ان حجم الحنين في النص يتطلب عمقاً عروضياً يتسع له ، ومساحةً تناسبه ، واذا كان الحنين يتضمن توتراً كامناً يتنامى بتوتر وعذاب شديدين ، فأن البحر الطويل بامتداده الثماني وكثافة مقاطعه سيكون أقدر على تجسيد الحال من غيره ، وهو مادأبت عليه معظم قصائد هذا النوع في تراثنا الشعري ، فقد نجح هذا البحر في تحقيق مجالٍ افقي للنمو والتصاعد من خلال طول تفعيلاته وكثافتها ، كما حقق امتداداً عمودياً يتسع لتجذر وثويان ذلك الحنين ، فمن مزايا الطويل انه بحر باذخ لايقبل الجزء ولا الشطر ولا النهك ، ولا يقبل من التغييرات والجوازات إلا زحافاً واحداً وعلة واحدة ، هما القبض والحذف ، ففي اعماق هذا البحر يكمن تصميم ذاتي على التماسك من خلال احتفاظه باكتماله التشكيلي مما يجعله جديراً بالتعبير عن قرار الذات الشعرية الفاعلة المصممة في هذه القصيدة .
تألف النص من ثمانية أبيات شعرية مبنية على النسق العمودي الممتد بيتاً اثر بيت عبر ثمانية اسطر متتالية ، وهذه التراتبية تؤكد أمرين :
الأول : النظام :
وهذا الأمر واضح من الصورة العامة لتشكيل النص الشعري الذي ساده نظام متسق ، فـ (8) أبيات تحيل على (16) شطراً متماثلاً من حيث الطول إذ يتشكل الشطر الواحد من اربع تفعيلات ، وينبني من (14) مقطعاً ليكون النص متشكلاً من (64) تفعيلة بمقاطعها البالغة (224) مقطعاً بالنمطين الطويل والقصير ، (130) مقطعاً طويلاً ، و (94) مقطعاً قصيراً مما يجمع 354 حرفاً ، 224 منها حرف صامت ، و130 حرفاً صائتاً .

الثاني : التكرار :
من الطبيعي ان تظهر الحالة التكرارية مادام النسق الشعري يقدم خصائص تتماثل صورياً : (ابيات ، اشطر ، تفعيلات . . . ) و صوتياً : ( وزن + قافية + روي . . . ) وهذا الصدى يمتد عبر زمن يأتي من الماضي السحيق ويتواصل رنينه في الزمن المطلق ، وذلك ما يدفعنا الى تحديد هوية النص كونه ينتمي الى النسق الشعري العربي القديم ، وتحديداً نسق ما قبل الإسلام سواء أكان منتجاً فيه أم كان محاكياً له . ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا التكرار لا يطول النغم ولا ايقاعات الشعر والحانه ، بل هو تكرار النظام الخارجي الذي تمكن من تقديم نماذج نغمية متباينة في البحر الواحد والقافية والروي الموحدين كذلك ، وهو تكرار المقياس الوزني الذي تمكن من وزن وحمل واستيعاب ما لايحد من الدلالات والأصداء الصوتية المحمولة ، فالتفعيلة أو تفعيلات البحر الواحد ليست هي الشعر ، وأوزان البحور ليست هي الشعر ، الشعر هو ما تزنه التفعيلات من تشكيلات اللغة وما يصحبها وينتج عنها في القول الشعري ، ويتغير نغم الشعر وايقاعاته وأثره وأصداؤه في النفس / المتلقي ما تغير ذلك التشكيل ، وان كانت التفعيلة واحدة والبحر واحداً ، فاذا كان الميزان في هذا الشعر مكرراً فأن الموزون مختلف نوعاً ونوعياً من قصيدة الى أخرى لأن بحور الشعر هي مقاييس وموازين لاغير ، بينما التشكيلات اللغوية التي توزن فيها تشكيلات تتباين ، يحكم تباينها عوامل كثيرة تأتي شبكة العلاقات - صوتاً و تركيباً واسلوبية ودلالة - في المستوى الظاهر من تلك العوامل ، بينما تثوي في داخلها كل القوى المحركة والمتحركة ، المتوهجة النامية التي لايمكن الامساك بها بسهولة لأنها تتصل بتجليات الروح المبدعة ، إرسالا وتلقيا ، وعمق مقدرتها على تطويع الادوات التي تجعل من الشعر شعراً يمتلك طاقته المدهشة على التجاوز والخلق وتأسيس المعنى .
وبتأمل النص يمكن ملاحظة الآتي . .
* ورد جواز القبض ( حذف الخامس الساكن . . . ) في (30) تفعيلة موزعاً على الأبيات بأشكال مختلفة ، بحيث لم يأت متطابقاً ابداً ( باستثناء الأعاريض والأضرب ) مما يدل على سيطرة القلق والاستفزاز المؤازرين لمشاعر الحنين في القصيدة :
البيت الأول : (5) زحافات موزعة على التفعيلات : 1 ، 3،4 ، 5 ، 8 .
البيت الثاني : (5) زحافات موزعة على التفعيلات : 1، 4 ، 5 ، 7 ، 8 .
البيت الثالث : (3) زحافات موزعة على التفعيلات : 4 ، 5 ، 8 .
البيت الرابع : (3) زحافات موزعة على التفعيلات : 3 ، 4 ، 8 .
البيت الخامس : (3) زحافات موزعة على التفعيلات : 4 ، 5 ، 8 .
البيت السادس : (3) زحافات موزعة على التفعيلات : 4 ، 7 ، 8 .
البيت السابع : (4) زحافات موزعة على التفعيلات : 1 ، 4 ، 5 ، 8 .
البيت الثامن : (4) زحافات موزعة على التفعيلات : 3 ، 4 ، 5 ، 8 .
فقد حظي البيتان الاول والثاني بحضور هذا الجواز بنسبة عالية مما يشير الى اقتران حضور القبض بزيادة التوتر والحاجة الى التعبير بكتل صوتية ثقيلة وما يؤازرها من حركات قصيرة
( ضمة ، فتحة ، كسرة ) تحاكي الحركية الداخلية المتموجة ، فالسكون سكونية وإلغاء للحركة، ولذلك دأب البيتان على نفيه و تغييبه بحركات متعاقبة حيث بدأت التفعيلة بالحركة وانتهت بها في ثلاث مواضع من كل بيت ( فعولُ ) فضلاً عن حذف الساكن الخامس في تفعيلتي العروض والضرب ، واستمر هذا الانحراف العروضي حاضراً في النص معلناً عن التوتر واللااستقرار من خلال الضمة المستفزة الثقيلة المستنفرة التي ظلت معلقة على لام فعولُ بعد حذف نونها الساكنة.
ان زمن الشاعر الوجودي تمكن من تطويع ايقاع البحر الطويل كي يكون المعبر عن حالة الانكفاء على الحنين بحيث صارت التفعيلة الواحدة متشكلة من ( / / o / ) ثلاث حركات و سكون واحد ، أما مفاعيلن فقد بقيت بعد القبض على أربع حركات و ساكنين ( / / o / / o ) اذ تلعب الحركتان قبل ساكن السبب الخفيف في موضعين من هذه التفعيلة دوراً في تحريك متواصل لتشكيلها مما يجعل زحاف القبض الوارد بنسبة 30 / 64 في النص هو الحالة الجوازية المهيمنة على الايقاع في هذه القصيدة ، وليس هو الاستثناء الذي تلعبه الانزياحات الطارئة على التفعيلة في العروض العربي .
* ان حركة القبض المتوترة المنكفئة بلهفتها على الشوق الذي تحاول الذات الشعرية كبح جماحه بجهد واضح هي الحركة المسيطرة على القصيدة ، المنبثّة في جميع مفاصلها ، المتمظهرة في مجمل تشكيلاتها على اختلاف مواقع التفعيلات التي وقع فيها هذا الزحاف ، فالقبض يسرّع جريان الحدث ويقاوم القهر التي تحاول النفس به كبت مكابدتها ، كما يسرّع اندلاع العواطف والانفعالات ، ويمكّن النص من احتواء الوان الألم العنيف مستلا اياه من الداخل ، فالساكن قيد على الحروف ، يبطّيء ايقاعها ، وقيد على المشاعر يهدّيء تدفقها ، وحذف الساكن يرفع ذلك القيد ويسرّع الايقاع ، ودليل ذلك ما نجده من كثافة هذا الزحاف في البيتين الأول والثاني حيث احتوى البيتان على عشرة زحافات مما يؤكد دفقة المطلع التي كانت في قمتها الانفعالية و تصميمها على توجيه النص نحو البث العميق ، فحركة القبض العروضي استطاعت ان تبوح بمشاعر الانقباض النفسي الذي يشيعه الشوق ، والأسى الروحي الذي يضرمه الوجد وأن تعبر عنهما بشمولية .
* إن لاختلاف مواقع الزحاف بين شطر وآخر ، ومن بيت لآخر أثراً مهماً على تنوع التموجات النغمية في البحر الواحد ، وكذلك نوعية الأحرف التي تشكل المفردات الباثة للنغم ، وما لكل ذلك من أهمية في تشكيل المعنى ، فالنظام العروضي ، قديمه و حديثه لم يكن يوماً ما قيداً على التعبير ، أو حداً يمنع الدلالة من استغراق مداها ، لأن التجربة المقتدرة هي وحدها التي تعرف كيف تستوعب المدى الذي تروم ، كما تعرف كيف تسلك سبلها الى ذلك المدى ، على أن يكون المبدع مؤمنا بتعايش الأشكال الشعرية والفنية ، واعي
* في تسكين الحرف الأخير من عروض الشرط الأول من المطلع ( باعدتْ ) صمت وتوقف عن الحركة ورهبة واستلهام لخوف مبهم مما يمكن ان يؤول اليه الانفصال وفي " غياب الحركة الأعرابية إبهام وغموض في تحديد الدلالة " (16)
* يشكل فونيم الحاء (المهموسة) عنصراً صوتياً مهماً في النص إذ يطلع جذراً أولياً في أول مفردة في المطلع (حننت) ثم يزحف متسللاً الى كل ابيات القصيدة حاملاً بامتداده ظمأه المتوتر وجذور عطشه الأليم ليبثها قي كل أرجاء النص بوحاً حميماً فهو حرف بنائي قي كل دلالات الحب والحزن والحنين والحنان التي شكلت جذوة النص وتوهجاته ، يُؤازره في ذلك صوت النون وما يبث من حزن وشجن وتلاوين نغم في (38) حضوراً وهو الحضور الاعلى في القصيدة ، وكذلك فعلت اللام التي وردت (27) مرة ، والميم (21) مرة ، إذ لا يخفى ما لهذه الأصوات من قدرة على إشاعة النغم الحزين في السياقات التي تتواجد فيها ، وقد تضافرت هذه الأصوات بحضور عناصر بنائية اخرى كالتاء المهموسة التي تواجدت عبر أبيات القصيدة كلها ، والسين المهموسة كذلك ، مع المدّ بأنواعه ما بين الألف ذات الحزم الصوتية العالية الوضوح والتي حضرت ثماني مرات في المطلع وحده مما هيأ فرصة لاستيعاب دفقات الألم المطلق فضلاً عن انعطاف المد نحو الواو والياء تلويناً وتغييراً اذ ينعطف الأيقاع هابطا مرة وأفقيا مرة أخرى ، أما العين التي بنيت عليها القصيدة رويا والتي حضرت (25) مرة فهي أقصى الحروف في الحلق وأدخلها فيه وكأن النص بانطلاقه من أعماق الذات اختار من الحروف - تعبيريا أقصاها فضلاً عن جماليات هذا الصوت ، فالعين أطلق الحروف وأنصعها جرساً ، وألذها سماعاً ولا تدخل على بناء إلا حسّنته كما يقول ابن منظور (17) وهي حرف جذري فيما عمق وبعد غوره .
* وردت التاء المهموسة (8) مرات في البيت الخامس مما عزز مشاعر القلق والاستفزاز و الفزع من الفقدان الموشك ،فضلاً عن تكرار ( تاء الفاعل ) التي كثفت تلك المشاعر حدثاً وزمناً - حول الذات الباثة مؤكدة بلورة الفاعلية في الذات الشعرية التي سيجلو التحليل أهمية قرارها.
* ان البث العميق الذي احتواه التشكيل اللغوي عبر أشطر القصيدة كان بحاجة الى خلاص مما يجد ، ولقد منحه النظام العروضي الذي ينهي البيت عند حدّ معين خلاصه في قافية متداركة مطلقة الروي منفتحة على المدى ، تصل إذ ينفتح الروي بأشباع الفتحة الفاً حدّها المتاح في الكشف عما سبق ان تراكم بكثافة داخل النص من لواعج وشجن .



النص عروضيا :
حننت الى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا
ب-ب/ب--- /ب-ب/ب-ب- ب-ب/ب---/ ب--/ ب-ب-
فعول /مفاعيلن /فعول/مفاعلن فعول/مفاعيلن /فعولن/مفاعلن
فما حسن أن تأتيَ الأمر طائعا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
ب-ب/ب---/ب--/ب-ب- ب-ب/ب---/ب-ب/ ب-ب-
فعول/ مفاعيلن/فعولن/مفاعلن فعول /ماعيلن/فعول /مفاعلن
قفا ودعا نجدا ومن حلَّ بالحمى وقلَّ لنجد عندنا أن يُودّعا
ب--/ب---/ب--/ب-ب- ب-ب/ب---/ب--/ ب-ب-
فعولن/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن فعول/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن
ولما رأيت البشر أعرض دوننا وحالت بنات الشوق يحنن نزّعا
ب--/ب---/ب-ب/ب-ب- ب--/ب---/ب—- / ب-ب-
فعولن/مفاعيلن/فعول/مفاعلن فعولن/مفاعيلن/فعولن/ مفاعلن
تلفت نحو الحيِّ حتى وجدتني وجعتُ من الإصغاء ليتاً ، وأخدعا
ب--/ب---/ب--/ب-ب- ب-ب/ب---/ب--/ ب-ب-
فعولن/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن فعول/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها على الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
ب--/ب---/ب--/ب-ب- ب--/ب---/ب-ب / ب-ب-
فعولن/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن فعولن/مفاعيلن/فعول/مفاعلن
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدّعا
ب-ب/ب---/ب--/ب-ب- ب-ب/ب---/ب--/ ب-ب-
فعول/مفاعيلن/فعولن/مفاعلن فعول/مفاعلين/فعولن/مفاعلن
فليست عشيات الحمى برواجع عليك ، ولكن خلِّ عينيك تدمعا
ب--/ب---/ب-ب/ب-ب- ب-ب/ب---/ب---/ب-ب-
فعولن/مفاعيلن/فعول/مفاعلن فعول/مفاعيلن/فعول/مفاعلن


(7)
* تنبثق الجملة الأولى في مطلع القصيدة عن مشهد شعري كامل يمتد من عصر الشاعر
( الأموي . . ) الى أعماق عصر ما قبل الإسلام حيث ينبثق الحنين من اللحظة الطللية المتأججة في وقفة الشاعر العربي أمام اندثار الحياة وغياب علاماتها واندحار فعلها الإنساني أمام الفعل المهيمن للموت والغياب ، وكأن المطلع يحرّض الذاكرة الجمعية على التأهب لحضور واحد من مشاهد الرحيل ، فالحنينُ هنا فعلٌ يثابر في توتره وفي جدل لواعجه ، وفي حفره لمناطق السكون في النفس الإنسانية ، حيث التناحر اللاهب ما بين لحظتي الحاضر والماضي بمشاعر الوجل المتطلعة نحو مستقبل يبدو غامضاً حيث لا تهيمن سطوة الماضي على الحاضر فحسب ، بل هي تحجب المستقبل أو تكاد حينما يؤسس الماضي حضوره في أعماق الحاضر ، فالتذكر هنا ليس محاولة لأستعادة الماضي حسب ، بل هو بعث وإضافة له من خلال لحظة الحاضر المعتمة والمأزومة بعوامل الانفصال التي يلوب بها النص في سياق تصاعدي إشكالي يضع المتلقي في قلب المغامرة الشعرية التي ينفتح عليها البيت الأول ، ففعل الحنين يأتي نتيجة لسلسلة متعاقبة من أفعال وأحداث تتشكل منذ لحظات ما قبل اضطرام حالة الحب عبر ظروف و صراعات و تناقض و مكابدات متباينة تظل تتبلور حتى لحظة قرار الرحيل ، هذه الظروف والأحوال والوقائع كلها متضمنة في زمن الفعل ( حننتَ ) وفي مكانه ولذلك جاءت الجملة مفعمة بالدلالة ، يقابلها اسم ( ريّا ) المنشود عبر فعل الحنين : التعطش الظامي الى الخلاص . . .
إن قاريء قصيدة الصمة - لكي يفهم اللوعة التي تزخر فيها ، عليه أن يكون واعياً بكل فقدان العربي في صحرائه ، وبكل عذاباته عبر ظروفه القاسية وحروبه وجفاء صحاريه وعذاب بهجته في انفصاله ومكابدة ظمئه الأليم ، عليه أن يكون قارئاً لشعر الأطلال وشعر الحب والرحلة والضعائن والرثاء ، عارفاً بمغامرات لقاء العربي وهجره ، ومستوعباً لقيم العربي و مفاهيمه في التواصل والأنفصال والحرمان الأبدي لأسباب شتى ، لقد استطاع الصمة بن عبد الله القشيري أن يهشم كل الدلالات الشعرية العربية السابقة عليه ، وان يحول موادها الى نوىً دلالية متولدة و متحولة يتمثلها ويبني بها نصاً جديداً مشتعلاً بتوتر شعري يكتظ بالدلالات . . (17) فالجملة الأولى . . .( حننت ) تقوم بدور الوساطة مابين المتلقي وبين تراث كامل من الصراع العربي قبل و بعد الأسلام ، مابين الحضور والغياب ، الوجود والفناء ، مابين الأتصال والأنفصال ، ذلك الأتصال الذي يتماهى في أشد صوره حميمية وتعبيراً عن الانعتاق في حضور المرأة التي تشكل رمزا ، بل أنواعا من الترميزات بالغة الأهمية لمقارعة فزع العربي في صحرائه ، ومقاومته لعوامل الافتقار فيها ، ومثابرته على تحدّي مأزق التشتت في فضاءاتها اللامتناهية من خلال اتحاده الوجودي بذلك المخلوق ، رمزاً للخصب وعلامة للحرية، وحدثاً تراجيدياً طالما هزَّ وجدانه وأثراه . .
ان ريا التي تختصر تاريخ حضور المرأة في الشعر العربي ، وتمثل روح الخصب والرواء والجدل وضراوة الحياة لا تختفي إلا لتعاود التجلي في البيت الثالث من خلال : ( قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى . . ) فالقصيدة تمثل الخروج من الوحدة بتماسكها الآمن الى التنوع ، من البؤرة الى الإحالات ، من الأصل الى الفروع . . . الى بلدان بعيدة مفتوحة أو في طريقها الى الفتح وما يصحب ذلك من فزع الدخول في شتات الغربة والاغتراب ، فاللوعة التي تحملها القصيدة ليست لوعة واحدة بل هي تراكم لوعات ، والوجد الذي يفوح منها ليس هو وجداً واحداً بل هو مواجد مركبة ، وليس الحنين المأزوم الى ( ريا . . ) إلا حنيناً الى حياة كاملة يحسِّ الشاعر نحوها بالأمن والسلام ، ويشعر بها الآن تنساب بعيداً منتزعة من أعماق روحه ذلك الأمن ، مسلمةً إياه الى نوعٍ من الجزع لايصدر إلا عن الخوف الجارح من المجهول . .
إن ذلك الزمن المفعم بقيمه العارمة يتمثل الآن جبلاً يحمل في دال علميته : (البشر) مضموناً للبهجة الغاربة والفرح المعرض ، ذلك الجبل الشاخص ترميزاً زمانياً و مكانياً لكل ما تتوق اليه نفس العربي من دلالات ( البشر ) وشهية السعادة ، لكنه يرى كل ذلك معرضاً شاء أم أبى ، لا بل هو الذي يبادر فيقرر الرحيل . ان الشاعر مقبل على نفي نفسه إذن مادياً ومعنوياً ، لكن المنفيّ قد لايستسلم لعوامل النفي والانفصال ، بل قد يوطن النفس ليخلق من عوامل نفيه سكناً جديداً للألفة والسكينة والتحقق ، وذلك خيار ليس للذات المنفية من خيار سواه . أكان ذلك ما فعله الشاعر العربي بعد خروجه من القيم القديمة واطمئنانه الى قيم الحضارة الجديدة نهاية عصر صدر الإسلام فالأموي وعبر المراحل العباسية بأسرها . . . ؟ هل تقول هذه القراءة . . إن الشاعر ما يزال حتى تلك اللحظة غارقاً في تاريخ كامن - نابض فيه هو تاريخ قومه الماضي بقيمه التي لم يستطع الإسلام حتى تلك الفترة أن ينال منها بعمق ، ولم تستطع قيمه الجديدة ان تنتزع ما تجذر منها في الروح العربية حتى وصل به الأيمان الى قرار حاسم بالقطيعة معها يوم ادرك بوعي انها لم تعد قادرة على ان تشكل منهج حياة جديدة منّى النفس بها وتمناها ، فقرر التقاطع معها على الرغم من كل عوامل الجذب التي ما تزال تفعل فعلها في داخله . . ؟؟
ريا . . إذن تختصر تاريخاً كاملاً من المواجد والمكابدات والجدب والخصب والضياع والأمن ، تختصر الفرح والحزن واللوعة وعشيات الحمى و جمالية التذكر ، والشاعر اذ تقع عيناه على الجبل الان اشارة لكل شيء سيهجره ، فان ذلك الجبل بغربته وعزلته و ( صموده ) واقتداره على إحداث التوازن كذلك ، انما يذكره بالعزلة التي سيؤول اليها ، وبالنفي الروحي الذي ينتظره ، ولذلك تحركت نوازع الحنين لحظة الشروع بهجره ، فسكونية الحاضر ، وغياب التفاعل الانساني في ( البشر اعرض دوننا ... ) هي التي استدعت الماضي باشواقه وتعطشه وضراوة جمره ، ويؤكد الراوي الخارجي قبل نهاية القصيدة ما أدركه في بدايتها من ان مواجع الانفصال عن ريا بجماليات قيمها الضاربة في اعماق الروح أدت الى تزامن االعذاب واستمراريته في الحاضر ، وذلك موافق لفعل الحنين الذي ظل يتنامى حتى حل تماما محل الحاضر او اندمج فيه ليبدأ من نقطة محددة فيواصل بثه باتجاه الآتي ..
ان خطاب الراوي الداخلي يبدأ بالبيت الرابع ، وينتهي بالسابع ، وهذا يعني ان الشاعر خصص اربعة ابيات لكل راوٍ ، واذا كانت الابيات الثلاثة الاولى المخصصة للراوي الخارجي مع البيت الاخير تقدم توصيفا للمشهد عبر خطاب موجه الى الاخر ، وان البيت الاخير الذي يعرض النتيجة على لسان ذلك الراوي ، فان الابيات الاربعة المتتالية التي تخص الراوي الداخلي تستنهض التجربة ، من الداخل عبر احد اشكال السرد الذي يفرضه حال المتكلم ، والمتمثل بالحوار من طرف واحد ، هو الحوار المقطوع الذي سيؤول حتما الى القطيعة التي كانت ، فالقصيدة باكملها ، وبكل ضمائرها المموهة ليست الا مونولوجا داخليا عنيفا هزّ كيان الذات الاولى ، فانفجر محتواها .. الذات الثانية : ( انا ) + الموضوع (هي) .. وعليه فان ثمة اثنين من المرسَل اليهما داخل النص : الاول .. وهو المرسَل اليه في خطاب الراوي الخارجي ، ويمثل مرسِل الخطاب الداخلي ، في حين يمثل المرسَل اليه الداخلي ذات المرسِل ، وتبقى الابيات الاربعة : ( 4 ، 5 ، 6 ، 7 ) داخل اطار الابيات (1 ، 2 ، 3 ، 8 ) وهذا يشير الى هيمنة صوت الخارج على الداخل المنكفيء على حنينه وتوتره ولواعج شوقه ، بدلالة صمت الداخل امام صيغة الامر الاخبر الذي تمثل في : خلِّ عينيك تدمعا .... وتلك اشارة الى استسلام صوت الداخل ، واستجابته للامر الذي يعد هنا دليلا على ذلك الحضور الباذخ للماضي المنصرم لكن هذا الذي يشير اليه السياق العام للملفوظ يخفي في داخله وفي بعض اشاراته حقيقة الداخل المتماسك الصانع للقرار القاطع ، المتحمل لأعبائه وتبعات معاناته ( ان تأتي الأمر طائعا ... ) .
ان مدار الدلالة الشعرية يعاود النهوض من جديد في البيت الثالث حيث الوقوف / المغادرة او الوقوف / الوداع ، وهو وقوف صار قدرا حتميا يلاحق الشاعر ويسيطر على نصه ، ويغزل دلالات النص بما يتنج عن الوقوف من هلاك وأسى ، ثم يأتي البكاء ناتجا نهائيا لكل ذلك ، انه الداء والشفاء معا ، وهو البداية والنهاية ، البكاء دلالة الدلالات التي تسيطر على الابيات الثلاثة الاخيرة قطبا طالما استمد الشاعر العربي منه وجوده الادبي ، وعنصرا عضويا كثيراً ما تمحور حوله النص ، اذ كلما تبدى قطب اخر غير البكاء بادر النص الى ازاحته ، ( 18 ) ليكون قفل القصيدة هو البؤرة الأخيرة التي تبلور المراد وتصمت عنده ، لكنه ليس الصمت الذي يعني السكوت ، بل هو الصمت الطافح بالبث وبالمعنى .
وهكذا تعاود الدموع حضورها في البيت الثامن مادة شعرية مهيمنة تمزج العبرة بالتعبير والألم المبدع بالاستسلام لعوامل الإبداع ، فالحنين ، الجزع ، داعي الصبابة ، الوداع، الإعراض ، بنات الشوق ، التلفت ، التوجع ، الذكرى ، إلى أخر مفردات النص ، تدور جميعها في حقل دلالي واحد .
ان هذا النص يأتي معاكسا لحقيقة شعر الطلل ، فالطلل ثابت وأهل الطلل راحلون ، والشاعر باقٍ يبكي آثارهم ، ويفتقد اللحظة الحضارية التي تمثلها تلك الآثار ، الحي هنا .. نجد وأهله وعشياته ( ريّا ) باقون في المكان ، لكن الشاعر هو الذي يتحرك هذه المرة ، الشاعر رمز الإبداع والجدل وثراء الوجود ، هو الذي يبادر بالرحيل نحو زمن آخر ليواصل فيه فعله، ويواصل حركته في الحياة الجديدة .. بها ومعها ومن اجلها ..




(8)
إن هذه القراءة تفضي الى ان النص يطرح إشكالية محاصرة الحلم الموصد والتوتر المقيد المحفوف بالمنع والقهر القسري ، ذلك القهر الذي مني بضنى الوجد ، المؤطر بالقيود والأسوار التي تحول دون عبور الشاعر الى مراده المنشود - ريّا ، بكل المفهومات الايجابية التي تكمن فيها ، وتنبثق منها وعنها ، لكن بقيم جديدة ومفاهيم يطمح الشاعر الى ترصينها ، ويضع الرحيل - الانفصال خلاصا من إشكالية القهر التي تكتنفها ، فالانفصال هنا خلاص من اجل التواصل /الخلاص ، التواصل المنفتح على قيم الانسجام والصفاء والثراء والإقبال ، فالقصيدة تطرح العبور نحو الطرف الآخر حلا لكل تأزمات الزمن الماضي واختناقه وتوتره ، تطرح القطيعة طريقا للتلاحم الحميم المتعالي على الحرمان ومكابدات وجعه الفادح ، فالرحيل بهذا المعنى عودة الى الينابيع الأولى، ونزوع نحو التحقق حيث تطلع الذات الشعرية معافاة من أدران الفصل والحواجز التي تحول بينها ويبن إرادة الحلم بدليل حضور البكاء مقاوما للضعف الإنساني ومطهرا منه وليس دليلا عليه ، فالانفصال عن ريّا - رمزا وترميزا - امر ضروري لمعرفتها كما ينبغي أن تعرف ، للتماهي بها ، للدخول في زمنها . والرحيل عنها هو طريق البصيرة للعودة الرائية إليها في شمولية مطلقة متأتية من شمولية المكان : نجد وصحرائها - فضاءً ، وصلابة الموقف الذي تؤكده الذات الشعرية المتماسكة امام اختيارها - على صعوبته وعسر القوة المجابهة لمشاعر الحنين الضاغطة ، ففارس الحب في النص فارس صارم صامد على الرغم من حضور العواطف الجياشة التي اتسمت بالوجع هي الاخرى بعيدا عن اية بارقة جنسية يمكن ان تحيل عليها المفردات عبر اشاراتها خارج النص .
ان الانصياع لصوت الخارج نهاية القصيدة وعي للضرورة لأنه قرار الداخل ولأنه خروج من القديم الذي شيد بنيانه الباذخ في الروح العربية لكن من خلال عوامل سلب جاذبة كان الإسلام هو حالة الإيجاب المفعمة بالحركة المتوازنة من اجل الدخول في الجديد
المأمول ..
من هنا يوحي النص ان قرار الغياب على الرغم من مرارته الا انه ليس القطيعة الأليمة كما يوحي الظاهر ، لأنه رحيل مخضب بالدمع ، وهذا الدمع صادر عن العين المبصرة التي ترى كل شئ وتميزه ، فهو مطهر لبصيرتها من شوائب الماضي ، مؤازر ومصاحب لتوجهها نحو الآتي فضلا عن كونه يحيل على الماء ، ومن الماء كل شئ حي ، فالشاعر خارج من الزمن الماضي المثقل ، داخل في حركة الحياة بقوانينها الجديدة الفاعلة المخصبة المتألقة والمتطهرة من القهر والقسر وعوامل الإفقار الروحي والمادي .
كما تشير القراءة إلى قضية بالغة الأهمية هي أن المرأة التي تمكنت من تحريك شعر حقبة تاريخية كاملة ، وجودا إنسانيا ورمزيا أسس المعنى وشكّل الجمال واختصر الأنساب والألقاب تعظيما لها وإجلالا لأثرها فكان قيس ليلى وقيس لبنى وكثير عزة وجميل بثينة ، ما زال ذلك الوجود يعمل بمكابدة خفية في ذاته وفي غيره من اجل تحويل قيم تلك الحقبة ، إلى فعل بناء مهمين قادر على قهر حالات السلب من اجل إزاحتها وإحلال عوامل الإيجاب الساعية نحو الاكتمال ما استطاعت الذات الإنسانية الى ذلك سبيلا ، ف( ريا ) قيم تنمو بجدلية تتحرك وتحرّك الآن في ضوء رؤية كلية مباشرة لكل المتاحات في المستقبل ، انها قيم تشكل نفسها على الدوام على هيئة كلٍّ يسعى بمثابرة نحو الكمال والتوازن في رحلة دائمة خارجا من - وداخلا في وإلى ، وذلك ما تحاول هذه القراءة أن تصل إليه ، فليس ثمة رحلة حقيقية ولا رحيل في النص ، وإنما هو انفصال عن مرحلة تاريخية مهمة ودخول في مرحلة جديدة بكل ما يحمله ذلك الجديد من سمات .





المصادر والمراجع
1 – ديوان الحماسة ، أبو تمام ، 365 ،تحقيق عبد المنعم أحمد صالح ، بغداد ، 1980 .
2 - ضد التأويل ، سوزان سونتانج ، ترجمة باقر جاسم محمد ، مجلة الثقافة الاجنبية ، 3/1992، 66-67 ،
3 _ الصوت الاخر ، الجوهر الحواري للخطاب الادبي ، فاضل ثامر ، 234 ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ط1 ، 1992 . كانت ظاهراتية هوسرل (1859-1938) هي الاساس الفلسلفي لنظرية ايزر ، فعملية القراءة عند ايزر هي نوع من العمل الظاهراتي ، ونوع من الرؤية الظاهراتية للأشياء ، ولذلك فإن الربط بين التصور الفلسفي عند هوسرل وبين تصور آيزر في فعل القراءة امر لا بد منه للوصول الى رؤية واضحة لفهم اصول هذه النظرية
( الاصول المعرفية لنظرية القراءة - ناظم عودة ،مجلة الأقلام ، العدد 11-12 /93 ، (ص 72 ) فضلا عن إفادته من نظرية الجشتالت الألمانية التي تؤمن بان خصائص الكل تتشكل من مجموع (الأجزاء) لأن هذا الجزء بخصوصيته المجردة لا يشكل وحده قيمة جمالية الا اذا ارتبط بغيره من الأجزاء وحينها يتشكل الكل الفني بمجمل خصائصه الشاملة ( التحليل النقدي والجمالي للأدب - د. عناد غزوان ، 15-16، دار آفاق عربية ، بغداد ، 1985) ، اما اتجاه ياوس فجذوره تمتد الى أفكار جادامير الذي كانت تأويليته ، رد فعل على صرامة المنهج النقدي آنذاك .
4-إشكاليات القراءة وآليات التأويل ، نصر حامد ابو زيد ، 39-42 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، بيروت ، ط4 ، 1996 .
5- بناء القصيدة العربية ، د. يوسف حسين بكار ، 28 ، دار الثقافة ، القاهرة ،1979.
6-استراتيجية التسمية ، مطاع صفدي ، 28 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1986.
7-الفضاء الروائي في الغربة ، منيب البوريمي ، 21 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، 1984 .
8- نفسه ، 52 .
9-كما ورد في جماليات المكان ، جاستون باشلار ، ترجمة : غالب هلسا ، 231 ، دار الجاحظ ، بغداد ، 1980 .
10- نفسه ، ص 222 .
11-احد عشر كوكبا على المشهد الأندلسي ، صبحي حديدي ، مجلة الدراسات الفلسطينية ، 13/93 ، ص 174 .
12-في معرفة النص ، يمنى العيد ، ص 230 ، دار الافاق الجديدة ، بيروت ، ط3 ، 1985.
13-الكتابة ضد الكتابة ، عبد الله محمد الغذامي ، 2 ، دار الآداب ، بيروت ، ط 1 ، 1991 .
14-دراسات في الأدوات النحوية ، د. مصطفى النحاس ، 17-24 ، شركة الربيعان ، الكويت ، ط1 ، 1979 .
15-الكتابة ضد الكتابة ، 76-98 .
16-أخبار النحويين البصريين ، أبو سعيد السيرافي ، 85 – 86 ، فرينس كرنكو ، المطبعة الكاثوليكية ، باريس – بيروت ، 1936 .
17-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر الحديث ، د. مصطفى السعدني ، منشأة المعارف بالإسكندرية ، د . ت .
18- لسان العرب ، اين منظور ، " مادة عين " إعداد وتصنيف يوسف خياط ، دار لسان العرب ، بيروت ، د. ت .
19- الكتابة ضد الكتابة ، 35 ، 41 .


أعلى