محمد مهدي الجواهري - أبو العلاء المعري

قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا = واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ = ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا
وسائلِ الحُفْرةَ المرموقَ جانِبُها = هل تبتَغي مَطْمَعاً أو ترتجي طلَبا ؟
يا بُرجَ مفْخَرةِ الأجداث لا تهِني = أنْ لم تكُوني لأبراج السَّما قُطُبا
فكلُّ نجمٍ تمنَّى في قَرارته = لو أنَّه بشُعاعٍ منكِ قد جُذبا
والمُلْهَمَ الحائرَ الجبَّارَ ، هل وصَلَتْ = كَفُّ الرَّدى بحياةٍ بَعْدَه سَبَبا؟
وهل تَبدَّلْتَ رُوحاً غيرَ لاغبةٍ = أم ما تزال كأمسٍ تشتكي اللَّغَبا
وهل تخبَّرْتَ أنْ لم يألُ مُنْطَلِقٌ = منُ حرّ رأيكَ يَطْوي بعْدكَ الحقَبا
أم أنتَ لا حِقَبلً تدري ، ولا مِقَةً = ولا اجتواءً ، ولا بُرءاً ، ولا وصَبا
وهل تصَحَّحَ في عُقْباكَ مُقْتَرحٌ = ممَّا تفَكرتَ أو حَدَّثْتَ أو كُتِبا ؟
نَوِّر لَنا ، إنَّنا في أيّ مُدَّلج ٍ = ممَّا تَشكَّكْتَ ، إنْ صِدقاً وإنْ كذبا
أبا العلاءِ ، وحتى اليومِ ما بَرِحتْ = صَنَّاجهُ الشَعر تُهدي المترفَ الطَّربا
يَستنزلُ الفكرَ من عَليا مَنازلهِ = رأسٌ ليمسحَ من ذي نعمةٍ ذنَبا
وزُمرةُ الأدبِ الكابي بزُمرتهِ = تفرَّقَتْ في ضَلالاتِ الهوى عُصَبا
تَصَّيدُ الجاهَ والألقابَ ناسيةً = بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةٍ لقبا
وأنَّ للعبقريّ الفذِّ واحدةً = إمَّا الخُلودَ وإمَّا المالَ والنَّشبا
من قبلِ ألفٍ لَو انَّا نبتغي عِظةً = وعَظْتَنا أنْ نصونَ العلمَ والأدبا
على الحصيرِ .. وكوزُ الماء يَرفدهُ = وذِهنُه .. ورفوفٌ تحمِلُ الكتبا
أقامَ بالضَّجَّةِ الدُّنيا وأقعدَها = شيخٌ أطلَّ عليها مُشفقاً حَدِبا
بَكى لأوجاعِ ماضيها وحاضرِها = وشامَ مُستقْبَلاً منها ومرتقبَا
وللكآبةِ ألوانٌ ، وأفجعُها = أنْ تُبصرَ الفيلسوفَ الحُرَّ مكتئِبا
تناولَ الرثَّ من طبعٍ ومُصطَلحٍ = بالنقدِ لا يتأبَّى أيَّةً شجبا
وألهمَ الناسَ كي يَرضَوا مغبَّتهم = أن يُوسعوا العقلَ ميداناً ومضطَربا
وأنْ يَمدُّوا به في كلِّ مُطَّرحٍ = وإنْ سُقوا مِن جَناه الويلَ والحرَبا
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا = بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا
إنَّ الذي ألهبَ الأفلاكَ مِقولُه = والدَّهرَ .. لا رَغَباً يرجو ولا رهَبا
لم ينسَ أنْ تشمَلَ الأنعامَ رحمتُهُ = ولا الطيورَ .. ولا أفراخَها الزُغُبا
حَنا على كلّ مغضوبٍ فضمَّده = وشجَّ منْ كان ، أيّاً كان ، مغتصِبا
سَلِ المقاديرَ ، هل لازلتِ سادرةً = أمْ أنتِ خجلى لِما أرهقتهِ نصبا؟
وهل تعمَّدتِ أنْ أعطيتِ سائبةَ = هذا الذي من عظيمٍ مثْلِه سُلبا
هذا الضياءَ الذي يَهدي لمكمنّه = لِصّاً ويُرشدُ أفعى تَنفُثُ العَطَبا
فانْ نَخَرتِ بما عوَّضتِ من هبةٍ = فقد جنيتِ بما حمَّلتهِ العصبا
تلمَّسَ الحُسنَ لم يمدُدْ بمُبصرةٍ = ولا امتَرى دَرَّةً منها ولا حلبا
ولا تناولَ من ألوانها صُوراً = يَصُدُّ مبتعِدٌ منهنَّ مُقتربا
لكنْ بأوسعَ من آفاقها أمداً = رَحْباً ، وأرهفَ منها جانباً وشَبا
بعاطفٍ يتبنَّى كلَّ معتلِجٍ = خفَّاقه ويُزكّيهِ إذا انتسبا
وحاضنٍ فُزَّعَ الأطيافِ أنزلها = شعافَه وحباها معقِلاً أشِبا
رأسٌ من العَصَبِ السامي على قفص = من العظام إلى مهزولةٍ عُصِبا
أهوى على كُوَّةٍ في وجههِ قدَرٌ = فسَدَّ بالظلْمةِ الثُقْبينِ فاحتجبا
وقال للعاطفات ِ العاصفاتِ بهِ = ألآنََ فالتمسي مِن حُكْمهِ هربا
ألآنَ يشربُ ما عتَّقتِ لا طفَحاً = يُخشى على خاطرٍ منه ولا حبَبا
ألآنَ قولي إذا استوحشتِ خافقَه = هذا البصيرُ يُرينا آيةً عَجبا
هذا البصيرُ يُرينا بين مندرِسٍ = رثِّ المعالم، هذا المرتَعَ الخصِبا
زنجيَّةُ اليلِ تروي كيف قلَّدها = في عُرسها غُرَرَ الأشعار ..لا الشهبا
لعلَّ بين َ العمى في ليلِ غُربته = وبين فحمتَهِا من أُلفَةٍ نسبا
وساهرُ البرق والسُمَّارُ يُوقِظهم بالجزع يخفق من ذكراه مضطرِبا
والفجرُ لو لم يلُذْ بالصبح يَشربه من المطايا ظِماءً شُرَّعاً شُربا
والصبحُ ما زال مُصفرّاً لمقرّنَهِ = في الحُسْن بالليل يُزجي نحوه العتبا
يا عارياً من نَتاجِ الحُبِّ تكرمةً = وناسجاً عَفَّةً أبرادَهُ القشُبا
نعوا عليكَ – وأنت النور – فلسفةً = سوداءَ لا لذَّةً تبغي ولا طرَبا
وحمَّلوكَ – وأنت النارُ لاهبةً - = وِزرَ الذي لا يُحسُّ الحُبَّ ملتهبا
لا موجةُ الصَّدرِ بالنهدينِ تدفعه = ولا يَشقُّ طريقاً في الهوى سَربا
ولا تُدغدِغُ منه لذَّةٌ حُلُماً = بل لا يُطيقُ حديثَ اللذَّةِ العذِبا
حاشاك ، إنَّكَ أذكى في الهوى نفسَاً = سََمْحاً ، وأسلسُ منهمْ جانباً رطِبا
لا أكذبنَّكَ إنَّ الحُبَّ متَّهمٌ = بالجَور يأخذ مِنَّا فوقَ ما وَهبا
كم شيَّعَ الأدبُ المفجوعُ مُختضَراً = لدى العيونِ وعندَ الصدر مُحتَسَبا
صَرعى نَشاوى بأنَّ الخَودَ لُعبتُهم = حتى إذا استَيقظوا كانوا هُمُ اللُعَبا
أرتهُمُ خيرَ ما في السّحْرِ من بُدءٍ = وأضمرتْ شَرَّ ما قد أضمرتْ عُقبا
عانَى لَظَى الحُبِّ " بشَّارٌ " وعُصبتُه = فهل سوى أنَّهم كانوا له حَطبا
وهل سوى أنهم راحوا وقد نذروا = للحبِّ ما لم يجب منهم وما وَجبا
هل كنتَ تخلدُ إذ ذابوا وإذ غَبرُوا = لو لم ترُضْ منِ جِماحِ النفس ما صَعُبا
تأبى انحلالاً رسالاتٌ مقدَّسةٌ = جاءت تقوِمُ هذا العالَمً الخَربا
يا حاقِرَ النبعِ مزهُوّاً بقوَّتهِ = وناصراً في مجالي ضعفهِ الغَرَبا
وشاجبَ الموت من هذا بأسهمهِ = ومُستمِنّاً لهذا ظِلَّهُ الرَّحبِا
ومحرِجَ المُوسِرِ الطاغي بنعمتهِ = أنْ يُشرِكَ المُعْسِرَ الخاوي بما نهبا
والتَّاجُ إذ تتحدَّى رأسَ حاملهِ = بأيِّ حقٍّ وإجماعٍ به اعتصبا
وهؤلاءِ الدُّعاةُ العاكفونَ على = أوهامهم ، صنماً يُهدون القُرَبا
الحابطونَ حياةَ الناس قد مَسخوا = ما سنَّ شَرْعٌ وما بالفطرة اكتُسِبا
والفاتلونَ عثانيناً مُهرّأةً = ساءتْ لمحتطِبٍ مَرعى ومحتطَبا
والمُلصِقونَ بعرش اللهِ ما نسجت = أطماعُهم : بِدعَ الأهواءِ والرِيّبا
والحاكمونَ بما تُوحي مطامعُهم = مؤِّولينَ عليها الجدَّ واللَّعبا
على الجلود من التدليس مَدرعةٌ = وفي العيون بريقٌ يخطَف الذهبا
ما كان أيُّ ضلالٍ جالباً أبداً = هذا الشقاء الذي باسم الهُدى جُلبا!
أوسَعْتَهم قارصاتِ النقدِ لاذعةً = وقلتَ فيهم مَقالاً صادقاً عجبا
" صاحَ الغرابُ وصاحَ الشيخُ فالتبستْ = مسالِكُ الأمر: أيٌّ منهما نعبا "
أجللتُ فيك من الميزات خالدةً = حُرَّيةَ الفكرِ والحرمانَ والغضبا
مجموعةً قد وجدناهُنَّ مُفرَدةً = لدى سواكَ فما أغنيننا أربا
فربَّ ثاقبِ رأيٍ حطَّ فكرتَه = غُنمٌ فسَفَّ .. وغطَّى نورَها فخبا
وأثقلَتْ مُتَعُ الدُّنيا قوادِمَهُ = فما ارتقى صُعُداً حتَّى ادَّنى صَبيا
بَدا له الحقُّ عُرياناً فلم يَرهُ = ولاحَ مقتلُ ذي بغيٍ فما ضَربا
وإنْ صدقتُ فما في الناس مُرتكِباً = مثلُ الأديب أعان الجورَ فارتكبا
هذا اليراعُ ، شواظُ الحقّ أرهفه = سيفاً . وخانعُ رأيٍ ردَّه خشبا
ورُبَّ راضٍ من الحرمان قِسَمته = فبرَّر الصبرَ والحرمانَ والسغبا
أرضى ، وإنْ لم يشأ ، أطماحَ طاغيةٍ = وحالَ دونَ سوادِ الشعب أن يثبا
وعوَّضَ الناسَ عن ذُلٍّس ومَتربَةٍ = مَنَ القناعةِ كنزاً مائجاً ذهبا
جيشٌ من المُثُلِ الدُّنيا يَمُدُّ به = ذوو المواهبِ جيشَ القوَّةِ اللَّجبا
آمنت بالله والنورِ الذي رسمَتْ = به الشرائعُ غُرّاً منهجاً لَحِبا
وصُنتُ كَّل دُعاةِ الحقِّ عن زَيغٍ = والمُصلحينَ الهداةَ ، العُجْمَ والعَرَبا
وقد حَمِدتُ شفيعاً لي على رَشَدي = أُمّاً وجدتُ على الإسلامِ لي وأبا
لكنَّ بي جنَفَاً عنِ وعي فلسفةٍ = تقضي بأنَّ البرايا صُنِّفتْ رُتَبا
وأنَّ مِن حِكمةٍ أنْ يجتني الرُّطَبا = فردٌ بجَهد ألوفٍ تعلكُ الكَرَبا
أعلى