محمد بنيس - الكورونا، وسيادة الهيمنة..

هذه أيام قاسية، لاشك. أحياناً، يبدو لي أننا لم نستطع، حتى الآن، أن نقدر خطورة وباء فيروس كورونا. بل ليس لدينا من الإمكانيات ما يكفى، لمعرفة الواقع، حتى ندرك ما نحن فيه. لذا فأنا أعيش بقلق كبير هذه اللحظة. هو قلق يتركني في العراء. أنا منعزل في البيت، مثل غيري، في البلاد التي قررت حكوماتها فرض العزلة على الناس ومنعهم من مغادرة البيوت. وحيدان في البيت، زوجتي وأنا. وابننا هو الذي يمدنا، من بعيد، بما نحتاج إليه.
لكن لي في هذه الأيام حيوية تكاد تكون متواصلة. أتتبّع الأخبار وأتبادل مع بعض الأصدقاء والمعارف رسائل وفيديوهات عن الفيروس والعدوى، يتم الحصول عليها من جهات مختلفة. معلومات، مؤكدة وأخرى زائفة، كلها تهجم على الوتساب. وفيديوهات الفكاهة والتسلية، تعبر عن السمو في التعامل مع العزل ولزوم البيت والأمل في تجاوز المحنة. على هذا النحو أتفرغ في هذه الأيام لما أكتب، كما أتفرغ للقراءة، قراءة الشعر والأدب والفكر ومصاحبة الفنون. حياتي اليومية في العزلة ثقافية، وبها أترك الإحساس يقظاً بما يحدث، وأحتمي بالسؤال عن أسباب ما يحدث. أعلم أن خارج البيت مآسي في نواح مختلفة من الحياة العامة. هناك مأساة المرضى العاجزين عن الوصول إلى المستشفيات، مأساة الفقراء الذين أصبحوا بدون دخل، مأساة اللاجئين الذين يحملون أعباء الغربة والحرمان والموت، مأساة عمال وموظفين مسرّحين من العمل، مأساة مؤسسات صغرى تتعرض لصدمات لا شك أنها ستؤدي إلى توقيف نشاطها. وأفكر في العائلة وفي أقرباء أعرف عنهم أنهم يعيشون في أيامهم العادية وضعية صعبة. أفكر في الأصدقاء، أكاتب الواحد وأهاتف الآخر، حتى أطمئن. وفي كل وقت من اليوم أعود لأحيّي هيئة الأطباء والممرضين وجميع الساهرين في العالم على المرضى. أفكر في هؤلاء وأولئك، وأتضامن.
من هنا فإن جائحة الفيروس تنذر بالدمار. بل إن بلداناً عربية، توجد في حالة حرب منذ سنين، سيكون الواقع فيها أعتى مما سيؤول إليه الأمر في البلدان الأخرى. قلقي كبير، لأن ما سيحصل في حياتنا ستكون نتائجه مضاعفة. طبعاً، أنا ملاحظ، وعند هذا الحد أتوقف. أما العلماء في الميكروبات والبيولوجيا، أو المختصون في الاقتصاد والاجتماع، على الأقل، فمن المفروض أن تكون لديهم قراءة أدق للمعطيات، لكن نتائجها لن تختلف، فيما أعتقد، عما يلاحظه الأدباء والفنانون.
لذا أنظر إلى واقع الوباء في العالم بما هو إنذار بالدمار. نظرة لا مبالغة فيها لما يحدثه فيروس كورونا في البشرية، اليوم، أي منذ بداية انتشار الوباء. دمار غير اعتيادي، لا نقدر فداحته. ولكنه كان منتظراً بالنسبة لجميع المعارضين لسيادة الهيمنة، كما تتجلى في طغيان العولمة ومنطق ما بعد الحداثة. كتابات عديدة بهذا الشأن صدرت عن علماء في الغرب، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وصرخات منظمات الدفاع عن البيئة تصاعدت، كما توالت إنذارات أطلقتها طائفة واسعة من الكتاب والمبدعين في العالم. فوجود هذا الوباء، وانتشاره بالسرعة التي تم بها، وعموميته عبر جهات الأرض، هي من نتائج العولمة وما استتبعها من هيمنة قيم ما بعد الحداثة.
على أننا لم يكن لنا نصيب ريادي في مثل هذه المواقف، لأن العالم العربي يعيش وضعية مزدوجة. فهو، من ناحية، يزيد من تشبثه بالزمن الديني، الذي يضاعف من اعتماد القدرية في فهم وشرح الوقائع، ويرسّخ أكثر فأكثر الثقافة الغيبية في النظر إلى أحواله وفي معالجة حتى أبسط ما يعيش. وهو، من ناحية أخرى، أصبح مستسلماً لهيمنة الغرب، أو منبهراً بمظاهر حياة الاستهلاك. أما في الحياة الثقافية، فإننا نمر بمرحلة يتضاءل فيها التمسك بقيم الوعي النقدي، وينتصر التخلي عن الطموح في إنشاء حوار مع العالم. لذا لم تعد النخبة العربية مهيأة للجهر بقول "لا" في قضايا تظل بعيدة عنها ولا تشارك في صياغتها ولا في التداول بشأنها. منها إشكالية فرض الغرب قيم حداثته، باعتبارها قيماً كونية، ولا بد لنا أن نقبل بها ونعتبرها الحقيقة والمرجع، ومنها انفجار الثقافة الرقمية بكل ما تحمله من استبداد ثقافة الإعلام والاستهلاك.
تأكيداً أن البشرية ستنتصر على الفيروس، لكن بأي ثمن؟ منذ بداية الألفية الثالثة، عرف العالم أزمات واستطاع أن يتخطاها، على أن الانتصار الذي حققه ظل مؤقتاً، لأن الأسباب بقيت في مكانها. ولا أعرف حجم الدمار الذي سيسفر عنه الفيروس الحالي بعد الخروج من الأزمة. ثم إنه من الصعب التكهن بإمكانية أن تكون ثمة في العالم ردة فعل نقدية، رافضة، لسياسة العولمة ومؤثرة، كما كان الشأن بالنسبة لما حدث في الغرب بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ورغم وجود حركات معارضة، فإن معطيات عديدة تغيرت، مع بداية التسعينيات، أي بعد أن أصبح العالم يعيش بين أسوار العولمة والثقافة الليبرالية المتعددة الوجوه، في السياسة كما في الحياة العامة. من قبل كان حضور اليسار قوياً بوعيه النقدي وبمواقفه ونضالاته، أما الآن فنحن في زمن اليمين، بل اليمين المتطرف، الذي يفاقم الخضوع لرأسمال المال وللعنصرية ورفض الاعتراف بالآخر والمساواة معه.
وباعتقادي أنه لن يظهر في العالم العربي وعي نقدي جديد، أساسه السؤال، كما كان الشأن من قبل، في الخمسينيات أو السبعينيات. كل ما يحدثه الوباء اليوم سيصبح مجرد واقعة حلت وارتحلت. للأسف، نحن خارج العالم.

محمد بنيس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى