صدرت الطبعة الأولى من رواية الياس خوري " باب الشمس " في ١٩٩٨ - أي بعد ١٧ عاما من " الوجوه البيضاء " ( الأيام الفلسطينية بتاريخ ٢٢ و ٢٩ / آذار ٢٠٢٠ ) و٥ سنوات من " مملكة الغرباء " ( موقع رمان ٣ نيسان ٢٠٢٠ ) ، ولاحظنا في الروايتين السابقتين تحولات في صورة الفدائي يمكن إجمالها بالآتي :
- الفدائي البطل / الأسطورة المقاوم السري للاحتلال الاسرائيلي قبل ١٩٦٧ والملاحق من النظام العربي
- الفدائي بعد ١٩٦٧ في لحظات تحوله من السر إلى العلن وانجراره إلى صراع ثانوي في البلدان العربية / الحرب الأهلية في لبنان ومن قبل في الأردن .
- الفدائي بعد العام ١٩٨٢ واقتتاله مع أخيه الفدائي في حرب المخيمات .
فهل غاب الفدائي في " باب الشمس " التي أنجزت بعد اتفاق " أوسلو " وقيام السلطة الفلسطينية وقبل انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠ ؟
وهل ثمة صلة بين " باب الشمس " والروايات السابقة للكاتب التي قارب فيها الموضوع الفلسطيني ؟
من المؤكد أن مقاربة الموضوع الفلسطيني في روايات الياس خوري يتطلب النظر إليه في ضوء الوقائع والمتغيرات التي مرت بها القضية الفلسطينية .
كانت بدايات المقاومة في ٦٠ ق ٢٠ سرية وسرعان ما تحولت ، بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ إلى علنية ، وما إن قويت واشتدت حتى اصطدمت بالنظام العربي في البلدان التي كانت فيها ، وفرضت عليها معارك جانبية خاضتها في العام ١٩٧٠ في الأردن وفي العام ١٩٧٥ في لبنان ، وقد أسفرت عن خروجها من عمان أولا ومن بيروت ثانيا ، وعندما عاد قسم منها إلى لبنان اشتعلت حرب المخيمات بين الفصائل الفلسطينية ، وقد اختلفت وجهات النظر في ما جرى . وعموما يمكن القول إن روايات الياس خوري الوارد ذكرها رصدت هذه التغيرات والتطورات التي عاشتها الثورة الفلسطينية .
والسؤال الذي يثيره القاريء وهو يتابع الروايات الثلاثة - وأيضا روايات الياس خوري اللاحقة - هو :
- هل من صلة بينها ؟ وهل يستطيع الناقد أن يبرهن أنها ، على الرغم من تنوع موضوعاتها ، صادرة عن مبنى ذهني واحد ؟
إن أحد تعريفات البنيوية هو " الصلة بين " ، وهذا دفع بالنقاد البنيويين إلى دراسة أعمال أدبية مختلفة لكاتب واحد للبحث عن الصلة بينها ( ميخائيل ريفاتيري وكمال أبو ديب ) ، بل إنهم ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك ، فقاربوا أعمالا أدبية مختلفة لكتاب مختلفين ، في عصر واحد أو في عصور مختلفة ، ليروا الصلة بينها .
لن أطيل الكتابة هنا في التنظير النقدي الذي طالما أتيت عليه في نقدي التطبيقي وأنا أدرس أدباء كثرا . ما يهمني هنا هو البحث عن " الصلة بين " روايات الياس خوري الثلاثة ، وتحديدا فيما يخص صورة الفلسطيني ، وتحديدا هنا صورة الفدائي .
هل من صلة بين أبو جاسم في " الوجوه البيضاء " وعلي أبو طوق في " مملكة الغرباء " ويونس في "باب الشمس " ؟
وهل نلحظ أيضا تطورات طرأت على صورة الفدائي في الروايات الثلاثة ؟
كان أبو جاسم فدائيا يسعى إلى تحرير فلسطين وامتاز بالصلابة والنقاء ، ولأجل تحقيق مهمته ضحى بنفسه وتسلل إلى فلسطين ليقاوم وتعرض لملاحقة المكتب الثاني في لبنان وظل وفيا لما نشأ عليه .
هل يختلف علي أبو طوق عن أبو جاسم ؟
عرف عن علي ، كما لاحظنا ، الصلابة والقوة والنقاء والإخلاص للثورة ودافع عنها حتى استشهد . الفرق الوحيد بينه وبين أبو جاسم يكمن في أنه سيق إلى حرب أهلية وانشغل عن تحرير فلسطين ، والقيام بمهمات قتالية في داخلها ، بحرب بين الأشقاء أنفسهم .
يتشابه يونس في " باب الشمس " مع أبو جاسم في أنه كان يتسلل إلى فلسطين ويشارك في المقاومة ، ولا نعرف إلام انتهى أبو جاسم ، فرواية " الوجوه البيضاء " نشرت في ١٩٨١ وكانت الثورة الفلسطينية مازالت في بيروت وقوية في الوقت نفسه ، وتحتلف " باب الشمس " في هذا الجانب ، فالثورة ضعفت في لبنان وانشغل من تبقى من الفدائيين ، بعد خروج المقاتلين في ١٩٨٢ ، بحرب بين الفلسطينيين أنفسهم تدعم كل جهة جهة عربية . وفي ٩٠ ق ٢٠ وصلت أحوال المخيمات إلى أسوأ مرحلة .
يونس الشخصية الفلسطينية المحورية في " باب الشمس " ينتهي إلى شخص ميت سريريا ينتظر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليدفن في مقبرة في بيروت بعيدا عن ثرى فلسطين .
هل يعد المآل الذي آل إليه يونس هو ما يمكن أن يكون آل إليه أبو جاسم في " الوجوه البيضاء " ؟ وكما دفن يونس ، وهذا ما افترضه ، في لبنان ، إذ لم تسمح إسرائيل إطلاقا لفلسطيني مقاتل من مقاتلي المنفى ، مات في المنفى ولم يعد إثر اتفاق أوسلو ، أن يدفن في فلسطين . إن يونس مثله مثل الشخصيات الأربعة في " مملكة الغرباء " دفن في لبنان ، وهو في هذا مثل مئات آلاف الفلسطينيين في المنافي .
لقد انتهى زمن الفدائي البطل الأسطوري وهو ما ينطق به الدكتور خليل الملاحق المختبيء في المشفى الذي يرقد فيه يونس :
" هل تذكر يوم جئتني حزينا وقلت إن الناس سئموا منك ، وأنا لم أستطع إزاحة الحزن عن وجهك الأبيض المستدير . ماذا أقول ؟ هل أقول إن زمنك راح فعلا أو لم يأت بعد . كنت ستزعل أكثر ، وأنا لم أستطع أن أكذب عليك ، فأنا حزين أيضا ، وحزني ثقب عميق في روحي لا يمكن سده لكني والله لا أريدك أن تموت ."
لقد انتهى الفلسطيني في لبنان ما بين ميت سريريا وملاحق مطلوب يخشى الاعتقال . إنه مآل يبعث على الحزن حقا .
2 -
صورة الفلسطيني في الرواية العربية : يهود اليهود ( 2من2 ) :
عادل الاسطة
يفصح لنا الياس خوري في أثناء كتابته في الموضوع الفلسطيني عن مصادره ومراجعه وتتجسد في الآتي :
- صلته بحركة المقاومة بعد العام ١٩٦٧ وعمله لاحقا في مؤسساتها وتعرفه إلى أبرز رموزها الأدبية
- قراءته الأدبيات الفلسطينية بشكل عام والكتابة عن أهمها والتخصص فيها تقريبا (كنفاني وحبيبي وجبرا ودرويش وادوارد سعيد وراشد حسين ) وهنا يمكن الموازنة بين صورة الفلسطيني في الرواية الفلسطينية وصورته في روايات خوري وملاحظة التشابه والاختلاف .
- زيارته للمخيمات الفلسطينية في لبنان والإصغاء إلى سكانها والتعرف إلى عاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم ، وحين نصغي هنا إلى الفلسطينيين يتكلمون فإنما نصغي إلى الفلسطيني يتحدث عن نفسه بلسانه ويقدم تصوره هو لنفسه ( ينظر تذييلاته لرواياته ومنها " باب الشمس " و " أولاد الغيتو : اسمي آدم " .
- قراءة الأدبيات الإسرائيلية التي تناولت الموضوع الفلسطيني ، وبالتالي قراءة تصور الطرف الآخر للذات الفلسطينية ( عوز ويهوشع وسميلانسكي .ي وكانيوك وغروسمان ) .
- المخيلة والكذب الروائي .( حول هذا انظر كتابي " أسئلة الرواية العربية ، دار الآداب بيروت ٢٠١٨ ).
ولا شك أن مراجعه ومصادره وتجربته لم تتح لكثير من الأدباء العرب الذين قاربوا الموضوع الفلسطيني ، عدا تصور خاص به لشكل العلاقة بين الفلسطينيين واللبنانيين سوف أقاربه حين أكتب عن روايته " كأنها نائمة " .
هذا الثراء في المصادر والمراجع جعل تصوره للذات الفلسطينية ، كما ذكرت ، يبدو أحيانا جزءا من تصور الذات لذاتها ، وهنا قد نقرأ في كتاباته ما قرأناه في بعض روايات غسان كنفاني وبعض أسطر محمود درويش ، ويتجسد هذا في فكرة " ضحية الضحية " و "تبادل الأدوار " وهو ما اخترته عنوانا لهذه الكتابة .
الفلسطينيون صاروا يهود اليهود :
ترد عبارة " يهود اليهود " في " باب الشمس " على لسان نهيلة المرأة الفلسطينية المقيمة في الجليل الفلسطيني والمتزوجة من الفدائي يونس ، وعلى الرغم من الحدود الفاصلة بين لبنان وإسرائيل (؟) واستحالة قيام حياة أسرية سوية إلا أن الصلة بين الزوج المقيم في المنفى والزوجة الصامدة على أرضها لم تنقطع ، مع أنها محفوفة بالمخاطر ومحكومة بالفشل ، فحالة العداء بين إسرائيل والعالم العربي في ٦٠ ق ٢٠ كانت تحول دون علاقات عادية بين الزوجين . ونظرا لأن خوري لم يعش في الأرض المحتلة فإن شخصية نهيلة هنا شخصية متخيلة بالدرجة الأولى ، وقد تكون أكثر شخصية كان للخيال دور في خلقها ، وبالتالي فإنها تمثل تصور الكاتب للمرأة الفلسطينية في الأرض المحتلة ، وهي تختلف عن شخصية أم حسن اللاجئة الفلسطينية التي تعيش في مخيمات لبنان التي التقى خوري بسكانها .
يلاحق الإسرائيليون الفدائي يونس ويسعون للقبض عليه ومحاكمته والزج به في السجن ، ويضيقون على زوجته التي تنكر أية صلة بينهما ، وإنكارها لا يقنع الإسرائيليين الذين يلجأون إلى تهديدها والضغط عليها بتشويه سمعتها ، بإشاعة أنها تنجب أولادها بالزنا ، لا من زوجها يونس الفدائي المتسلل .
في " الوجوه البيضاء " تمثلت المرأة الفلسطينية في سمر التي تنتمي إلى الثورة ثم تتزوج من تاجر وتنسحب من الشأن العام ، وفي " مملكة الغرباء " طالعتنا صورة المرأة العاملة التي يقتلها الكتائبيون بلا شفقة ، وتختلف نهيلة هنا عنهما ، فهي ليست الفلسطينية اللاجئة ، وإنما هي الفلسطينية المتشبثة بأرضها والراعية لأسرتها في ظل غياب زوجها الفدائي . إنها الفلسطينية التي تتحمل الحياة في ظل أوضاع صعبة تحت الاحتلال الإسرائيلي ، وهي التي تحاكم الإسرائيليين حين يتحدثون عن الأخلاق :
" مخجل ! سرقتم البلاد وطردتم أهلها ، وتأتون لتعطوني دروسا في الأخلاق . يا سيدي نحن أحرار ، ولا يحق لأحد أن يسألني عن حياتي الجنسية " ، ويرد على لسانها ، في أثناء الحديث عن( كاترين ) الفرنسية المتعاطفة مع الفلسطينيين ، أن نهيلة قالت للضابط الإسرائيلي " نحن يهود اليهود " .
يروي السارد عن رغبة الفرنسية في تمثيل مسرحية ( جان جينيه ) ثم تراجعها ، لأن المسرحية تحفل بقدر كبير من المآسي :
" طلبت لها فنجان قهوة تركية ، فشربته دفعة واحدة ، وانكمش وجهها لأن القهوة أحرقت لسانها. جلست صامتة ، ثم سألتني لماذا يكره الناس الفلسطينيين؟ احترت ماذا أقول. أخبرها عن تمزق الحرب الأهلية ، أم أقول لها ما قالته نهيلة للضابط الإسرائيلي " نحن يهود اليهود " والآن سوف نرى ما يفعله اليهود بيهودهم ؟ " ويتابع الراوي مبديا رأيه فيما نسب إلى نهيلة من قول :
" أنا لا أوافق على هذه التعابير التي نستخدمها في حياتنا اليومية بسهولة. أستطيع أن أفهم نهيلة ، لأنها هناك. وهناك يجد الفلسطيني نفسه مواجهة بعنصرية تشبه العنصرية التي واجهها اليهود في أوروبا ، أما هنا فلا ، نحن في بلد عربي ونتكلم اللغة نفسها ." .
هل كلام الراوي خليل هو كلامه أم أنه كلام الياس خوري نفسه ؟ وبم يختلف عما قرأناه في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " عن الموقف من اليهود الأوروبيين ؟
إن خوري يعد نفسه خارجا من معطف أدباء فلسطين الكبار الذين كتب عنهم في رواياته ، مع فارق أن كتاباته لا تخلو من نقد للثورة الفلسطينية لم تقرؤه في كتاباتهم ، وربما يعود السبب إلى موقعه وإلى أنه عاش في مراحل لاحقة آلت فيها الثورة الفلسطينية إلى مآلات لا تسر صديقا .وفكرة أن الفلسطينيين أصبحوا يهود اليهود انتبه إليها خوري وهو يقرأ ( يزهار سيميلانسكي ) ( راجع مقالي في الأيام الفلسطينية ١٠ نيسان ٢٠١٦ )
في الصفحات الأولى من " باب الشمس " كتابة عن أن قصة يونس الفدائي وجب أن يكتبها غسان كنفاني ، فقد أوصى الحكيم جورج حبش يونس أن يذهب إلى غسان وأن يقص عليه حكايته ليكتبها في رواية ، وما لم يكتبه غسان أنجزه الياس .
إن الكتابة عن صورة الفلسطيني في " باب الشمس " تتطلب ، عموما ، حيزا آخر ، فالرواية كلها عن الفلسطينيين .
*********
ملاحظة : حول مقاربة أخرى لصورة الفلسطيني في رواية الياس خوري " باب الشمس " أنظر مقاربة رشا عبد الله سلامة في موقع " القيادي " بتاريخ ١٦ / ٦ / ٢٠١٦ إذ تقارب الصورة مع رواية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " . تاريخ الزيارة ٥ نيسان ٢٠٢٠ .
( أنجز المقال في ٤ نيسان ٢٠٢٠ )
* نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية على حلقتين بتاريخ ٥ و ١٢ نيسان ٢٠٢٠ .
- الفدائي البطل / الأسطورة المقاوم السري للاحتلال الاسرائيلي قبل ١٩٦٧ والملاحق من النظام العربي
- الفدائي بعد ١٩٦٧ في لحظات تحوله من السر إلى العلن وانجراره إلى صراع ثانوي في البلدان العربية / الحرب الأهلية في لبنان ومن قبل في الأردن .
- الفدائي بعد العام ١٩٨٢ واقتتاله مع أخيه الفدائي في حرب المخيمات .
فهل غاب الفدائي في " باب الشمس " التي أنجزت بعد اتفاق " أوسلو " وقيام السلطة الفلسطينية وقبل انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠ ؟
وهل ثمة صلة بين " باب الشمس " والروايات السابقة للكاتب التي قارب فيها الموضوع الفلسطيني ؟
من المؤكد أن مقاربة الموضوع الفلسطيني في روايات الياس خوري يتطلب النظر إليه في ضوء الوقائع والمتغيرات التي مرت بها القضية الفلسطينية .
كانت بدايات المقاومة في ٦٠ ق ٢٠ سرية وسرعان ما تحولت ، بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ إلى علنية ، وما إن قويت واشتدت حتى اصطدمت بالنظام العربي في البلدان التي كانت فيها ، وفرضت عليها معارك جانبية خاضتها في العام ١٩٧٠ في الأردن وفي العام ١٩٧٥ في لبنان ، وقد أسفرت عن خروجها من عمان أولا ومن بيروت ثانيا ، وعندما عاد قسم منها إلى لبنان اشتعلت حرب المخيمات بين الفصائل الفلسطينية ، وقد اختلفت وجهات النظر في ما جرى . وعموما يمكن القول إن روايات الياس خوري الوارد ذكرها رصدت هذه التغيرات والتطورات التي عاشتها الثورة الفلسطينية .
والسؤال الذي يثيره القاريء وهو يتابع الروايات الثلاثة - وأيضا روايات الياس خوري اللاحقة - هو :
- هل من صلة بينها ؟ وهل يستطيع الناقد أن يبرهن أنها ، على الرغم من تنوع موضوعاتها ، صادرة عن مبنى ذهني واحد ؟
إن أحد تعريفات البنيوية هو " الصلة بين " ، وهذا دفع بالنقاد البنيويين إلى دراسة أعمال أدبية مختلفة لكاتب واحد للبحث عن الصلة بينها ( ميخائيل ريفاتيري وكمال أبو ديب ) ، بل إنهم ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك ، فقاربوا أعمالا أدبية مختلفة لكتاب مختلفين ، في عصر واحد أو في عصور مختلفة ، ليروا الصلة بينها .
لن أطيل الكتابة هنا في التنظير النقدي الذي طالما أتيت عليه في نقدي التطبيقي وأنا أدرس أدباء كثرا . ما يهمني هنا هو البحث عن " الصلة بين " روايات الياس خوري الثلاثة ، وتحديدا فيما يخص صورة الفلسطيني ، وتحديدا هنا صورة الفدائي .
هل من صلة بين أبو جاسم في " الوجوه البيضاء " وعلي أبو طوق في " مملكة الغرباء " ويونس في "باب الشمس " ؟
وهل نلحظ أيضا تطورات طرأت على صورة الفدائي في الروايات الثلاثة ؟
كان أبو جاسم فدائيا يسعى إلى تحرير فلسطين وامتاز بالصلابة والنقاء ، ولأجل تحقيق مهمته ضحى بنفسه وتسلل إلى فلسطين ليقاوم وتعرض لملاحقة المكتب الثاني في لبنان وظل وفيا لما نشأ عليه .
هل يختلف علي أبو طوق عن أبو جاسم ؟
عرف عن علي ، كما لاحظنا ، الصلابة والقوة والنقاء والإخلاص للثورة ودافع عنها حتى استشهد . الفرق الوحيد بينه وبين أبو جاسم يكمن في أنه سيق إلى حرب أهلية وانشغل عن تحرير فلسطين ، والقيام بمهمات قتالية في داخلها ، بحرب بين الأشقاء أنفسهم .
يتشابه يونس في " باب الشمس " مع أبو جاسم في أنه كان يتسلل إلى فلسطين ويشارك في المقاومة ، ولا نعرف إلام انتهى أبو جاسم ، فرواية " الوجوه البيضاء " نشرت في ١٩٨١ وكانت الثورة الفلسطينية مازالت في بيروت وقوية في الوقت نفسه ، وتحتلف " باب الشمس " في هذا الجانب ، فالثورة ضعفت في لبنان وانشغل من تبقى من الفدائيين ، بعد خروج المقاتلين في ١٩٨٢ ، بحرب بين الفلسطينيين أنفسهم تدعم كل جهة جهة عربية . وفي ٩٠ ق ٢٠ وصلت أحوال المخيمات إلى أسوأ مرحلة .
يونس الشخصية الفلسطينية المحورية في " باب الشمس " ينتهي إلى شخص ميت سريريا ينتظر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليدفن في مقبرة في بيروت بعيدا عن ثرى فلسطين .
هل يعد المآل الذي آل إليه يونس هو ما يمكن أن يكون آل إليه أبو جاسم في " الوجوه البيضاء " ؟ وكما دفن يونس ، وهذا ما افترضه ، في لبنان ، إذ لم تسمح إسرائيل إطلاقا لفلسطيني مقاتل من مقاتلي المنفى ، مات في المنفى ولم يعد إثر اتفاق أوسلو ، أن يدفن في فلسطين . إن يونس مثله مثل الشخصيات الأربعة في " مملكة الغرباء " دفن في لبنان ، وهو في هذا مثل مئات آلاف الفلسطينيين في المنافي .
لقد انتهى زمن الفدائي البطل الأسطوري وهو ما ينطق به الدكتور خليل الملاحق المختبيء في المشفى الذي يرقد فيه يونس :
" هل تذكر يوم جئتني حزينا وقلت إن الناس سئموا منك ، وأنا لم أستطع إزاحة الحزن عن وجهك الأبيض المستدير . ماذا أقول ؟ هل أقول إن زمنك راح فعلا أو لم يأت بعد . كنت ستزعل أكثر ، وأنا لم أستطع أن أكذب عليك ، فأنا حزين أيضا ، وحزني ثقب عميق في روحي لا يمكن سده لكني والله لا أريدك أن تموت ."
لقد انتهى الفلسطيني في لبنان ما بين ميت سريريا وملاحق مطلوب يخشى الاعتقال . إنه مآل يبعث على الحزن حقا .
2 -
صورة الفلسطيني في الرواية العربية : يهود اليهود ( 2من2 ) :
عادل الاسطة
يفصح لنا الياس خوري في أثناء كتابته في الموضوع الفلسطيني عن مصادره ومراجعه وتتجسد في الآتي :
- صلته بحركة المقاومة بعد العام ١٩٦٧ وعمله لاحقا في مؤسساتها وتعرفه إلى أبرز رموزها الأدبية
- قراءته الأدبيات الفلسطينية بشكل عام والكتابة عن أهمها والتخصص فيها تقريبا (كنفاني وحبيبي وجبرا ودرويش وادوارد سعيد وراشد حسين ) وهنا يمكن الموازنة بين صورة الفلسطيني في الرواية الفلسطينية وصورته في روايات خوري وملاحظة التشابه والاختلاف .
- زيارته للمخيمات الفلسطينية في لبنان والإصغاء إلى سكانها والتعرف إلى عاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم ، وحين نصغي هنا إلى الفلسطينيين يتكلمون فإنما نصغي إلى الفلسطيني يتحدث عن نفسه بلسانه ويقدم تصوره هو لنفسه ( ينظر تذييلاته لرواياته ومنها " باب الشمس " و " أولاد الغيتو : اسمي آدم " .
- قراءة الأدبيات الإسرائيلية التي تناولت الموضوع الفلسطيني ، وبالتالي قراءة تصور الطرف الآخر للذات الفلسطينية ( عوز ويهوشع وسميلانسكي .ي وكانيوك وغروسمان ) .
- المخيلة والكذب الروائي .( حول هذا انظر كتابي " أسئلة الرواية العربية ، دار الآداب بيروت ٢٠١٨ ).
ولا شك أن مراجعه ومصادره وتجربته لم تتح لكثير من الأدباء العرب الذين قاربوا الموضوع الفلسطيني ، عدا تصور خاص به لشكل العلاقة بين الفلسطينيين واللبنانيين سوف أقاربه حين أكتب عن روايته " كأنها نائمة " .
هذا الثراء في المصادر والمراجع جعل تصوره للذات الفلسطينية ، كما ذكرت ، يبدو أحيانا جزءا من تصور الذات لذاتها ، وهنا قد نقرأ في كتاباته ما قرأناه في بعض روايات غسان كنفاني وبعض أسطر محمود درويش ، ويتجسد هذا في فكرة " ضحية الضحية " و "تبادل الأدوار " وهو ما اخترته عنوانا لهذه الكتابة .
الفلسطينيون صاروا يهود اليهود :
ترد عبارة " يهود اليهود " في " باب الشمس " على لسان نهيلة المرأة الفلسطينية المقيمة في الجليل الفلسطيني والمتزوجة من الفدائي يونس ، وعلى الرغم من الحدود الفاصلة بين لبنان وإسرائيل (؟) واستحالة قيام حياة أسرية سوية إلا أن الصلة بين الزوج المقيم في المنفى والزوجة الصامدة على أرضها لم تنقطع ، مع أنها محفوفة بالمخاطر ومحكومة بالفشل ، فحالة العداء بين إسرائيل والعالم العربي في ٦٠ ق ٢٠ كانت تحول دون علاقات عادية بين الزوجين . ونظرا لأن خوري لم يعش في الأرض المحتلة فإن شخصية نهيلة هنا شخصية متخيلة بالدرجة الأولى ، وقد تكون أكثر شخصية كان للخيال دور في خلقها ، وبالتالي فإنها تمثل تصور الكاتب للمرأة الفلسطينية في الأرض المحتلة ، وهي تختلف عن شخصية أم حسن اللاجئة الفلسطينية التي تعيش في مخيمات لبنان التي التقى خوري بسكانها .
يلاحق الإسرائيليون الفدائي يونس ويسعون للقبض عليه ومحاكمته والزج به في السجن ، ويضيقون على زوجته التي تنكر أية صلة بينهما ، وإنكارها لا يقنع الإسرائيليين الذين يلجأون إلى تهديدها والضغط عليها بتشويه سمعتها ، بإشاعة أنها تنجب أولادها بالزنا ، لا من زوجها يونس الفدائي المتسلل .
في " الوجوه البيضاء " تمثلت المرأة الفلسطينية في سمر التي تنتمي إلى الثورة ثم تتزوج من تاجر وتنسحب من الشأن العام ، وفي " مملكة الغرباء " طالعتنا صورة المرأة العاملة التي يقتلها الكتائبيون بلا شفقة ، وتختلف نهيلة هنا عنهما ، فهي ليست الفلسطينية اللاجئة ، وإنما هي الفلسطينية المتشبثة بأرضها والراعية لأسرتها في ظل غياب زوجها الفدائي . إنها الفلسطينية التي تتحمل الحياة في ظل أوضاع صعبة تحت الاحتلال الإسرائيلي ، وهي التي تحاكم الإسرائيليين حين يتحدثون عن الأخلاق :
" مخجل ! سرقتم البلاد وطردتم أهلها ، وتأتون لتعطوني دروسا في الأخلاق . يا سيدي نحن أحرار ، ولا يحق لأحد أن يسألني عن حياتي الجنسية " ، ويرد على لسانها ، في أثناء الحديث عن( كاترين ) الفرنسية المتعاطفة مع الفلسطينيين ، أن نهيلة قالت للضابط الإسرائيلي " نحن يهود اليهود " .
يروي السارد عن رغبة الفرنسية في تمثيل مسرحية ( جان جينيه ) ثم تراجعها ، لأن المسرحية تحفل بقدر كبير من المآسي :
" طلبت لها فنجان قهوة تركية ، فشربته دفعة واحدة ، وانكمش وجهها لأن القهوة أحرقت لسانها. جلست صامتة ، ثم سألتني لماذا يكره الناس الفلسطينيين؟ احترت ماذا أقول. أخبرها عن تمزق الحرب الأهلية ، أم أقول لها ما قالته نهيلة للضابط الإسرائيلي " نحن يهود اليهود " والآن سوف نرى ما يفعله اليهود بيهودهم ؟ " ويتابع الراوي مبديا رأيه فيما نسب إلى نهيلة من قول :
" أنا لا أوافق على هذه التعابير التي نستخدمها في حياتنا اليومية بسهولة. أستطيع أن أفهم نهيلة ، لأنها هناك. وهناك يجد الفلسطيني نفسه مواجهة بعنصرية تشبه العنصرية التي واجهها اليهود في أوروبا ، أما هنا فلا ، نحن في بلد عربي ونتكلم اللغة نفسها ." .
هل كلام الراوي خليل هو كلامه أم أنه كلام الياس خوري نفسه ؟ وبم يختلف عما قرأناه في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " عن الموقف من اليهود الأوروبيين ؟
إن خوري يعد نفسه خارجا من معطف أدباء فلسطين الكبار الذين كتب عنهم في رواياته ، مع فارق أن كتاباته لا تخلو من نقد للثورة الفلسطينية لم تقرؤه في كتاباتهم ، وربما يعود السبب إلى موقعه وإلى أنه عاش في مراحل لاحقة آلت فيها الثورة الفلسطينية إلى مآلات لا تسر صديقا .وفكرة أن الفلسطينيين أصبحوا يهود اليهود انتبه إليها خوري وهو يقرأ ( يزهار سيميلانسكي ) ( راجع مقالي في الأيام الفلسطينية ١٠ نيسان ٢٠١٦ )
في الصفحات الأولى من " باب الشمس " كتابة عن أن قصة يونس الفدائي وجب أن يكتبها غسان كنفاني ، فقد أوصى الحكيم جورج حبش يونس أن يذهب إلى غسان وأن يقص عليه حكايته ليكتبها في رواية ، وما لم يكتبه غسان أنجزه الياس .
إن الكتابة عن صورة الفلسطيني في " باب الشمس " تتطلب ، عموما ، حيزا آخر ، فالرواية كلها عن الفلسطينيين .
*********
ملاحظة : حول مقاربة أخرى لصورة الفلسطيني في رواية الياس خوري " باب الشمس " أنظر مقاربة رشا عبد الله سلامة في موقع " القيادي " بتاريخ ١٦ / ٦ / ٢٠١٦ إذ تقارب الصورة مع رواية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " . تاريخ الزيارة ٥ نيسان ٢٠٢٠ .
( أنجز المقال في ٤ نيسان ٢٠٢٠ )
* نشر المقال في جريدة الأيام الفلسطينية على حلقتين بتاريخ ٥ و ١٢ نيسان ٢٠٢٠ .