لن تخبره تفاصيل يومها الكثيرة بعد الآن، أو ربما لن ترد على اتصالاته مرة أخرى. ما كان لها ولهذا الإحساس الطارئ عليها، بعد أن لملمت روحها جراء إحباطها ممن كان يجب أن يكون كل الناس، فلم يكن أحداً.
إلى متى، ستكتب وتمحو، وتعيد الكتابة، وتعيد الصياغة، وكأنها بذلك تعيد ترتيب ذاتها وفهم إحساسها.
في ذلك اليوم، انتظرت وصوله لمساعدتها في التحضير لحفل الافتتاح، صحت باكراً، جهزت نفسها، أخذت حماماً سريعاً، ودللت نفسها بوضع الكريمات ذات الرائحة المفعمة بالإحساس على كل أنحاء جسدها. ارتدت فستانها الأزرق، ليعكس لون عينيها، ويتناسق مع شالها، بل شاله الذي نسيه في آخر مناسبة كانا فيها معاً، فطلب منها أن تحتفظ به ذكرى، تشم رائحته بين الحين والحين، هو العائد ليستريح بين سفرة وأخرى. وضعت عقد اللؤلؤ الناعم المفضل لديه، وانتعلت إسكربينة باللون البيج اللامع، ورشت قطرات من عطر لم تغيره منذ وفاة جدتها، Trésor أو الكنز، هذا اسمه، عطر أهدتها إياه جدتها، قبل وفاتها بأشهر قليلة.
تأكدت من جهوز ملفاتها، واحد يتضمن كلمتها، وآخَر لتوزيع الخبر على وسائل الإعلام، وثالث فيه شهادات شكر وتقدير لكل مَن ساهم في إنجاح حملة المساعدات الاجتماعية التي نظمتها.
انطلقت بسيارتها، بهدوء، رغم توترها، ليس لأهمية الحدث الذي تنظمه للمرة الأولى، وليس لخوفها من خوض تجربة مستقلة في وسطها الإعلامي، وليس لجرأتها في اتخاذ قرارات منفردة، عادة ما يتم اتخاذها على مستوى مؤسسات حكومية أو خاصة. ما يقلقها جداً، هو ذلك الإحساس المستَجَد، مذ أرسل لها رسالة يتحدث فيها عن تفاصيل زيارته إلى إحدى الدول العربية، دون أن تعرف لماذا يخبرها، ولماذا يخصها بتلك الصور. وتتالَت بعدها الرسائل والاتصالات، والمزيد المزيد من التفاصيل. فهل تصنع التفاصيل قصة؟ أم أن التفاصيل أتت نتيجة لقصة بدأت في غفلة منها؟ مَن يدري؟ هي تحديداً لا تدري.
وصلت المكان المقصود، ولم تتوصل إلى إجابة عن سؤالها، ليس بجديد، فهي منذ ما يقارب العشرة أشهر لا تدري ماذا يحدث.
- صباح الخير
- صباح النور
- كل شيء جاهز
- ما زلنا ننهي بعض الأعمال، لننتهي من التفاصيل الصغيرة
- ممتاز، شكرا، مَن وصل؟
- لا أحد
- أكيد؟
- أكيد
- شكراً، أرجو إبلاغي فور الانتهاء من الترتيبات، سأكون في مكتبي.
- اتفقنا
اتجهت إلى المكتب قبل أن يلاحظ مدير الشركة المنظمة ارتباكها، وإصرارها على معرفة مَن أتى. الساعة تقارب العاشرة، والاحتفال يبدأ بعد ساعتين، أين هو؟ ماذا ينتظر ليأتي؟ أم سيأتي وسط الحشود، ويختفي قبلهم كعادته؟ يا إلهي، لم يعد بإمكانها تحمل هذا الضياع كله. لو أنه بإمكانها الاتصال به، ومعرفة أين هو.
لقد تأخر الوقت، تأخر كثيراً، وصل المدعوون، وجلس ممثلو الجهات الرسمية في الأماكن المخصصة لهم. مزيد ومزيد من الورود، ومن القلق والرهبة والغضب. تنظر من خلف الستارة، تدقق في كل إنسان، تراقب مداخل القاعة، مدخَلَين اثنين، تحدق في العاملين معها وراء الكواليس.. لا أحد.
وبعد! صعب على الإنسان أن يعيش إحساسَين متناقضين في الوقت نفسه: فرح وحزن، أمان وخوف، انتصار وانكسار. تصحو من تأملاتها على هاتفها يصدر إشارات تلقي اتصال، تسحبه عن الطاولة، إنه هو، إنه يتصل.
- أين أنت؟
- في المطار
لمست هاتفها وأنهت الاتصال، وأقفلت خطها. تائهة هي أكثر من قبل. يعرف الموعد جيداً، واختار بنفسه كلمات الدعوات، وشارك في ترتيب البرنامج. فكيف يكون في المطار؟ هل هو مغادر أم قادم؟ لا شيء أكثر من هذا الحزن، لا شيء أكثر من هذا الضياع. تحبه أم لا؟ يحبها أم لا؟ ماذا وكيف ولماذا.. لا شيء مهم، لا تريد أن تغوص أكثر، يكفيها ما فيها. يبحث الإنسان عن أمل، عن فرحة، عن إحساس، عن حب. حب يعيده إلى الحياة من جديد، يعيد إليه ذاته التي كانها. لا مزيد من الإخفاق. القلب لم يعد يحتمل.
هنا، في هذا المكان الجميل المكشوف والمشرف على بيروت قديمها وحديثها، جلست تتأمل الفراغ، ساكتة تسمع حزنها، عميقاً، عميقاً جداً. السماء فوقها مباشرة، والبحر على مرمى منها، وكذلك الأبراج العالية. غريب هذا الإنسان، كيف يسعى جاهداً، لابتكار ما يؤمن له السعادة، ولحظة حزن كفيلة بمحو كل هذا الجمال من حوله.
الجلسة مثالية، كراس مريحة، إضاءة خفيفة، موسيقى متناغمة ومتواصلة، ترتفع تدريجياً، تدفع إلى الطمأنينة وحب الحياة. لم تكن بمزاج أن تأكل أو حتى تشرب، لكن لا بد من طلب شيء ما من النادل الذي تردد على طاولتها أكثر من مرة.
- شاي أخضر لو سمحت
- أنصحك معه بحلوى الكراميل، صنف جديد، وخفيف، أحبه الزبائن كثيراً.
- لا مشكلة، أحضر واحداً. شكراً
- أهلاً.
عادت لنفسها، عادت إليه، إلى قصتها معه. هي الآن وحيدة، كما هي حالها دائماً. تفكر في أشياء كثيرة وتصل إلى لا شيء. ربما قدر الإنسان الذي يولَد وحيداً أن يموت كذلك. هل كان حباً، أم أن حاجتها للحب خدعتها.
نماذج كثيرة أمامها، في هذا المطعم المرتفع إلى السماء، يقصده البيروتيون، كما السائحون، يراقبون غروب الشمس في البحر، ويتأملون ألوان السماء المتدرجة من النهار إلى الليل، من المكشوف إلى المستور، من الكذب إلى الحقيقة. وبالنسبة إليها، من الضياع إلى الحب.
تتأمل هاتفها المغلق، ترى وجهها جلياً على شاشته. وتحترق بعينيها مئات الرسائل والاتصالات الموجودة فيه، وتتذكر تلك الشاشة تحديداً، التي استخدمتها لتتأمله وهو جالس على بعد مقاعد عدة إلى اليسار خلفها. ومن خلال تلك الشاشة، أيضاً، وصلتها صور لها، التقطها بنفسه: وهي تتكلم، تتأمل، تجيب، تصمت، تسير، تخرج من الباب.. دون أن تلحظ أنه كان يراقبها. كيف ستعرف، وهو لا يجلس إلا خلفها.
لم ينفعها الشاي الأخضر، حتى أن الحلوى زادت من كآبتها. من حزنها على فرح لم تعثر عليه يوماً. الهاتف مغلَق، وكذلك تفكيرها، الذي لم يتقبل حتى اللحظة أنه لم يأتِ. هل ستتمكن من أن تكمِل حياتها وكأن شيئاً لم يحدث. ربما. أم أن ما جرى سيجعلها تلجأ لذاتها لتتوحد بها أكثر!
الهواء منعش، ودمعها لم يجتز عينيها، لكنه يحجب كل ما بإمكانه أن يبرد قلبها، أو يبدد قلقها. بطاقة صغيرة يضعها النادل أمامها: رجاء انتقلي إلى الطاولة رقم 14. التفتت يساراً ويميناً، محاولة معرفة المرسِل، ومكان الطاولة. أشار النادل إلى طاولة تقع على بعد أمتار خلفها، مجردة من أي شيء، بالكاد عليها رمز الرقم 14. فراغ يشبهها، تجريد مطلَق إلا من إحساس بالحب.
- هل تودين الانتقال سيدتي؟
- مَن الداعي؟
- عفواً، لكنني غير مخول أن أقول
- حسناً، أعتذر لا أريد الانتقال.
- عفواً!
- كما سمعت، اعتذر من الداعي. أرجوك انصرف.
هل هذا هو؟ قطعاً لا. كيف له أن يأتي إلى هنا، أو أن يعرف أصلاً أنني هنا. تغمِض عينيها لترى بوضوح، العيون المفتوحة تشوش المشهد. إنه هنا. نعم هنا. في كل مكان.
غادرت المطعم، توجهت لتستلم سيارتها من الموقف، لكن سيارة توقفت أمامها، ودعاها للصعود، فصعدت.
إلى متى، ستكتب وتمحو، وتعيد الكتابة، وتعيد الصياغة، وكأنها بذلك تعيد ترتيب ذاتها وفهم إحساسها.
في ذلك اليوم، انتظرت وصوله لمساعدتها في التحضير لحفل الافتتاح، صحت باكراً، جهزت نفسها، أخذت حماماً سريعاً، ودللت نفسها بوضع الكريمات ذات الرائحة المفعمة بالإحساس على كل أنحاء جسدها. ارتدت فستانها الأزرق، ليعكس لون عينيها، ويتناسق مع شالها، بل شاله الذي نسيه في آخر مناسبة كانا فيها معاً، فطلب منها أن تحتفظ به ذكرى، تشم رائحته بين الحين والحين، هو العائد ليستريح بين سفرة وأخرى. وضعت عقد اللؤلؤ الناعم المفضل لديه، وانتعلت إسكربينة باللون البيج اللامع، ورشت قطرات من عطر لم تغيره منذ وفاة جدتها، Trésor أو الكنز، هذا اسمه، عطر أهدتها إياه جدتها، قبل وفاتها بأشهر قليلة.
تأكدت من جهوز ملفاتها، واحد يتضمن كلمتها، وآخَر لتوزيع الخبر على وسائل الإعلام، وثالث فيه شهادات شكر وتقدير لكل مَن ساهم في إنجاح حملة المساعدات الاجتماعية التي نظمتها.
انطلقت بسيارتها، بهدوء، رغم توترها، ليس لأهمية الحدث الذي تنظمه للمرة الأولى، وليس لخوفها من خوض تجربة مستقلة في وسطها الإعلامي، وليس لجرأتها في اتخاذ قرارات منفردة، عادة ما يتم اتخاذها على مستوى مؤسسات حكومية أو خاصة. ما يقلقها جداً، هو ذلك الإحساس المستَجَد، مذ أرسل لها رسالة يتحدث فيها عن تفاصيل زيارته إلى إحدى الدول العربية، دون أن تعرف لماذا يخبرها، ولماذا يخصها بتلك الصور. وتتالَت بعدها الرسائل والاتصالات، والمزيد المزيد من التفاصيل. فهل تصنع التفاصيل قصة؟ أم أن التفاصيل أتت نتيجة لقصة بدأت في غفلة منها؟ مَن يدري؟ هي تحديداً لا تدري.
وصلت المكان المقصود، ولم تتوصل إلى إجابة عن سؤالها، ليس بجديد، فهي منذ ما يقارب العشرة أشهر لا تدري ماذا يحدث.
- صباح الخير
- صباح النور
- كل شيء جاهز
- ما زلنا ننهي بعض الأعمال، لننتهي من التفاصيل الصغيرة
- ممتاز، شكرا، مَن وصل؟
- لا أحد
- أكيد؟
- أكيد
- شكراً، أرجو إبلاغي فور الانتهاء من الترتيبات، سأكون في مكتبي.
- اتفقنا
اتجهت إلى المكتب قبل أن يلاحظ مدير الشركة المنظمة ارتباكها، وإصرارها على معرفة مَن أتى. الساعة تقارب العاشرة، والاحتفال يبدأ بعد ساعتين، أين هو؟ ماذا ينتظر ليأتي؟ أم سيأتي وسط الحشود، ويختفي قبلهم كعادته؟ يا إلهي، لم يعد بإمكانها تحمل هذا الضياع كله. لو أنه بإمكانها الاتصال به، ومعرفة أين هو.
لقد تأخر الوقت، تأخر كثيراً، وصل المدعوون، وجلس ممثلو الجهات الرسمية في الأماكن المخصصة لهم. مزيد ومزيد من الورود، ومن القلق والرهبة والغضب. تنظر من خلف الستارة، تدقق في كل إنسان، تراقب مداخل القاعة، مدخَلَين اثنين، تحدق في العاملين معها وراء الكواليس.. لا أحد.
وبعد! صعب على الإنسان أن يعيش إحساسَين متناقضين في الوقت نفسه: فرح وحزن، أمان وخوف، انتصار وانكسار. تصحو من تأملاتها على هاتفها يصدر إشارات تلقي اتصال، تسحبه عن الطاولة، إنه هو، إنه يتصل.
- أين أنت؟
- في المطار
لمست هاتفها وأنهت الاتصال، وأقفلت خطها. تائهة هي أكثر من قبل. يعرف الموعد جيداً، واختار بنفسه كلمات الدعوات، وشارك في ترتيب البرنامج. فكيف يكون في المطار؟ هل هو مغادر أم قادم؟ لا شيء أكثر من هذا الحزن، لا شيء أكثر من هذا الضياع. تحبه أم لا؟ يحبها أم لا؟ ماذا وكيف ولماذا.. لا شيء مهم، لا تريد أن تغوص أكثر، يكفيها ما فيها. يبحث الإنسان عن أمل، عن فرحة، عن إحساس، عن حب. حب يعيده إلى الحياة من جديد، يعيد إليه ذاته التي كانها. لا مزيد من الإخفاق. القلب لم يعد يحتمل.
هنا، في هذا المكان الجميل المكشوف والمشرف على بيروت قديمها وحديثها، جلست تتأمل الفراغ، ساكتة تسمع حزنها، عميقاً، عميقاً جداً. السماء فوقها مباشرة، والبحر على مرمى منها، وكذلك الأبراج العالية. غريب هذا الإنسان، كيف يسعى جاهداً، لابتكار ما يؤمن له السعادة، ولحظة حزن كفيلة بمحو كل هذا الجمال من حوله.
الجلسة مثالية، كراس مريحة، إضاءة خفيفة، موسيقى متناغمة ومتواصلة، ترتفع تدريجياً، تدفع إلى الطمأنينة وحب الحياة. لم تكن بمزاج أن تأكل أو حتى تشرب، لكن لا بد من طلب شيء ما من النادل الذي تردد على طاولتها أكثر من مرة.
- شاي أخضر لو سمحت
- أنصحك معه بحلوى الكراميل، صنف جديد، وخفيف، أحبه الزبائن كثيراً.
- لا مشكلة، أحضر واحداً. شكراً
- أهلاً.
عادت لنفسها، عادت إليه، إلى قصتها معه. هي الآن وحيدة، كما هي حالها دائماً. تفكر في أشياء كثيرة وتصل إلى لا شيء. ربما قدر الإنسان الذي يولَد وحيداً أن يموت كذلك. هل كان حباً، أم أن حاجتها للحب خدعتها.
نماذج كثيرة أمامها، في هذا المطعم المرتفع إلى السماء، يقصده البيروتيون، كما السائحون، يراقبون غروب الشمس في البحر، ويتأملون ألوان السماء المتدرجة من النهار إلى الليل، من المكشوف إلى المستور، من الكذب إلى الحقيقة. وبالنسبة إليها، من الضياع إلى الحب.
تتأمل هاتفها المغلق، ترى وجهها جلياً على شاشته. وتحترق بعينيها مئات الرسائل والاتصالات الموجودة فيه، وتتذكر تلك الشاشة تحديداً، التي استخدمتها لتتأمله وهو جالس على بعد مقاعد عدة إلى اليسار خلفها. ومن خلال تلك الشاشة، أيضاً، وصلتها صور لها، التقطها بنفسه: وهي تتكلم، تتأمل، تجيب، تصمت، تسير، تخرج من الباب.. دون أن تلحظ أنه كان يراقبها. كيف ستعرف، وهو لا يجلس إلا خلفها.
لم ينفعها الشاي الأخضر، حتى أن الحلوى زادت من كآبتها. من حزنها على فرح لم تعثر عليه يوماً. الهاتف مغلَق، وكذلك تفكيرها، الذي لم يتقبل حتى اللحظة أنه لم يأتِ. هل ستتمكن من أن تكمِل حياتها وكأن شيئاً لم يحدث. ربما. أم أن ما جرى سيجعلها تلجأ لذاتها لتتوحد بها أكثر!
الهواء منعش، ودمعها لم يجتز عينيها، لكنه يحجب كل ما بإمكانه أن يبرد قلبها، أو يبدد قلقها. بطاقة صغيرة يضعها النادل أمامها: رجاء انتقلي إلى الطاولة رقم 14. التفتت يساراً ويميناً، محاولة معرفة المرسِل، ومكان الطاولة. أشار النادل إلى طاولة تقع على بعد أمتار خلفها، مجردة من أي شيء، بالكاد عليها رمز الرقم 14. فراغ يشبهها، تجريد مطلَق إلا من إحساس بالحب.
- هل تودين الانتقال سيدتي؟
- مَن الداعي؟
- عفواً، لكنني غير مخول أن أقول
- حسناً، أعتذر لا أريد الانتقال.
- عفواً!
- كما سمعت، اعتذر من الداعي. أرجوك انصرف.
هل هذا هو؟ قطعاً لا. كيف له أن يأتي إلى هنا، أو أن يعرف أصلاً أنني هنا. تغمِض عينيها لترى بوضوح، العيون المفتوحة تشوش المشهد. إنه هنا. نعم هنا. في كل مكان.
غادرت المطعم، توجهت لتستلم سيارتها من الموقف، لكن سيارة توقفت أمامها، ودعاها للصعود، فصعدت.