سوف عبيد - الرحلة الشامية..

اللّيل في دمشق حديقة من الياسمين بأضوائها البيضاء المتناثرة على سفح جبل قاسيون ذلك الجبل الذي ورد في بعض الأخبار أنه كان مأوى آمنا لعديد الأنبياء والصالحين و يروى أيضا أن أهل دمشق كانوا إذا احتبس القطر لديهم أو غلا السعرعندهم أو جار السلطان عليهم أو كان لأحدهم حاجة تعسرت عليه صعدوا إلى قاسيون سائلين الله فيجيب دعواهم…
غير أن الزائر لدمشق اليوم أضحى يرى البناءات قد تسلقت إلى القمة شيئا فشيئا حتى بات جبل قاسيون ينوء بالكتل الإسمنتية فإذا خيم الليل لاح تحت السماء قبة مزهرة بالنجوم وهي تطل من شاهق على هذه المدينة العريقة التي يعود بناؤها إلى أربعة ألاف سنة و رغم توالي العصور وتعاقب الحضارات ما فتئت تنبض بالحياة والجمال…
وأنا في في دمشق تذكرت ذلك الشعور نفسه الذي ينتابني كلما دخلت المدن العربية القديمة مثل فاس والرباط ومراكش وتلمسان و تونس وصفاقس والقيروان وطرابلس و القاهرة وبغداد والبصرة… إنه شعور الأنس والطمأنينة والألفة مع الجدران والدروب و الأبواب فهذه المدن التي زرتها سرت فيها بشوق عارم كأنني أحد أولئك اللّذين عاشوا فيها فعاشروها فترة من غابر زمانها…
دمشق ـ يقال لها بين الإخوة في سوريا ” الشام ” وهي على سفح جبل قاسيون القائم في سلسة من الجبال تشبه إلى حد بعيد سلاسل الجبال في الجنوب التونسي لكنها تمتد على ضفاف نهر بردى حتى الغوطة وهي منطقة البساتين وهذا النهر المنحدر مع المدينة أقيمت عليه الجسور والبنايات والساحات أيضا فتراه يظهر حينا ويغيب حينا، لكنه عند وسط المدينة أقيمت عليه النوافير في أشكال بديعة حيث ترى الماء يدور منها في حلقات تتشابك أو تتوارى أو تتقاطع و تزيدها الأضواء روعة على روعة خاصة أن القمر في أواخر الصيف بنوره الخافت يجعل من السهر والسير على ضفاف بردى تيها و تماهيا في سحر الشرق القديم…
كان الليل قد تقدم بساعتين في نصفه الثاني عند ما شرعت في جولتي لأكتشف المدينة التي لم تهدأ الحركة فيها وخاصة حركة السيّارات التي تجوب الطرقات وقد شدني منها أن بعضها يعود تاريخ صنعها إلى الحرب العالمية الثانية ورغم مرور السنوات فهي تبدو على حالة حسنة تطوي الشوارع طيّا تماما مثل السيارات التي خرجت أخيرا من قرطاس المصانع الحديثة…
أجد نفسي وجها لوجه مع صلاح الدين الأيوبي وهو كأنه للتوّ خارج من باب القلعة تحت الأضواء الكاشفة تغمر ساحة الميدان فيتحول المشهد فجأة إلى سالف الزمن العربي المجيد بكل ما في تاريخ صلاح الدين من إباء وشهامة وتسامح
تمثال صلاح الدين منتصب في قلب دمشق بين المدينة العتيقة والمدينة الحديثة يبدو كأنه متجه إلى الغزاة في عدته ورجاله يحدوه الشموخ والكبرياء ومما زاد الجولة الليلية الأولى بهاء وانتشاء تلك الأنوار الخافتة التي تنفثها مصابيح الشوارع والساحات حتى لكأنك تحسبها شموعا على الطريق بينما الفوانيس الخضراء المتلألئة من الصوامع تغمر النفس بالأنس والسكينة…
في الجامع الأموي
عندما هممت بخلع نعلي على عتبة باب الجامع الأموي بدمشق لاحت منّي نظرة إلى الفضاء الرّحب فيه فإذا حمامات يرفزفن ثم يقعن على البلاط لالتقاط الحب ثم ينطلقن في سرب عاليا وبعيدا ربّما سيمضين في رحلتهن تلك إلى صحن جامع الزيتونة في تونس فنفس هذا الحمام كنت أراه يحوم هناك ، والجامع الأموي مقام عل هيكل روماني قديم فالمتأمل الحصيف فيه كأنه يقرأ في مختلف السواري و الصخور و النقوش كتابا مفتوحا في التاريخ…
الجامع الأموي عظيم البنيان ، شاهق الجدران، فسيح الأرجاء، شامخ المآذن ، متنوع الزخارف من ذهب الفسيفساء إلى هندسة الأرجاء ، و من المرمر والجليز و من النقش على الحجر إلى الزخرفة على النحاس والخشب، و من التخاريم على تيجان الأعمدة والأقواس إلى التصاوير والرسوم على الجداران ، فكأن الجامع الأموي متحف للعصور الغابرة كل زمن يُبقي عليه خصائصه وآثاره ففيه من الذكريات المجيدة ما به نباهي وفيه كذلك من الأحداث الأليمة ما يترك الحسرة واللّوعة مثلما الحال عندما نزور في أحد أرجائه مقام الحسين ولعل في كل هذا وذاك عبرة للغادي والرائح…
لئن أنفق الوليد بن عبد الملك لبنائه في أواخر القرن الأول الهجري خراج سبع سنوات من دولة أمية فجاء على غاية من الترف والبذخ فإن الخليفة التقي عمر بن عبد العزيز استنكر كل ذلك الإسراف وكاد يأمر بنزع نفائسه وردها إلى بيت مال المسلمين، ويروى أنه قد أنشئت في هذا الجامع ساعات يعود بعضها إلى القرن الرابع الهجري بحيث جعلت على شكل بديع و هندسة فريدة فكانت إذا تمت الساعة خرجت حيّة فصاحت العصافير وصاح الغراب وسقطت بعدئذ حصاة في الطست…
بينما كنت أطوف بالجامع الأموي من ناحية بعض الأسواق التي تبيع الذهب والأشياء المستظرفة إذ بي أسمع وأشاهد أحد المبشرين المسيحيين يدعو بأعلى صوته إلى المسيح بن مريم ويتلو من حين لأخر من الكتاب المقدس والنّاس من حوله جيئة وذهابا أو هم منشغلون في دكاكينهم كأن الأمر من عادة المكان فعجبت لروح التسامح بين المسجد و الكنيسة فعلمت حينئذ أن البلاد الشامية ظلت محافظة منذ القديم على الألفة والاحترام بين مختلف العقائد فيها
إن الذي يعود إلى مآثر صلاح الدين الأيوبي يقف على شواهد رائعة في إرادة التحرر و في الإنسانية الراقية فتراثنا من هذه الناحية زاهر ورائع…
عندما كنت عائدا إلى الفندق مررت بالأسواق الدمشقية العتيقة فإذا هي تماما مثل الأسواق التقليدية في تونس من حيث التخطيط، والاختصاص ومن حيث الطبع في الناس،كيف لا و الفينيقيون هم الذين جاؤوا إلى تونس من هذه الربوع ثم من بعدهم قدم العرب الفاتحون منطلقين من دمشق إلى إفريقية ومنها إلى الأندلس فالثقافة العربية تمتاز بالتمازج والتواصل و ما التنوع و الاختلاف فيها إلا عامل ثراء و إضافة…
المقهي الدمشقي
مقهي ـ زهرة دمشق ـ
شارع أبي فراس الحمداني
بين القلعة وميدان المرجى
دمشق
السّاعة السابعة صباحا
شعرت بفرح عارم عندما وقعت عيني على هذا المقهي فقد ألف مهجتي منذ النظرة الأولي فأنا رجل يعشق الجلوس في المقاهي الجميلة وبيني وبين المقاهي حكايات غرام لا توصف ، ففي المقهي أجلس للتأمل حينا و لأقرأ حينا وكذلك لأكتب أو أتحدث مع الأصدقاء
ومقهي ـ زهرة دمشق ـ ذكرتني طاولته الرخامية البيضاء المنتصبة على قوائمها الحديدية المنقوشة بمقهي قديم كان عند باب سويقة بتونس وبمقهي ـ الأندلس ـ بسوق العطارين حيث كنّا نخرج إليه – زمن الشبيبة- من المكتبة الوطنية فنجلس بين شذى العطور وبين أريج البضائع العتيقة حوله وكذلك هناك تستريح العين على أسراب السّياح الوافدين من بلدان الثلوج
القهوة في الشام يضاف إليها الهيل مثلما نجعل في المغرب العربي النعناع في الشاي أو قطرات من ماء الزهر إلى القهوة
وأذكر هنا أن انطلاق المقاهي كان من بلاد الشام التي سافر منها رجلان إلى اسطنبول حيث بعثا أول مقهى فيها وذلك في أوائل القرن السادس عشر ومن هنالك انتشرت المقاهي إلى أوروبا حتى أمست من مظاهر الحياة في المدينة… ومقهي ـ زهرة دمشق ـ الذي جلست فيه على غاية من الحميمية فقد هيّأ النّادل الكرسي الخشبيّ حيث وجدت المكان المناسب : الطاولة والنافذة في الركن على اليمين فكل شيء يساعدني على الكتابة ولكنني ما استطعت كتابة سطر واحد ربما بسبب قلة التركيز بالإضافة إلى بقاياالسهر والانتشاء بالمكان
إن المقهي عندي يمثل خلاصة المدينة وهو عنوان الحياة فيها وعند مقهى زهرة دمشق لاحظت أنه ثمة ترقّ ولطف وحذق يدل على رسوخ الحضارة في ربوع الشام من ذلك مثلا أنّ النّادل يأتيك بالقهوة أو الشاي مع كأس الماء والسكر جميعا في طبق صغير ويضعه بأدب أمامك ثم ينصرف بأدب لخدمة غيرك أما ماسح الأحذية فكأنّي به قد علم حرج بعض الناس إن هم مدّوا أرجلهم إليه وهو جالس لمسح أحذيتهم لذلك فإنه يطلب منك حذاءك مهيئا موضعا لقدميك ثم يمضي بالحذاء متسللا ثم يجيء به بعدئذ على ـ أحسن وجه ـ
أما كراسي المقهى الأخرى فلا تتجاوز العتبة إلى الرّصيف الذي يسير عليه الغادون والرائحون فلا يضايقون الجالسين أو يحرجونم وقد لمحت في نواحي أخرى من دمشق مقاهي ذات ساحات أو ردهات داخلية تظللها الدوالي وتتخللها السواقي والنوافير الصغيرة حيث يطيب في رحابها الجلوس
أما روّاد المقهي فهم إمّا جالسون مثلي أو لاعبون للنرد أو الورق من غير صخب أو هم مولعون بالنارجيلة تنتصب أمام أحدهم في جمال وسحر وخيلاء كأنّها الحسناء بدلّها ودلالها و تراه يرواح حبات سبحته بنعومة بين أصابعه ولست أدري كيف جرى الحديث مع أحد الأخوة في ذلك المقهي حتى علم أنني من الخضراء تونس هكذا جعل الخضراء أولا و قد حدثني بأمنيته المتمثلة في أن يزور قرطاج والقيروان وسيدي بوسعيد ويتمني كذلك أن يذوق الكسكسي التونسي فهو أشهى الأطعمة عنده فذكرت له بيت الأديب صالح القرمادي الذي وزنه الشاعر نور الدين صمود على المتقارب فزاده رونقا
أحبك حبا طريا شهيا **** كلحم الخروف على الكسكسي
…فطرب أخونا طربا شديدا و قد برح به الشوق أكثر إلى تونس…..
أتمنى أن أستقبله ذات يوم
النّاعورة
مدينة حماه بالشّام هي مدينة النوافير المقامة على نهر العاصي ذلك الذي يكتنفها عبر عديد المنعطفات فتسقي تلك النواعير الشاهقة وهي تدور على الأقواس العظيمة البساتين والقصور وسائر المساجد وبقية الأحياء فيها منذ قديم العصور وإلى حدود أوائل هذا القرن كما حدّثني أحد شيوخ الأدب و قد يبلغ ارتفاع بعض النواعير إلى عشرين مترا وقد يقل أو يزيد عن ذلك حسب كبر وصغر أجزائها التي تصنع بخشب من شجر خاص و يجعلون للإطار الخشبي الذي يلامس ماء النهر تجاويف يلجها الماء عند الدوران ثم عندما يصل إلى الأعلى تراه يُفرغ في صراط يحاذي النّاعورة وهو مقام على أقواس عظيمة البناء من صلد الحجارة على النمط الروماني فهي تشبه إلى حدّ بعيد أقواس الحنايا الرومانية التي كانت تجلب المياه من مدينة زغوان إلى قرطاج ومن خصائص تلك النوافير أن كل جزء منها قد قطع من شجر معين فالمحور فيها من شجر الجوز والأضلاع من شجر الأرز وتتلاحم أجزاؤها وتتعاضد في هندسة عجيبة، وتتوارث صناعة النجارة في إصلاح النوافير عائلات معروفة ، تتوارث سرها جيلا بعد جيل
ومن عجائب النوافير في حماه أن النّازلين بقربها قد تعوّدوا على دوي حركتها ليلا و نهارا حتى إذا ما سكنت يوما للإصلاح أو للتعهد فإن القوم سرعان ما يفتقدون موسيقاها التي يعملون على وقعها بل و ينامون على تراجيعها أيضا !
إن منظر الناعورة وهي منتصبة بجانب الحنايا في دوران رتيب عند عدوة النّهر والماء يهوي من تجاويفها في أعلي الصّراط بينما القطرات تنزل من الخشب عائدة إلى النهر مع الأصوات المتداخلة مع دوران المحور ومن اِغتراف النهر وهو يدفع بالألواح في حركة لا تنتهي كل ذلك يؤلف سنفونية بديعة بألحانها الشجية العذبة !!
وما ألطف رقرقة الماء المنساب في الصّراط بعضه يدفع بعضا مع إيقاع قطراته من شاهق النّاعورة عائدا إلى النّهر من جديد ، كلّ ذلك المشهد المتداخل وكلّ تلك الأصوات ما يجعل الذي يقف أمام النوافير مشدودا إلى سحرها الجذاب ، فأنت عندما تنظر إليها وهي تدور حاملة المياه من النهر إنما تقف عندها على حركة الكون الأبدية في تواليها وتعاقبها وتواصلها وتجددها منذ غابر الزمان، ثم إنك لتعجب من ذلك الماء كيف تجمّع قطرة قطرة حتى صار غزيرا وانصب في الوادي فأضحى تيارا جارفا يستطيع تحريك هذه الألة الجبارة التي صنعها الإنسان منذ عهد الرومان وهي مازالت إلى اليوم تدور على نفس المنوال وبنفس المقدار رغم ما يعتري النّهر من كثرة وقلة في المياه!
فما الحياة إذن في كنهها إلا ناعورة تدور فتجرف النّاس من النهر كالماء بعضه يصل إلى الصّراط فيمضي لسقاية البساتين وبعضه يتساقط من فجوات النّاعورة فلا فائدة له ولا ذكر إلاّ أن يعود ليدفعه التيار من جديد إلى المصب مع بقية ما يحمل !
وكان أن دعانا فرع اتحاد الأدباء بحماه إلى تناول الغداء عند مطعم بجانب كبرى النوافير فلم أنتبه إلى حديث الإخوة في مجالات الأدب بل كنت منشغلا عنهم وعن الصحون بدوران الناعورة على محورها القريب من المجلس وبصوتها الهائل
الذي يبعث الهيبة حتى خيل إلىّ أنها كائن حي بيننا يتحرك ويتكلم !
أمام القلعة
ما كنت أحسبني يوما أنني سأشرف على مدينة حلب فثمة مدن عشنا فيها طويلا وعاشرنا ذويها كثيرا دون أن نقطع إلى أرضها شبرا أو خطوة واحدة وإنّما ظلت حياتنا بين أرجائها ضمن السطور على صفحات الكتب…
هذه مدينة حلب، مدينة سيف الدّولة والمتنبي وأبي فراس وابن خالويه وابن جنّي وكل أدباء وشعراء القرن الرّابع الهجري في المشرق العربي… هذه مدينة حلب عند الظهر تستقبلنا بالحركة الصاخبة وبشاهق بناءاتها الحديثة وبفسيح شوارعها المزدحمة وبساحاتها ذات النوافير العارمة وبحدائقها الغناء ولكنني لم ألمح من خلال غابة الإسمنت والحديد هذه قلعتها الشاهقة فالمدن المعاصرة تتشابه إلى حدّ التماثل أحيانا فنفس السيارات ونفس الأضواء ونفس الواجهات تعرض نفس الأشياء ونفس الفنادق بنفس الخدمات ولكن المدن العتيقة وحدها تحمل خصائص تاريخها، ومن أخبار مدينة حلب القديمة – والله أعلم – أنّها سميت حلب لأن إبراهيم عيه السلام كان يحلب فيها غنمه ويتصدق ببما يدرّ على الفقراء الذين كانوا يقولون له : حلب…حلب…
ها أنني أزورها وأقصد مع الجماعة الفندق الذي يتربع وسط الساحة الكبرى وكنت أحبّ أن نقصد أولا القلعة ثم بعدئذ نمضي إلى الفندق لنلقي بعصا الترحال وبعدها نذهب إلى مقر اتّحاد الأدباء بحلب حيث نعقد مجلسنا مع الأخوة الأدباء في هذه المدينة ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه… اليوم اِنقضى بين هذا وذاك ولم أتمكن من زيارة القلعة في اليوم الموالي الذي صادف يوم الثلاثاء وهو ـ واحرّ قلباه ـ يوم راحتها…
يوم الثلاثاء نهضت باكرا
قصدت القلعة من طريق تصعد إليها برفق فهي قائمة على هضبة تنتهي بجبل صلد والقلعة تلوح شامخة بأسوارها وأبراجها وصومعتها في أحسن حال وعلمت أن ساحتها تستعمل لإقامة الحفلات الفنية ، حقا إن منظرها يبعث في الزائر الرهبة والإعجاب بقدرة السابقين على البناء والتشييد ثم نزلت وجلست أتأملها من المقهي المقابل لها فرأيت الخندق المحيط بالسفح والذي يزيد من حصانتها.
بعدئذ نزلت عبر أسواق المدينة العتيقة فإذا هي أسواق مسقفة بعضها يفضي إلى بعض كأنك في أسواق تونس أو صفاقس أو فاس في المغرب الأقصى ولا أمرّ من دكان إلى دكان إلاّ ودعوات الترحاب والاستضافة تلاحقني فسررت بذلك كثيرا
بلى إن الناس في مدننا العربية ـ رغم كل شيء ـ مازالوا طيبين…!
مع خالد بن الوليد و أبي فراس
الطريق بين دمشق وحمص واسعة وسريعة وسائقنا أبو ريمون عاشق سفر وفارس قيادة لا يشق له غبار فهو بسيارته البيجو405 مِكرّ مِفرّ مُقبل مُدبر معا ومرافقنا الأخ محمود حامد حريص على مواعيد جولتنا و تفاصيلها في ربوع الشام فكل شيء صار على ما يرام ونحن نتجه إلى مدينة حمص تلك المدينة التي ينتسب إليها الشاعر ديك الجن الذي قال في جاريته وقد قتلها مع غلامه قصائد رائعة في الغزل والرثاء معا فهو القائل لله درّه:
رويت من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتي من شفتيها
مكنت سيفي في مجال وشاحها
و مدامعي تجري على خدّيها
وغير بعيد من الفندق الذي نزلنا فيه قصدت مقام الشاعر أبي فراس الحمداني وهو نصب أقيم على رفاته وقد نقلوها إلى حمص منذ سنة أو سنتين كما حدثني بذلك سائق التاكسي مشكورا
والمقام أو النصب عبارة عن ثلاثة أقواس متداخلة من الرّخام وقد كتب عليها بعض الأبيات من شعره، لقد اِبتهجت كثيرا بوقوفي عند أبي فراس الحمداني ذلك الصبّاح الباكر فهو من أحب الشعراء القدامى لديّ لصدق مسيرته تلك التي اِقترن فيهاشعره بحياته… بالإضافة إلى معاناته في الأسر عند الروم حيث تنوب قصيدته القصيرة والبسيطة في الحمامة دواوين عديدة من الشعر العربي في الحماسة…
وبينما كنت أتأمل ذكريات أبي فراس الحمداني من حلب إلى منبج إلى خرشنة إلى حمص إذا بي ألمح طائرا منطلقا من القلعة ثم يحوم حولي ويكاد يحط على أعلى المقام لكنه يعود في اِتجاه القلعة… لست أدري هل هي المصادفة في ذلك الصّباح أم أنها أشياء أخرى الله أعلم بها.
لكن كان عليّ أن أتجه بسرعة بعدئذ إلى مقام خالد بن الوليد الذي قيل لي إنّه في وسط المدينة عندئذ ودّعت أبا فراس مردّدا قوله:
أرك عصي الدّمع شيمك الصّبر …
مسجد خالد بن الوليد بحمص في وسط المدينة، يبدو بمئذنته
قريبا من شكل المساجد التونسية التي شيّدت في العصر التركي غير أن مسجد خالد بن الوليد يمتاز بثنائية البياض والسّواد البادية على الأقواس والجدران وأمام المسجد أقيمت مسلّة نقش عليها آخر ما قاله خالد بن الوليد وهذا نصّه:
لقد شهدت مائة زحف أو زُهاها وما في بدني موضع شبر إلاّ وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم وها أنا أموت حتف أنفي على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء !


أعلى