كلما وصلت إلى الشارع المؤدي إلى بيتنا, يخفق قلبي بسرعة مجنونة. لا يستكين إلا بعد أن أرى البيت في مكانه. البنايات الحديثة القبيحة, التي تحيط به, لا تحرسه, بل تخنقه. ورغم ذلك يصمد برصانة, بطابقيه المتواضعين, وشرفاته الضيقة, نصف الدائرية, وأبوابه وشبابيكه الخشبية باهتة اللون.
أحيانا, وأنا أتقدم نحوه, أراه يميل شرقا أو ينحني بضعة سنتيمترات إلى الأمام, فأكاد أهرول إليه, باسطة يديّ لالتقاطه.
كادت أنفاسنا تخنقنا. الستائر القاتمة كانت تزيد غرفه ضيقا. سرير صغير, خزانة خشبية, جهاز كمبيوتر مغطّى بطبقة رقيقة من الغبار, جدران مطليّة بلون الضباب. شممت رائحة الرطوبة واستعدّ وبر جسدي للمطر. ثم حملني السرير إلى عالم بلا جدران. وفي تلك اللحظة النادرة فقط, شعرت بأنني أريد الحياة. حاولت التمسّك بها بأصابعي العشرين, فأنعشتني برودة الغطاء الأبيض, أطلقت سراح ما يدور في خلدي. سألته تلك الأسئلة السخيفة, التي أعرف أنه لن يجيب عنها, المتعلقة بنسائه. قال متعجباً (كيف تسألين هذا السؤال? والآن بالذات!).
لم يستمر احتفالي بالحياة إلا دقائق, عادت بعدها الجدران الأربعة إلى الإطباق على صدري, وغبارُ الغرفة إلى سدّ منخريّ ومسام جلدي.
أحصي الأدراج وأنا أرتقيها. وعندما أجتاز باب المدخل الداكن, أبحث عن شرخ الحائط الغربي وعن الفجوة المرمّمة في أعلاه, فيتأكّد لي مرة جديدة أنه أسوأ ترميم رأيته.
يمرّ تامر, ابن أختي, بدراجته الثلاثية الدواليب من أمامي, فيرجعني صخبه من خيالاتي, وأنتبه إلى أن أمي تناديني منذ دخلت. أتبع صوتها مهتزّة الخطى, وصورة انفجار قوي تلمع تحت جفنيّ وخلف ابتسامتي الودودة لتامر.
في مكاني المفضّل, على الكنبة الواطئة, أجلس أراقب ما استجدّ على الحائط الغربي من شقوق. تتراءى لي طرقات وروافد أنهار وأجساد عارية بأطراف طويلة وتجاعيد جباه وأياد... الصور المعلقة والأصص المتفرقة والأغراض التي لا يستعملها أحد, تجعل المكان مزدحماً ولكن بارداً. الكنبة, أو ما كانت يوما كنبة, لا تؤلمني. كذلك أمي التي تتمدّد على الكنبة الطويلة ما تلبث أن تغفو. أسفل الفجوة, إلى اليسار, يوجد التلفاز. وهنا حيث أجلس, كان جدّي يتابع برامجه الطريفة (أبو سليم الطبل وفرقته), (أبوملحم), (بربر آغا). وهنا ابتسم للمرة الأخيرة.
من بين الطيّات البيضاء فاحت ابتسامته الهادئة, فشعرت بأن هذه اللحظة تساوي حياتي, وأردت أن ألتقطها, كي أقول إني لمستُ السعادة يوماً. همستُ (ما أجمل ابتسامة رجل عاشق!) فقال من خلف الغيوم القطنية (بل مفتون!).
لم يعد أحد في البيت يبتسم للتلفاز. بعد أن ينهكه اللعب, ينام تامر على البلاط البارد, فتحمله جيهان إلى غرفتنا, وينامان لتوهما. سرعان ما ألحق بهما, ليس لأنني متعبة أو نعسى, بل لأنني أخشى أن أطيل البقاء وحدي في غرفة الجلوس.
في سريري, تحت النافذة وقرب سرير أختي وابنها, لا يعود الشرخ يقلقني, أفتح الكتاب وأقرأ جملة لا تعني شيئا, كتبها أديب شهير, قد يرمي بها معنى كبيرا. أرفع نظري إلى السماء محاولة تحديد مكان القمر. هو الآن في زاوية ما من السماء. أبقي النافذة مفتوحة في انتظاره. كانت جيهان تسخر مني عندما أقول لها إن للقمر رائحة, وأني أشمّها حين أراه. في هذه الساعة من الليل, تبدأ نسائم تلك الرائحة تطرق نافذتي. هل أوقظها لتتأكد من أنني لا أتوهّم? هل أوقظها لأخبرها أنني أشم رائحة طفولتي. روائحي وأنا طفلة, روائح ثيابي وألعابي وأغطيتي وكتبي وسندويتشات المدرسة والممحــاة التـــي لها شــكل إجاصة ورائحة وردة. ورائحة يوسف, ذلك العالم الآخر, المثير, المتعب.
الكتاب مملّ. أبقيه في يدي وأنتظر. يكاد ينزلق من بين أصابعي لشدة نعومتها.
(سأقتلك إذا تركتني) قال لي وهو يتمدّد على ظهره فوق الغيوم. فقلت بوجه مُدان يستحق القتل (إذن سأنتظر الموت الليلة). لم يهتم بكلامي. كل مرة, أخرج من شقّته, تاركة خلفي عهداً بعدم المجيء ثانية, وبعد أيام قليلة أو كثيرة, أعود. أجد على طاولته شيئا اشتراه لي, محفظة بدلا من محفظتي التي ضاعت, ساعة بدلا من ساعتي المعطّلة دوماً, شالا قلت يوماً إنني أنوي شراءه, كي أغطي به رأسي وأنا دالفة إلى شقته. تخفّيت بالشال وتسلّلت إلى الخارج, مردّدة إنها المرة الأخيرة. وفي السوق وفي الجامعة, شعرت بأنه لا معنى لوجودي, وأنني ولو كنت أملك المال, لما اشتريت ساعة جديدة ولا محفظة... هربت من نفسي ومن الوعد الذي أمقته. في المصعد, أدرت ظهري للمرآة. ركضت نحو باب الشقّة وأغلقته بسرعة, كي لا يدخل ظلّي خلفي. لم أتحرّر منه إلا في تلك الغرفة المعتمة الضيّقة.
شيء واحد يقلقني, جذع النخلة الذي بدأ يملأ فضاء النافذة. في الشتاء لم أكن أبالي, أما الآن, وقد بدأت السماء تصفو, فإن خطراً حقيقياً يتهدّد حياتي, الغريب أنها لم تثمر منذ أن زرعها جدي. تنتظرها أمي كل موسم من دون جدوى. أما أنا فأعرف أن كل شيء ننتظره يأتي بعد أن ننساه. هذا ما حدث يوم عاد يوسف. ويوم تنسى أمي عقم (النخلة), سنلحس شهدها عن أصابعنا.
لم يزرع جدي هذه الشجرة كي نأكل منها, بل كي تسدّ نافذتي وتحجب نافذة يوسف عني, هذا أيضا قد يكون من خيالاتي وأوهامي. ولكن, لو يعلم جدّي أن يوسف بعيد, وأن بيته صار مجرد ذكرى تحت التراب, وأن بناية عملاقة ارتفعت مكانه. وأننا نلتقي في غرفة حقيرة.
أحسست أنني فوق القمة.. انبسطت حياتي تحتي سهولا وتلالا ووهادا, فأغمضت عينيّ. طالما خفت من الأماكن الشاهقة. وهذا يعني أن الهوّة تنتظرني, وأنني بعد هذه اللحظة, سأتناثر أشلاءً. لم أمنع دموعي, فسألني بتوتّر: أتبكين? لماذا ? هل أضايقك?
قلت: لا, بل العكس.
- دموع الفرح?
- دموع الفرح.
لم تكن دموع الفرح بل دموع الندم. شعرت بحرقتها وأنا على قمة السعادة, لأنني سأرتطم لا محال بقعر الهاوية وسيتشقق جلدي كجدار مبقور.
لو كانت النخلة بهذا الارتفاع, يوم قُصف بيتنا, لافتدته. أخبرت يوسف كم كبر, وتوسّلت إليه أن يزور الحي, ولكنه رفض. لن ينسى يوماً أن القذيفة التي اخترقت جدار بيتنا, أُطلقت من مرآب بيته وبأمر من أحد أقرب الناس إليه. ولن ينسوا هم...
ارتعدت لخاطرة مرّت بين سطور الكتاب: أمي تفتح باب الشقّة. تجدني في أحضان يوسف. تنهال عليّ ضرباً وشتماً. أبي ينبثق من العتمة فجأة, ويضربني بقبضتيه القويتين. بيتنا كومة تراب. دولاب دراجة تامر تحت النخلة, والدولابان الآخران مفقودان. تامر يبكي على دراجته.
اليوم سألني لأول مرة (أراك غدا?).
لم نحدّد يوماً موعداً. هل يعني سؤاله أن علي ألا آتي?!
قل له: سأحصي النجوم الليلة, كما كنا نفعل صغارا, فإذا كانت مفردة فلن آتي...
- مازلت تحصين النجوم?? أما أنا فقد نسيت العد.
اقترب مني, وكأنه يريد أن يرى إجابتي لا أن يسمعها, قامته ورائحته الأليفة وبقايا الشمس على وجهه أخرستني أضاف: وأنتِ عليك أن تنسي, لا تنتظري القمر بعد اليوم. مرّت أعوام. أشياء كثيرة تغيّرت.
انزلق الشال عن رأسي وأنا أخطو ببطء نحو المصعد, وبقيت جملته الأخيرة تلاحقني بدل ظلّي الذي تاه مني (ولا تكذبي على الرجل الذي ستحبينه, ليس وأنت بين ذراعيه!)
ظهر القرص الفضي, ارتخيت في سريري, ووقع الكتاب من يدي, ثم ساد الظلام ثواني, دقيقة, دقائق, ساعات.
هوى يوسف بفأس كبيرة على جذع النخلة, وكنت أبتسم له. ولكن النخلة مالت نحو البيت, ورأيتها تدكّه أرضاً, فأطلقت صيحة لم تخرج من حلقي, حاولت مجددا, وكنت أتألم. رأيت البيت ركاماً, فخرجت صرختي أخيرا, وانتفضت من السرير. قمت من السرير وتوجهت نحو غرفة الجلوس. مرّرت كفّي فوق شقوق الجدار مراراً. في الليلة التالية لم ينزلق الكتاب من بين أصابعي. صارت يدي خشنة
أحيانا, وأنا أتقدم نحوه, أراه يميل شرقا أو ينحني بضعة سنتيمترات إلى الأمام, فأكاد أهرول إليه, باسطة يديّ لالتقاطه.
كادت أنفاسنا تخنقنا. الستائر القاتمة كانت تزيد غرفه ضيقا. سرير صغير, خزانة خشبية, جهاز كمبيوتر مغطّى بطبقة رقيقة من الغبار, جدران مطليّة بلون الضباب. شممت رائحة الرطوبة واستعدّ وبر جسدي للمطر. ثم حملني السرير إلى عالم بلا جدران. وفي تلك اللحظة النادرة فقط, شعرت بأنني أريد الحياة. حاولت التمسّك بها بأصابعي العشرين, فأنعشتني برودة الغطاء الأبيض, أطلقت سراح ما يدور في خلدي. سألته تلك الأسئلة السخيفة, التي أعرف أنه لن يجيب عنها, المتعلقة بنسائه. قال متعجباً (كيف تسألين هذا السؤال? والآن بالذات!).
لم يستمر احتفالي بالحياة إلا دقائق, عادت بعدها الجدران الأربعة إلى الإطباق على صدري, وغبارُ الغرفة إلى سدّ منخريّ ومسام جلدي.
أحصي الأدراج وأنا أرتقيها. وعندما أجتاز باب المدخل الداكن, أبحث عن شرخ الحائط الغربي وعن الفجوة المرمّمة في أعلاه, فيتأكّد لي مرة جديدة أنه أسوأ ترميم رأيته.
يمرّ تامر, ابن أختي, بدراجته الثلاثية الدواليب من أمامي, فيرجعني صخبه من خيالاتي, وأنتبه إلى أن أمي تناديني منذ دخلت. أتبع صوتها مهتزّة الخطى, وصورة انفجار قوي تلمع تحت جفنيّ وخلف ابتسامتي الودودة لتامر.
في مكاني المفضّل, على الكنبة الواطئة, أجلس أراقب ما استجدّ على الحائط الغربي من شقوق. تتراءى لي طرقات وروافد أنهار وأجساد عارية بأطراف طويلة وتجاعيد جباه وأياد... الصور المعلقة والأصص المتفرقة والأغراض التي لا يستعملها أحد, تجعل المكان مزدحماً ولكن بارداً. الكنبة, أو ما كانت يوما كنبة, لا تؤلمني. كذلك أمي التي تتمدّد على الكنبة الطويلة ما تلبث أن تغفو. أسفل الفجوة, إلى اليسار, يوجد التلفاز. وهنا حيث أجلس, كان جدّي يتابع برامجه الطريفة (أبو سليم الطبل وفرقته), (أبوملحم), (بربر آغا). وهنا ابتسم للمرة الأخيرة.
من بين الطيّات البيضاء فاحت ابتسامته الهادئة, فشعرت بأن هذه اللحظة تساوي حياتي, وأردت أن ألتقطها, كي أقول إني لمستُ السعادة يوماً. همستُ (ما أجمل ابتسامة رجل عاشق!) فقال من خلف الغيوم القطنية (بل مفتون!).
لم يعد أحد في البيت يبتسم للتلفاز. بعد أن ينهكه اللعب, ينام تامر على البلاط البارد, فتحمله جيهان إلى غرفتنا, وينامان لتوهما. سرعان ما ألحق بهما, ليس لأنني متعبة أو نعسى, بل لأنني أخشى أن أطيل البقاء وحدي في غرفة الجلوس.
في سريري, تحت النافذة وقرب سرير أختي وابنها, لا يعود الشرخ يقلقني, أفتح الكتاب وأقرأ جملة لا تعني شيئا, كتبها أديب شهير, قد يرمي بها معنى كبيرا. أرفع نظري إلى السماء محاولة تحديد مكان القمر. هو الآن في زاوية ما من السماء. أبقي النافذة مفتوحة في انتظاره. كانت جيهان تسخر مني عندما أقول لها إن للقمر رائحة, وأني أشمّها حين أراه. في هذه الساعة من الليل, تبدأ نسائم تلك الرائحة تطرق نافذتي. هل أوقظها لتتأكد من أنني لا أتوهّم? هل أوقظها لأخبرها أنني أشم رائحة طفولتي. روائحي وأنا طفلة, روائح ثيابي وألعابي وأغطيتي وكتبي وسندويتشات المدرسة والممحــاة التـــي لها شــكل إجاصة ورائحة وردة. ورائحة يوسف, ذلك العالم الآخر, المثير, المتعب.
الكتاب مملّ. أبقيه في يدي وأنتظر. يكاد ينزلق من بين أصابعي لشدة نعومتها.
(سأقتلك إذا تركتني) قال لي وهو يتمدّد على ظهره فوق الغيوم. فقلت بوجه مُدان يستحق القتل (إذن سأنتظر الموت الليلة). لم يهتم بكلامي. كل مرة, أخرج من شقّته, تاركة خلفي عهداً بعدم المجيء ثانية, وبعد أيام قليلة أو كثيرة, أعود. أجد على طاولته شيئا اشتراه لي, محفظة بدلا من محفظتي التي ضاعت, ساعة بدلا من ساعتي المعطّلة دوماً, شالا قلت يوماً إنني أنوي شراءه, كي أغطي به رأسي وأنا دالفة إلى شقته. تخفّيت بالشال وتسلّلت إلى الخارج, مردّدة إنها المرة الأخيرة. وفي السوق وفي الجامعة, شعرت بأنه لا معنى لوجودي, وأنني ولو كنت أملك المال, لما اشتريت ساعة جديدة ولا محفظة... هربت من نفسي ومن الوعد الذي أمقته. في المصعد, أدرت ظهري للمرآة. ركضت نحو باب الشقّة وأغلقته بسرعة, كي لا يدخل ظلّي خلفي. لم أتحرّر منه إلا في تلك الغرفة المعتمة الضيّقة.
شيء واحد يقلقني, جذع النخلة الذي بدأ يملأ فضاء النافذة. في الشتاء لم أكن أبالي, أما الآن, وقد بدأت السماء تصفو, فإن خطراً حقيقياً يتهدّد حياتي, الغريب أنها لم تثمر منذ أن زرعها جدي. تنتظرها أمي كل موسم من دون جدوى. أما أنا فأعرف أن كل شيء ننتظره يأتي بعد أن ننساه. هذا ما حدث يوم عاد يوسف. ويوم تنسى أمي عقم (النخلة), سنلحس شهدها عن أصابعنا.
لم يزرع جدي هذه الشجرة كي نأكل منها, بل كي تسدّ نافذتي وتحجب نافذة يوسف عني, هذا أيضا قد يكون من خيالاتي وأوهامي. ولكن, لو يعلم جدّي أن يوسف بعيد, وأن بيته صار مجرد ذكرى تحت التراب, وأن بناية عملاقة ارتفعت مكانه. وأننا نلتقي في غرفة حقيرة.
أحسست أنني فوق القمة.. انبسطت حياتي تحتي سهولا وتلالا ووهادا, فأغمضت عينيّ. طالما خفت من الأماكن الشاهقة. وهذا يعني أن الهوّة تنتظرني, وأنني بعد هذه اللحظة, سأتناثر أشلاءً. لم أمنع دموعي, فسألني بتوتّر: أتبكين? لماذا ? هل أضايقك?
قلت: لا, بل العكس.
- دموع الفرح?
- دموع الفرح.
لم تكن دموع الفرح بل دموع الندم. شعرت بحرقتها وأنا على قمة السعادة, لأنني سأرتطم لا محال بقعر الهاوية وسيتشقق جلدي كجدار مبقور.
لو كانت النخلة بهذا الارتفاع, يوم قُصف بيتنا, لافتدته. أخبرت يوسف كم كبر, وتوسّلت إليه أن يزور الحي, ولكنه رفض. لن ينسى يوماً أن القذيفة التي اخترقت جدار بيتنا, أُطلقت من مرآب بيته وبأمر من أحد أقرب الناس إليه. ولن ينسوا هم...
ارتعدت لخاطرة مرّت بين سطور الكتاب: أمي تفتح باب الشقّة. تجدني في أحضان يوسف. تنهال عليّ ضرباً وشتماً. أبي ينبثق من العتمة فجأة, ويضربني بقبضتيه القويتين. بيتنا كومة تراب. دولاب دراجة تامر تحت النخلة, والدولابان الآخران مفقودان. تامر يبكي على دراجته.
اليوم سألني لأول مرة (أراك غدا?).
لم نحدّد يوماً موعداً. هل يعني سؤاله أن علي ألا آتي?!
قل له: سأحصي النجوم الليلة, كما كنا نفعل صغارا, فإذا كانت مفردة فلن آتي...
- مازلت تحصين النجوم?? أما أنا فقد نسيت العد.
اقترب مني, وكأنه يريد أن يرى إجابتي لا أن يسمعها, قامته ورائحته الأليفة وبقايا الشمس على وجهه أخرستني أضاف: وأنتِ عليك أن تنسي, لا تنتظري القمر بعد اليوم. مرّت أعوام. أشياء كثيرة تغيّرت.
انزلق الشال عن رأسي وأنا أخطو ببطء نحو المصعد, وبقيت جملته الأخيرة تلاحقني بدل ظلّي الذي تاه مني (ولا تكذبي على الرجل الذي ستحبينه, ليس وأنت بين ذراعيه!)
ظهر القرص الفضي, ارتخيت في سريري, ووقع الكتاب من يدي, ثم ساد الظلام ثواني, دقيقة, دقائق, ساعات.
هوى يوسف بفأس كبيرة على جذع النخلة, وكنت أبتسم له. ولكن النخلة مالت نحو البيت, ورأيتها تدكّه أرضاً, فأطلقت صيحة لم تخرج من حلقي, حاولت مجددا, وكنت أتألم. رأيت البيت ركاماً, فخرجت صرختي أخيرا, وانتفضت من السرير. قمت من السرير وتوجهت نحو غرفة الجلوس. مرّرت كفّي فوق شقوق الجدار مراراً. في الليلة التالية لم ينزلق الكتاب من بين أصابعي. صارت يدي خشنة