كلمة الافتتاح في أمسية إطلاق ( بــــاولا)

ما يهمّني في الحقيقة هو الموت. الموت في الوجوه الحيّة..
إن للإنسان قدرةً خاصةً وفريدة على الموت بينما يمارسُ حياته بشكل طبيعي، أن يموتَ دون أن يكون على درايةٍ تامة بذلك، لقد صَدَفتُ الكثيرين ممن ماتوا في هذا العالم الغارقِ بالكرهِ والتّشفّي، ماتوا بلا حروب، بلا كوارث، دون أن تتعب ملائكة الموت، ماتوا لأن الآخرين مستمرّون بقتلهم في مواقف لا حصر لها ولا إحصاء.

ماتوا، لأن الفقر يحولُ بينهم وبين الوصول إلى حبيباتهم، ماتوا لأن عليهم أن يدفعوا رشوةً للموافقة على معاملة حكوميّة، ماتوا من الذلّ أمام سطوة الجلاد، ماتوا لأن نار الكذب تذيب الأبيض في قلوبهم وتترك مكانه فحمها الخاص.
ماتوا في اللحظة التي ضحكوا فيها على وجع الآخرين، عندما جَبُنُوا عن إيقاف صفعة تتجه إلى وجهٍ بريئ، عندما لم يروا في شمسهم ظلمة الزنازين، في اللحظة التي صار فيها الظلم عدلًا إن عمّ وساد دون تمييز، ماتوا لأن كلّ ما تعلموه عن الابتسام وحسن المعاملة يُسرق أوّل الوعي، كما تسرق الراحة في أوجه العبيد.
نحن نموت كل يوم، تموت الفضائل كل يوم، ويموت معها كل ما يستحق الحياة..
لكن بابًا مواربًا في الروح، يدفعني لأكتبَ عن هذا كلّه، يدفعني، لأصرخ في وجهي أمام المرآة: أنا لا أموت، أن أهتفَ في العالمين بأننا لا نموت، لا نموت! هذه صرختي الأخيرة قبل أن ينغلق الباب على الظلمة في داخلي، وقبل أن تذوب آخر نقطة بيضاء في قلبي، أريد للظلم في هذا العالم أن ينتهي، أريد أن أنفجر مثل قنبلة الضوء في بصائر المكفوفين، لقد قرأتُ مرةً أن الشمعة تتوهّج قبل أن ينطفئ نورها إلى الأبد، أريد لصرختي أن تصل حدّها في المدى، ولربما، ربما قبل أن ينخمدَ في شمعتي الوميض، قبل أن يموت الخير في قلوبنا دفعةً واحدةً، وإلى الأبد..
ربما..
سأسمع الصدى.. سأسمع الصدى.


كلمة الافتتاح في أمسية إطلاق #باولا في متحف محمود درويش/ رام الله 17.7.2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى