عندما اغلقت عيناي ، نفحة من الريح هبت تجاهي . رياح شهر ماي ، هذه الرياح التي تنضج الفواكه ذات الغطاء الخارجي الرقيق ، والمحتوى اللزج والعديد من البذور ، بعض الفواكه الناضجة كانت متفتحة وهبّة الريح القت بذورها على ذراعي العاري مخلفة الما طفيفا …
” كم الساعة الان ؟ ” سألني ابن عمي الذي كان جالسا بجواري ..كان من نوع الاناس الذين ينظرون لك عندما يحدثونك ..
القيت نظرة على ساعتي وقلت ” العاشرة وعشرون دقيقة”
“هل ساعتك تعمل بشكل جيد ؟ “
” اجل .اعتقد ذلك “
امسك ابن عمي بمعصمي ونظر للساعة ، أصابعه النحيلة والمتناسقة كانت قوية بشكل يثير الدهشة .
” هل كلفتك الكثير ؟”
“لا ، انها رخيصة جدا ” قلت ونظرت مرة اخرى للساعة .
لا اجابة منه .
بدا ابن عمي متوترا ، واسنانه بين شفتيه بدت كأنها عظام ضامرة.
“انها رخيصة جدا ” قلت ناظرا لليمين نحوه ، ورددت بتأن الكلمات ” انها رخيصة جدا ، لكنها تعمل جيدا “
اومأ ابن عمي بصمت .
ابن عمي لا يسمع جيدا بأذنه اليمنى، فبعد ذهابه للمدرسة الابتدائية بقليل ضُرب بكرة بيسبول وخسر سمعه ،وعلى الرغم من ان هذا لا يسمح له بالقيام بالنشاطات اليومية بصورة طبيعية الا انه استمر في المدرسة العادية كأي طفل طبيعي اخر ، في صفه ، يجلس دائما اول الصف على اليمين وهكذا يتمكن من القاء سمعه الايسر على المعلم ، ودرجاته ليس سيئة جدا ، الامر هو انه احيانا يمكنه سماع الاصوات بشكل جيدا جدا واحيانا لا يستطيع ، بشكل دوري .,مثل المد والجزر ،احيانا ربما مرتان في العام ، لا يمكنه بالكاد سماع اي شيء من كلتا اذنيه ..يبدو ذلك وكان الصمت في اذنه اليمنى تعمق حتى شمل الاذن اليسرى ساحقا اي صوت فيها يمكن سماعه .
ولما يحدث هذا حياته العادية تنقلب ، لذا يخرج بعض الوقت من المدرسة ، الأطباء متحيرون لانهم لم يشهدوا حالة مماثلة لذا لا يوجد اي شيء لفعله .
” ساعة اليد الغالية لا يعني انها دقيقة ” قال بن عمي كما لو انه يحاول اقناع نفسه .
” كنت ارتدي ساعة غالية جدا ، لكنها كانت لا تعمل دوما ، حصلت عليها في المدرسة المتوسطة ، لكني اضعتها العام السابق ، ومن ذلك الوقت وانا اخرج دون ساعة ،هم لا يريدون شراء واحدة اخرى لي “
“لا بد انه من الصعب ان تخرج دونها ؟ “
“ماذا ؟ ” سألني .
” الم يكن من الصعب ذلك ؟ ” كررت ونظرت يمينا نحوه .
“لا ، ليس كذلك ” كرر هازا رأسه ” ان الامر ليس كما لو انك تعيش وحدك في الجبال او شيء من هذا القبيل ، لو اردت ان اعرف الوقت فقط اسأل احدهم “
” صحيح” قلت .
وصمتنا مجددا لفترة .
اعلم انه كان ينبغي التحدث اكثر له ، ان اكون لطيفا معه واجعله يحس بالراحة حتى يصل للمستشفى ، لكن كانت قد مرت خمس سنوات منذ رايته لآخر مرة ، خلال هذه المدة كبر هو من التاسعة للرابعة عشر وانا من العشرين للخامسة والعشرين ، وهذه الفترة من الزمن خلقت حاجزا لا مرئيا بيننا كان من الصعب اجتيازه .حتى لو اردت ان اقول شيئا ، الكلمات التي ينبغي قولها تفر مني ..وكل مرة اتردد فيها… كل مرة ابتلع فيها كلاما كنت اود قوله للتو ..بن عمي ينظر لي بتوتر يبدو على وجهه، واذنه اليسرى موجهة نحوي ..
” كم الساعة الان ؟ “سألني
” العاشرة وتسع وعشرون دقيقة ” رددت .
كانت العاشرة واثنان وثلاثون دقيقة لما ظهرت الحافلة .
الحافلة التي اتت كانت من نوع جديد ليست من ذلك النوع الذي اعتدت ركوبه لما كنت في الاعدادية .الزجاج امام السائق كان اكبر ، والمركبة ككل كانت تشبه طائرة حاملة للصواريخ تنقصها الاجنحة ، وكانت مزدحمة اكثر مما توقعت ، لا احد كان واقفا لكن في نفس الوقت لا يمكن ان نجلس معا ..لم نذهب بعيدا في الحافلة فقط جلسنا بجانب الباب الخلفي للحافلة ، ما كان يحيرني هو لماذا الحافلة كانت مزدحمة في هذا الوقت من النهار ..
انطلقت الحافلة من محطة سكك حديدية خاصة ثم الى منطقة سكنية في التلال ، ثم قفلت راجعة للمحطة ، لم يكن هناك اي موقع سياحي على طول الطريق ، كانت هناك بضع مدارس على طول الطريق لكن هذه تجعل الحافلات مزدحمة وقت الخروج من المدارس اما في هذا الوقت من النهار كان من المفترض ان تكون فارغة .
انا وابن عمي امسكنا مقابض التمسك و الاعمدة ، الحافلة كانت جديدة تماما ، الاسطح المعدنية كانت لامعة جدا ويمكنك رؤية انعكاس وجهك عليها ، الحافلة الجديدة وبالركاب الكثر الذين ملأوها بشكل لم اتوقعه ، ازعجني… ربما مسار الحافلة قد تغير منذ اخر مرة صعدت فيها ، نظرت حولي في الحافلة بحذر ثم نظرت خارجها لكنه كان نفس المنظر القديم لمنطقة سكنية هادئة اتذكرها جيدا.
” هذه هي الحافلة الصحيحة ، صح ؟ “
سألني بن عمي بقلق ..لربما لاحظ امارت الحيرة على وجهي لما صعدنا .
” لا تقلق ” قلت محاولا طمأنة نفسي بقدر ما اطمئنه ” هناك حافلة واحدة فقط تمر من هنا ..لذا لا بد ان تكون هي “
” هل اعتدت ان تأخذ هذه الحافلة لما كنت ترتاد الثانوية ” سألني بن عمي
” نعم ، هذا صحيح “
” هل احببت المدرسة ؟ “
“ليس تماما ..” قلت ” لكنني استطيع رؤية أصدقائي هناك وايضا لم تكن بعيدة “
بن عمي فكر في ما قلته له .
“هل ما زلت تراهم ؟”
” لا .. لقد مر وقت طويل على ذلك “
قلت ذلك مختارة كلماتي بعناية
“لأننا نعيش بعيدا جدا عن بعض ” هذا لم يكن السبب الحقيقي لكني لم استطع ان افكر في اي سبب اخر يشرح ذلك .
على يميني كان يجلس مجموعة من المسنين ، حوالي الخمسة عشر فردا وكانوا هم سبب زحام الحافلة لاحظت فجاة انهم كلهم كانت الشمس قد لوحت بشرتهم حتى ان المكان خلف اعناقهم كان اسمر ،وكل واحد فيهم كان هزيل الجسم ، معظم الرجال كانوا يرتدون تي-شرت ثخينا كالذي يلبس لتسلق الجبال النساء ببساطة كن يرتدين بلوزات عادية ، وكلهم كانوا يحملون حقائب ظهر صغيرة وضعوها في حجرهم ، تلك الحقائب التي تأخذها معك في نزهة على التلال ، كان منظرهم جميلا وكيف كانوا يبدون ، مثل درج ممتلئ بعينات لأشياء مختلفة ، كانوا مصطّفين بدقة ،الشيء الغريب هو انم لم يكن هناك أي طريق لتسلق الجبال في خط سير هذه الحافلة .اذن الى اين هم ذاهبون هكذا ؟؟ فكرت في هذا وانا واقفة اتشبث في حزام التشبث في الحافلة دون ان احظى بتفسير معقول .
“أتساءل ان كان سيؤلم هذه المرة …العلاج ؟” سألني قريبي .
“لا ادري ” قلت “لم اسمع عن اي تفاصيل حول الامر “
“هل ذهبت مرة لدكتور مختص بالأذن ؟”
هززت راسي نافيا . لم اذهب قط الى دكتور مختص بالأذن في حياتي .
” هل آلمك العلاج من قبل ؟” سألت
” ليس تماما “
قال قريبي بغموض ” هناك الم بالطبع ، احيانا يؤلم قليلا …. لكن ليس بشكل رهيب “
” ربما هذه المرة ايضا سيكون كذلك ، امك قالت انهم لن يفعلوا اي شيء خلاف العادة “
” لكن ان كانوا يفعلون كالعادة دائما كيف سيحسن ذلك علاجي ؟”
” حسنا ، لا تدري ..احيانا تحدث اشياء لا نتوقعها “
” هل تقصدين مثل سحب سدادة الفلين ؟” قال قريبي ،تفرست في وجهه لكن لم يبدي اي اثر للسخرية
” ستتعالج عند طبيب اخر . واحيانا مجرد اختلاف بسيط في الاجراءات يصنع كل الفرق لا اريدك ان تستسلم للفشل بسهولة “
” لن استسلم للفشل “قال قريبي
” لكن اظن انه تسلل اليك البعض منه ؟”
” اعتقد ” قال واومأ “الخوف هو اسوأ شيء ،الالم الذي اتخيله اسوأ من الالم الحقيقي ، هل تفهمين ما اقصده ؟”
“نعم ..افهمك “
العديد من الاشياء حصلت هذا الربيع ، حدث مشكل في العمل لذا غادرت العمل في شركة اعلانية صغيرة بطوكيو اين كنت اعمل لعامين ..وخلال نفس الوقت انفصلت عن صديقتي التي كنت اواعدها منذ المدرسة الثانوية ..شهر بعد ذلك جدتي توفيت بسرطان الامعاء ..و لاول مرة منذ خمس سنوات عدت الى هذه المدينة بحقيبة صغيرة في يدي ..غرفتي القديمة كانت تماما كما تركتها ..الكتب التي قرأتها مازالت في الرف ..سريري مزال هناك .. مكتبي ..وكل الاشرطة التي كنت استمع اليها .لكن كل شيء في الغرفة كان قد جف وحال لونه وفقد رائحته ..الزمن فقط ما بقي ولا يزال .
كنت قد خططت للعودة لطوكيو بعد عدة ايام من جنازة جدتي لأجل البحث عن عمل جديد ، وكنت افكر في الانتقال الى شقة اخرى ، ايضا كنت احتاج الى تغيير الجو ..في الايام الماضية ..افكر.. يبدو انه كان هناك الكثير من المشاكل ترهق كاهلي ..كي نكون واضحين حتى لو اردت ان اتركها وراء ظهري وامضي لم استطع ذلك ..لقد امضيت وقتي منعزلا في غرفتي القديمة استمع الى هذه الشرائط اعاود قراءة الكتب القديمة ..احيانا اخرج لإزالة الاعشاب الضارة في الحديقة وتشذيبها ..لم اقابل احدا ..والبشر الوحيدون الذين كنت اتحدث اليهم كانوا افراد عائلتي .
.و أحد الايام عمتي قدمت لغرفتي وسألتني ان كان بامكاني مرافقة بن عمي الى مستشفى جديد …كان عليها ان تأخذه بنفسها ..لكن احيانا يكون الموعد في يوم لا يمكنها ان ترافقه ..المستشفى كان بالقرب من ثانويتي القديمة لذا فقد كنت اعرف مكانه ..و لأنني لا املك اي شيء لأفعله ..لم اكن استطيع الرفض ..اعطتني عمتي ظرفا فيه بعض النقود لأجل غدائنا انا وابن عمي .
ذهابنا للمستشفى الجديد كان لان العلاج في القديم لم يجدِ شيئا . الحقيقة انه زاد الطين بلة ..وعندما اشتكت عمتي ذلك للطبيب قال ان المشكل يتعلق بمحيط الطفل اكثر منه تعلقا بالامور الطبية ..والاثنان وافقا على ذلك…لا يتوقع المرء ان تغيير المستشفى يمكن ان يحسن من وضع اذنه .لم يقل احد ذلك ..كانا قد فقدا الامل ان يتحسن سمعه اكثر من اي وقت مضى .
قريبي يعيش بالجوار ..لكنني اكبر منه بعقد كامل ..ولسنا كما يقال مقربين ..لما يذهب اقاربنا معا ..اقوم باصطحابه الى مكان ما او العب معه ، لكن هذا ما كان بيننا ..رغم ذلك ومن مدة بدا الجميع يرى انني وبن عمي ثنائي …يفكرون انه متعلق بي وانني افضله على غيره ..لزمن طويل لم افهم لم يعتقدون هذا .الان وانا ارى الطريقة التي يُميل بها راسه و يقرب اذنه اليسرى لي ..هذا اثر فيَّ جدا .مثل صوت مطر سمعته من مدة طويلة .هذا الامر ضرب على وتر حساس مني هكذا بدأت افهم لما عائلتنا تريدنا ان نكون معا .
كانت الحافلة قد مرت بسبع او ثماني محطات عندما نظر الي بن عمي بنفاد صبر : ” هل مازالت بعيدة جدا ؟”
” نعم ، مزال القليل .. انه مستشفى كبير .. لذا لن نفوّته “
فجأة دخلت هبة ريحٍ من النافذة المفتوحة وبلطف حركت حواف قبعات الرجال المسنين واوشحتهم التي حول العنق ..من هؤلاء الناس ؟؟ والى اين يتوجهون ؟
” هل تنوي العمل في شركة ابي ؟ “سال ابن عمي .
التفت اليه متفاجأً… ابوه؟، عمي يدير شركة كبيرة للطباعة في كوبي .لم افكر في ذلك مطلقا ..ولم يلمح لي اي احد من قبل بذلك .
“لم يقل احد شيئا عن ذلك ” قلت ” لم تسأل ؟ “
خجل ابن عمي ورد ” لقد فكرت انه ربما تريد ذلك ” اضاف ” لكن لم لا ؟لن تضطر للمغادرة . والجميع سيكون سعيدا ” .
.رن الصوت المسجل يعلن المحطة القادمة لكن لا احد رن جرس التوقف ولا احد ايضا كان واقفا في المحطة ينتظر الحافلة .
” لكن هناك بعض الاعمال علي القيام بها ، لذا علي العودة لطوكيو ” قلت بينما أومأ ابن عمي بصمت
لم يكن هناك اي عمل اقوم به في طوكيو ، لكني ايضا لا احبذ البقاء هنا .
عدد المنازل بدا يتضاءل لما ارتقت الحافلة في المنحدر الجبلي، فروع الاشجار الثخينة كانت تلقي بضلالها على الطريق مررنا ببعض المنازل التي تبدو اجنبية التصميم مصبوغة ومحاطة بجدران صغيرة في مقدمتها …
النسيم المنعش والبارد يبدو طيبا ..كل مرة كانت الحافلة تجتاز منعطفا كان البحر يبدو في المشهد ، ثم اختفى ، ثم وصلت الحافلة للمستشفى نزلنا انا وابن عمي فقط واستدرنا نرى المناظر التي حولنا .
“الفحص سيستغرق بعض الوقت ، ويمكنني ان اعتني بنفسي ” قال بن عمي ” لذا لما لا تذهب وتنتظرني في مكان ما ؟” بعد ان حيينا الطبيب خرجت من غرفة الفحص وذهبت للكافيتريا لم اكن بالكاد قد فطرت وكنت اتضور جوعا ..لكن لم يكن هناك شيء في القائمة يثير شهيتي ..لذا فقد رضيت اخيرا بكوب قهوة .
كنا في صباح احد ايام الاسبوع كنت انا في الكافتيريا وعائلة صغيرة قد اخذنا أماكننا ..كنت اراقبهم الاب كان في منتصف الاربعينيات يلبس بيجاما زرقاء داكنة و مخططة ، الام و توأمان من الفتيات صغيرتان قدمتا لتشتريا تذكرة .التوأمان كانتا ترتديان نفس الفستان الابيض وكانتا منحنيتان على الطاولة ، كانت نظراتهما تعبر عن الجدية ، والجميع :الابوان والطفلتين كانوا يبدوا انهم يشعرون بالملل .
خارج النافذة كان هناك عشب ، و الة رش تدور باستمرار ترش العشب برذاذ فضي ، زوج من الطيور طويلة الذيل عبرت بسرعة فوق الة الرش واختفت ..خلف العشب كان هناك عدة اماكن للعب التنس هُجرت والشباك تلاشت ، وراء ملاعب التنس كان هناك صف من شجر الدردار ومن خلال اغصانها يمكنك ان تلمح البحر ، شمس الصيف ظهرت من خلال الغيوم وانعكست اشعتها على الموجات الصغيرة ، نسيمٌ عليل كان يداعب اوراق شجر الدردار .
اشعر وكاني شاهدت هذا من قبل ..عدة اعوام من قبل ..هذه الساحة الواسعة من العشب ، الفتاتان التوامان تعبّان عصير البرتقال ، الطيران طويلي الذيل اللذان يطيران الى اين يعلم الله ..ساحات التنس التي فقدت شباكها ، البحر من خلفها … لكنه كان توهما فحسب ، لقد كان مشهدا واقعيا بما فيه الكفاية ..احساس كثيف بانه واقعي ..لكنه كان رغم ذلك وهما ليس الا لأنني لم اتي الى هذا المستشفى ابدا من قبل ..
مددت ساقي خارج مقعدي ..اخذت نفسا عميقا ..اغلقت عيناي ..في الظلام كنت استطيع رؤية كتلة صغيرة بيضاء ، وبهدوء يزداد حجمها وتمتد ثم تتعقد كأنها ميكروب تحت المجهر ..تغير شكلها ..تمتد تتبعثر تعاود تشكيل نفسها .
كانت قد مرت ثمان سنوات لما ذهبت الى المستشفى الاخر ..مستشفى صغير بجوار البحر ..كان كل ما يمكنك رؤيته من خلال النافذة هو بعض اشجار الدفلى ، كان مجرد مستشفى … وكانت رائحته كتلك الرائحة التي تشمها عند المطر ،صديقةُ صديقي كانت قد اجرت عملية على قفصها الصدري هناك ..وكلانا ذهب للاطمئنان عليها ..ذلك الصيف من سنتنا في الثانوية .
لم تكن عملية بمعنى الكلمة …الحقيقة انه قاموا بتصحيح وضعية احد ضلوعها الذي كان منحنيا الى الداخل قليلا ..لم تكن حالة طارئة ..كان فقط ذلك النوع الاشياء التي يتوجب على المرء فعلها ..لذا فانها ارادت ان تقوم بها وحسب ..العملية نفسها كان سريعة لكنهم ارادوا ان تستريح قليلا يتابعوا حالتها لذا بقيت في المستشفى لعشرة ايام ..صديقي وانا ذهبنا الى هناك معا فوق دراجة نارية من نوع 125cc Yamaha قاد صديقي لما كنا ذاهبين لكن طريق العودة قدت انا ..كان قد طلب مني ان ارافقه ” يستحيل ان اذهب لوحدي هناك ..” قال لي.
صديقي توقف عند محل حلويات بالقرب من المحطة واشترى علبة شكولاتة كنت اشد على حزامه بيد واحكم قبضتي على العلبة باليد الاخرى ..كان يوما حارا وقمصاننا كانت مبتلة ..ثم جففها نسائم الريح ولما كان صديقي يقود غنى اغنية ما بصوت فظيع ، لا ازال اتذكر رائحة عرقه ..ثم لم يمض الكثير من الوقت على هذا ثم توفي .
صديقته كانت ترتدي بيجاما زرقاء وثوب رقيق يصل حتى ركبتها ، جلسنا سويا على طاولة في كافيتريا .ندخن السجائر ونشرب الكوكا وناكل الايس كريم ، هي كانت تتضوع جوعا واكلت كعكتين من الدونات المحلّى وشربت شراب الكاكاو مع طن من الكريم داخله هذا ولم يبدو كافيا لها .
” بهذا الشكل لما تخرجين من هنا ستكونين بحجم المنطاد !” قال صديقي بشكل جاف نوعا ما .
“انا بخير انني اتعافى ..”ردت هي .ماسحة رؤوس اصابعها التي تلطخت بالزيت من كعك الدونات .
ولما كنا نتحدث لمحت النافذة حيث يوجد خارجا اشجار الدفلى ….كانت اشجارا كبيرة ربما كانت لتشكل غابة حتى ..استطيع ان اسمع صوت الامواج ايضا ..السلالم بقرب النافذة كانت صدئة تماما بفعل النسيم البارد والندي الذي يهب دائما من خلالها ..
مروحة السقف القديمة كانت تعيد بث الحرارة ..وجو رطب كان يغلف الغرفة .الكافيتريا نفسها كانت برائحة المستشفى .حتى الطعام والمشروبات كانت بنفس الرائحة ..بيجاما الصديقة كانت تحوي جيبان في الاعلى ..في احداهما قلم ذهبي اللون صغير . وكلما انحنت قليلا الى الامام كنت ارى صدرها الابيض من خلال الياقة .
ذكرياتي توقفت هنا ..حاولت ان اتذكر ما الذي حدث بعدها ..شربت الكولا ..حدقت في اشجار الدفلى ..اختلست نظرة لصدرها ..ثم ماذا ؟؟ حركت كرسيّ قليلا حاولت الحفر اعمق في طيات الذاكرة مثلما انتزع سدادة فلين بسكين بيضاء حادة .
حدقت في اتجاه واحد وحاولت ان اتخيل الاطباء يشقون لحم صدرها ..يولجون ايديهم بقفازاتها البلاستيكية ويصلحون ضلعها الاعوج ..لكن هذا كله بدا لي جد سوريالي ..كنوع من الرمزية ..
هذا صحيح ! بعد هذا تكلمنا حول الجنس ..على الاقل صديقي من تحدث ..لكن ما الذي قاله ؟ شيء ما عني بلا شك ..كيف اني حاولت دون ان انجح بفعلها مع فتاة ..لم تكن قصة كبيرة ..لكن الطريقة التي روى بها ذلك ..طريقة امدت الاشياء حياةً اخرى ..جعل صديقته تنفجر ضحكا ..حتى انا ايضا ضحكت ..هذا الرجل يعرف –فعلا- كيف يروي قصة..
” من فضلك لا تدعني اضحك ” قالت متألمة قليلا .. ” صدري يؤلمني لما اضحك ” ..
” اين يؤلم ؟” قال صديقي .
وضعت يديها على البيجاما فوق قلبها ..بالضبط فوق نهدها الايسر ..كانت تعابث صديقها ..ومن ثم فقد ضحكت مجددا ..
نظرت لساعتي .كانت الحادية عشر وخمس واربعون لكن بن عمي لم يعد بعد ..كان الوقت يقترب من وقت الغداء و بدا الناس يرتادون الكافيتريا ..كل انواع الاصوات والكلام اختلطت معا كدخان يغلف الغرفة .
عدت مرة اخرى الى مملكة ذكرياتي ..والى ذلك القلم الذهبي الصغير الذي كان في جيب البيجاما العلوي .
…الان انا اتذكر .. استعملت هي القلم لكتابة شيء على المنديل الورقي .
كانت ترسم صورة ، المنديل الورقي كان ناعما جدا ..وراس القلم كان يعلق احيانا ..برغم ذلك رسمت تلة وبيتا صغيرا فوق التلة ..و امرأة كانت تنام في المنزل ..البيت كان محاطا بشجر الصفصاف اعمى وكان هذا الصفصاف هو الذي جعل المرأة تنام .
” ما هذا .شجر صفصاف اعمى ؟”
” هناك نوع من الاشجار مثل هذا “
“لم اسمع به من قبل “
“هذا لأنني انا من خلقه ” قالت وهي تبتسم ..” الصفصاف الاعمى يحمل الكثير من حبوب الطلع ، و ذباب صغير مغطى بهذه الحبوب تزحف داخل اذنها وتجعل المرأة تنام “
اخذت منديلا ورقيا اخر ورسمت صورة لصفصاف عمياء .كانت بحجم شجرة الازاليا الان ..الشجرة كانت مزهرة والازهار كانت محاطة بأوراق خضراء غامقة مثل مجموعة من ذيول السحالي تجمعت على غصن ..الصفصافة العمياء لم تبدو ابدا كصفصافة على الاطلاق .
” هل اخذت سيجارتك ” ؟سألني صديقي ..مررت له علبة السجائر والثقاب .
” الصفصافة العمياء تبدوا صغيرة من الخارج لكنها تمتلك جذورا عميقة جدا “
شرحت الفتاة .
” الحقيقة انه بعد مرحلة ما .. تتوقف عن النمو ثم تغرس جذورها اكثر واكثر في التربة ..كأنها تتغذي من الظلمة “
” ثم يحمل الذباب حبوب اللقاح ويضعها في اذنها ..عميقا ..جاعلا اياها تنام ” ..اضاف صديقي جاهدا في محاولته لإشعال سيجارة بالثقاب المعطوب ..” لكن ما الذي سيحدث للذباب ؟”
” يبقى داخل المرأة ..يتغذى على لحمها ..بالطبع ” قالت صديقته
“يلتهمونها تماما ” قال صديقي .
اتذكر الان كيف انه في ذلك الصيف كتبت قصيدة طويلة حول الصفصافة العمياء و شرحت ذلك لكلينا ..كان هذا هو العمل المنزلي الوحيد الذي قامت به ذلك الصيف ..القصيدة مبنية على حلم راته ذات ليلة ..ولأنها كانت ممددة في السرير لأسبوع ..كتبت هذه القصيدة الطويلة ..صديقي قال انه يود قرائتها ..لكنها كانت ماتزال تعيد مراجعتها ..لهذا لم تسمح له بذلك ..و بدل هذا رسمت هذه الرسومات كي تلخص لنا الفكرة ككل .
شاب يصعد للتلة كي ينقذ المرأة التي جعلتها حبوب الصفصاف العمياء تخلد للنوم ..
” هذا بالتأكيد انا ” قال صديقي ..
ضربت راسه ” لا ..انه ليس انت “
” حقا ؟”
” اجل ” قالت ونظرة جادة على محياها ” لا اعلم كيف اعرف هذا ..لكني اعرفه ..انت لست غاضبا صح ؟”
” بلى انا كذلك ” قال صديقي عابسا ونصف ساخر .
الشاب شق طريقه من خلال اشجار الصفصاف العمياء التي كانت كثيفة ..مما اخر الشاب وجعله يبطء في صعود التلة ..كان اول من يأتي للتلة بعد ان احتلتها شجر الصفصاف ..سحب قبعته لأسفل مغطيا عينيه هاشا بيده الاخرى اسراب الذباب التي تحوم حوله ..الرجل الشاب استمر بارتقاء التلة ..ليرى المرأة النائمة ، ليوقظها من نومها الطويل والعميق.
” لكن في الوقت الذي يكون فيه قد وصل لأعلى التلة ..جسد المرأة سيكون قد تم التهامه بالفعل ..صح ؟” قال صديقي
“بشكل ما ..نعم ” ردت الفتاة .
” لما يكون الذباب قد التهم المرأة تماما ذلك يجعل القصة حزينة .. صح ؟”
قال صديقي .. ” نعم ، اعتقد ذلك ” قالت بعد ان فكرت قليلا ..” ما هو رأيك ؟” سألتني
” تبدو فعلا قصة حزينة بالنسبة لي ايضا “رددتُ.
كانت الثانية عشر وعشرون دقيقة لما عاد بن عمي ….كان يحمل كيسا صغيرا للأدوية ونظرة شرود على وجهه ..بعد ان اجتاز مدخل الكافتيريا استغرق بعض الوقت كي يجد مكاني وينضم الي ..كان يسير بارتباك ..كانه لا يستطيع ان يحافظ على توازنه جلس مقابلا لي ..وكانه كان مشغولا جدا كي يتذكر ان يتنفس …اخذ نفساً عميقا ..
” كيف مر الامر ؟” سألت
” اممممم” ..غمغم.. انتظرت كي يقول اكثر ..لكن لم يقل شيئا ..
“هل انت جائع ؟” سألت مجددا
اومأ برأسه بصمت .
” تود ان تأكل هنا ..او تود ان نأخذ حافلة للمدينة وناكل هناك ” ؟
القى نظرة متشككة حول الغرفة ” لا بأس بالمكان هنا “
اشتريت تذكرتي غداء وطلبت غداء لكلينا ……ولما كان الطعام بطريقه الينا القى ابن عمي نظرة على النافذة ..على نفس المنظر الذي كنت انظر اليه ..البحر ..صف شجر الدردار والمرشة .
على الطاولة التي كانت بجانبنا ..كان هناك زوجان في منتصف العمر يرتديان لباسا جيدا ..كانا يأكلان السندويتش ويتحدثان عن صديق لهما اصيب بسرطان الرئة ..كان قد ترك التدخين منذ خمس سنوات من قبل لكن الوقت كان متأخرا على ذلك ..كيف كان يبصق دما عندما يستيقظ صباحا ..الزوجة كانت تطرح الاسئلة والزوج كان يجيب ..بمعنى ما ، شرح الزوج :يمكن ان تري حياة الشخص بأكملها من خلال نوع السرطان الذي حصل عليه .
كان غدائنا يتكون من شرائح لحم وسمك مقلي ..سلطة و خبز ..جلسنا هناك ..مقابلين بعضنا البعض ..ناكل بصمت ..وطول الوقت الذي كنا ناكل فيه كان الزوجان الجالسان بالقرب منا يثرثرون ويثرثرون حول كيف يبدأ السرطان ..وكيف ان نسبة السرطان ترتفع ..وكيف انه لا يوجد علاج له .
” اينما تذهب ، نفس الشيء ” قال بن عمي بنبرة سطحية وهو يحدق في يديه .” نفس الاسئلة القديمة ، نفس الاجراءات ” .
كنا نجلس على مقاعد الانتظار امام المستشفى ..ننتظر الحافلة ..وكل هنيهة كان النسيم يطير بعض الاوراق الخضراء حولنا .
” احيانا انت لا تسمع شيئا على الاطلاق ؟” سالته .
” نعم هذا صحيح ” .اجاب بن عمي . ” لا اسمع البتة ” .
” كيف تشعر لما يحدث هذا ؟”
اومأ برأسه لجهة واحدة وفكر بالأمر .. ” فجأة لا يمكنك سماع شيء ..لكن هذا سيأخذ منك فترة كي تعرف ما الذي حصل ..ثم لا يمكنك سماع شيء ..انه يشبه ان تكون في عمق البحر مرتديا سدادات اذن ..هذا يستمر لمدة ..طول الوقت لا يمكن ان تسمع اي شيء ..لكن ليس اذناك فقط ..ان لا يمكنك السماع هو فقط جزء من ذلك .”
“هل يزعجك حدوثه ؟”
هز راسه نافيا الامر ..هزة قصيرة وجازمة ..” لا اعلم لما .. لكنه لا يزعجني بذلك القدر ..طبعا هو غير مريح الا تستطيع سماع شيء ..انا احاول احتواء الامر ..لكني لا استطيع ذلك ..هل قمت بمشاهدة فلم جون فرود . Fort Apache ؟
سألني بن عمي ..” منذ مدة طويلة جدا ” قلت .
“لقد عرضوه في التلفاز مؤخرا .انه فلم جيد فعلا ” .
“اممم ” ..اكدت له .
” في بداية الفلم هناك الكولونيل الجديد التي اتى للقلعة من الغرب ..الكابتن المخضرم استقبله عند قدومه ..لعب دور الكابتن جون واين ..الكولونيل لا يعرف الكثير حول الامور كما كان في الغرب ..وكان هناك تمرد هندي حول تلك القلعة “.
ابن عمي اخرج منديلا ابيضا مطويا بعناية من جيبه ومسح فمه .
” لما يأتي للقلعة يقول الكولونيل لجون واين : لقد رأيت عدة هنود بالقرب من هنا ” وجون واين بتلك السحنة الجميلة على وجهه يرد ” لا تقلق ..اذا كان بإمكانك ان تقضي على بعض الهنود ..هذا يعني انه لا يوجد اي منهم هناك ” ..انا لا اتذكر الخطوط العامة للفلم ، لكنه شيء كهذا ..هل فهمت ما الذي كان يقصده ؟”
لم استطع تذكر هذه الجزئية من الفلم ..لقد بدت لي جزئية غامضة من فلم لجون فورد .. كان قد مرت فترة طويلة منذ شاهدت الفلم .
“اعتقد انه يعني ان اي شيء يمكن ان يراه اي احد ليس بالأمر المهم جدا …اعتقد “
رد بن عمي ” ولا انا فهمتها تماما ايضا .. لكن كل مرة يتعاطف فيها احد معي لأجل اذني ..هذه الجزئية اتذكرها ..” ان كان في مقدرتك القضاء على بعض الهنود ، ذلك يعني انه لا يوجد منهم اي هندي هناك ” ..
ضحكت.
” هذا غريب صح ؟” سال بن عمي .
“نعم ” قلت وانا اضحك ثم ضحك هو ايضا .. لقد مرت مدة طويلة منذ رايته يضحك ..
بعد هنيهة قال بن عمي ..كما ولو انه يتخلص من حمل ثقيل ” هل بإمكانك ان تلقي نظرة على اذني من اجلي ؟”
” انظر داخل اذنك ؟” قلت مندهشا بشكل ما .
” فقط ما يمكنك رؤيته من الخارج”
“حسنا لكن لما تريدني ان افعل هذا ” ؟
“لا ادري ” خجل ابن عمي قليلا ” اودك فقط ان ترى كيف يبدوان “
“حسنا ” قلت ..”سألقي نظرة “
قريبي جلس مقابل لي مائلا بأذنه اليمنى نحوي ..كان يملك اذنا حسنة التكوين فعلا . كان حجمها لطيفا وصغيرا الان ان شحمة الاذن كانت منتفخة ككعكة مادلين طازجة ، لم انظر من قبل بهذا التمعن في اذن احد ما ..لكن عندما تبدا بالنظر اليها عن قرب ، الاذن البشرية –بنيتها – شيء رائع وساحر فعلا ..مع كل هذه الالتواءات العشوائية التي تكونها .الانخفاضات والارتفاعات .ربما التطور صنع هذا النظام كي يتيح نظاما مثاليا لجمع الاصوات، او لحماية البنية الداخلية ..محاطا بهذا الجدار اللامنتاظر يبدو ثقب الاذن كمدخل كهف سري مظلم .
تخيلت ان صديقة صديقي ، ذباب صغير جدا يتوغل في اذنها . وسيقان الذباب الصغيرة دبقة بحبوب الطلع ، يتوغلون في داخلها المظلم و الدافئ ، ممتصين كل العصير ، واضعين بيضهم الصغير داخل دماغها ، لكنك لا تستطيع رؤيته او حتى سماع صفقان اجنحتها .
“هذا يكفي ” قال قريبي .
ابتعد قليلا واستدار في كرسيه كي اتمكن من رؤية الاذن الاخرى .” اذن ..هل ترى اي شيء جديد ؟ “
” لا شيء مختلف حسب ما يبدو لي ..هناك في الخارج على الاقل “
” اي شيء يمكنك رؤيته او حتى ما الذي تحس به “
” اذنك تبدو لي عادية “
بدا قريبي خائب الامل ..ربما قد تلفظت بشيء خاطئ.
‘هل آلمك العلاج ؟” سالته .
” لا .لم يؤلمني ..انه العلاج المعتاد دوما ..دوما يحومون حول نفس النقطة ..احس احيانا انهم سينزعونها من مكانها ..لذلك احيانا اشعر انها ليست اذني “
“انها الرقم ثمان وعشرون ” قال بن عمي بعد برهة ..ملتفتا الي ” انها حافلتنا ..صح ؟”
كنت شاردا ..و رأيت الحافلة لما اخبرني عنها تتباطأ لتستدير وتخرج من المنحدر ..انها ليس من نوعية الحافلات الجديدة التي ركبناها بل القديمة التي اتذكرها ، رقم 28 كان في اعلى واجهة الحافلة .حاولت ان انهض من الكرسي لكني لم استطع ..كما لو كنت عالقا في تيار قوي ..اطرافي لم تستجب .
كنت افكر في علبة الشوكولا التي اخذناها معنا لما كنا ذاهبين الى المستشفى تلك الظهيرة الصيفية منذ فترة طويلة. الفتاة فتحت بسعادة غطاء العلبة لتجد ان عشرات قطع الشوكولا الصغيرة قد ذابت تماما .كانت قد التصقت بالحواف وبغطاء العلبة نفسه .في طريقنا للمستشفى كنا قد ركنا الموتوسيكل على الجانب الذي يطل على البحر .تسكعنا حول الشاطئ ونحن نتحدث .كل الوقت الذي تركنا فيه علبة الشوكولا تحت شمس اوت الحارقة ، لامبالاتنا وعدم اهتمامنا قضوا على هذه القطع من الشوكولا. صانعة قطعة فوضوية واحدة من الشوكولا ..كان يجب ان نعرف ما الذي حصل .احد منا -ليس من المهم من منا- كان عليه ان يقول شيئا ما ..لكن في تلك الظهيرة لم نشعر باي شيء .
فقط تبادلنا نكات سخيفة وودعنا بعضنا ..ثم غادرنا هذا التل الممتلئ بشجر الصفصاف الاعمى .
قريبي تشبث بذراعي الايمن بقوة .
” هل كل شيء على ما يرام ؟ ” سألني .
كلماته عادت بي للواقع ..فنهضت من على الكرسي ..هذه المرة لم اجد مشكلة في النهوض ..مرة اخرى كنت احس بلمسة نسيم ماي على بشرتي ..لبضع ثوانِ كنت اقف في مكان مظلم وغريب ارى اشياء لا توجد اطلاقا .. وافعال لم تحدث مطلقا ..اخيرا فكرت .. الحافلة رقم 28 توقفت امامي ..الباب الحقيقي للحافلة انفتح امامي ..ارتقيت الحافلة ..ذهبت لمقعد اخر ..ربتت يدي على كتف بن عمي ..
“انا بخير ” قلتُ له .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من اليابانية للانجليزية : فيليب غابرييل
من الانجليزية للعربية : يونس بن عمارة
” كم الساعة الان ؟ ” سألني ابن عمي الذي كان جالسا بجواري ..كان من نوع الاناس الذين ينظرون لك عندما يحدثونك ..
القيت نظرة على ساعتي وقلت ” العاشرة وعشرون دقيقة”
“هل ساعتك تعمل بشكل جيد ؟ “
” اجل .اعتقد ذلك “
امسك ابن عمي بمعصمي ونظر للساعة ، أصابعه النحيلة والمتناسقة كانت قوية بشكل يثير الدهشة .
” هل كلفتك الكثير ؟”
“لا ، انها رخيصة جدا ” قلت ونظرت مرة اخرى للساعة .
لا اجابة منه .
بدا ابن عمي متوترا ، واسنانه بين شفتيه بدت كأنها عظام ضامرة.
“انها رخيصة جدا ” قلت ناظرا لليمين نحوه ، ورددت بتأن الكلمات ” انها رخيصة جدا ، لكنها تعمل جيدا “
اومأ ابن عمي بصمت .
ابن عمي لا يسمع جيدا بأذنه اليمنى، فبعد ذهابه للمدرسة الابتدائية بقليل ضُرب بكرة بيسبول وخسر سمعه ،وعلى الرغم من ان هذا لا يسمح له بالقيام بالنشاطات اليومية بصورة طبيعية الا انه استمر في المدرسة العادية كأي طفل طبيعي اخر ، في صفه ، يجلس دائما اول الصف على اليمين وهكذا يتمكن من القاء سمعه الايسر على المعلم ، ودرجاته ليس سيئة جدا ، الامر هو انه احيانا يمكنه سماع الاصوات بشكل جيدا جدا واحيانا لا يستطيع ، بشكل دوري .,مثل المد والجزر ،احيانا ربما مرتان في العام ، لا يمكنه بالكاد سماع اي شيء من كلتا اذنيه ..يبدو ذلك وكان الصمت في اذنه اليمنى تعمق حتى شمل الاذن اليسرى ساحقا اي صوت فيها يمكن سماعه .
ولما يحدث هذا حياته العادية تنقلب ، لذا يخرج بعض الوقت من المدرسة ، الأطباء متحيرون لانهم لم يشهدوا حالة مماثلة لذا لا يوجد اي شيء لفعله .
” ساعة اليد الغالية لا يعني انها دقيقة ” قال بن عمي كما لو انه يحاول اقناع نفسه .
” كنت ارتدي ساعة غالية جدا ، لكنها كانت لا تعمل دوما ، حصلت عليها في المدرسة المتوسطة ، لكني اضعتها العام السابق ، ومن ذلك الوقت وانا اخرج دون ساعة ،هم لا يريدون شراء واحدة اخرى لي “
“لا بد انه من الصعب ان تخرج دونها ؟ “
“ماذا ؟ ” سألني .
” الم يكن من الصعب ذلك ؟ ” كررت ونظرت يمينا نحوه .
“لا ، ليس كذلك ” كرر هازا رأسه ” ان الامر ليس كما لو انك تعيش وحدك في الجبال او شيء من هذا القبيل ، لو اردت ان اعرف الوقت فقط اسأل احدهم “
” صحيح” قلت .
وصمتنا مجددا لفترة .
اعلم انه كان ينبغي التحدث اكثر له ، ان اكون لطيفا معه واجعله يحس بالراحة حتى يصل للمستشفى ، لكن كانت قد مرت خمس سنوات منذ رايته لآخر مرة ، خلال هذه المدة كبر هو من التاسعة للرابعة عشر وانا من العشرين للخامسة والعشرين ، وهذه الفترة من الزمن خلقت حاجزا لا مرئيا بيننا كان من الصعب اجتيازه .حتى لو اردت ان اقول شيئا ، الكلمات التي ينبغي قولها تفر مني ..وكل مرة اتردد فيها… كل مرة ابتلع فيها كلاما كنت اود قوله للتو ..بن عمي ينظر لي بتوتر يبدو على وجهه، واذنه اليسرى موجهة نحوي ..
” كم الساعة الان ؟ “سألني
” العاشرة وتسع وعشرون دقيقة ” رددت .
كانت العاشرة واثنان وثلاثون دقيقة لما ظهرت الحافلة .
الحافلة التي اتت كانت من نوع جديد ليست من ذلك النوع الذي اعتدت ركوبه لما كنت في الاعدادية .الزجاج امام السائق كان اكبر ، والمركبة ككل كانت تشبه طائرة حاملة للصواريخ تنقصها الاجنحة ، وكانت مزدحمة اكثر مما توقعت ، لا احد كان واقفا لكن في نفس الوقت لا يمكن ان نجلس معا ..لم نذهب بعيدا في الحافلة فقط جلسنا بجانب الباب الخلفي للحافلة ، ما كان يحيرني هو لماذا الحافلة كانت مزدحمة في هذا الوقت من النهار ..
انطلقت الحافلة من محطة سكك حديدية خاصة ثم الى منطقة سكنية في التلال ، ثم قفلت راجعة للمحطة ، لم يكن هناك اي موقع سياحي على طول الطريق ، كانت هناك بضع مدارس على طول الطريق لكن هذه تجعل الحافلات مزدحمة وقت الخروج من المدارس اما في هذا الوقت من النهار كان من المفترض ان تكون فارغة .
انا وابن عمي امسكنا مقابض التمسك و الاعمدة ، الحافلة كانت جديدة تماما ، الاسطح المعدنية كانت لامعة جدا ويمكنك رؤية انعكاس وجهك عليها ، الحافلة الجديدة وبالركاب الكثر الذين ملأوها بشكل لم اتوقعه ، ازعجني… ربما مسار الحافلة قد تغير منذ اخر مرة صعدت فيها ، نظرت حولي في الحافلة بحذر ثم نظرت خارجها لكنه كان نفس المنظر القديم لمنطقة سكنية هادئة اتذكرها جيدا.
” هذه هي الحافلة الصحيحة ، صح ؟ “
سألني بن عمي بقلق ..لربما لاحظ امارت الحيرة على وجهي لما صعدنا .
” لا تقلق ” قلت محاولا طمأنة نفسي بقدر ما اطمئنه ” هناك حافلة واحدة فقط تمر من هنا ..لذا لا بد ان تكون هي “
” هل اعتدت ان تأخذ هذه الحافلة لما كنت ترتاد الثانوية ” سألني بن عمي
” نعم ، هذا صحيح “
” هل احببت المدرسة ؟ “
“ليس تماما ..” قلت ” لكنني استطيع رؤية أصدقائي هناك وايضا لم تكن بعيدة “
بن عمي فكر في ما قلته له .
“هل ما زلت تراهم ؟”
” لا .. لقد مر وقت طويل على ذلك “
قلت ذلك مختارة كلماتي بعناية
“لأننا نعيش بعيدا جدا عن بعض ” هذا لم يكن السبب الحقيقي لكني لم استطع ان افكر في اي سبب اخر يشرح ذلك .
على يميني كان يجلس مجموعة من المسنين ، حوالي الخمسة عشر فردا وكانوا هم سبب زحام الحافلة لاحظت فجاة انهم كلهم كانت الشمس قد لوحت بشرتهم حتى ان المكان خلف اعناقهم كان اسمر ،وكل واحد فيهم كان هزيل الجسم ، معظم الرجال كانوا يرتدون تي-شرت ثخينا كالذي يلبس لتسلق الجبال النساء ببساطة كن يرتدين بلوزات عادية ، وكلهم كانوا يحملون حقائب ظهر صغيرة وضعوها في حجرهم ، تلك الحقائب التي تأخذها معك في نزهة على التلال ، كان منظرهم جميلا وكيف كانوا يبدون ، مثل درج ممتلئ بعينات لأشياء مختلفة ، كانوا مصطّفين بدقة ،الشيء الغريب هو انم لم يكن هناك أي طريق لتسلق الجبال في خط سير هذه الحافلة .اذن الى اين هم ذاهبون هكذا ؟؟ فكرت في هذا وانا واقفة اتشبث في حزام التشبث في الحافلة دون ان احظى بتفسير معقول .
“أتساءل ان كان سيؤلم هذه المرة …العلاج ؟” سألني قريبي .
“لا ادري ” قلت “لم اسمع عن اي تفاصيل حول الامر “
“هل ذهبت مرة لدكتور مختص بالأذن ؟”
هززت راسي نافيا . لم اذهب قط الى دكتور مختص بالأذن في حياتي .
” هل آلمك العلاج من قبل ؟” سألت
” ليس تماما “
قال قريبي بغموض ” هناك الم بالطبع ، احيانا يؤلم قليلا …. لكن ليس بشكل رهيب “
” ربما هذه المرة ايضا سيكون كذلك ، امك قالت انهم لن يفعلوا اي شيء خلاف العادة “
” لكن ان كانوا يفعلون كالعادة دائما كيف سيحسن ذلك علاجي ؟”
” حسنا ، لا تدري ..احيانا تحدث اشياء لا نتوقعها “
” هل تقصدين مثل سحب سدادة الفلين ؟” قال قريبي ،تفرست في وجهه لكن لم يبدي اي اثر للسخرية
” ستتعالج عند طبيب اخر . واحيانا مجرد اختلاف بسيط في الاجراءات يصنع كل الفرق لا اريدك ان تستسلم للفشل بسهولة “
” لن استسلم للفشل “قال قريبي
” لكن اظن انه تسلل اليك البعض منه ؟”
” اعتقد ” قال واومأ “الخوف هو اسوأ شيء ،الالم الذي اتخيله اسوأ من الالم الحقيقي ، هل تفهمين ما اقصده ؟”
“نعم ..افهمك “
العديد من الاشياء حصلت هذا الربيع ، حدث مشكل في العمل لذا غادرت العمل في شركة اعلانية صغيرة بطوكيو اين كنت اعمل لعامين ..وخلال نفس الوقت انفصلت عن صديقتي التي كنت اواعدها منذ المدرسة الثانوية ..شهر بعد ذلك جدتي توفيت بسرطان الامعاء ..و لاول مرة منذ خمس سنوات عدت الى هذه المدينة بحقيبة صغيرة في يدي ..غرفتي القديمة كانت تماما كما تركتها ..الكتب التي قرأتها مازالت في الرف ..سريري مزال هناك .. مكتبي ..وكل الاشرطة التي كنت استمع اليها .لكن كل شيء في الغرفة كان قد جف وحال لونه وفقد رائحته ..الزمن فقط ما بقي ولا يزال .
كنت قد خططت للعودة لطوكيو بعد عدة ايام من جنازة جدتي لأجل البحث عن عمل جديد ، وكنت افكر في الانتقال الى شقة اخرى ، ايضا كنت احتاج الى تغيير الجو ..في الايام الماضية ..افكر.. يبدو انه كان هناك الكثير من المشاكل ترهق كاهلي ..كي نكون واضحين حتى لو اردت ان اتركها وراء ظهري وامضي لم استطع ذلك ..لقد امضيت وقتي منعزلا في غرفتي القديمة استمع الى هذه الشرائط اعاود قراءة الكتب القديمة ..احيانا اخرج لإزالة الاعشاب الضارة في الحديقة وتشذيبها ..لم اقابل احدا ..والبشر الوحيدون الذين كنت اتحدث اليهم كانوا افراد عائلتي .
.و أحد الايام عمتي قدمت لغرفتي وسألتني ان كان بامكاني مرافقة بن عمي الى مستشفى جديد …كان عليها ان تأخذه بنفسها ..لكن احيانا يكون الموعد في يوم لا يمكنها ان ترافقه ..المستشفى كان بالقرب من ثانويتي القديمة لذا فقد كنت اعرف مكانه ..و لأنني لا املك اي شيء لأفعله ..لم اكن استطيع الرفض ..اعطتني عمتي ظرفا فيه بعض النقود لأجل غدائنا انا وابن عمي .
ذهابنا للمستشفى الجديد كان لان العلاج في القديم لم يجدِ شيئا . الحقيقة انه زاد الطين بلة ..وعندما اشتكت عمتي ذلك للطبيب قال ان المشكل يتعلق بمحيط الطفل اكثر منه تعلقا بالامور الطبية ..والاثنان وافقا على ذلك…لا يتوقع المرء ان تغيير المستشفى يمكن ان يحسن من وضع اذنه .لم يقل احد ذلك ..كانا قد فقدا الامل ان يتحسن سمعه اكثر من اي وقت مضى .
قريبي يعيش بالجوار ..لكنني اكبر منه بعقد كامل ..ولسنا كما يقال مقربين ..لما يذهب اقاربنا معا ..اقوم باصطحابه الى مكان ما او العب معه ، لكن هذا ما كان بيننا ..رغم ذلك ومن مدة بدا الجميع يرى انني وبن عمي ثنائي …يفكرون انه متعلق بي وانني افضله على غيره ..لزمن طويل لم افهم لم يعتقدون هذا .الان وانا ارى الطريقة التي يُميل بها راسه و يقرب اذنه اليسرى لي ..هذا اثر فيَّ جدا .مثل صوت مطر سمعته من مدة طويلة .هذا الامر ضرب على وتر حساس مني هكذا بدأت افهم لما عائلتنا تريدنا ان نكون معا .
كانت الحافلة قد مرت بسبع او ثماني محطات عندما نظر الي بن عمي بنفاد صبر : ” هل مازالت بعيدة جدا ؟”
” نعم ، مزال القليل .. انه مستشفى كبير .. لذا لن نفوّته “
فجأة دخلت هبة ريحٍ من النافذة المفتوحة وبلطف حركت حواف قبعات الرجال المسنين واوشحتهم التي حول العنق ..من هؤلاء الناس ؟؟ والى اين يتوجهون ؟
” هل تنوي العمل في شركة ابي ؟ “سال ابن عمي .
التفت اليه متفاجأً… ابوه؟، عمي يدير شركة كبيرة للطباعة في كوبي .لم افكر في ذلك مطلقا ..ولم يلمح لي اي احد من قبل بذلك .
“لم يقل احد شيئا عن ذلك ” قلت ” لم تسأل ؟ “
خجل ابن عمي ورد ” لقد فكرت انه ربما تريد ذلك ” اضاف ” لكن لم لا ؟لن تضطر للمغادرة . والجميع سيكون سعيدا ” .
.رن الصوت المسجل يعلن المحطة القادمة لكن لا احد رن جرس التوقف ولا احد ايضا كان واقفا في المحطة ينتظر الحافلة .
” لكن هناك بعض الاعمال علي القيام بها ، لذا علي العودة لطوكيو ” قلت بينما أومأ ابن عمي بصمت
لم يكن هناك اي عمل اقوم به في طوكيو ، لكني ايضا لا احبذ البقاء هنا .
عدد المنازل بدا يتضاءل لما ارتقت الحافلة في المنحدر الجبلي، فروع الاشجار الثخينة كانت تلقي بضلالها على الطريق مررنا ببعض المنازل التي تبدو اجنبية التصميم مصبوغة ومحاطة بجدران صغيرة في مقدمتها …
النسيم المنعش والبارد يبدو طيبا ..كل مرة كانت الحافلة تجتاز منعطفا كان البحر يبدو في المشهد ، ثم اختفى ، ثم وصلت الحافلة للمستشفى نزلنا انا وابن عمي فقط واستدرنا نرى المناظر التي حولنا .
“الفحص سيستغرق بعض الوقت ، ويمكنني ان اعتني بنفسي ” قال بن عمي ” لذا لما لا تذهب وتنتظرني في مكان ما ؟” بعد ان حيينا الطبيب خرجت من غرفة الفحص وذهبت للكافيتريا لم اكن بالكاد قد فطرت وكنت اتضور جوعا ..لكن لم يكن هناك شيء في القائمة يثير شهيتي ..لذا فقد رضيت اخيرا بكوب قهوة .
كنا في صباح احد ايام الاسبوع كنت انا في الكافتيريا وعائلة صغيرة قد اخذنا أماكننا ..كنت اراقبهم الاب كان في منتصف الاربعينيات يلبس بيجاما زرقاء داكنة و مخططة ، الام و توأمان من الفتيات صغيرتان قدمتا لتشتريا تذكرة .التوأمان كانتا ترتديان نفس الفستان الابيض وكانتا منحنيتان على الطاولة ، كانت نظراتهما تعبر عن الجدية ، والجميع :الابوان والطفلتين كانوا يبدوا انهم يشعرون بالملل .
خارج النافذة كان هناك عشب ، و الة رش تدور باستمرار ترش العشب برذاذ فضي ، زوج من الطيور طويلة الذيل عبرت بسرعة فوق الة الرش واختفت ..خلف العشب كان هناك عدة اماكن للعب التنس هُجرت والشباك تلاشت ، وراء ملاعب التنس كان هناك صف من شجر الدردار ومن خلال اغصانها يمكنك ان تلمح البحر ، شمس الصيف ظهرت من خلال الغيوم وانعكست اشعتها على الموجات الصغيرة ، نسيمٌ عليل كان يداعب اوراق شجر الدردار .
اشعر وكاني شاهدت هذا من قبل ..عدة اعوام من قبل ..هذه الساحة الواسعة من العشب ، الفتاتان التوامان تعبّان عصير البرتقال ، الطيران طويلي الذيل اللذان يطيران الى اين يعلم الله ..ساحات التنس التي فقدت شباكها ، البحر من خلفها … لكنه كان توهما فحسب ، لقد كان مشهدا واقعيا بما فيه الكفاية ..احساس كثيف بانه واقعي ..لكنه كان رغم ذلك وهما ليس الا لأنني لم اتي الى هذا المستشفى ابدا من قبل ..
مددت ساقي خارج مقعدي ..اخذت نفسا عميقا ..اغلقت عيناي ..في الظلام كنت استطيع رؤية كتلة صغيرة بيضاء ، وبهدوء يزداد حجمها وتمتد ثم تتعقد كأنها ميكروب تحت المجهر ..تغير شكلها ..تمتد تتبعثر تعاود تشكيل نفسها .
كانت قد مرت ثمان سنوات لما ذهبت الى المستشفى الاخر ..مستشفى صغير بجوار البحر ..كان كل ما يمكنك رؤيته من خلال النافذة هو بعض اشجار الدفلى ، كان مجرد مستشفى … وكانت رائحته كتلك الرائحة التي تشمها عند المطر ،صديقةُ صديقي كانت قد اجرت عملية على قفصها الصدري هناك ..وكلانا ذهب للاطمئنان عليها ..ذلك الصيف من سنتنا في الثانوية .
لم تكن عملية بمعنى الكلمة …الحقيقة انه قاموا بتصحيح وضعية احد ضلوعها الذي كان منحنيا الى الداخل قليلا ..لم تكن حالة طارئة ..كان فقط ذلك النوع الاشياء التي يتوجب على المرء فعلها ..لذا فانها ارادت ان تقوم بها وحسب ..العملية نفسها كان سريعة لكنهم ارادوا ان تستريح قليلا يتابعوا حالتها لذا بقيت في المستشفى لعشرة ايام ..صديقي وانا ذهبنا الى هناك معا فوق دراجة نارية من نوع 125cc Yamaha قاد صديقي لما كنا ذاهبين لكن طريق العودة قدت انا ..كان قد طلب مني ان ارافقه ” يستحيل ان اذهب لوحدي هناك ..” قال لي.
صديقي توقف عند محل حلويات بالقرب من المحطة واشترى علبة شكولاتة كنت اشد على حزامه بيد واحكم قبضتي على العلبة باليد الاخرى ..كان يوما حارا وقمصاننا كانت مبتلة ..ثم جففها نسائم الريح ولما كان صديقي يقود غنى اغنية ما بصوت فظيع ، لا ازال اتذكر رائحة عرقه ..ثم لم يمض الكثير من الوقت على هذا ثم توفي .
صديقته كانت ترتدي بيجاما زرقاء وثوب رقيق يصل حتى ركبتها ، جلسنا سويا على طاولة في كافيتريا .ندخن السجائر ونشرب الكوكا وناكل الايس كريم ، هي كانت تتضوع جوعا واكلت كعكتين من الدونات المحلّى وشربت شراب الكاكاو مع طن من الكريم داخله هذا ولم يبدو كافيا لها .
” بهذا الشكل لما تخرجين من هنا ستكونين بحجم المنطاد !” قال صديقي بشكل جاف نوعا ما .
“انا بخير انني اتعافى ..”ردت هي .ماسحة رؤوس اصابعها التي تلطخت بالزيت من كعك الدونات .
ولما كنا نتحدث لمحت النافذة حيث يوجد خارجا اشجار الدفلى ….كانت اشجارا كبيرة ربما كانت لتشكل غابة حتى ..استطيع ان اسمع صوت الامواج ايضا ..السلالم بقرب النافذة كانت صدئة تماما بفعل النسيم البارد والندي الذي يهب دائما من خلالها ..
مروحة السقف القديمة كانت تعيد بث الحرارة ..وجو رطب كان يغلف الغرفة .الكافيتريا نفسها كانت برائحة المستشفى .حتى الطعام والمشروبات كانت بنفس الرائحة ..بيجاما الصديقة كانت تحوي جيبان في الاعلى ..في احداهما قلم ذهبي اللون صغير . وكلما انحنت قليلا الى الامام كنت ارى صدرها الابيض من خلال الياقة .
ذكرياتي توقفت هنا ..حاولت ان اتذكر ما الذي حدث بعدها ..شربت الكولا ..حدقت في اشجار الدفلى ..اختلست نظرة لصدرها ..ثم ماذا ؟؟ حركت كرسيّ قليلا حاولت الحفر اعمق في طيات الذاكرة مثلما انتزع سدادة فلين بسكين بيضاء حادة .
حدقت في اتجاه واحد وحاولت ان اتخيل الاطباء يشقون لحم صدرها ..يولجون ايديهم بقفازاتها البلاستيكية ويصلحون ضلعها الاعوج ..لكن هذا كله بدا لي جد سوريالي ..كنوع من الرمزية ..
هذا صحيح ! بعد هذا تكلمنا حول الجنس ..على الاقل صديقي من تحدث ..لكن ما الذي قاله ؟ شيء ما عني بلا شك ..كيف اني حاولت دون ان انجح بفعلها مع فتاة ..لم تكن قصة كبيرة ..لكن الطريقة التي روى بها ذلك ..طريقة امدت الاشياء حياةً اخرى ..جعل صديقته تنفجر ضحكا ..حتى انا ايضا ضحكت ..هذا الرجل يعرف –فعلا- كيف يروي قصة..
” من فضلك لا تدعني اضحك ” قالت متألمة قليلا .. ” صدري يؤلمني لما اضحك ” ..
” اين يؤلم ؟” قال صديقي .
وضعت يديها على البيجاما فوق قلبها ..بالضبط فوق نهدها الايسر ..كانت تعابث صديقها ..ومن ثم فقد ضحكت مجددا ..
نظرت لساعتي .كانت الحادية عشر وخمس واربعون لكن بن عمي لم يعد بعد ..كان الوقت يقترب من وقت الغداء و بدا الناس يرتادون الكافيتريا ..كل انواع الاصوات والكلام اختلطت معا كدخان يغلف الغرفة .
عدت مرة اخرى الى مملكة ذكرياتي ..والى ذلك القلم الذهبي الصغير الذي كان في جيب البيجاما العلوي .
…الان انا اتذكر .. استعملت هي القلم لكتابة شيء على المنديل الورقي .
كانت ترسم صورة ، المنديل الورقي كان ناعما جدا ..وراس القلم كان يعلق احيانا ..برغم ذلك رسمت تلة وبيتا صغيرا فوق التلة ..و امرأة كانت تنام في المنزل ..البيت كان محاطا بشجر الصفصاف اعمى وكان هذا الصفصاف هو الذي جعل المرأة تنام .
” ما هذا .شجر صفصاف اعمى ؟”
” هناك نوع من الاشجار مثل هذا “
“لم اسمع به من قبل “
“هذا لأنني انا من خلقه ” قالت وهي تبتسم ..” الصفصاف الاعمى يحمل الكثير من حبوب الطلع ، و ذباب صغير مغطى بهذه الحبوب تزحف داخل اذنها وتجعل المرأة تنام “
اخذت منديلا ورقيا اخر ورسمت صورة لصفصاف عمياء .كانت بحجم شجرة الازاليا الان ..الشجرة كانت مزهرة والازهار كانت محاطة بأوراق خضراء غامقة مثل مجموعة من ذيول السحالي تجمعت على غصن ..الصفصافة العمياء لم تبدو ابدا كصفصافة على الاطلاق .
” هل اخذت سيجارتك ” ؟سألني صديقي ..مررت له علبة السجائر والثقاب .
” الصفصافة العمياء تبدوا صغيرة من الخارج لكنها تمتلك جذورا عميقة جدا “
شرحت الفتاة .
” الحقيقة انه بعد مرحلة ما .. تتوقف عن النمو ثم تغرس جذورها اكثر واكثر في التربة ..كأنها تتغذي من الظلمة “
” ثم يحمل الذباب حبوب اللقاح ويضعها في اذنها ..عميقا ..جاعلا اياها تنام ” ..اضاف صديقي جاهدا في محاولته لإشعال سيجارة بالثقاب المعطوب ..” لكن ما الذي سيحدث للذباب ؟”
” يبقى داخل المرأة ..يتغذى على لحمها ..بالطبع ” قالت صديقته
“يلتهمونها تماما ” قال صديقي .
اتذكر الان كيف انه في ذلك الصيف كتبت قصيدة طويلة حول الصفصافة العمياء و شرحت ذلك لكلينا ..كان هذا هو العمل المنزلي الوحيد الذي قامت به ذلك الصيف ..القصيدة مبنية على حلم راته ذات ليلة ..ولأنها كانت ممددة في السرير لأسبوع ..كتبت هذه القصيدة الطويلة ..صديقي قال انه يود قرائتها ..لكنها كانت ماتزال تعيد مراجعتها ..لهذا لم تسمح له بذلك ..و بدل هذا رسمت هذه الرسومات كي تلخص لنا الفكرة ككل .
شاب يصعد للتلة كي ينقذ المرأة التي جعلتها حبوب الصفصاف العمياء تخلد للنوم ..
” هذا بالتأكيد انا ” قال صديقي ..
ضربت راسه ” لا ..انه ليس انت “
” حقا ؟”
” اجل ” قالت ونظرة جادة على محياها ” لا اعلم كيف اعرف هذا ..لكني اعرفه ..انت لست غاضبا صح ؟”
” بلى انا كذلك ” قال صديقي عابسا ونصف ساخر .
الشاب شق طريقه من خلال اشجار الصفصاف العمياء التي كانت كثيفة ..مما اخر الشاب وجعله يبطء في صعود التلة ..كان اول من يأتي للتلة بعد ان احتلتها شجر الصفصاف ..سحب قبعته لأسفل مغطيا عينيه هاشا بيده الاخرى اسراب الذباب التي تحوم حوله ..الرجل الشاب استمر بارتقاء التلة ..ليرى المرأة النائمة ، ليوقظها من نومها الطويل والعميق.
” لكن في الوقت الذي يكون فيه قد وصل لأعلى التلة ..جسد المرأة سيكون قد تم التهامه بالفعل ..صح ؟” قال صديقي
“بشكل ما ..نعم ” ردت الفتاة .
” لما يكون الذباب قد التهم المرأة تماما ذلك يجعل القصة حزينة .. صح ؟”
قال صديقي .. ” نعم ، اعتقد ذلك ” قالت بعد ان فكرت قليلا ..” ما هو رأيك ؟” سألتني
” تبدو فعلا قصة حزينة بالنسبة لي ايضا “رددتُ.
كانت الثانية عشر وعشرون دقيقة لما عاد بن عمي ….كان يحمل كيسا صغيرا للأدوية ونظرة شرود على وجهه ..بعد ان اجتاز مدخل الكافتيريا استغرق بعض الوقت كي يجد مكاني وينضم الي ..كان يسير بارتباك ..كانه لا يستطيع ان يحافظ على توازنه جلس مقابلا لي ..وكانه كان مشغولا جدا كي يتذكر ان يتنفس …اخذ نفساً عميقا ..
” كيف مر الامر ؟” سألت
” اممممم” ..غمغم.. انتظرت كي يقول اكثر ..لكن لم يقل شيئا ..
“هل انت جائع ؟” سألت مجددا
اومأ برأسه بصمت .
” تود ان تأكل هنا ..او تود ان نأخذ حافلة للمدينة وناكل هناك ” ؟
القى نظرة متشككة حول الغرفة ” لا بأس بالمكان هنا “
اشتريت تذكرتي غداء وطلبت غداء لكلينا ……ولما كان الطعام بطريقه الينا القى ابن عمي نظرة على النافذة ..على نفس المنظر الذي كنت انظر اليه ..البحر ..صف شجر الدردار والمرشة .
على الطاولة التي كانت بجانبنا ..كان هناك زوجان في منتصف العمر يرتديان لباسا جيدا ..كانا يأكلان السندويتش ويتحدثان عن صديق لهما اصيب بسرطان الرئة ..كان قد ترك التدخين منذ خمس سنوات من قبل لكن الوقت كان متأخرا على ذلك ..كيف كان يبصق دما عندما يستيقظ صباحا ..الزوجة كانت تطرح الاسئلة والزوج كان يجيب ..بمعنى ما ، شرح الزوج :يمكن ان تري حياة الشخص بأكملها من خلال نوع السرطان الذي حصل عليه .
كان غدائنا يتكون من شرائح لحم وسمك مقلي ..سلطة و خبز ..جلسنا هناك ..مقابلين بعضنا البعض ..ناكل بصمت ..وطول الوقت الذي كنا ناكل فيه كان الزوجان الجالسان بالقرب منا يثرثرون ويثرثرون حول كيف يبدأ السرطان ..وكيف ان نسبة السرطان ترتفع ..وكيف انه لا يوجد علاج له .
” اينما تذهب ، نفس الشيء ” قال بن عمي بنبرة سطحية وهو يحدق في يديه .” نفس الاسئلة القديمة ، نفس الاجراءات ” .
كنا نجلس على مقاعد الانتظار امام المستشفى ..ننتظر الحافلة ..وكل هنيهة كان النسيم يطير بعض الاوراق الخضراء حولنا .
” احيانا انت لا تسمع شيئا على الاطلاق ؟” سالته .
” نعم هذا صحيح ” .اجاب بن عمي . ” لا اسمع البتة ” .
” كيف تشعر لما يحدث هذا ؟”
اومأ برأسه لجهة واحدة وفكر بالأمر .. ” فجأة لا يمكنك سماع شيء ..لكن هذا سيأخذ منك فترة كي تعرف ما الذي حصل ..ثم لا يمكنك سماع شيء ..انه يشبه ان تكون في عمق البحر مرتديا سدادات اذن ..هذا يستمر لمدة ..طول الوقت لا يمكن ان تسمع اي شيء ..لكن ليس اذناك فقط ..ان لا يمكنك السماع هو فقط جزء من ذلك .”
“هل يزعجك حدوثه ؟”
هز راسه نافيا الامر ..هزة قصيرة وجازمة ..” لا اعلم لما .. لكنه لا يزعجني بذلك القدر ..طبعا هو غير مريح الا تستطيع سماع شيء ..انا احاول احتواء الامر ..لكني لا استطيع ذلك ..هل قمت بمشاهدة فلم جون فرود . Fort Apache ؟
سألني بن عمي ..” منذ مدة طويلة جدا ” قلت .
“لقد عرضوه في التلفاز مؤخرا .انه فلم جيد فعلا ” .
“اممم ” ..اكدت له .
” في بداية الفلم هناك الكولونيل الجديد التي اتى للقلعة من الغرب ..الكابتن المخضرم استقبله عند قدومه ..لعب دور الكابتن جون واين ..الكولونيل لا يعرف الكثير حول الامور كما كان في الغرب ..وكان هناك تمرد هندي حول تلك القلعة “.
ابن عمي اخرج منديلا ابيضا مطويا بعناية من جيبه ومسح فمه .
” لما يأتي للقلعة يقول الكولونيل لجون واين : لقد رأيت عدة هنود بالقرب من هنا ” وجون واين بتلك السحنة الجميلة على وجهه يرد ” لا تقلق ..اذا كان بإمكانك ان تقضي على بعض الهنود ..هذا يعني انه لا يوجد اي منهم هناك ” ..انا لا اتذكر الخطوط العامة للفلم ، لكنه شيء كهذا ..هل فهمت ما الذي كان يقصده ؟”
لم استطع تذكر هذه الجزئية من الفلم ..لقد بدت لي جزئية غامضة من فلم لجون فورد .. كان قد مرت فترة طويلة منذ شاهدت الفلم .
“اعتقد انه يعني ان اي شيء يمكن ان يراه اي احد ليس بالأمر المهم جدا …اعتقد “
رد بن عمي ” ولا انا فهمتها تماما ايضا .. لكن كل مرة يتعاطف فيها احد معي لأجل اذني ..هذه الجزئية اتذكرها ..” ان كان في مقدرتك القضاء على بعض الهنود ، ذلك يعني انه لا يوجد منهم اي هندي هناك ” ..
ضحكت.
” هذا غريب صح ؟” سال بن عمي .
“نعم ” قلت وانا اضحك ثم ضحك هو ايضا .. لقد مرت مدة طويلة منذ رايته يضحك ..
بعد هنيهة قال بن عمي ..كما ولو انه يتخلص من حمل ثقيل ” هل بإمكانك ان تلقي نظرة على اذني من اجلي ؟”
” انظر داخل اذنك ؟” قلت مندهشا بشكل ما .
” فقط ما يمكنك رؤيته من الخارج”
“حسنا لكن لما تريدني ان افعل هذا ” ؟
“لا ادري ” خجل ابن عمي قليلا ” اودك فقط ان ترى كيف يبدوان “
“حسنا ” قلت ..”سألقي نظرة “
قريبي جلس مقابل لي مائلا بأذنه اليمنى نحوي ..كان يملك اذنا حسنة التكوين فعلا . كان حجمها لطيفا وصغيرا الان ان شحمة الاذن كانت منتفخة ككعكة مادلين طازجة ، لم انظر من قبل بهذا التمعن في اذن احد ما ..لكن عندما تبدا بالنظر اليها عن قرب ، الاذن البشرية –بنيتها – شيء رائع وساحر فعلا ..مع كل هذه الالتواءات العشوائية التي تكونها .الانخفاضات والارتفاعات .ربما التطور صنع هذا النظام كي يتيح نظاما مثاليا لجمع الاصوات، او لحماية البنية الداخلية ..محاطا بهذا الجدار اللامنتاظر يبدو ثقب الاذن كمدخل كهف سري مظلم .
تخيلت ان صديقة صديقي ، ذباب صغير جدا يتوغل في اذنها . وسيقان الذباب الصغيرة دبقة بحبوب الطلع ، يتوغلون في داخلها المظلم و الدافئ ، ممتصين كل العصير ، واضعين بيضهم الصغير داخل دماغها ، لكنك لا تستطيع رؤيته او حتى سماع صفقان اجنحتها .
“هذا يكفي ” قال قريبي .
ابتعد قليلا واستدار في كرسيه كي اتمكن من رؤية الاذن الاخرى .” اذن ..هل ترى اي شيء جديد ؟ “
” لا شيء مختلف حسب ما يبدو لي ..هناك في الخارج على الاقل “
” اي شيء يمكنك رؤيته او حتى ما الذي تحس به “
” اذنك تبدو لي عادية “
بدا قريبي خائب الامل ..ربما قد تلفظت بشيء خاطئ.
‘هل آلمك العلاج ؟” سالته .
” لا .لم يؤلمني ..انه العلاج المعتاد دوما ..دوما يحومون حول نفس النقطة ..احس احيانا انهم سينزعونها من مكانها ..لذلك احيانا اشعر انها ليست اذني “
“انها الرقم ثمان وعشرون ” قال بن عمي بعد برهة ..ملتفتا الي ” انها حافلتنا ..صح ؟”
كنت شاردا ..و رأيت الحافلة لما اخبرني عنها تتباطأ لتستدير وتخرج من المنحدر ..انها ليس من نوعية الحافلات الجديدة التي ركبناها بل القديمة التي اتذكرها ، رقم 28 كان في اعلى واجهة الحافلة .حاولت ان انهض من الكرسي لكني لم استطع ..كما لو كنت عالقا في تيار قوي ..اطرافي لم تستجب .
كنت افكر في علبة الشوكولا التي اخذناها معنا لما كنا ذاهبين الى المستشفى تلك الظهيرة الصيفية منذ فترة طويلة. الفتاة فتحت بسعادة غطاء العلبة لتجد ان عشرات قطع الشوكولا الصغيرة قد ذابت تماما .كانت قد التصقت بالحواف وبغطاء العلبة نفسه .في طريقنا للمستشفى كنا قد ركنا الموتوسيكل على الجانب الذي يطل على البحر .تسكعنا حول الشاطئ ونحن نتحدث .كل الوقت الذي تركنا فيه علبة الشوكولا تحت شمس اوت الحارقة ، لامبالاتنا وعدم اهتمامنا قضوا على هذه القطع من الشوكولا. صانعة قطعة فوضوية واحدة من الشوكولا ..كان يجب ان نعرف ما الذي حصل .احد منا -ليس من المهم من منا- كان عليه ان يقول شيئا ما ..لكن في تلك الظهيرة لم نشعر باي شيء .
فقط تبادلنا نكات سخيفة وودعنا بعضنا ..ثم غادرنا هذا التل الممتلئ بشجر الصفصاف الاعمى .
قريبي تشبث بذراعي الايمن بقوة .
” هل كل شيء على ما يرام ؟ ” سألني .
كلماته عادت بي للواقع ..فنهضت من على الكرسي ..هذه المرة لم اجد مشكلة في النهوض ..مرة اخرى كنت احس بلمسة نسيم ماي على بشرتي ..لبضع ثوانِ كنت اقف في مكان مظلم وغريب ارى اشياء لا توجد اطلاقا .. وافعال لم تحدث مطلقا ..اخيرا فكرت .. الحافلة رقم 28 توقفت امامي ..الباب الحقيقي للحافلة انفتح امامي ..ارتقيت الحافلة ..ذهبت لمقعد اخر ..ربتت يدي على كتف بن عمي ..
“انا بخير ” قلتُ له .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من اليابانية للانجليزية : فيليب غابرييل
من الانجليزية للعربية : يونس بن عمارة