أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة ٢٩ : حول الترقيات ، تجربة شخصية و ..

عندما غدوت عضو هيئة تدريس في الجامعة لم يكن مضى على تأسيسها خمس سنوات . يعني كانت الجامعة في أول عهدها ، ونظرا لأنها تقع في مدينة محتلة تسعى دولة إسرائيل إلى التخلص من سكانها ، لأنها تريد أرضا بلا شعب ، فقد كانت تتشدد في السماح لكفاءات علمية بالقدوم إلى الأراضي المحتلة ، ولم يكن أبناء هذه الأراضي من حملة الشهادات الجامعية العليا يستقرون فيها في مرحلة ازدهار النفط وانفتاح الأبواب على مصراعيها ، في دول الخليج ، لحملة الشهادات . هذا جعل الضفة الغربية تخلو من حاملي درجتي الماجستير والدكتوراه إلا ما ندر .
في أوضاع كهذه ، كما ذكرت من قبل ، فتحت الجامعة الناشئة أبوابها لحملة هذه الشهادات من فلسطينيي المنافي الذين تسمح لهم السلطات الإسرائيلية بالدخول . وكان قسم من هؤلاء ، وتحديدا من المتخصصين في العلوم الإنسانية ، حصلوا على شهاداتهم بالانتساب من جامعات عربية ، وكان أغلبهم مدرسي مدارس حملوا معهم روح معلم المدرسة لا روح الأستاذ الجامعي ، فهم ، عدا أنهم لم يدرسوا في جامعات ، حصلوا على شهاداتهم عن بعد وهكذا افتقدوا روح التعليم الجامعي وأخلاقياته الخاصة به .
ولأن التدريس الجامعي يتطلب من عضو هيئة التدريس أن يثقف نفسه وأن يكتب أبحاثا حتى يحصل على رتب أعلى ، فقد وجد قسم من هؤلاء أنفسهم مضطرين للكتابة .
كانت سياسة الترقيات في الجامعة تقوم أساسا على كتابة الأبحاث ، فلكي تترقى من رتبة أستاذ مساعد إلى رتبة أستاذ مشارك عليك أن تكتب ثلاثة أبحاث أصيلة ، ولكي تترقى من رتبة أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ دكتور عليك أن تكتب خمسة أبحاث أصيلة ، وقد ترقى كثير من هؤلاء الأساتذة ، لا لأنهم كتبوا أبحاثا أصيلة ونشروها في مجلات علمية محترمة ، وإنما لأن محكمي تلك الأبحاث كانوا ينظرون بعين العطف إلى جامعات الأرض المحتلة والعاملين فيها ، وهذا الرأي خلص إليه الدكتور عبد الستار قاسم في محاضرته بعد أن اطلع على تقارير ترقيات بعض المدرسين ، وهو ما قرأته أنا مرة في تحكيم بحث لي استأت جدا من محكمه لكتابة عبارة أوردها نصها " مراعاة لظروف صاحبه " وكان بإمكانه رفض البحث أصلا ، والبحث عموما بحث أصيل ويمكن أن أجادل المحكم في رأيه .
مما شاع في الجامعة حول الترقيات - وهذا كلام شائعات ولكنه قابل للتصديق - أن صاحب الأبحاث كان يعرف لمن أرسلت أبحاثه ، ما يدفعه للاتصال بالمحكم والتحدث معه ، وهناك من المحكمين من لم يرفض بحثا أرسل إليه من جامعات الأرض المحتلة ، هذا إذا غضضنا النظر عن ضعف بعض المحكمين . أما لماذا أرتأيت أن كلام الشائعات قابل للتصديق ، فلأنني خبرت الأمر شخصيا .
عندما أصبحت برتبة أستاذ دكتور وعهد إلي بتحكيم أبحاث كانت تأتي من خارج فلسطين ، كان بعض زملائي يوصونني خيرا بها ، وكنت أعرف أن أصحاب تلك الأبحاث اتصلوا بزملائي وأخبروهم بإرسال بحث إلى مجلة الجامعة لنشره ، وكان قسم من زملائي أعضاء في هيئة تحرير المجلة ، وغالبا ما اقترحوا اسمي لتحكيم البحث لأنني متخصص في موضوعه .
شخصيا لم أكن بعد تسليم بحثي لنشره أسأل إطلاقا لمن أرسل ، وكذلك فيما يخص الترقية إلى الرتبتين ؛ رتبة أستاذ مشارك ورتبة أستاذ دكتور ، وحين كنت أرقى كان الأساتذة الذين نظروا في ترقيتي يسألونني وأنا في عمان إن حصلت على الترقية ، وبعد أن أجيبهم يخبرونني بأنهم هم من رقوني .
في ترقيتي من رتبة أستاذ مساعد إلى رتبة أستاذ مشارك لعب معي رئيس الجامعة سيميائيا . كنت عرفت من النائب الأكاديمي الدكتور محمد حنون أن الردين إيجابيان ، وأن الأمر يحتاج إلى إقرار فقط ، ثم تراجعت لجنة الترقية وأخبرني الدكتور منذر صلاح أن هناك ردا إيجابيا وآخر سلبي . ولم يقل الحقيقة لأمر في نفسه .
يقولون إن النذالة لا حد لها ، وأعتقد جازما أن كثيرين ممن تعاملت معهم في حياتي وخلطوا الخاص بالعام كانوا أنذالا بكل ما تعنيه كلمة " نذل " . لي أصدقاء أنذال ، ولي أقارب أنذال ، ولي زملاء أنذال ، وكل من خلط الشخصي بالعام والأكاديمي كان نذلا ، ولذلك فإن الأنذال الذين تعاملت معهم يقاربون أعداد وفيات الكورونا في إيطاليا وإسبانيا معا . النذالة لا حد لها .
الطريف أنني عرفت ممن رقاني أو ممن كان على صلة به أن تقرير الترقية كان إيجابيا ، فلماذا لم أرق حتى كتبت بحثين آخرين ؟
قرأت التقرير الذي كتبه الدكتور عبد الرحمن ياغي ، ونص قراره أن أرقى على أن أكتب بحثا آخر ، وأما تقرير الدكتور محمود ابراهيم فقد أبلغني الدكتور حسام التميمي نتيجته . نص التقرير على ترقيتي ولكن الدكتور كتب ، سهوا ، يرقى إلى رتبة أستاذ مساعد لا إلى رتبة أستاذ مشارك ، وقد طلب الدكتور محمود من طالبه في حينه أن يسلم التقرير إلى مكتب ارتباط جامعة النجاح الوطنية في الجبيهة .
في أثناء ذهابه إلى مكتب الارتباط قرأ الكتور حسام التقرير ولاحظ الخطأ الذي وقع فيه أستاذه ولم يعد إليه لينبهه ، فالصيغة كانت حاسمة جازمة " يرقى صاحب الطلب " .
إن كنت شخصيا مستعدا لمسامحة بعض الناس في الإساءة إلي فإنني لن أسامح من أساء إلى غيري ممن لا دخل لهم في الموضوع .
تصوروا أن يلجأ رئيس جامعة إلى محاربة عضو هيئة تدريس بأمور شخصية ، كأن يطلب من قريبته أن ترسل إليه رسالة يظن الرئيس أنها ذات مغزى فلعله يسكته ؟ لقد حدث هذا معي لا في أسوار الجامعة وحسب ، لقد مارس هذا السلوك الدنيء كثر ومنهم أدباء كبار وشعراء صاروا عالميين .
غالبا ما كنت أقرأ قصيدة مظفر النواب " في الحانة القديمة " وأقف أمام أسطرها التي تتحدث عمن باع اليابس والأخضر ، وكيف أن الشاعر سيبول عليه ويسكر .
النذالة إن بدأت فلا حد لها ، وقمة النذالة كانت تتمثل في ربط الأكاديمي بالشخصي .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى