د. أماني العاقل - موقف ما بعد النسوية الغربية من تفكيك الذات في ما بعد الحداثة

تحثّ تيارات ما بعد النسوية الأوربية على التمسك بمفهوم الذات وعدم الانسياق إلى تنظيرات فلسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. وقد يبدو الاتكاء على كتابات المفكر ميشيل فوكو في النظرية النسوية، أمراً غريباً إذ يصعب إقامة علاقة بين تنظيرات فوكو والمسألة النسوية بشكل عام، إلا أنّ فوكو كان ملهماً للتيارات ما بعد النسوية بشكل عام من نقطتين اثنتين:
الأولى تحويل الشأن الفردي إلى شأن سياسي، إذ يرى فوكو أنه لا يوجد سلطة للأفراد على حياتهم، إنما هم خاضعون لممارسات خطابية تحركهم بحسب توجهاتها. ويعتبرُ أن تصوراتنا عن (الجنس) صُنعت بفعل سلسلة من الممارسات الخطابية التي أنتجها رجال الدين والأطباء وعلماء النفس والفنانون والمنظّرون الاجتماعيون الذين نظّروا للأخلاق (1). وقد وجدت ما بعد النسوية في هذا المنظور للعلاقة بين الفرد والسلطة -كما نظّر لها فوكو- فرصة في دعم قضايا النساء من وجهة نظر ما بعد النسوية لتتجاوز مسألة كون النساء مجموعات تتعرض للاضطهاد من قبل مجموعة من الذكور، وتبدأ البحث عن السلطة المسؤولة عن تكوين الخطاب الذكوري. فتوجهت المنظرات ما بعد النسويات نحو اعتبار مشكلات النساء الفردية كالنزاعات حول رعاية الأطفال والأعمال المنزلية، مشكلات هيكلية في بناء المجتمعات وليست مشكلات فردية أسرية، وبالتالي فهي مشكلات سياسية تحتاج لسلطة تمكّنها من خلق نظام للتغيير. (2)
الثانية موقف فوكو من (الذات) إذ يصرّ فوكو على أن حياة الأفراد تابعة لسلطة ما توجّه عليها سياساتهم الحياتية، فلا يوجد ذات مستقلة، وإنما ذوات مؤدلجة في نظام خطابي. (3) ويخلص دارسو خطاب فوكو إلى أنه يؤكد على" أن مختلف التجارب الإنسانية مثل الجنون والجنسانية تصبح كائنات للتحليل المكثف والتدقيق، فقد أعيد تشكيلها خطابياً داخل أطر المرجعيات العقلية والعلميةـ، ضمن خطابات المعرفة الحداثية، وبالتالي أصبحت متاحة للإدارة والسيطرة. فمنذ القرن الثامن عشر كان هناك انفجار خطابي حيث أصبح كل السلوك البشري خاضعاً لإمبريالية الخطاب الحداثي وأنظمة السلطة /المعرفة" (4). تمثّل هذه النقطة التي يطرحها فوكو عن الممارسات السلطوية والخطابية التي هيمنت على حياة الأفراد من خلال المؤسسة الاجتماعية والمعرفية محوراً يستقطب انتباه النسويات ما بعد الحداثيات أو ما بعد النسوية نحو فوكو. فما بعد النسوية تنطلق في جزء من طروحاتها من تفكيك السلطة وفهم ممارسات المؤسسات الاجتماعية ضد النساء عوضاً عن مهاجمة المجتمع الذكوري البطريركي. وتجد أن النساء خضعن لهذه التنميطات والممارسات السلطوية من خلال تحديد أدوارهن في الحياة كما خضع كل الأفراد إلى ممارسات سلطوية أخرى. ولذلك يمكننا اعتبار الكتابة نسوية التي تنطلق من فهم علاقة السلطة وهيمنها على الأفراد كتابة ما بعد النسوية. (5)
إنّ ما يعنينا من توظيف ما بعد النسوية لخطاب فوكو هو أن نوظّفها في قراءة الخطاب النسوي العربي، من أجل فهم آلية التطورات النسوية في العلاقة بين الوعي النسوي العربي والسلطة. أي فهم دور النساء في إطار السلطة والهيمنة، وليس في إطار علاقة المرأة مع المجتمع الذكوري. فهل ثمة خطاب ما بعد نسوي عربي بدأ يتشكل بأسلوب مغاير عن المرحلة النسوية السردية في الألفية الثالثة؟ وهل تتجلى خصائصه السردية في الرواية بأسلوب مختلف عن أساليب الخطاب التي قدمتها المرحلة النسوية قبل عام 2000م. هذا التحدي في البحث يتطلب منا دراسات واعية بعيدة عن هيمنة التنظير الغربي على العالم، فقد ولدت تلك التنظيرات في العقود الأخيرة من القرن الماضي بناءً على تطوراته الاجتماعية والاقتصادية التي تختلف عن تحولاتنا العربية في هذا القرن. كما يتطلب من الباحث أن يعود إلى حقبة الحداثة ويدرس رحلتها الثقافية في متن الهوية العربية وهامشها، في محاولات لإدراك أنماط التمثيلات الثقافية الحداثية العربية في القرن الماضي، وقياس قدرة الفن والأدب العربي على تقديم تمثيلات مغايرة لما مضى، فنحن نستهلك ما بعد الحداثة الغربية من خلال الإنتاج الإعلامي العالمي، والسينما ونشرات الأخبار، ولكن ربما لا زلنا ننتج أشكالاً فنية حداثية!


المراجع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- ينظر: فوكو، ميشيل، تاريخ الجنسانية، إرادة العرفان، تر: محمد هشام، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004، ص30، 31، 32
2)- : ينظر ميلز، سارة، الخطاب، تر: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016، ص90، 91
3)- ينظر: فوكو، ميشيل، نظام الخطاب، تر: محمد سبيلا، دار التنوير،2007 القاهرة، ط2، ص 4، 6، 72
أبو رحمة، أماني، من الحداثة إلى ما بعد النسوية،، دار شهريار، البصرة، 2018، ص 20 4)-
5)- ينظر: ميلز، سارة، الخطاب، ص106




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى