كان جامع العيسوية هو أول مسجد وضع للناس بقريتى، بناه خال أمى الحاج أحمد أبوصقر، كان رجلا تقيا ورعا مشهورا بالصلاح بين الناس والعطف على الأيتام والمساكين. كانت جدتى لأمى الحاجة محبوبة صقر تفخر بأخيها فى كل مناسبة فتحكى لأمى عن خالها قصص صلاحه ونوادر كرمه وطرف إنسانيته الجمة الفياضة، كما لو كانت تحكى عن صحابى جليل،كان كرمه كالريح المرسلة ينفق ولا يخشى الفقر ولا تقلبات السنين والأيام،تبرع بجزء من أرضه الواسعة لبناء المسجد كما ترك من خلف المسجد فسحاية مترامية الأطراف فلتكون جمعية لعمل الخيرات. كان يتم فيها تحفيظ القرآن الكريم، كما كانت تقام فيها سهرات رمضان القرآنية تتلألأ فى جنباتها بروح الملائكة حتى مطلع الفجر،
أتذكر عندما اقترح المربى الكبير الأستاذ محسن منصور رحمه الله أن يقتطع جزءا من أرض الجمعية لتكون مكانا مؤقتا لنواة مدرسة إعدادية بالقرية فهيأ فى المكان فصولا من خشب على نفقة المحسنين فى القرية, كان ذلك فى عام 1988 وقد شرفت بالعمل فيها مدرسا للغة العربية وقد تخرج على يدى منها علماء وشيوخ ودكاترة ومهندسون، كما تخرج منها أيضا صلاح عزازى بطل العالم لثلاث دورات متتالية فى رياضة ( الكيك بكسنج)، الذى تمكن من الفوز بالميدالية الذهبية وزن 90 والفضية في الوزن المفتوح ببطولة العالم " الكيك بوكسينج" المقامة بالبرتغال ، كما حصل على البرونزية فى الوزن المفتوح للدورة "17 وبالميدالية الذهبية لوزن فوق 85، والفضية فى الوزن المفتوح ببطولة العالم " الكيك بوكسينج" بـ مانشستر بانجلترا.
كان صلاح عزازى طالبا خجولا حييا يتمتع بقوة جسدية فطرية تلفت النظر، عضلات فارهة مفتولة،مع سلامة فطرة، وطيبة روح، وشهامة عجيبة، تراه طويلا فارعا مدمجا كأنه قلعة حربية من قلاع صلاح الدن الأيوبى تطاول السماء، كن صلاح يختزن فى قلبه كل جمار نخيل قريتى الأبيض الشهى، وهو من عائلة عزازى الكبيرة التى تتمتع فى قريتنا بصفات راسخة متوارثة كالمروءة وثبات الخلق وعبقرية الحب، وطيبة الروح،ومتانة وفراهة البنية الجسدية.
ظلت جمعية تحفيظ القرآن مقرا للمدرسة الإعدادية بالقرية حتى هيأ الله لقريتى رجلا عظيما من أهل القرآن وهو الشيخ سيد عبد الرحيم ما إن حل الشيخ على قريتنا لييعمل مؤذنا للمسجد وكأن طاقة القدر النورانية قد حلت علينا جميعا، حول الشيخ سيد الجمعية إلى مؤسسة عالمية لتحفيظ القرآن الكريم. كان الشيخ سيد من مدينة غزالة بالخيس مركز الزقازيق تبعد عن قريتنا حوالى عشرة كيلومتر وفد على القرية ليعمل مؤذنا للمسجد من لدن وزارة الأوقاف المصرية، كان يوما مباركا مكللا بالسعد واليمن والخيرات على أهل القرية كلها فقد كان رجلا دينا وقورا متواضعا حييا يحفظ كتاب الله إذا حدثك لا ترتفع عيناه أبدا إلى وجهك، وإذا سلم عليك يمد يديه فى حياء الأطفال تندى جبهته بالخشوع فلا يثني يديه عنك إلا بعد أن تثنى يديك، يد مباركة رقيقة، ووجه حيى، ونظرات خاشعة مسكونة بعبق الملائكة وأسرار القرآن، كان الشيخ سيد حافظا لكتاب الله متقنا لأحكام القراءات وضوابط التلاوات، وكان صاحب صوت شجى عذب يقرأ فتحس كأن أشجان البلابل وأحزان اليمام وأشواق الحمام سكنت جسده ثم تسربت إلى صوته المبحوح المشجون بالحزن والرقة والانسياب الملائكى العطر، تصيخ السمع لصوته فتحس ورود الربيع قد سكبت عطرها كله فى أغصان حنجرته الشجية، بحة محزونة ورهافة شجن وانسياب عطر يوزعه على السامعين.
فى كل مرة نذهب للصلاة فى المسجد نرى الشيخ وقد شمر عن ملابسه لتنظيف المسجد، شمر عن جلبابه كله فلم منه على جسده سوى فضلة من شال فضى رقيق يستر به نفسه، يغسل الشيخ المسجد كله شبرا شبرا كأنه ابنه الحبيب، ثم يشعل الكولوب حتى تتوهج (الرتينة) فى قلبه توهج التسابيح فى قلب مؤمن متبتل، يطلق الشيخ بعض البخور فى سماء المسجد فتتندى جوانبه بروح علوية رضية، يدخل المصلون واحدا بعد واحد حتى يمتلىء المسجد عن بكرة أبيه، يقيم الشيخ الصلاة ثم يؤم المصلين، ما إن يؤم الشيخ الناس حتى ينسكب صوته بالشجن كشلالات روح هاطلة من قيعان الجنان تنزلت دفاقة شهية تسرى فى القلوب والصدور، صوت مقدود من رهف وشوق وخشوع وضراعة، تتوافد جموع المصلين على صوته الشهى الجميل كأنهم توافدوا على حرم مقدس، جماعات ووحدانا ووحدانا كما حومت طيور عطشانة على نبع عذب شهى، تمنى أهل قريتى علي الشيخ أن يحفظ أولادهم كتاب الله، والله لا يضيع أجر المحسنين وافق الرجل على الفور كأنه كان يعتزم فى روحه من قبل أن ينثر عناقيد النور فى قريتى فجهز سريعا الباحة الخلفية للمسجد لهذا الغرض الروحى النبيل.
فى اليوم الأول من صول الشيخ سيد عبد الرحيم إلى قريتنا احتفت به أمى احتفاء عظيما على عادتها فى إجلال أهل القرآن ثم دعته إلى مأدبة الغداء فى دارنا فلبى الشيخ الدعوة على الفور، أكلنا وشربنا وحمدنا ربنا الكريم ثم قمنا للصلاة فأمنا الشيخ سيد بصوته الشجى الصافى، بعد أن انتهى استقبل الشيخ القبلة فتلى ماتيسر له من أى الذكر الحكيم فقرأ سورة الرحمن وهى السورة التى كانت أمى تحبها حبا جارفا فهى عروس القرآن، كانت سلواها فى أحزانها وبهجة الروح إذ تتفتح أكمامها بالأمل صوب أبواب السماء،كانت أمى تعيش مع سور القرآن حياة خاصة فريدة، كانت كل سورة تمثل لها سيرة ذاتية روحية خاصة فى حياتها العاصفة، كم سمعت أمى تسمى كل سورة باسم خاص غير اسمها الموجود فى كتاب الله وكأن القرآن قد تنزل على روحها الآن، كانت أمى تقول القرآن لم ينزل مرة واحدة ثم أغلق باب تنزيله بل هو كائن حى يتنزل كل يوم من جديد على أرواح المؤمنين، لكل روح قرآنها تتلوه وتتمثله وتتنفسه وتتشربه حسب أشواقها وأحزانها وبلواها، كما كل روح بصمة ربانية لا تتكرر، كذلك لكل روح بصمة قرآنية لاتتكرر، كانت أمى كلما قرأت سورة الرحمن يسرى فى صوتها شلال دموع وأشواق وشجن مكتوم، كل شيخ كان يزور بيتنا كانت تتمنى عليه أمى أن يقرأ سورة الرحمن، كانت أمى تذوق السورة كلها حرفا حرفا وصوتا صوتا ومعنى معنى، سارحة خاشعة فى الأحاسيس والأذواق والظلال والألوان، حتى عندما كتبت وصيتها التى وجدناها مخطوطة بخطها الثلث الروحانى ثم دستها فى دولابها قبل وفاتها بثلاثة أشهر أوصتنا فيها جميعا أن نقرأ على روحها الطهور سورة الرحمن والواقعة.
قرأ الشيخ سيد سورة الرحمن حسب طلب أمى،فسكن بيتنا عطر روحى رفاف لم نذقه من قبل، أنهى الشيخ ترتيله، وترك عطره محوما فى الآفاق والقلوب والصدور ثم ذهب للمسجد كى يتجهز لصلاة العشاء، بعد أن انتهينا من الصلاة شكوت للشيخ سيد تقصير بعض عمال المسجد فى خدمته إذ يجلسون على باب المسجد يثرثرون كثيرا دون جدوى، ابتسم لى الرجل ابتسامة خفيفة دون أن ينبس ببنت كلمة، وكأنه كان يقول لى إن السلام مع جميع البشر خير. طلب منى الشيخ أن أظل معه بعض الوقت لأن المهندس سيد بفة سوف يأتى يسلم عليه الآن. انتظرنا خمس دقائق حتى جاء المهندس سيد بفة إلى المسجد ليستقبل الشيخ سيد المؤذن الجديد للمسجد، كان المهندس سيد بفة جارنا شاب فارع الطول وسيما حييا، ترى فى عينيه نجمة الطموح تسطع، كان فى العام الثانى من كلية الهندسة، جاء لتوه من فرنسا التى كان يسافر إليها كل صيف للعمل مثلما كان يفعل كثير من الطلال فى هذا الزمان، كانوا يسافرون فى اجازة الصيف للعمل فى أروبا بغية توفير مصاريفهم الجامعية وعلى الرغم من ممتلكات الطلاب الكثيرة التى كانوا يرثونها عن آبائهم غير انهم كانوا عصاميين يحبون العمل وكانوا يرون شرف العصاميين صنع نفوسهم.
حضر المهندس سيد ومعه جهاز تسجيل غريب أتى به من فرنسا بعد رجوعه منها فى أجازة الصيف، كانت المرة الأولى فى حياتى التى أشاهد فيها هذا الجهز الغريب كان شكل الجهاز عجيبا كان أشبه بصندوق العجايب فى قصص ألف ليلة وليلة، ذكرنى ببساط الريح وقصص المستحيل التى جعلت الحديد ينطق، ثم يطوى الأمكنة والأزمنة راجعا تارة إلى الماضى وأخرى مسافرا إلى المستقبل، صندوق أسود مستطيل لامع له مؤشر أبيض مرهف على جبهته التى تشبه جبهة الراديو فيليبس الذى اشترته أمى لنا منذ خمس سنوات، كان مؤشر التسجيل منقوطا بنقط حمراء فى وسطه ، إذا حركه المستخدم يطوف سريعا يمنة ويسرة على وجه مساحة بيضاء مستطيلة على وجه الجهاز، الجهاز له ميكرفون صغير يمسكه بيده من يريد التسجيل، جلس المهندس سيد بفة بقامته الفارعة ووجهه المورد الجميل، ثم نادى على الشيخ سيد قائلا له اليوم سأشرف بتسجيل صوتك على هذا الجهاز تعجب الشيخ سيد ولم يصدق برقت عيناه الخاشعتان فأضاءتا كالبرق الخاطف ثم كتم دهشته الجامحة فى صدره فبانت على وجهه المشرق الوضىء بقايا نور قديم، جلس الشيخ سيد فى الحجرة المخصصة له الواقعة بجوار باب المسجد وجلس بجواره المهندس سيد وأنا والشيح حسن خلاف، أمسك الشيخ بالمايك ثم بدأت يقرأ فسالت من صوته خلايا عسل ربانى شهى كان ممزوجا بالشجن ورائحة الحزن القديم، ظل الشيخ يسقينا العسل الربانى الصافى نصف ساعة حتى تضلعنا بماء السماء، ختم الشيخ تلاوته، ثم أمسك المهندس سيد بفة بالجهاز فأرجع الشريط للخلف تارة أخرى كان الشريط يكركر راجعا مثل صوت رفرفة أجنحة الحمام، كلما كركر صوت الشريط راجعا للوراء كركرت قلوبنا بالشوق واللهفة والدهشة: هل يعود الماضى الجميل مرة أخرى فنظن أننا قادرون عليه فليس يعجزنا شىء؟ هل نستطيع أن نحيا مرة أخرى بذكرانا فلا نموت أبدا؟ هل أصواتنا التى خلفناها بعد موتنا تسكن أجواز الفضا فلا تموت أبدا؟
أسمعنا المهندس سيد مرة أخرى صوت الشيخ سيد من البداية حتى النهاية، كنا جلوس كأن على رؤوسنا الطير، جلس الشيخ سيد منذهلا يصيخ السمع لصوته الذى تبخر فى الهواء حتى تلاشى ثم تجمع رويدا رويدا من جديد بللورات ذهبية مشعة كأنها عرق الروح إذ يتجمد فى الجسد، حدق الشيخ تكسو وجهه فرحة الأطفال المندهشين إذ يروا فجرا جديدا مفوفا ببياض الكون للمرة الأولى فى حياتهم، كانت المرة الأولى التى يسمع فيها الشيخ صوته على جهاز التسجيل، المرة الأولى التى يستعيد فيها نفسه التى تولت عنه منذ قليل، المرة الأولى التى يرى صوته صوتين وجسده جسدين وروحه روحين.
كنت أسترق النظر إلى وجه الشيخ وهو يتقلب فى خفاء الصمت، أتعجب من روابيع الفرح التى أنبتت فى وجنتيه ورد الدهشة، تهطل على وجهه المبلول بالاستغراب علامات الرضا، نصف ساعة كاملة من الشجى والعذوبة والغرابة والفرح الربانى الغامر، ما إن انتهى صوت التسجيل من التلاوة حتى حان وقت صلاة العشاء، قام الشيخ سيد فرفع الأذان ثم أمنا فى الصلاة. ولم يعد حال الشيخ بعد أن سمع صوته فى التسجيل كحاله قبل التسجيل.
عندما أحبت القرية الشيخ سيد كان كل بيت يدعوه يوما لمأدبة غداء أو مأدبة عشاء، والحق يقال كان الرجل عفيفا زاهدا وقورا، يتعفف عند كل مناسبة إلا أن تلح عليه بالطلب فيستحى ألا يجيبك، ولكن الله يلقى محبته على من يشاء من عباده، توافد كل أطفال القرية على كتاب الشيخ سيد يشربون من رحيق نهر القرآن العظيم.
كان محمد أبو كامل السيد رباح على ما أتذكر أول من حفظ القرآن فى البلدة على يد الشيخ سيد، ثم جاء من بعده بوقت قليل حفظة آخرون مثل: محمد النجار ومحمد أبو حسين،ومصطفى النجار، وعادل علوان، وتيسير نجم، ثم انتصبت سكة الحجيج إلى كتاب الله فى سماء قريتى حتى تجلت خيوط النور تمشى من قبة عرش الرحمن حتى آخر بيت من بيوت قريتى، لقد بلغ عدد الحفظة فى قريتنا قرابة مئتى حافظ لكتاب الله، أسماؤهم معروفة محصورة بل وصل تجلي النور فى بعض البيوت إلى أن اتسع البيت الواحد المكون من خمسة أفراد أن يحمل أربعة منهم كتاب الله فى صدورهم، حتى إذا مشى الغريب فى قريتى يتعجب إذ يشتم عطورا فى كل مكان دون أن يرى شجرة ورد واحدة،على الأغلب كانت العطور تنفح من القلوب والأرواح والبيوت ومن هذه البيوت على سبيل المثال لا الحصر: بيت الحاج أبوبكر صيام ابن خالتى، وبيت صاحب الصوت القرآنى الملائكى سعيد محمد الشافعى بطنين، ومحمد مصطفى النجار، ومحفوظ سعيد أبو وهدان، وأشرف عجور، إذا أردت أن أحصى خيوط النور الوهاجة المتدلية من عرش الرحمن على بيوت قريتى تسكب اللؤلؤ والمرجان والعبقرى الحسان سأجد فى عائلة بيت الحاجة وحدها ثلاثة وعشرين خيطا من أنوار الحفظة الكرام البررة وعلى بيوت عائلة المناصرة ثلاثة وعشرون خيطا،وعلى بيوت عائلة صيام ثلاثة وعشرون خيطا، وعلى بيوت عائلة وهدان ستة عشر خيطا، وبيوت عسكر أربعة عشر خيطا، وباقى العائلات المتفرعة من هذه شجررة النور الضخمة خمسون خيطا من نور عرش الرحمن، فتكون جملة خيوط النور الوهاجة المتدلية من عرش الله على بيوت قرية الكفر القديم مئة وخمسون خيطا من اللؤلؤ والمرجان والسندس والاستبرق والعبقرى الحسان، فإذا رأيت ثم رأيت: رأيت نورا وملكا كبيرا. إنها قرية النور.
لا أنسى فى حياتى هذا المشهد العظيم، يوم أن ختم الرعيل الأولى حفظ القرآن كان يوما عبقريا مشهودا من أيام قريتنا فمن وقتها وكأن خازن الجنة وسيد ملائكتها سيدنا رضوان نزل من السماء إلى قريتنا ليفتح مجرى عطور الجنة دفاقة رقراقة من جنان السماء على أرجاء قريتى كلها حتى عطرتها بمسك الروح ورائحة الرضوان من أقصاها إلى أقصاها، استقر العطر الشهى فى قلب وجسد قريتى، ظل مستكنا مذخورا ينفح فى القلوب والصدور والطرقات والسكك،فما يوجد بيت فى قريتى إلا وعطر القرآن يتماوج فى عروقه فى أشجاره فى سقفه فى جنباته.حتى طارت شهرة قريتنا بأنها قرية الحفظة لكتاب الله بين كفور العايد قاطبة.
فى أوائل التسعينيات كنت فى إحدى أجازاتى الصيفية من عملى بالجامعة بالمملكة العربية السعودية قررت أن أزور قريتى القديمة، تركت سيارتى بجوار صديقة طفولتى الشهية شجرة التوت العملاقة التى صادقتها غصنا غصنا،وتنفستها ورقة ورقة، وعجنت توتها الوردى الشهى بأحلامى الطفولية الغريرة،قلت فى نفسى أمشى على قدمى إجلالا لأيامى الخوالى، واشتياقا لأن أشتم الطرقات الترابية المبللة بعطر الروح، الطرقات والسكك التى مشينا عليها بأرواحنا وأفراحنا وأحزاننا وأشواقنا القديمة، فى كل ركن شهقة،وبكل زاوية سرور، بين قدمى وأقدام طرقات قريتى تاريخ من الأسرار والأحلام والشجن العزيز،جلست بجوار المسجد القديم مسجد العيسوية أمد بصرى وبصيرتى للأفق البعيد بجوار بيت خالى الحاج فتح الله صقر الداعية بالأزهر الشريف، لم أرى نخلات البلح العامرى تتدلى بعراجينها المقوسة يثقلها حلاوة البلح، سقطت النخلة وبنوا مكانها محلا لبيع الملابس الجاهزة، أما فسحاية المسجد الخلفية التى كنا نحفظ فيها القرآن مع الشيخ سيد فقد باعها الحاج عوض الله لرجل غريب عن القرية اشترها وبنى عليها دكانا يبيع فيه السجائر والأدوات البلاستيكية والملابس المستوردة.
أحدق فى أسى فى الفراغ المحيط، أبحث عن طرقات خضراء قديمة،أو حتى أشتم رائحة السكون الفخم الصافى الذى كان يحيط بجامع العيسوية فى صمت الظهيرة أو بدايات غبشة الغروب ننتظر أذان المغرب فى شهر رمضان المعظم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، تعبت من السير على قدمى الموجعتين كأننى كنت أمشى على جمر ظهيرة لافحة حارقة، قلت أستريح قليلا بجوار السور القديم للمسجد علنى أشتم رائحة السلام الفضى الذى كان ينام على الأرض والسماء والدور والأزقة، فجأة أذن المغرب وخش الظلام فمد خيمته المعتمة تبلع الدور والطرقات والمدى، أحسست بالكرب والألم،دخلت المسجد لأصلى المغرب، سألت عن أصحابى القدامى الذين كانوا لا ينقطعون عن الصلاة، قالوا: بعضهم سافر للخارج، تزوج ولم يعد،وبعضهم مات من سنين، وبعضهم يجلس وحيدا فى نهاية القرية بعد أن تزوج أولاده وماتت زوجته، لكنى وجدت فى المسجد شيخا أزهريا، كان شكله مقززا لى كان يلبس بنطالا وقميصا فضفاضا أقام الشيخ الصلاة فامتعضت فى نفسى من شكله الغريب الذى يفتقد هيبة الدين وجلال المسجد القديم، تقدم ليؤمنا فى الصلاة، ثم قرأ فى الركعة الأولى الآية رقم 162 من سورة الأعراف ( فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون).
انتهيت من صلاتى، وجلست أحدق فى أبواب المسجد الخاشعة وأعمدته المتهالكة وزخرفاته القديمة المشعة،كان معظمها قد شحب وبهت، تمدد على الأعمدة عنكبوت غامض لم يره أحد سواى، الغريب أنهم كانوا قد أغلقوا الباب الأيمن للمسجد الذى كنا ندخل منه للصلاة قديما مع الشيخ سيد وبدلوه بباب خلفى قصير مدبب، اقتربت من الإمام فسألته من أى البلاد أنت؟ قال من قرية النخيلة بأسيوط، ثم استدار نحوى وسألنى: ومن أنت؟
ـــ قلت له والحزن يحرق روحى أنا غريب جئت من بلد بعيد أسأل هنا عن صديق قديم كان قد اقترض منى مبلغا ولم يرده لى، أخلف ميعاد سداد دينه فقلت اسأل عنه،بحثت عنه كثيرا فلم أجده، فلما بلغ منى التعب، ودخل على الظلام قلت فى نفسى أرح نفسى بالصلاة حتى لا تفوتنى قبل سفرى البعيد.
صمت قليلا ثم قال لى صدقت المغرب غريب.
سألته:هل تعرف الشيخ سيد عبد الرحيم المؤذن القديم للمسجد.
رد على الفور: بلى ثم أردف يسأل وهل تعرفه؟
قلت نعم كان أستاذى كم أكلنا وظمئنا وشربنا هنا ذات شوق قديم، ثم باعدت بينى وبينه السنون.
قال لى (تعيش أنت) لقد مات الشيخ الجليل منذ سنين طويلة.
عندما ودعناه اصطف أهل القرية جميعهم كأنهم نفرة الحجيج فى يوم طواف الوداع بمكة المكرمة، طابور طويل من أحباب الشيخ وطلابه ومريديه، امتد خيط طابور الوداع الحزين من حواف قرية الكفر القديم حتى نهايات قرية الشيخ ( غزالة الخيس) بمحافظة الشرقية، سار خلف الشيخ حفظة تلامذته وأحبابه بل كل أهل القرية الطيبين، لم يسر خلفه وزير ولا أمير، فقط التراب والنور والطيور والفقراء وحفظة كتاب الله، الطيبون ملح الأرض، كان المودعون الحزانى يتناوبون على حمل نعش الشيخ الجليل رجلا بعد رجل، يحملون النعش سكتا وبكيا يزوفون بحفيف خفى مكتوم كأنهم يتناوبون فى أعماق نفوسهم على دفن بعضهم بعضا فى طريق الفناء الطويل، يودعون دون صوت، ويموتون دون صوت، وينتحبون دون دمع، وكأنهم يرددين بيت الشعر:
يدفن بعضنا بعضا وتمشى أواخرنا على هام الأوالى
كانوا يسيرون ولا يسيرون، يمشون جماعات ملتبسين محيرين يلتج بعضهم فى بعض ينقبضون ثم ينبسطون كأنهم قلب يشهق فى همس خفى مكتوم، كان يسير معهم فى تشييع جنازة الشيخ الطير والشجر والحجر وتراب القرية، بينما كانت تردد السماء على الجانب الغربى من مئذنة المسجد الدامعة:
اثنان لو بكت الدماء عليهما = عيناى حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما = فقد الشباب وفرقة الأحباب
أتذكر عندما اقترح المربى الكبير الأستاذ محسن منصور رحمه الله أن يقتطع جزءا من أرض الجمعية لتكون مكانا مؤقتا لنواة مدرسة إعدادية بالقرية فهيأ فى المكان فصولا من خشب على نفقة المحسنين فى القرية, كان ذلك فى عام 1988 وقد شرفت بالعمل فيها مدرسا للغة العربية وقد تخرج على يدى منها علماء وشيوخ ودكاترة ومهندسون، كما تخرج منها أيضا صلاح عزازى بطل العالم لثلاث دورات متتالية فى رياضة ( الكيك بكسنج)، الذى تمكن من الفوز بالميدالية الذهبية وزن 90 والفضية في الوزن المفتوح ببطولة العالم " الكيك بوكسينج" المقامة بالبرتغال ، كما حصل على البرونزية فى الوزن المفتوح للدورة "17 وبالميدالية الذهبية لوزن فوق 85، والفضية فى الوزن المفتوح ببطولة العالم " الكيك بوكسينج" بـ مانشستر بانجلترا.
كان صلاح عزازى طالبا خجولا حييا يتمتع بقوة جسدية فطرية تلفت النظر، عضلات فارهة مفتولة،مع سلامة فطرة، وطيبة روح، وشهامة عجيبة، تراه طويلا فارعا مدمجا كأنه قلعة حربية من قلاع صلاح الدن الأيوبى تطاول السماء، كن صلاح يختزن فى قلبه كل جمار نخيل قريتى الأبيض الشهى، وهو من عائلة عزازى الكبيرة التى تتمتع فى قريتنا بصفات راسخة متوارثة كالمروءة وثبات الخلق وعبقرية الحب، وطيبة الروح،ومتانة وفراهة البنية الجسدية.
ظلت جمعية تحفيظ القرآن مقرا للمدرسة الإعدادية بالقرية حتى هيأ الله لقريتى رجلا عظيما من أهل القرآن وهو الشيخ سيد عبد الرحيم ما إن حل الشيخ على قريتنا لييعمل مؤذنا للمسجد وكأن طاقة القدر النورانية قد حلت علينا جميعا، حول الشيخ سيد الجمعية إلى مؤسسة عالمية لتحفيظ القرآن الكريم. كان الشيخ سيد من مدينة غزالة بالخيس مركز الزقازيق تبعد عن قريتنا حوالى عشرة كيلومتر وفد على القرية ليعمل مؤذنا للمسجد من لدن وزارة الأوقاف المصرية، كان يوما مباركا مكللا بالسعد واليمن والخيرات على أهل القرية كلها فقد كان رجلا دينا وقورا متواضعا حييا يحفظ كتاب الله إذا حدثك لا ترتفع عيناه أبدا إلى وجهك، وإذا سلم عليك يمد يديه فى حياء الأطفال تندى جبهته بالخشوع فلا يثني يديه عنك إلا بعد أن تثنى يديك، يد مباركة رقيقة، ووجه حيى، ونظرات خاشعة مسكونة بعبق الملائكة وأسرار القرآن، كان الشيخ سيد حافظا لكتاب الله متقنا لأحكام القراءات وضوابط التلاوات، وكان صاحب صوت شجى عذب يقرأ فتحس كأن أشجان البلابل وأحزان اليمام وأشواق الحمام سكنت جسده ثم تسربت إلى صوته المبحوح المشجون بالحزن والرقة والانسياب الملائكى العطر، تصيخ السمع لصوته فتحس ورود الربيع قد سكبت عطرها كله فى أغصان حنجرته الشجية، بحة محزونة ورهافة شجن وانسياب عطر يوزعه على السامعين.
فى كل مرة نذهب للصلاة فى المسجد نرى الشيخ وقد شمر عن ملابسه لتنظيف المسجد، شمر عن جلبابه كله فلم منه على جسده سوى فضلة من شال فضى رقيق يستر به نفسه، يغسل الشيخ المسجد كله شبرا شبرا كأنه ابنه الحبيب، ثم يشعل الكولوب حتى تتوهج (الرتينة) فى قلبه توهج التسابيح فى قلب مؤمن متبتل، يطلق الشيخ بعض البخور فى سماء المسجد فتتندى جوانبه بروح علوية رضية، يدخل المصلون واحدا بعد واحد حتى يمتلىء المسجد عن بكرة أبيه، يقيم الشيخ الصلاة ثم يؤم المصلين، ما إن يؤم الشيخ الناس حتى ينسكب صوته بالشجن كشلالات روح هاطلة من قيعان الجنان تنزلت دفاقة شهية تسرى فى القلوب والصدور، صوت مقدود من رهف وشوق وخشوع وضراعة، تتوافد جموع المصلين على صوته الشهى الجميل كأنهم توافدوا على حرم مقدس، جماعات ووحدانا ووحدانا كما حومت طيور عطشانة على نبع عذب شهى، تمنى أهل قريتى علي الشيخ أن يحفظ أولادهم كتاب الله، والله لا يضيع أجر المحسنين وافق الرجل على الفور كأنه كان يعتزم فى روحه من قبل أن ينثر عناقيد النور فى قريتى فجهز سريعا الباحة الخلفية للمسجد لهذا الغرض الروحى النبيل.
فى اليوم الأول من صول الشيخ سيد عبد الرحيم إلى قريتنا احتفت به أمى احتفاء عظيما على عادتها فى إجلال أهل القرآن ثم دعته إلى مأدبة الغداء فى دارنا فلبى الشيخ الدعوة على الفور، أكلنا وشربنا وحمدنا ربنا الكريم ثم قمنا للصلاة فأمنا الشيخ سيد بصوته الشجى الصافى، بعد أن انتهى استقبل الشيخ القبلة فتلى ماتيسر له من أى الذكر الحكيم فقرأ سورة الرحمن وهى السورة التى كانت أمى تحبها حبا جارفا فهى عروس القرآن، كانت سلواها فى أحزانها وبهجة الروح إذ تتفتح أكمامها بالأمل صوب أبواب السماء،كانت أمى تعيش مع سور القرآن حياة خاصة فريدة، كانت كل سورة تمثل لها سيرة ذاتية روحية خاصة فى حياتها العاصفة، كم سمعت أمى تسمى كل سورة باسم خاص غير اسمها الموجود فى كتاب الله وكأن القرآن قد تنزل على روحها الآن، كانت أمى تقول القرآن لم ينزل مرة واحدة ثم أغلق باب تنزيله بل هو كائن حى يتنزل كل يوم من جديد على أرواح المؤمنين، لكل روح قرآنها تتلوه وتتمثله وتتنفسه وتتشربه حسب أشواقها وأحزانها وبلواها، كما كل روح بصمة ربانية لا تتكرر، كذلك لكل روح بصمة قرآنية لاتتكرر، كانت أمى كلما قرأت سورة الرحمن يسرى فى صوتها شلال دموع وأشواق وشجن مكتوم، كل شيخ كان يزور بيتنا كانت تتمنى عليه أمى أن يقرأ سورة الرحمن، كانت أمى تذوق السورة كلها حرفا حرفا وصوتا صوتا ومعنى معنى، سارحة خاشعة فى الأحاسيس والأذواق والظلال والألوان، حتى عندما كتبت وصيتها التى وجدناها مخطوطة بخطها الثلث الروحانى ثم دستها فى دولابها قبل وفاتها بثلاثة أشهر أوصتنا فيها جميعا أن نقرأ على روحها الطهور سورة الرحمن والواقعة.
قرأ الشيخ سيد سورة الرحمن حسب طلب أمى،فسكن بيتنا عطر روحى رفاف لم نذقه من قبل، أنهى الشيخ ترتيله، وترك عطره محوما فى الآفاق والقلوب والصدور ثم ذهب للمسجد كى يتجهز لصلاة العشاء، بعد أن انتهينا من الصلاة شكوت للشيخ سيد تقصير بعض عمال المسجد فى خدمته إذ يجلسون على باب المسجد يثرثرون كثيرا دون جدوى، ابتسم لى الرجل ابتسامة خفيفة دون أن ينبس ببنت كلمة، وكأنه كان يقول لى إن السلام مع جميع البشر خير. طلب منى الشيخ أن أظل معه بعض الوقت لأن المهندس سيد بفة سوف يأتى يسلم عليه الآن. انتظرنا خمس دقائق حتى جاء المهندس سيد بفة إلى المسجد ليستقبل الشيخ سيد المؤذن الجديد للمسجد، كان المهندس سيد بفة جارنا شاب فارع الطول وسيما حييا، ترى فى عينيه نجمة الطموح تسطع، كان فى العام الثانى من كلية الهندسة، جاء لتوه من فرنسا التى كان يسافر إليها كل صيف للعمل مثلما كان يفعل كثير من الطلال فى هذا الزمان، كانوا يسافرون فى اجازة الصيف للعمل فى أروبا بغية توفير مصاريفهم الجامعية وعلى الرغم من ممتلكات الطلاب الكثيرة التى كانوا يرثونها عن آبائهم غير انهم كانوا عصاميين يحبون العمل وكانوا يرون شرف العصاميين صنع نفوسهم.
حضر المهندس سيد ومعه جهاز تسجيل غريب أتى به من فرنسا بعد رجوعه منها فى أجازة الصيف، كانت المرة الأولى فى حياتى التى أشاهد فيها هذا الجهز الغريب كان شكل الجهاز عجيبا كان أشبه بصندوق العجايب فى قصص ألف ليلة وليلة، ذكرنى ببساط الريح وقصص المستحيل التى جعلت الحديد ينطق، ثم يطوى الأمكنة والأزمنة راجعا تارة إلى الماضى وأخرى مسافرا إلى المستقبل، صندوق أسود مستطيل لامع له مؤشر أبيض مرهف على جبهته التى تشبه جبهة الراديو فيليبس الذى اشترته أمى لنا منذ خمس سنوات، كان مؤشر التسجيل منقوطا بنقط حمراء فى وسطه ، إذا حركه المستخدم يطوف سريعا يمنة ويسرة على وجه مساحة بيضاء مستطيلة على وجه الجهاز، الجهاز له ميكرفون صغير يمسكه بيده من يريد التسجيل، جلس المهندس سيد بفة بقامته الفارعة ووجهه المورد الجميل، ثم نادى على الشيخ سيد قائلا له اليوم سأشرف بتسجيل صوتك على هذا الجهاز تعجب الشيخ سيد ولم يصدق برقت عيناه الخاشعتان فأضاءتا كالبرق الخاطف ثم كتم دهشته الجامحة فى صدره فبانت على وجهه المشرق الوضىء بقايا نور قديم، جلس الشيخ سيد فى الحجرة المخصصة له الواقعة بجوار باب المسجد وجلس بجواره المهندس سيد وأنا والشيح حسن خلاف، أمسك الشيخ بالمايك ثم بدأت يقرأ فسالت من صوته خلايا عسل ربانى شهى كان ممزوجا بالشجن ورائحة الحزن القديم، ظل الشيخ يسقينا العسل الربانى الصافى نصف ساعة حتى تضلعنا بماء السماء، ختم الشيخ تلاوته، ثم أمسك المهندس سيد بفة بالجهاز فأرجع الشريط للخلف تارة أخرى كان الشريط يكركر راجعا مثل صوت رفرفة أجنحة الحمام، كلما كركر صوت الشريط راجعا للوراء كركرت قلوبنا بالشوق واللهفة والدهشة: هل يعود الماضى الجميل مرة أخرى فنظن أننا قادرون عليه فليس يعجزنا شىء؟ هل نستطيع أن نحيا مرة أخرى بذكرانا فلا نموت أبدا؟ هل أصواتنا التى خلفناها بعد موتنا تسكن أجواز الفضا فلا تموت أبدا؟
أسمعنا المهندس سيد مرة أخرى صوت الشيخ سيد من البداية حتى النهاية، كنا جلوس كأن على رؤوسنا الطير، جلس الشيخ سيد منذهلا يصيخ السمع لصوته الذى تبخر فى الهواء حتى تلاشى ثم تجمع رويدا رويدا من جديد بللورات ذهبية مشعة كأنها عرق الروح إذ يتجمد فى الجسد، حدق الشيخ تكسو وجهه فرحة الأطفال المندهشين إذ يروا فجرا جديدا مفوفا ببياض الكون للمرة الأولى فى حياتهم، كانت المرة الأولى التى يسمع فيها الشيخ صوته على جهاز التسجيل، المرة الأولى التى يستعيد فيها نفسه التى تولت عنه منذ قليل، المرة الأولى التى يرى صوته صوتين وجسده جسدين وروحه روحين.
كنت أسترق النظر إلى وجه الشيخ وهو يتقلب فى خفاء الصمت، أتعجب من روابيع الفرح التى أنبتت فى وجنتيه ورد الدهشة، تهطل على وجهه المبلول بالاستغراب علامات الرضا، نصف ساعة كاملة من الشجى والعذوبة والغرابة والفرح الربانى الغامر، ما إن انتهى صوت التسجيل من التلاوة حتى حان وقت صلاة العشاء، قام الشيخ سيد فرفع الأذان ثم أمنا فى الصلاة. ولم يعد حال الشيخ بعد أن سمع صوته فى التسجيل كحاله قبل التسجيل.
عندما أحبت القرية الشيخ سيد كان كل بيت يدعوه يوما لمأدبة غداء أو مأدبة عشاء، والحق يقال كان الرجل عفيفا زاهدا وقورا، يتعفف عند كل مناسبة إلا أن تلح عليه بالطلب فيستحى ألا يجيبك، ولكن الله يلقى محبته على من يشاء من عباده، توافد كل أطفال القرية على كتاب الشيخ سيد يشربون من رحيق نهر القرآن العظيم.
كان محمد أبو كامل السيد رباح على ما أتذكر أول من حفظ القرآن فى البلدة على يد الشيخ سيد، ثم جاء من بعده بوقت قليل حفظة آخرون مثل: محمد النجار ومحمد أبو حسين،ومصطفى النجار، وعادل علوان، وتيسير نجم، ثم انتصبت سكة الحجيج إلى كتاب الله فى سماء قريتى حتى تجلت خيوط النور تمشى من قبة عرش الرحمن حتى آخر بيت من بيوت قريتى، لقد بلغ عدد الحفظة فى قريتنا قرابة مئتى حافظ لكتاب الله، أسماؤهم معروفة محصورة بل وصل تجلي النور فى بعض البيوت إلى أن اتسع البيت الواحد المكون من خمسة أفراد أن يحمل أربعة منهم كتاب الله فى صدورهم، حتى إذا مشى الغريب فى قريتى يتعجب إذ يشتم عطورا فى كل مكان دون أن يرى شجرة ورد واحدة،على الأغلب كانت العطور تنفح من القلوب والأرواح والبيوت ومن هذه البيوت على سبيل المثال لا الحصر: بيت الحاج أبوبكر صيام ابن خالتى، وبيت صاحب الصوت القرآنى الملائكى سعيد محمد الشافعى بطنين، ومحمد مصطفى النجار، ومحفوظ سعيد أبو وهدان، وأشرف عجور، إذا أردت أن أحصى خيوط النور الوهاجة المتدلية من عرش الرحمن على بيوت قريتى تسكب اللؤلؤ والمرجان والعبقرى الحسان سأجد فى عائلة بيت الحاجة وحدها ثلاثة وعشرين خيطا من أنوار الحفظة الكرام البررة وعلى بيوت عائلة المناصرة ثلاثة وعشرون خيطا،وعلى بيوت عائلة صيام ثلاثة وعشرون خيطا، وعلى بيوت عائلة وهدان ستة عشر خيطا، وبيوت عسكر أربعة عشر خيطا، وباقى العائلات المتفرعة من هذه شجررة النور الضخمة خمسون خيطا من نور عرش الرحمن، فتكون جملة خيوط النور الوهاجة المتدلية من عرش الله على بيوت قرية الكفر القديم مئة وخمسون خيطا من اللؤلؤ والمرجان والسندس والاستبرق والعبقرى الحسان، فإذا رأيت ثم رأيت: رأيت نورا وملكا كبيرا. إنها قرية النور.
لا أنسى فى حياتى هذا المشهد العظيم، يوم أن ختم الرعيل الأولى حفظ القرآن كان يوما عبقريا مشهودا من أيام قريتنا فمن وقتها وكأن خازن الجنة وسيد ملائكتها سيدنا رضوان نزل من السماء إلى قريتنا ليفتح مجرى عطور الجنة دفاقة رقراقة من جنان السماء على أرجاء قريتى كلها حتى عطرتها بمسك الروح ورائحة الرضوان من أقصاها إلى أقصاها، استقر العطر الشهى فى قلب وجسد قريتى، ظل مستكنا مذخورا ينفح فى القلوب والصدور والطرقات والسكك،فما يوجد بيت فى قريتى إلا وعطر القرآن يتماوج فى عروقه فى أشجاره فى سقفه فى جنباته.حتى طارت شهرة قريتنا بأنها قرية الحفظة لكتاب الله بين كفور العايد قاطبة.
فى أوائل التسعينيات كنت فى إحدى أجازاتى الصيفية من عملى بالجامعة بالمملكة العربية السعودية قررت أن أزور قريتى القديمة، تركت سيارتى بجوار صديقة طفولتى الشهية شجرة التوت العملاقة التى صادقتها غصنا غصنا،وتنفستها ورقة ورقة، وعجنت توتها الوردى الشهى بأحلامى الطفولية الغريرة،قلت فى نفسى أمشى على قدمى إجلالا لأيامى الخوالى، واشتياقا لأن أشتم الطرقات الترابية المبللة بعطر الروح، الطرقات والسكك التى مشينا عليها بأرواحنا وأفراحنا وأحزاننا وأشواقنا القديمة، فى كل ركن شهقة،وبكل زاوية سرور، بين قدمى وأقدام طرقات قريتى تاريخ من الأسرار والأحلام والشجن العزيز،جلست بجوار المسجد القديم مسجد العيسوية أمد بصرى وبصيرتى للأفق البعيد بجوار بيت خالى الحاج فتح الله صقر الداعية بالأزهر الشريف، لم أرى نخلات البلح العامرى تتدلى بعراجينها المقوسة يثقلها حلاوة البلح، سقطت النخلة وبنوا مكانها محلا لبيع الملابس الجاهزة، أما فسحاية المسجد الخلفية التى كنا نحفظ فيها القرآن مع الشيخ سيد فقد باعها الحاج عوض الله لرجل غريب عن القرية اشترها وبنى عليها دكانا يبيع فيه السجائر والأدوات البلاستيكية والملابس المستوردة.
أحدق فى أسى فى الفراغ المحيط، أبحث عن طرقات خضراء قديمة،أو حتى أشتم رائحة السكون الفخم الصافى الذى كان يحيط بجامع العيسوية فى صمت الظهيرة أو بدايات غبشة الغروب ننتظر أذان المغرب فى شهر رمضان المعظم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، تعبت من السير على قدمى الموجعتين كأننى كنت أمشى على جمر ظهيرة لافحة حارقة، قلت أستريح قليلا بجوار السور القديم للمسجد علنى أشتم رائحة السلام الفضى الذى كان ينام على الأرض والسماء والدور والأزقة، فجأة أذن المغرب وخش الظلام فمد خيمته المعتمة تبلع الدور والطرقات والمدى، أحسست بالكرب والألم،دخلت المسجد لأصلى المغرب، سألت عن أصحابى القدامى الذين كانوا لا ينقطعون عن الصلاة، قالوا: بعضهم سافر للخارج، تزوج ولم يعد،وبعضهم مات من سنين، وبعضهم يجلس وحيدا فى نهاية القرية بعد أن تزوج أولاده وماتت زوجته، لكنى وجدت فى المسجد شيخا أزهريا، كان شكله مقززا لى كان يلبس بنطالا وقميصا فضفاضا أقام الشيخ الصلاة فامتعضت فى نفسى من شكله الغريب الذى يفتقد هيبة الدين وجلال المسجد القديم، تقدم ليؤمنا فى الصلاة، ثم قرأ فى الركعة الأولى الآية رقم 162 من سورة الأعراف ( فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون).
انتهيت من صلاتى، وجلست أحدق فى أبواب المسجد الخاشعة وأعمدته المتهالكة وزخرفاته القديمة المشعة،كان معظمها قد شحب وبهت، تمدد على الأعمدة عنكبوت غامض لم يره أحد سواى، الغريب أنهم كانوا قد أغلقوا الباب الأيمن للمسجد الذى كنا ندخل منه للصلاة قديما مع الشيخ سيد وبدلوه بباب خلفى قصير مدبب، اقتربت من الإمام فسألته من أى البلاد أنت؟ قال من قرية النخيلة بأسيوط، ثم استدار نحوى وسألنى: ومن أنت؟
ـــ قلت له والحزن يحرق روحى أنا غريب جئت من بلد بعيد أسأل هنا عن صديق قديم كان قد اقترض منى مبلغا ولم يرده لى، أخلف ميعاد سداد دينه فقلت اسأل عنه،بحثت عنه كثيرا فلم أجده، فلما بلغ منى التعب، ودخل على الظلام قلت فى نفسى أرح نفسى بالصلاة حتى لا تفوتنى قبل سفرى البعيد.
صمت قليلا ثم قال لى صدقت المغرب غريب.
سألته:هل تعرف الشيخ سيد عبد الرحيم المؤذن القديم للمسجد.
رد على الفور: بلى ثم أردف يسأل وهل تعرفه؟
قلت نعم كان أستاذى كم أكلنا وظمئنا وشربنا هنا ذات شوق قديم، ثم باعدت بينى وبينه السنون.
قال لى (تعيش أنت) لقد مات الشيخ الجليل منذ سنين طويلة.
عندما ودعناه اصطف أهل القرية جميعهم كأنهم نفرة الحجيج فى يوم طواف الوداع بمكة المكرمة، طابور طويل من أحباب الشيخ وطلابه ومريديه، امتد خيط طابور الوداع الحزين من حواف قرية الكفر القديم حتى نهايات قرية الشيخ ( غزالة الخيس) بمحافظة الشرقية، سار خلف الشيخ حفظة تلامذته وأحبابه بل كل أهل القرية الطيبين، لم يسر خلفه وزير ولا أمير، فقط التراب والنور والطيور والفقراء وحفظة كتاب الله، الطيبون ملح الأرض، كان المودعون الحزانى يتناوبون على حمل نعش الشيخ الجليل رجلا بعد رجل، يحملون النعش سكتا وبكيا يزوفون بحفيف خفى مكتوم كأنهم يتناوبون فى أعماق نفوسهم على دفن بعضهم بعضا فى طريق الفناء الطويل، يودعون دون صوت، ويموتون دون صوت، وينتحبون دون دمع، وكأنهم يرددين بيت الشعر:
يدفن بعضنا بعضا وتمشى أواخرنا على هام الأوالى
كانوا يسيرون ولا يسيرون، يمشون جماعات ملتبسين محيرين يلتج بعضهم فى بعض ينقبضون ثم ينبسطون كأنهم قلب يشهق فى همس خفى مكتوم، كان يسير معهم فى تشييع جنازة الشيخ الطير والشجر والحجر وتراب القرية، بينما كانت تردد السماء على الجانب الغربى من مئذنة المسجد الدامعة:
اثنان لو بكت الدماء عليهما = عيناى حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما = فقد الشباب وفرقة الأحباب