محمد الطنجي - ضرائب عن الخمر

لا يستسيغ كثير من مفكري المسلمين للعاملين بشريعة الإسلام، أن اخذوا العشور في الموانئ والحدود من غير المسلمين من ثمن الخمر والخنازير والميتة المنتفع بها، لما ثبت ورسخ في الأذهان من تحريم الإسلام لها، ومحاربته للخمر بنوع خاص.

وقد راجت استفسارات في هذه القضية بين بعض الخواص، أثناء بحث ميزانية السنة الفارطة في المجلس الوطني الاستشاري بالمغرب، ويظهر أن البعض كان يعتقد أن تعشير تلك المواد لا يجوز من جهة التشريع الإسلامي الذي يحرمها، وإنما وقع السكوت لاعتبار أن رأي المنع لا يسمع في مثل هذه القضية التي لها وزن كبير في موارد الميزانية المغربية، وسيتكرر نفس الموقف مع ميزانية السنة الجديدة.
وان استمرار السكوت عن القضايا التي يعتبرها الإنسان مخالفة للحق، قد يجعل النفس من الواجهة التربوية الروحية كالمصرة على المعصية المتكررة، تتكيف بخلق التطبع على المخالفات حتى تصبح لا تبالي بها.
وحيث لنني ممن يدعون على تطبيق الشريعة الإسلامية في سائر القضايا، فقد دعتني هذه الاعتبارات إلى محاولة كشف القناع عن جوانب من هذه القضية، عسى أن تتلاءم مع وضعنا الحاضر، مع اعتباري إياها من جهة التشريع قضية فيها مثارات للاجتهاد، بجدر بأقلام الباحثين أن تتعاون على تمحيصها تنويرا للأفكار، وكشفا عن أسرار تشريعانا في هذا المضمار، لأنني قد عثرت بعد البحث على أن الخمر والخنازير عشرت في عصر يعتبر المعيار الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية هو عصر الخلفاء الراشدين، فكيف ساغ لمثل عمر بن الخطاب أن يقر تعشير الخمر مع ما علم نمن تحريم الإسلام لها بجميع أصنافها ومحاربتها إلى أقصى الحدود ؟.
سيتبين لنا بعد إلقاء نظرة عابرة على بعض قواعد تمس هذا التشريع، أن عمل عمر فيه عمق نظر، وتحقيق لمصلحة خزينة الدولة، ونوع محاربة للخمر والخنازير بوضع ضريبة مهمة عليها.
فهناك قواعد عامة يجب مراعاتها سواء بالنسبة للمسلمين أو غيرهم، وهناك أحكام تتعلق بالمسلمين يجب أن تطبق عليهم.
وهناك حالة خاصة لغير المسلمين لا تتشدد قيها شريعة الإسلام معهم، فمن المعلوم أن الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن كالزنى وشرب الخمر واكل الخنزير والميتة، وهذا تحريم مباشر لهذه الأمور.
وهناك وسائل لهذه المحرمات حرمتها الشريعة أيضا، فقد قال الشافعي أن ما كان ذريعة إلى منع ما احل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة مع إحلال ما حرم الله، فقال ابن الرفعة : في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحلال والحرام.
وقال القرافي سد الذرائع معناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا له، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور.
وقال أيضا : موارد الأحكام على قسمين، مقاصد وهي المنضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل وتحريم، غير أنها اخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل.
ومستند تشريع الذرائع القرآن في قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) فنهى الله عن سب المعبودات من دونه، وان كانت عبادتها باطلة، حتى لا يكون ذلك سببا باعثا لعبادها المشركين على سب الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من الكبائر شتم الرجل والديه، قيل وهل يسب الرجل والديه ؟ قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) فقال العلامة ابن بطال المالكي شارح البخاري : (أن هذا الحديث أصل في سد الذرائع) ولابد أن يبقى الشخص ستارا بينه وبين الحرام الممنوع، فالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقد اعتبرت الشريعة حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال من المقاصد، فما يؤدي إلى الإخلال بهذا الحفظ أو إلى تضييع هذه الأشياء من الوسائل القريبة المقصودة ممنوع فيها، وما يؤدي إلى صيانتها حتى تؤدي مهمتها على أحسن الوجوه مطلوب ومحمود.
فمن حفظ العرض، منع الزنى وتحريمه، ومن حفظ العقل تحريم ما يفسده أو يعطل موهبته من الخمر التي هي جماع الإثم، و قد شن الإسلام على الخمر حربا شعواء فحين حرمها الله اهرق أهل المدين الخمر التي كانت محفوظة عندهم، حتى جرت سكك المدينة بها كما في الحديث، ولما تحاقر بعض الجيش عقوبة شاربها فتهافتوا عليها، استشار عمر الصحابة فجعلوا عقوبة شاربها ثمانين جلدة، وقد أخرب عمر حانوت رويشد الثقفي، الذي كان يبيع الخمر، وقال له إنما أنت فوسيق لست برويشد، واحرق على بن أبي طالب قرية كان يباع فيها الخمر؛ وقال ابن تميمية : انه يجوز للإمام أن يخرب المكان الذي يباع فيه الخمر، قال، وقد نص على ذلك احمد وغيره من العلماء، وقد كان بعض الأمراء يفعلون هذا، ففي مادة (مخر) من كتاب لسان العرب لابن منظور، «قال زياد حين قدم البصرة أمير (ما هذه المواخير الشرب عليه «كذا» حرام حتى تسوى بالأرض هدما وإحراقا) ومن نكت الحافظ ابن حزم على شارب الخمر (ما رأينا شيئا فسد، فعاد على الصحة، إلا بعد اللتيا، فكيف بدماغ يتوالى عليه السكر كل ليلة : وان عقلا زين لصاحبه تعجيل إفساده كل ليلة لعقل ينبغي أن يتهم) وكان يوسف بن تاشفين يعيب على ملوك الطوائف بالأندلس تواكلهم وإهمالهم للدفاع عن البلاد، وإخلادهم للذات والراحة، فيقول إنما همة احدهم كاس يشربها وقينة تسمعه ولهو يقطع به أيامه).
وقد حرم الإسلام ثمن الخمر كما حرم مهر البغي أي اجر الزانية.
أثمان الخمور والمصالح العامة :
وإذا باع مسلم خمرا، أو أخذت الزانية عن زناها أجرا، فلا يحل لهما ذلك، بل تصادر هذه الأموال كعقوبة لهما، وتصرف في مصالح. قال شيخ الإسلام بن تيمية في فتاواه : ومن باع خمرا لم يملك ثمنه، فإذا كان المشتري قد اخذ الخمر فشربها، لم يجمع له بين العوض والمعوض، بل يؤخذ هذا المال فيصرف في مصالح المسلمين، ما قيل في مهر البغي، وحلوان الكاهن، وأمثال ذلك مما هو عوض عن عين أو منفعة محرمة إذا كان العاصي قد استوفى العوض).
وعلى هذا يمنع شرب الخمر وتعاطي الزنى، ويعاقب فاعلهما، وتصادر الأموال المبذولة فيهما لصرفها في المصالح، وقد تهدم أمكنتهما، وإذا كانت تهدم الأمكنة الموجودة فبالأحرى لا يسمح بإنشاء أمكنة مفقودة.
وهنا تأتي قاعدة درء المفاسد، ومنع وسائل الشر عموما، وقد ذكر فقهاء القانون الإسلامي قضايا كثيرة من هذا النوع، فمنعوا من كراء الأماكن لبيع الخمر أو للذين يتخذونها مجمعا للفساد سواء كانوا من أهل الإسلام أو لا ؟ لان الزنى حرمته جميع الشرائع السماوية، وقد كان الاحتياط في العصور الأولى حتى في سكنى العزاب، فكان عمر بن الخطاب يأمر بان لا يسكن العزاب بين المتأهلين، وان لا يسكن المتأهل بين العزاب، وثبت في الصحيحين أن النبي نفي المخنثين وأمر بنفيهم من البيوت، خشية أن يفسدوا النساء، كما في فتاوى ابن تيمية، فقاعدة منع وسائل الشر مطردة.
وقد أورد القرافي قضية استشكال اخذ الجزية من الكفار، وإقرارهم على كفرهم، حيث يجوز هذا ولا يجوز اخذ العوض للتمادي على الزنى وغيره من المفاسد، وأجاب بان قاعدة اخذ الجزية هو من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا، وتوقع المصلحة العليا، بيانه إن الكافر إذا قتل انسد عليه باب الإيمان، إلى أن يقول : فشرع الله الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان لاسيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام وإلا لجاء إليه بالذل والصغار في اخذ الجزية، فإذا اسلم لزم منه إسلام ذريته فاتصلت سلسلة الإسلام من قبله بدلا عن ذلك الكفر، وان مات على كفره فنحن نتوقع إسلام ذريته المخلفين من بعده، وكذلك يحصل التوقع من ذرية ذريته على يوم القيامة، وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر.
وهذا التعليل صحيح، يشهد له الواقع، وقد اقترح قتل أسرى غزوة بدر على الرسول، فقال إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا، واخذ منهم الفداء فتحقق رجاء الرسول.
ضمان الحرية الدينية لأهل الذمة والمعاهدين:
وقد صالح كثير من اليهود والمسيحيين والمجوس الفاتحين المسلمين على أساس البقاء على دينهم وما يأمرهم به من اعتقاد وطقوس دينية وما يحله لهم من مطعم ومشرب وملبس وتقاليد، فوفى لهم المسلمون بشروطهم.
ضريبة الاستيراد والتصدير عامة على أهل الذمة وغيرهم :
ولا مندوحة لبلد تجلب إليه النجارات وتصدر عنه، من اخذ ضريبة عنها، هذا ما وقع منذ زمن عريق في القدم، وإذا كان بعض الناس يأنفون من ذلك ويستنكفون فان استنكافهم في غير محله، ففي كتاب الخراج لأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله عن ابن سيرين قال (أرادوا أن يستعملوني على عشور الابلة (اسم موضع) فأبيت، فلقيني انس بن مالك فقال ما يمنعك ؟ فقلت العشور أخبث ما عمل عليه الناس، فقال لي لا تفعل، عمر صنعه، فجعل على أهل الإسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمة نصف العشر، وعلى المشركين ممن ليس له ذمة عشر) وقد تكرر هذا التقدير في الكتاب المذكور، وعلى أساس هذا ذكر الأستاذ الكبير السيد العزيز بنعبد الله في تعليقه على كتاب الدكتور الحبابي (الحكومة المغربية في فجر القرن العشرين) الذي نشرته «العلم» : (انه كان للخلفاء الأولين الحق في إصدار القانون، فهذا عمر بن الخطاب يحدث لأول مرة ضريبة الإيراد والاستيراد) ولكن في بعض الروايات الموثوقة بها، أن عمر اقر شيئا كان موجودا قبله، ففي الموطأ، عن مالك، انه سأل ابن شهاب : على أي وجه كان يأخذ عمر ابن الخطاب من النبط العشر ؟ فقال ابن شهاب : كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية فألزمهم ذلك عمر.
إذا علمنا كل هذا فكيف يكون العمل في شان الخمر والخنازير والميتة التي ينتفع بها، هل تترك بدون ضريبة وعشر، فتعظم تجارتها ويكثر رواجها برخصها، وتحرم خزينة الدولة منها ؟ أم يفرض منعها على أهلها الخارجين عن الإسلام ؟ ومن كانت تجارته من أهل الذمة في الخمر والخنازير هل يعفى من دفع الجزية لان تجارته في أشياء يحرمها الإسلام ؟
لقد اختار عمر أن تؤخذ الجزية والعشر من أثمان الخمر أو غيره، على أن لا يتولى المسلمون بيع ذلك، بل يولون أهل الخمر والخنازير والميتة بيعها، ويقبضون منهم النسبة المطلوبة، سواء كانت عشرا، أو نصف عشرا، أو جزية ويقع تقويم الخمر والخنازير كسلعة في باب المعشرات على يد أهل تلك التجارة لهذا الغرض، فروى أبو يوسف عن عمر بن شعيب إن أهل منيج (قوم من أهل الحرب وراء البحر) كتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا، فشاور عمر أصحاب رسول الله في ذلك فأشاروا عليه به، فكانوا أول من عشر من أهل الحرب، وفي الكتاب المذكور أيضا (وإذا مر أهل الذمة على العاشر بخمر أو خنازير، قوم ذلك على أهل الذمة، يقومه أهل الذمة، ثم يؤخذ منهم نصف العشر، وكذلك أهل الحرب إذا مروا بالخنازير والخمور فان ذلك يقوم عليهم ثم يؤخذ منهم العشر).
قال (أي أبو يوسف) : وحدثنا إسرائيل عن يونس عن إبراهيم بن عبد الله الأعلى قال سمعت سويد بن غفلة يقول : حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اجتمع إليه عماله، فقال ، يا هؤلاء انه بلغني إنكم تأخذون في الجزية الميتة والخنزير والخمر. فقال بلال : اجل أنهم يفعلون ذلك، فقال عمر : فلا تفعلوا، ولكن ولوا أربابها بيعها وخذوا الثمن منهم. قلت وهذا يدل على أن لأهل الذمة أن يتداولوا هذه الأشياء بالبيع والشراء كما اقروا على أن يتناولوها بالأكل والاحتساء.
التعشير التجاري المتماثل :
وروى يوسف عن عاصم بن سليمان عن الحسن قال : كتب أبو موسى الأشعري على عمر بن الخطاب أن تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون ارض الحرب، فيأخذون منهم العشر، فكتب عليه عمر خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.
وما دمنا نعايش من يأكلون الخنازير ويشربون الخمور، فليس من المصلحة أن يعفوا من ضريبة تجارتها، وإنما المصلحة أن نحمي المسلمين من شربها وآفاتها، ولوزادت الحكومة في ضريبتها حتى تبلغ المائة في المائة، لكان في ذلك خير لخزينة الدولة، وحماية للضعفاء من شربها أو من كثرة شربها على الأقل، وبعض الشر أهون من بعض والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


دعوة الحق
10 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى