أحمد طالب - جماليات المكان في القصة القصيرة الجزائرية

في الواقع يكتسب مجال البادية ، أهمية دلالية بالغة، في أثناء الثورة التحريرية، على عدّة مستويات، منها مستوى الوعي الوطني و التاريخي و الإيديولوجي، إذ كانت القرية مهد الثورة، ومصدر إشعاعها، وكان مجالها المفتوح، الموحي بالحرّية، الفضاء المركزي الخاص للهوية.

فالمشهد القروي المترامي الأطراف، كان أحد المميزات الفضائية التي تتمتع بها القصص ،[1] التي جسّدت الثورة ، و كانت رموز القرية ، الدالة على الهوية ، رموزا ذات قيمة دلالية و جمالية مقاربة للواقع و للتاريخ، بصرف النظر عن اختلافها عن المدينة ، من حيث الحجم، و نمط الحياة ، فهي فضاء متحرر، ومنتشر تنعدم فيه الحواجز المكانية ، حيث تكتسب الطبيعة أهمية ملموسة على المستوى الوعي الإنساني و الفني .

و مما يبدو أن الطبيعة برموزها المختلفة هي الحلقة المكانية الحساسة ، التي التقطتها عدسة القاص " أبي العيد دودو " : " كانت القرية واقعة على ضفة الوادي ، تتخللها البساتين الجميلة ، ذات الأشجار المُثقلة بيانع الفاكهة و لذيذ الثمر و طيب الزهر المختلفة الحجم و النوع ، و على الجانب الآخر من الوادي يطل عليها تل مرتفع عن مستواها ، يحتوي على كل ما تتمتع به بلادنا من جمال طبيعي رائع خلاب ." [2] و بعد مشهد الطبيعة العام الذي تتمتع به القرية ، تنتقل عدسة الكاتب بصورة تدريجية إلى تصوير بيت البطلة " أم السعد " الواقع في قلب القرية تحف به أشجار التين و التفاح و البرتقال ، و تظلل رحبته تعريشة كثيفة ." [3]

و لعل الأشجار هذه التي تحيط بالبيت مستقيمة تماما وكأنها تعطي انطباعا بأنها تقف حارسة على البيت .[4] الذي هو تعبير مجازي عن الإنسان و امتداد لنفسيته فإذا وصف البيت فقد وصف الإنسان .[5]

و لعل الاطمئنان الذي هيمن على الطبيعة، هو الاطمئنان نفسه الذي بدا على شخصية البطلة في المراحل الأولى في القصة ، لأن الإحساس بالمكان تابع بصورة مباشرة و غير مباشرة للإحساس بالزمان وبالشخصية وقد يُعد المشهد السابق الذي يتجلى في البداية من الوحدات السردية الساكنة التي تقوم بوظيفة ، للمشهد الأساسي الذي يظهر في نهاية القصة : فبينما كانت " أم السعد" في " البستان تجمع بعض الخضار ، إذا بها تسمع أزيز الطائرات، و صوت الانفجارات يدوي في القرى المجاورة رهيبا و مُفزعا ."[6]

شاركت الطبيعة الإنسان ألوان الدمار، ولم يكن وصفها غاية بقدر ما كان رصدا للفضاء النفسي لشخصيات القصة.

و لا تخلو قصة " قريتنا تتحدى " من وصف الطبيعة، و لعل من العنوان ندرك أن القرية هي الهوية المكانية المركزية ، التي قهرت المستعمر ، و قد اقترن من خلالها فعل الطبيعة ، بفعل الإنسان الثائر ، المدافع عن كيانه ، ولعل المكان في هذه القصة، هو البطل و ليس مجرد إطار، بل هو محتوى القصة و عمقها.

وصف الكاتب القرية في حالة حركة دائبة ، لا تهدأ من خلال أصوات مختلفة: " تركنا قريتنا في وقت مبكر وهي تعيش فيضا من الحركة و النشاط، كان قد بدأ قبل ذلك بساعات ... بصورة غير عادية ، كانت هناك أصوات مختلفة، تعلو حينا فتغدو مسموعة وتخفت فتشبه الهمس... إلا أصوات الحيوانات من خوار و نباح و ثغاء ونهيق، فقد كان الجبل المطل على القرية يردد صداها وأحيانا يسمع أيضا بكاء الأطفال ... لا يلبث أن ينقطع، وحين ابتعدنا عن القرية ، لم نعد نسمع شيئا ."[7] تحرر هذا المشهد من الرؤية الرومانسية ـ التي كانت حاضرة باستمرار في معظم القصص التي رصدت الطبيعة ـ وغدا أكثر واقعية.

و في قصة "القائد" استطاع "دودو" أن يجسد اللون والرائحة بهذا الوصف الدقيق:" كنت قابعا عند صخرة وبندقيتي على ركبتي و إلى جانبي أزهار صغيرة غريبة عني كل الغرابة."[8] فاللغة قادرة على استيحاء الأشياء المرئية ،و غير المرئية ، مثل الصوت و الرائحة .و المتناهي في الصغر بالنسبة " لباشلار "هو صورة بصرية "توقظ كل حواسنا على حدة و يمكننا القيام بدراسة ممتعة من المتناهيات في الصغر، و استثارتها لكل حاسة من حواسنا على حدة، وسوف تكون المسألة بالنسبة لحاستي الذوق أو الرائحة أكثر إثارة .[9]

ولم يقتصر الكاتب "دودو" ، على رصد فضاء القرية، دون فضاء المدينة، ففي قصص" الفجر الجديد "[10] و" الغيم " [11]و "انتظار" [12]، يمثل فضاء المدينة حقلا من الإشارات التي ترمز للثورة ، و إن كانت المدينة متمثلة في غرفة ، في قصة "انتظار" مما يوحي بضيق المكان لكثرة الحواجز التي تشكلها الجدران: تركت البطلة " فراشها من جديد، وقامت تدور في الغرفة فكانت تذهب إلى الباب، ثم تعود إلى حيث كانت و هي تُجهد نفسها من أجل أن تجد لتأخره سببا معقولا واقتربت من النافذة و أطلت على فناء الدار و أصغت ، علها تسمع حركة ما ، في مكان ما ."[13] فمن هذا المشهد نستشف مدى ضيق مجال المدينة أمام مجال القرية المفتوح .

فأما "الفجر الجديد" ، و " الغيم " و " القائد " ، فقد تعززت بثنائية مكانية ، إذ تفاعلت المدينة مع الطبيعة بسبب تأثير الثورة على الفضائين معا .

وكما يرى أحد النقاد، أن الرومانسي أحب الطبيعة و من خلالها أحب الريف، وهكذا." يمكن ردّ هذا الاتجاه إلى مرحلة التيقظ العاطفي لدى كاتبنا من ناحية ، وإلى الظروف السياسية و الاجتماعية المصاحبة من ناحية أخرى فمع الحب و هياج العاطفة ، تقع عين الكاتب على الطبيعة، فترى فيها الجمال الحقيقي و الطهر و البراءة ." [14]

و لعل هذا ما نجده في قصة " المسافر " ، عندما كان الشاب و خطيبته يتمتعان بمناظر الطبيعة الجميلة الخلابة، التي نستشفها من خلال هذه الصورة :" وكنا في أعماق ذلك الهدوء نستمع إلى ما يجري في قلب الطبيعة من شجون وشؤون:كان خرير الجدول يشبه في نغمهو استرساله ترتيل المتبتل في محرابه، و كان حفيف الأوراق يُشبه في وشوشته وهمسه قصة غرامية مليئة بالأحلام و الآلام "[15] رصد "ابن هدوقة" السكون المخيم على هذا المشهد الطبيعي، الذي هو راجع دلاليا إلى استقرار الزمان و الإنسان، حيث تسرح العين القصصية آمنة متأملة صفاء الطبيعة ، بشكل لا يخلو من رومانسية .

و إن كان بعض النقاد يذهب إلى حد القول بأن الريف الذي يرسمه " ابن هدوقة " بائس قاتم لا يختلف عن أرياف بلادنا كلها ، فليس فيه ذلك الجمال الطبيعي الذي تتغنى به الرواية الرومنطيقية . و ليس فيه ذلك الهدوء الذي يثير التأملات و الرؤى و الأحلام ."[16]

على أن لحظة الاطمئنان هذه لا تدوم إلا قليلا ، إذ تُعد تمهيدا قصصيا للمشهد المتوتر ، حيث تتزعزع أركان الثبات و الاستقرار : "ولم أتمم جملتي حتى دوى في السماء أزيز رهيب أسود يائس يملأ النفوس ذعرا. وهممنا بالعودة إلى البيت مسرعين. و لكن الأزيز كان قد اقترب حتى لنكاد نتخيله يئزّ في قلوبنا . و يعصف بكل ما كان فيها من أحلام و من يأس أيضا. و زلزلت الطائرات زلزالها و أطلقت أثقالها على القرية المطمئنة ، وأخذ لهب القنابل المحرقة يرتفع من الدور و الشجر عاليا إلى السماء ."[17] إن الأحداث الطارئة وتّرت المكان وبتالي وتوتّر الإنسان وخلخلت المشهد الرومانسي الهادئ .

والملفت للانتباه هو أن معظم القصص التي تتناول الطبيعة أثناء الثورة التحريرية ، اتخذتها وظيفة للاتصال التعبيري عن الواقع ، الذي ينطوي على صراع حاد بين الطبيعة الهادئة، ووسائل الدمار و الخراب من خلال المنظور الخاضع لطبيعة الرؤية القصصية ، التي يطغى فيها المكان على الزمان و تسرح العين القصصية في تفاصيل المشهد .

أسهم "الطاهر وطار" هو الآخر ، في تجسيد الطبيعة التي احتضنت الثورة التحريرية، في قصص : "محو العار"[18] و " نوة "[19]و " الدروب" [20]، ففي "محو العار" يتسع الحيز المكاني ، إذ يتوزع الفضاء القصصي بين الأماكن والعلامات المرجعية التالية : "جلفة" "صور الغزلان"، "وهران"،"الهند الصينية"،"الجزائر"،" الحراش" " حاسي مسعود" " فرنسا "، "عين وسارة "، "بوحجار" ،و قد لا نلتمس هذه البلدان ، عبر سياق النص إلا كخلفية ذهنية ، فهي مجرد أسماء، تتجه من خلالها العلاقة بين الإنسان و المكان اتجاها أفقيا حسيا، فانتقال بطل القصة " بلخير" من بلد إلى بلد، صاحبه تطور في وعيه الثوري بصفة تدريجية ، مما جعل هذه الشخصية تتسم بالتجاذب و التفاعل مع الأماكن التي مرت بها مر السحاب، وكان جلها يرمز إلى ثروات الجزائر كحاسي مسعود، ومعمل الحجار ....الخ.

فالمكان المركزي الحاضر باستمرار في هذه القصة ، هو الثكنة ، السجن الرحب الذي تتحرك فيه شخصية "بلخير" بحرية حيث تحتشد مشاهد متنوعة ، تمثل علامات هامة ، ساعدت على استكمال الوعي عند البطل .

على أن الشيء الهام في القصة، هو احتواؤها على أماكن ساكنة مثل البلدان والثكنة ، وأخرى متحركة مثل العربات و الباخرة . التي تُعد من وسائل السفر، من مكان إلى آخر قصد الهروب من الواقع، أي الفرار من المتغير إلى الثابت ، و من المكان إلى اللامكان فالشخوص القصصية، يطوفون بأرجاء عديدة، كما يبحثون داخل أنفسهم ، و في النهاية يعودون إلى الواقع الذي كانوا يهربون منه و إلى واقع ذواتهم .[21] و لعل تغيير المكان يحمل في طيّاته أملا جديدا .

فالعربة بوصفها المكان المتنقل كما يراه ياسين النصير مكان ضيق "ضيق غرق السجن والشخوص محشورون فيه حشرا، وكلهم على هيئة جلوس متشابهة، و وجوههم كلها إلى الأمام إنهم يستقبلون العالم الخارجي متحركا وبطريقة عكسية لرؤيتهم."[22]

و في إطار المكان المتحرك ، تطالعنا مدينة وهران من خلال الباخرة الحربية التي أقلعت في الصباح الباكر ، فمن " النافذة ظل بلخير يتابع النظر في المباني ، الأشجار، و الشاطئ إلى أن اختفى كل ما على الأرض الحبيبة ، و لم يعد يحيط بالباخرة التي تشق عباب الماء ، شق الأفكار في رؤوس الشباب الراحلين ، سوى الزفرة.. ."[23]

و لعل الباخرة المكان المتحرك وظفت لغرض أيديولوجي ، إذ فوق سطحها المتحرك تتجاوب الإرادات وتصبح الروح الجماعية طريقا للدخول إلى النفس ، فالباخرة أو السفينة وعاء فكري مبحر و على ظهرها نماذج طبقية تصطحب معها تناقضاتها.[24]

و قد عمل الطاهر وطار على لسان أحد شخصياته إلى إثارة ضرورة الشعور بالقضية الوطنية داخل الباخرة وهي عائدة من الهند الصينية إلى أرض الوطن ( الجزائر) .

ولا تختلف قصة "نوة " عن "محو العار" من حيث اتساع المكان وانتشاره، بشكل أفقي حسي، إذ يكثر فيها ( الحشو المشهدي ) مما يُؤثر على الفضاء العام، فتنشغل العين القصصية بالأوصاف الخارجية المسترسلة على شكل سلسلة من المشاهد التي تنبع من الذاكرة المثقلة بالعاطفة، و كأن القصة تتضمن حكايتين في شريط سردي واحد ، فالحكاية الأولى تمثل الحاضر، أي استعداد "نوة" لاستقبال زوجها ،أما الحكاية الثانية فهي استرداد العلاقة العاطفية التي نشأت بين "نوة " و"جبار" المحفوفة بالصعاب، مهّد لها الكاتب باشراك عناصر الطبيعة، وبالانتفاضة المشهدية القصصية التي نستشفها من هذه اللقطة : "وكان الثلج ينشر رداءه الأبيض الناصع على الأرض و الأكواخ، والأشجار و الريح تعصف قوية و السماء ملبدة بالسحب ."[25]

و لعله لا يختلف هنا بعد عنصر " الثلج" عن معنى جمود العلاقة بين عائلتي "نوة "و "جبار" إذ " و هو يغطي الكائنات يوحي بالانعزال و الوحدة ."[26]

تبدو " نوة " في بداية القصة معتنية ببيتها الهادئ المطمئن ، لتستقبل زوجها الذي سيزورها خفية، تحت جناح الظلام، لكن هذا الهدوء لم يستمر إذ أقبلت الطائرات والدبابات والعربات فبدأت "القنابل تتساقط، و امتلأت السماء بأزيز الطائرات، وهرعت " نوة " مع من هرع من المذعورين الذين شهدت الكثير منهم يخرون صرعى أمام الرصاص و شظايا القنابل و اختلط الأمر و شبت النار في الأكواخ .[27] ولعل الوصف الحسي الذي نلمسه في هذه الصورة لا يختلف عن الفضاء النفسي للشخصيات.

والجدير بالذكر، و إن تميزت قصة "محو العار" و"نوة" باتساع الحيز المكاني وانتشاره ، فإن "الطاهر وطار" وفق في قصة " الدروب " في اختيار الحيز المكاني المحدد بشكل يتلاءم مع قالب القصة القصيرة ، الذي يتميز بالإيجاز و التركيز .

و لعل الشيء الملفت للنظر في هذه القصة، هو، وجود أماكن عميقة ، تمثلت في البئر و المطامر ، بشكل يتفق مع المغزى العام للقصة ،و هو وجوب كتمان سر المجاهدين الجريحين، إذ لم يثق " الباهي " في "عمه " الخائن، فنقل الجريحين إلى مطمورة أبيه المهجورة ، و لم يكن أي مكان أنسب لهما من هذا المكان الغائر في باطن الأرض، إذ يُعد المكان العميق الكيان المخفي الحافل بالأسرار، الذي يوحي بالجدلية التي تُجسد الروابط القوية بين الإنسان والطبيعة، و بينهما و بين المجتمع ، ففي البقعة الدفينة تتجمع العلاقات بوصفها الباطن ، العمق ، الرؤية ، العقل، الإدراك ، الحدس، أي كل ما هو كائن في مكان قصي مجهول ، و عندما يبدأ انسكابه على العالم الخارجي يتشكل الوعي به ، و يبدأ تاريخ الأشياء . [28]

و لعل اختيار الكاتب هذا النوع من الأمكنة العميقة التي تُعد حقيقة نفسية غائرة ، ينسجم بشكل عام مع طابع القرابة ، إضافة إلى العلاقة العاطفية التي تربط " الباهي " بابنة عمه " ربيعة " و تربط " معوشة " أخت " الباهي " بابن عمها " مجيد " أخ " ربيعة " و قد تشكل هذه العلاقة في حد ذاتها الارتباط العميق داخل الأسرة و من تم المجتمع.

و قد أشار الكاتب إلى الجانب السلبي ، المتمثل في الطبقية ، التي من شأنها إلغاء الوشائج القوية ، بين الأسرتين في لمح البصر ، تاركا عملية التأويل إلى المتلقي .

و من المسلمات في القصة أن عنصر المكان لا يكتسب أهمية إلا إذا عبر عن أبعاد النماذج الإنسانية النفسية والاجتماعية، لأن "إحساس الشخصية الإنسانية بالمكان والزمان هما أساس الشعور بالتواجد و الكيان الفردي، و الاجتماعي كما أنهما يوحيان بمدى سعادة الفرد و تعاسته، ويكشفان عن قدرته على الاستجابة للعوامل المحيطة به، نفسية و اجتماعية .[29]

ظهرت البيوت قبل الثورة التحريرية هادئة منسجمة تحيط بها الطبيعة من كل جانب ، مثلما هو واضح في هذه الصورة :" خرجنا في ذلك المساء وحدنا خفية عن أمي نتجول حول الدار، دارنا الجميلة المطوقة بكروم الدواليوشجر الصفصاف و\الرمان ..."[30] و تتكرر الصورة نفسها بشكل مشابه في أغلب قصص المرحلة [31]، إذ تتوسط البيوت الإطار المشهدي لعناصر الطبيعة ، وهو ما يوحي بنوع من الانسجام بين الحيز الداخلي و الفضاء الخارجي، إذ " عادة ما يرتبط المكان على مستوى الرمز، ببعض المشاعر و الأحاسيس ، بل ببعض القيم حينما ينتزع البيت حصته من السماء، فالسماء بكاملها تصبح سقيفة له . وإضفاء صفات إنسانية على البيت، يحدث على الفور حين يكون البيت مكانا للفرح والألفة ، فالبيت يتمدد لما لا نهاية ، و هذا يعني أننا نعيش داخله الأمان و المغامرة بالتناوب إنه زنزانة و عالم في الوقت نفسه ."[32]

وبعد أن أحرقت القرى، و البيوت، انتقل معظم أفراد الشعب إلى الأكواخ، على الرغم من عدم توفرها على شروط الحماية من القرّ و القيظ إذ اتخذ رمز الكوخ لدى "دودو" و " ابن هدوقة " و"وطار"، عدة دلالات نفسية و اجتماعية ، أبرزها رصد صورة الاحتياج المادي والمعنوي المتمثل في عدم استطاعة الإنسان الجزائري المظلوم، اكتساب بيت يحميه من البرد و المطر و شدة الحر ، فضلا عن أن الكوخ يرمز إلى عدم الاستقرار و اللاسكن ، و قد تبدو هذه الأكواخ في القصص منهارة ، أو على وشك الانهيار.

ففي قصة "حجر الوادي" يتجه مختار نحو داره و " لم تكن القنابل قد أبقت منها سوى الجدار الأعلى ، و اجتاز طريقا ضيقا بين الأعشاب الخضراء ، التي تملأ وسط الدار الممسوخة إلى أن وصل إلى زاوية ذلك الجدار ، حيث كان قد أقام سقفا خشبيا وضع تحته بعض أغراضه.[33]

و لا تختلف صورة الانهيار هذه ، عن مدلول البعد النفسي لشخصية " مختار" بطل القصة .

كما تظهر الأكواخ في قصة " الرجل المزرعة " "منحنية بظلامها على من فيها ..."[34] و قد يرمز هذا الوصف المادي المحسوس إلى الأبعاد الداخلية والخارجية، للنماذج الإنسانية المتمثلة في الفلاحين الذين يعانون من قسوة المعمر الأجنبي " ليونارد ".

وكما هو ملاحظ أن الأكواخ علامات واطئة " وهذا ما جعل شكلها الخارجي منحنيا ، نصف دائري ، يشكل مع الأرض القاعدة نصف حلقة...وانحناء أكواخ القرى نتيجة ضغوط المحيط الخارجي،الرياح،المطر،الناس،المياه... حقيقة الكوخ الأساسية من أنه لا يشكل تشكيلا اجتماعيا متماسكا، كما لا يجعل من سكنتها أناسا هادئين باستمرار..."[35]

تتكرر صورة الأكواخ بصورة مماثلة في قصة : "الطاحونة" حيث يسكن أهالي المنطقة: "أكواخٌ قائمة يغطيها الديس و التراب "[36] وفي قصة " اليتامى" لا ينفصل الرمز المادي للأكواخ، عن الظروف النفسية لعمال المزرعة المهددين بالطرد " الدخان يتصاعد من أكواخنا ، أكواخنا حتى اليوم على الأقل ، و منذ عشرات السنين ، رغم أنها تقع في تراب المعمر لقد بناها كالسجون، من أجلنا بنيناها بسواعدنا ."[37]

و لعل الوجوم نفسه نستشفه من الكوخ ، الذي خلف فيه " بلخير " بطل " محو العار" أمه فمن يدري أن الكوخ الحقير الذي خلفها فيه لم ينهر بعد ، أو أنه على وشك الانهيار ."[38]

و لعل الجديد عند " الطاهر وطار" في قصة : "الدروب" هو إقامته ثنائية مكانية ضدّية ، إذ استخدم أسلوب المقابلة بين مشهدين : منزل العم ، مقابل كوخ ابن أخيه الراعي اليتيم من خلال الشخصية المحورية "الباهي"،التي تتنقل بين المكانين ، و قد ساعدته الصفات المكانية على تجسيد الأبعاد المجردة ، التي ترمز إلى ظاهر الصراع ، الذي فرضه التمايز الطبقي ، مما يجعل القصة تتراوح فضائيا بين مكانين متباينين.

على أنه ، إذ كانت الأكواخ تشترك جميعا في تشكيلة اجتماعية ، فإن القيمة الجمالية للأكواخ لا تكمن في تلك الوظائف الخارجية ، و إن لم تخرج عن إطارها بحكم ما تفرضه تلك الوظائف من تغيير مستمر . في الشكل الداخلي و الخارجي للكوخ ، بل تكمن ببعدها الفني أولا ، باعتبارها وعاء شعبيا احتوى تراكيب اجتماعية أعطت لجزئيتها ، قيما جمالية خاصة بها لوحدها ."[39]

وكما يبدو لم يقتصر هؤلاء الكتاب على تجسيد الجانب الجمالي للأكواخ، بقدر ما أرادوا إبراز الجانب السلبي المتمثل في الوضاعة التي فُرضت قسرا على الإنسان الجزائري إبان الاستعمار .

ولم تختلف حالة الأكواخ عن حالة محتوياتها، فالأثاث التي عثرنا عليها في القصص، إما محطمة أو متلفة، وهي معادل موضوعي لنفسية الشخصية القصصية، فعندما بلغ " الباهي " الكوخ " كان الظلام ضرب أطنابه فسربل الكون و استقبلته أمّه على ضوء القنديل المدخن .[40]

وقد يرمز الدخان هنا إلى الاختناق المادي، إضافة إلى الاختناق المعنوي. ولعل الجو المختنق نفسه يتكرر بشكل مشابه في قصة " نوة " بسبب المدخنة التي بناها زوج " البطلة " دون قاعدة فنية ، مما جعلها لا تمتص من الدخان إلا ما يحلو لها ، فتتراكم البقية في جوانب الغرفة "وتكاد نوة المسكينة تختنق بداخلها ، و تدمع عيناها و يعتورها سعال مقيت."[41]

ولا يختلف هذا الجو الخانق ، عن الجو النفسي الذي تعيش فيه "نوة " بعد أن التحق زوجها بالجبل، فهي منشغلة بالتفكير فيه دائما ، خائفة أن تفقده، وخاصة أنها سمعت باستشهاد المجاهدين .

ومن الملاحظ أن الأشياء تقوم بدور إيحائي لأنها "مرتبطة بوجودنا أكثر مما نقر و نعترف عادة ، إن وصف الأثاث و الأغراض هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه " و يضيف " آلان روب جرييه " بأن " كل حائط و كل قطعة أثاث في الدار كانت بديلا للشخصية التي تسكن هذا الدار ـ غنية أو فقيرة قاسية أو عظيمة ـ هذا بالإضافة إلى أن هذه الأشياء كانت تجد نفسها خاضعة للمصير نفسه وللحتمية نفسها.[42]

لقد أشار هؤلاء الكتاب في قصصهم إلى بعض الأشياء المحطمة مثل الخزانة المكسورة في قصة : "الرجل المزرعة " حيث يأخذ الراوي " غطاء من القطن في خزانة قديمة بلا باب .[43]

فابتداء من الثورة ازدادت " أهمية الأشياء ، و خاصة الأدوات المنزلية ، لأنها تشكل علامة أكيدة للالتقاء في الفوضى الاجتماعية،واضطرابات الأشخاص النفسية."[44] وهو ما نلمسه في قصة " الغيم "، لأبي العيد دودو، حيث نجد الأثاث محطما : التفت الحسين " يبحث عن الكرسي ذي الأرجل الثلاث و جلس فوقه بحذر وهو يدفع بجسده إلى الخلف كيلا يختل توازنه فيقع على أحجار الشارع .."[45]

و في مثال آخر ، في القصة نفسها " و أردت أن أنهض فانكسرت بي رجل أحد الكراسي الأمامية فوقعت على وجهي ."[46]

و لعل هذا الانكسار لا يبتعد كثيرا عن الإحباط النفسي الخطير ، الذي يعيشه البطل " الحسين " مع بقية إخوانه الجزائريين ، فالفضاء الحسي الخارجي هو في الحقيقة فضاء نفسي داخلي .

وفي الحقيقة أنه "حين يقدم إلينا الكاتب نظرة معينة للعالم ، عن طريق البناء الرمزي فإننا نستطيع بشيء من التفكير أن نكتشف دلالة البناء لأنه بمثابة البديل عن الواقع،وليس هناك من سبيل سوى أن نرده إلى أصله الواقعي ."[47]

فالأشياء تكتسب أهميتها في العمل القصصي عندما تُشحن بأحاسيس و مشاعر تُؤثر في نفس المتلقي ، وبخاصة إذا كانت هذه الأشياء توحي بأبعاد تاريخية ، مثلما نجده عند " أبي العيد دودو" في قصة : " بحيرة الزيتون " حيث نمر عبر الرموز من خلال عوالم جزئية ، تشكلها الأشياء ، التي تكشف عن العالم الداخلي للنص القصصي . و التي سنركز عليها في هذا التحليل .

صعد الشيخ على كبره، الجبل القريب ليبحث عن الطبيب و لما تعذر عليه ذلك، لوجود جنود العدو " جمع بعض النباتات و مزج بعضها ببعض، ثم عصرهاو استخرج منها سائلا أخضر غامقا ، ظن أنه سيشفي شريفة، أو يطرد عنها رعدة الحمى ."[48]

و لا شك أن هذه النباتات بمثابة الأرصدة الحضارية ، التي أعادت للجزائر صحوتها ، و قد تتمثل في الدين و اللغة و التاريخ .

و إلى جانب ( الأعشاب ) نجد عنصر ( النار ) الذي يرمز عبر الدلالة ، إلى الثورة التي دبت في عروق الأم فهبّت واقفة . بحثت فاطمة عن الكبريت فلم تجده و مع ذلك لم تيأس، "التقطت عودا و نبشت به الرماد و إذا بها تلمح جمرات صغارا، فاعتراها تيار مرح سمح ، و قامت إلى الدكّة ، وأخرجت من جوفها قليلا من العشب و ألقت به على الجمرات و نفخت بكل قوتها ."[49]

ولعلنا لا نغالي إذا اعتبرنا هذه الجمرات رمزا للانتفاضات والمقاومات التي يذكرها لنا التاريخ مثل، ثورة (الأمير عبد القادر) و(المقراني)و (بوعمامة) و( الحداد ) و(الشريف بوبغلة ) و(الحسن بن عزوز) ... التي توهّجت ثم خبت تحت ضغط الاستعمار ، فما كانت تنتهي واحدة إلا لتبدأ الأخرى ، إلى أن جاءت ثورة " أول نوفمبر " العارمة التي هي بمثانة النار المتأججة التي أحدثتها نفخة "فاطمة" القوية .

استطاع "أبو العيد دودو" من خلال هذه الرموز الجزئية الصغيرة ، أن يُجسد، بطريقة فنية ، الأبعاد التاريخية ،والاجتماعية ،و السياسية، للثورة التحريرية الكبرى الخالدة .

و في الواقع " أن لكل شيء ›› وظيفته ‹‹ المباشرة الواضحة و لكننا حين ننظر إليه من الناحية ›› الفنية ‹‹ فإن هذا الشيء يتعدّى وظيفته الأولى و يكتسب وظيفة أخرى غير التي صنع من أجلها ."[50]

لقد أسهمت القصة القصيرة في أثناء الثورة التحريرية، في رسم الفضاء الساخن للمرحلة المثقلة بوسائل الدمار ، المتمثلة في الطائرات والدبابات والقنابل وغيرها من آليات الحرب التي ترمز إلى وحشية الاستعمار .

كما تميزت بعض القصص[51]، القليلة باتساع الحيز المكاني الشيء الذي يتنافى مع طبيعة القصة القصيرة ، التي تستوجب الفضاء الذي يتناسب مع قالبها الفني .

الإحالات

[1]- على سبيل المثال : - أبو العيد دودو " قريتنا تتحدى " مج " دار الثلاثة " ص 121.

- أبو العيد دودو " أم السعد " مج " بحيرة الزيتون "ص133.[2]

- " المصدر نفسه " ص 133.[3]

- غاستون باشلار " جماليات المكان " ص87.[4]

[5]- أوستن وارين " نظرية الأدب " ت محيي الدين صبحي مطبعة الطرابيشي، بيروت، 1972ص 288.

- أبو العيد دودو " أم السعد " مجموعة: " بحيرة الزيتون" ص 141.[6]

- أبو العيد دودو " قريتنا تتحدى " مجموعة: " دار الثلاثة " ص 127.[7]

- أبو العيد دودو " القائد" مجموعة " بحيرة الزيتون " ص 42.[8]

- غاستون باشلار " جماليات المكان " ص 163.[9]

- أبو العيد دودو " الفجر الجديد " مج " بحيرة الزيتون " 49.[10]

- أبو العيد دودو " الغيم " مج " بحيرة الزيتون" 99.[11]

- أبو العيد دودو " انتظار " مج " بحيرة الزيتون " ص 85.[12]

- المصدر نفسه ، 86.[13]

[14]- يوسف نوفل " قضايا الفن القصصي " دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1977 ،ص 84.

- عبد الحميد بن هدوقة " المسافر" مجموعة " الأشعة السبعة " ، ص 22 .[15]

[16]- جورج سالم " المغامرة الروائية " منشورات اتحاد الكتاب ، دمشق ، 1973 ، ص67.

- عبد الحميد بن هدوقة " المسافر" مج " الأشعة السبعة " ص 24- 25.[17]

- الطاهر وطار " محو العار" مج " دخان من قلبي" ص 121.[18]

- " " " نوة " مج دخان من قلبي " ص 93.[19]

- " " "الدروب " مج " الطعنات" ص 47.[20]

[21]- طه محمود طه " القصة في الأدب الإنجليزي " الدر القومية ، القاهرة ،1966 ص 168.

- ياسين النصير " الرواية و المكان " ص 133.[22]

- الطاهر وطار " دخان من قلبي " ص 141.[23]

- ياسين النصير " الرواية و المكان " ص 125-126.[24]

- الطاهر وطار " نوة " مج " دخان من قلبي " ص 112- 113.[25]

[26]- رشاد رشدي " فن القصة القصيرة " دار العودة ،بيروت ، ط3 ،1984ص 118.

- الطاهر وطار " " نوة " مج " دخان من قلبي " ص 117.[27]

- أنظر : ياسين النصير " الرواية و المكان " ص 27-40. [28]

[29]- أحمد إبراهيم الهواري "الرحيل إلى الأعماق"مجلة فصول،القاهرة ،م2،ع4 ،سبتمبر 1982،ص65.

- عبد الحميد بن هدوقة " المسافر " مج " الأشعة السبعة " ، ص 18.[30]

[31] -على سبيل المثال : أبو العيد دودو " أم السعد " مج " بحيرة الزيتون " ص 133.

- غاستون باشلار " جماليات المكان " ص 68-72.[32]

- أبو العيد دودو " حجر الوادي " مج " بحيرة الزيتون " ص 175.[33]

- عبد الحميد بن هدوقة " الرجل المزرعة " مج " الكاتب " ص 31.[34]

- ياسين النصير " الرواية و المكان " ص 57-58.[35]

- الطاهر وطار " الطاحونة " مج " الطعنات " ص 16.[36]

- الطاهر وطار " اليتامى" مج " الطعنات " ص116.[37]

- الطاهر وطار " محو العار" مج " دخان من قلبي " ص 138.[38]

- ياسين النصير " الرواية و المكان " ص 55-56.[39]

- الطاهر وطار " الدّروب " مج " الطعنات " ص49.[40]

- الطاهر وطار " نوة " مج " دخان من قلبي " ص 97.[41]

[42]- آلان روب جرييه " نحو رواية جديدة "ت مصطفى إبراهيم مصطفى دار المعارف،القاهرةد.ت ص130

- عبد الحميد بن هدوقة " الرجل المزرعة " مج الكاتب ،ص21.[43]

- ميشال بوتور " بحوث في الرواية الجديدة " ص 56.[44]

- أبو العيد دودو " الغيم " مج " بحيرة الزيتون " ص 99.[45]

- المصدر نفسه ، ص104.[46]

[47]- سمير حجازي"التفسير السيكولوجي لشيوع القصة القصيرة"فصول،القاهرة،م، ع4،سبتمبر82ص161.

- أبو اللعيد دودو " بحيرة الزيتون " ص 17.[48]

- أبو العيد دودو " بحيرة الزيتون " ص 17.[49]

- ميشال بوتور "المرجع السابق " ص 50.[50]

[51]- على سبيل المثال : - الطاهر وطار " محو العار " ص 121. و " نوة " مج " دخان من قلبي " ص 93.


د. أحمد طالب
جامعة تلمسان - الجزائر


* منقول للفائدة عن مجلةجامعة ورقلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى