د. الضاوي خوالدية - من منا الأبله؟!

رجني هذا السؤال أيام "ثورة" الخبز 1984 رجّا كاد يجهز عليّ لأنني كنت ورفاق نقابيون سياسيون آخرون نؤطر بالحوض المنجمي المستغل المحروم مظاهرات عارمة معادية لنظام حزب الدستور الفاشل الفاسد يحدونا أمل كبير في تداعيه وسقوطه المذل قريبا فإذا ببورقيبة يصرح بأن ثمن الخبزة باق على حاله (نرجعو وين كنا) فانفجرت الشوارع المنجمية بمظاهرات شعبية يقودها الدساترة مسؤولو حزب الدستور وميليشياته تعلن حبها لبورقيبة وتشبثها بنظامه مهددة معارضيه دالة فرق القوات الخاصة القناصة على من تقرر تصفيتهم بالمناسبة ويتذكر الجميع كم من معارض اصطيد يومها أما أنا فقد أنقذني من رصاص قناصة بورقيبة بالمتلوي الرجل الطاهر الورع الرباني المرحوم الناصر السحيمي وذلك بإسراعه ركضا إلى منزلي، بعد تلقيه خبر قرار إعدامي ذلك اليوم وأجبرني بقوة على الدخول وصرخ في وجه زوجتي قائلا: " ما تخليشو يخرج" وسدّ باب داري الخارجي بجسمه المكتنز حتى مرت الفرقة القناصة دون أن تراني، يومها تساءلت تساؤلا ذابحا : من منا الأبله؟ هل أن الأبله أنا ورفاق السياسة والنقابة لأننا لم نفهم الشعب وبالتالي لم نعرف كيف نتعامل معه أي نهيئه للثورة الناجحة على جلاديه أم أن الشعب هو الأبله لأنه لم يستوعب خطابنا على سهولته ووضوحه؟ ثم سرعان ما اقتنعت أن البلاهة تصيب الأفراد لا الشعوب إذن فالأبله هو أنا وكل المعارضين من سياسيين ونقابيين وقررت الرجوع إلى مقاعد الدراسة بالجامعة حتى تحصلت في مدة 15 عاما على كل الشهادات العلمية آملا أن يوسع العلم مداركي فأفهم شعبي. إن كنت مازلت مؤمنا أن البلاهة تصيب الأفراد لا الشعوب فإن شعوبا معينة قد تجرعت طيلة آلاف السنين استبدادا سياسيا وعسفا وظلما وقهرا وجهلا ومجابي قاصمة فتشكلت شخصيتها تشكلا مفعما بالخوف والذل والمكر والكذب والخديعة والفساد... طبعها وهنا وشعورا بالنقص والرضا بالدون والأنانية والغش والبخل وعدم الوفاء... شعب كالذي استثنيت قادر على صنع التحولات الكبرى في تاريخه؟
أشفيت بعد حصاد الشهائد العلمية من بلاهتي وقصوري أو بالأحرى عرفت من منا الأبله؟ إنّ اقتسام سلطات بن علي، والبلاد تغلي ثورة، على وزارائه، وهو مازال لم يغادر الأجواء التونسية هاربا وعودة المتظاهرين إلى دورهم سراعا عند سماع توجه ا"لمخلوع" إلى المطار لجريمة في حق الوطن والتاريخ والحضارة والإنسانية ولعنة في جبين النخبة عامة ! تلك النخبة مدعية المعارضة أو المفبركة لتلعب دور المعارضة وهي المصابة بأمراض خبيثة أخطرها ثلاثة: تربيتها في مدرسة بورقيبة وبن علي على أن المعارضة هي استعطاف الرئيس الفذ والانتشاء بمصافحته بعد كل سنتين مرة وجهلها المدقع أحوال البلاد والعباد وعلوم السياسة والثقافة واستئصال الخصم بالحوار السكاكيني... أالنخبة كالتي وصفت تنعت بالبلاهة أو الذكاء؟ إن من فضائحها التاريخية:
- دعوتها إلى إسقاط محمد المنصف المرزوقي وإنجاح الباجي السبسي الدستوري التجمعي رئيسا على أن المرزوقي مسهم بجهد كبير في الثورة وصاحب رؤية.
- تكوينها جبهة إنقاذ من الدساترة والتجمعيين فاسدي النظام السابق ومفسديه واليساريين والقوميين لإسقاط النهضة لأنها ترفع شعار الإسلام والهوية ! أتوجد قومية عربية دون إسلام يا قوميون؟
- تسويتها جهلا أو تعمدا بين الإسلام والسلفية الوهابية والاخوانية والقاعدية والداعشية... وإبرازها النهضة في تونس علامة "مسجلة" لجرائم المسلمين عبر تاريخهم ألم يقل أحدهم: "نحن ضد النهضة سواء كانت على حق أو على باطل"، إن بقاء الأحزاب أو اضمحلالها يعود إلى صناديق الاقتراع يا ديمقراطيون !.
- نفخها الروح في جثة بورقيبة ونصب التماثيل له مجددا وتقليده في مشيته ولباسه ونظارتيه وجلسته لأنها حمقاء خرقاء... فاقدة بالتالي الرؤية والبديل.
- إدعاء بعض اليساريين المتمركسين المتأمركين التجمعيين الندائيين الأمنيين السريين أيام الجامعة... أن بورقيبة أبوهم وليسوا أبناء آبائهم المكتوبة أسماؤهم في مضامين الولادة !
إنّ نخبة كالتي ذكرت بعض فضائحها وخورها لا يُنتظر منها أبدا أن تتصدى لعصابة غلاة العلمانيين التغريبيين اليساريين والليبيراليين النافذة الآن المحتكرة لمشروع الإصلاح التربوي الذي بدأت تفوح منه رائحة إبادة حضارة تونس العربية الإسلامية.

د. الضاوي خوالدية


أعلى