إشـــــارة مكـــشــوفــــة :
مبدئيا تنطلق هاته المقاربة النقدية للنص المسرحي– الوباء- للشاعر والمبدع عبدالكريم العامري؛ من الوضعية الحالية التي تمر منها البشرية الآن ؛ شرقا وغربا ، دولا وقارات الكل يقاوم شيئا غيرُ مرئي ؛ كل الأجهزة تسابق الزمن لمحو آثـر- فيروس - وبائي: لا شكل له ولا لون له ؛ كأنه شبح أوشئ من هذا القبيل؛ إنه ينتشر ويتفشى ؛ بشكل مثير للغاية ، مخلفا وراءه عشرات الآلاف من الوفيات والضحايا؛ غربا وجنوبا . نتيجة صعوبة مقاومته وعـدم معرفة علاجه ؛ وأي لُقــاح يناسبه ، وكـذا عَـدم الاستعداد لمواجهة لفيروس ( كورونا ) الذي يعتبر من مصاف الأوبئة الفتاكة ( حاليا ) .
وبناء عليه، كما أشرت بأن هاته القراءة مرتبطة جدليا بالوضع الكارثي/ الوبائي، الذي صنعه وباء فيروس كورونا ؛ مما أشرت في العنوان- قراءة وبــائية في رمزية الوباء- لأسباب ترتبط بالمظهر النفسي الذي نعيشه في ظل الحجر الصحي ؛ وإن كان مقبولا كشرط احترازي؛ منطقي. ولكن كفعل له استيهامات مثيرة جدا؛ في عقلية ونفسية أغلب المواطنين ؛ وخاصة أمام الأخبار التي تذيع وتنشر أرقاما مهولة للمصابين ولسقوط ضحايا هنا وهناك ؛ علاوة على الأحداث الأسرية والعائلية في معاناتها ومشاكلها وصراعاتها بين الأفراد ولقمة عيش. و التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي؛ تقريبها للجميع.
قـــراءة وبــائـية:
فهل نص [- الوباء- L'épidémie-] له علاقة بذلك ؟ طبعا لا علاقة له بناء على تاريخية الإنجاز(2018)وانتشار الوباء الكوروني(2020) ولكن هل له علاقة بإحدى نصوصنا التي تحمل نفس العنوان والمؤرخ في(2015) أم بنص الكاتب الإنجليزي - أوكتاف ميربو- والذي يحمل نفس العنوان ( الوباء) والمؤرخ في(1904) إطلاقا ؛ المسألة سوى تشابه العناوين؛ ليس إلا. ولكن وبالعَـودة للنص نجد في مدخله أوفي الإرشاد العام يشير:
[ زقاق قديم في مدينة ابتليت بالعمى وتكاد ان تكون مهجورة.. اظلام في العمق.. رجل 1 ورجل2 يمسكان ببعضهما ويمشيان حتى يصلا الى منتصف الزقاق] ومن خلال هذا الحوار:
رجل2: لست وحدك في هذا البلاء، كل الناس في المدينة اصيبوا بالعمى يقولون انه وباء.. رجل1: (مستغربا) وباء اصاب الجميع..؟ كيف..؟
رجل2: لا تسألني عن ذلك هو وباء وكفى.. هذا ما سمعته ممن بقي في المدينة..
يتضح لنا أن هناك فعلا (وباء ) والمتمثل في (العَـمى ) الذي أصيبت به مدينة ( مجهولة الاسم ) مدينة مجردة/ متخيلـة. ولكن ملامح المدينة شبه معلومة في ذهنية الكاتب؛ مادامت هنالك إشارة ( لزقاق قديم ) وإن كانت أغلب المدن تتوفرعليها .وبالتالي فمن خلال وباء العمى الذي يحمله نص الشاعر – عبدالكريم العامري- يفرض علينا أن نتساءل مرة أخرى : هل النص يحايث أو يتقاطع أو يتقابس ورواية ( العمى) لجوزيه ساراماغو؟ بحيث هاته الرواية تتحدث عن وباء غامض يُصيب تقريباً كل السكان في مدينة مجهولة الاسم، وذلك بشكل مفاجئ ! بحيث أول من أصبح أعمى طبيب العيون عقب معالجته لإحدى مرضاه بالوباء الذي سيُسمى فيما بعد " المرض الأبيض "باستثناء زوجة الطبيب فهي الشخصية الوحيدة التي لم تفقد بصرها. وإن تظاهرت بالعمى كذبا على الأطباء؛ لكي لا تفارق زوجها ولو أنه في الحجر الصحي ، مع بقية المصابين بالوباء. ونلامس بعضا منه تقريبا في الحوار التالي:
رجل1: لم أكن أشكو من أي مرض ولدي مناعة كافية كيف أصابني الوباء..؟
رجل2: يقولون ان هذا الوباء لن تمنعه اي مناعة ولن تستطيع ان تتفاديه حتى وان كنت
في صندوق مغلق..
رجل1: البارحة قبل أن أنام كنت أبصر..
فهاته الحوارات لا تعني إطلاقا أن هنالك تحويلا أو مقابسة لبعض ماورد في الرواية لصالح نص (الوباء- L'épidémie) فحتى وإن مارسنا التعَـسف على النص ؛ ومحاولة إقحامه فيما لا يقحم . تجاه الرواية الأولى( العمى) أو رواية [ بلد العميان ] لـهربرت جورج ويلز. بحيث انتشر نوع غامض من التهاب العيون اجتاح سُكان وَادٍ مَعزول بَين الجبال مما، يَتسبَّب في فقدان أبصارهم ؛ ليعيشوا على إيقاع العمى ؛ بحيث لا توجد كلمة اسمها أرى أو أبصر أبدًا . والتي يحاول ( نيونز ) أن يدافع عنها باعتباره الشخصية الوحيدة التي ترى. وكان أهل الجبال يفسرون ذلك الوباء نتيجة انتشار الخطايا بينهم. بمعنى أن مرض العمى قدري ولعنة ربانية ؛ نفس الرؤية منوجدة في نص (الوباء ) للمسرحي والإعلامي- ع الكريم العامري:
رجل2: انا مثلك تماما.. ما أصابك أصابني واصاب كل الناس..
الطبال: حقا..؟ كل الناس عميان..! هل هي لعنة نزلت بنا..
رجل2: ليست لعـنة.. هذا وباء..
وكما أشرت إن قمنا بنوع من التعـسف اللآنقدي/ اللاقرائي ؛ بين النص والروايتين ؛ سنحسم أن هنالك تقاطعا أو مقابسة بمنظور تركيبي/ تحايلي . لكن أثناء التمعـن في عمق الروايتين معا نستشف تلقائيا بأنهما أساسا مركّبين ومتعددي الأصوات والدلالات. حتى ولو تمت عملية الإختزال (العمى/ بلد العميان إلى الوباء) وبالتالي ما يمكن أن نستنتجه أن هناك تشبع قرائي للمبدع – العامري- وهذا التشبع له ارتباط بتعدد مساراته الإبداعية من شعر/ رواية/ مسرح/ وهذا التشبع يلغي أي تأويل بأن النص له مرجعيته الإحالية التي تكمن في الروايتين؛ بالعكس فالمرجعية الإحالية تكمن في الواقع كما يراه الكاتب المائز- ع الكريم-
رمـزية الـــوباء :
كاتب النص – عراقي – الأصل والنسب؛ ويعلم كل واحد منا ؛ ما آلت إليه الحياة العراقية سياسيا / ثقافيا / اجتماعيا / في براثين المأساة ؛والتطاحن على السلطة ؛ ناهينا عن الخراب والانفجارات اليومية. مما تحول آمل وحلم كل العراقيين بما فيهم المبدعين والأدباء ؛ إلى سراب ومعايشة تراجيديا السقوط ؛ بدل أن يرفلوا في الأمل المشرق بمعالم الحرية والديمقراطية وتعدد الأصوات بدون خلفيات سياسية أو طائفية أو عشائرية. لكن واقع الحال العراقي، المأساوي ولا خلاف ولا مزايدات حول حياته السياسية والاقتصادية ؛ و أغلب هاته وأكثر تـتجسد الآن في عدة نصوص قصصية / روائية/ مسرحية/ شعرية / كرد فعل مجتمعي نفسي ـ ثقافي من أجل غد افضل إشراقة؛ وبالتالي فأغلبية ما اطلعت عليه من أعمال الإخوة والأساتذة والمبدعين العراقيين تميل وتنحو نحو الرمزية والتجريد كمنطلقات تعبيرية عن أفكار وإيديولوجيات ورؤى سياسية، قد يتعذر عليهم التصريح بها حاليا. لأسباب ليس مجالها هاهنا ونص الوباء ينتهج ذلك :
الطبال: انا أطبل للجميع.. الفن من أجل الجميع..
رجل2: ان لم يحدث الفن تغييرا فلا خير به..
الطبال: تقصد اننا معشر الطبالين سبب هذا البلاء..
رجل2: كلنا نشترك فيه.. كل ذي صاحب لسان ولم ينطق الحق مشترك في هذه البلوى..
يبدو ان هذا المقطع تجريدي ؛ ينعكس على أي محيط ؛ ولاسيما أن شخصية الطبال يرمز لها تحديدا ( فنان) وهاته الصفة تشمل كل ممارس للفن ؛ ولكن هل الفنان هو المسؤول المباشر عن سبب هذا ( البلاء/ الوباء ) ؟ ولكن في أي مدينة/ محيط يوجد ذاك الطبال ؟
فمن خلال استحضار ملحمة جلجامش و اختراقها – النص- بشكل ذكي؛ كإشارة دالة ميثولوجيا لبلاد الرافدين ( العراق) القديمة ؛ ونحن أمام نص ليس بقديم ؛ جدليا نحن أمام محيط عراقي والطبال كذلك
رجل2: (ضاحكا) جميل جدا، سنعود الى أصولنا.. ربما ستكون أنت أنكيدو وأنا جلجامش..(يضحك) رجل1: انت تسخر مني.. رجل2: بل قل يضحكني تفكيرك.. انا اتحدث مع رجل متعلم، انت مدرس تاريخ وكنت تحدثنا في جلساتنا عن عشبة الخلود التي ضيعها جلجامش وكنا نصدقك.. بربك، هل هناك عشبة في العالم تجعلك خالدا..؟
رجل1: هذا ما يقوله التاريخ وليس انا..
إذن فتوظيف ثلاث شخصيات (رجل 1- ( مدرس تاريخ)/ رجل2 – ( عادي)/ الطبال( فنان) أعطوا نكهة للعـب ذي العلاقة بالعمى ؛ وهذا يمكن تلمسه في العملية التداولية التي فرضها الخطابي (النصي) كمحاولة فنية / لغوية ؛ للانزياح من الخروج من الدلالة الرمزية التي حصر نص- الوباء- نفسه فيها. باعتبار أن المعاني الرمزية، تكون لها مدلولات متعددة ومتضاربة في آن واحد. ووعيا من الكاتب بهذا الأمر؛ فإنه وظف أغلب الدلالات ، للإحاطة بالسياق العام للوباء ؛ إذ اعتبر أن الوباء مؤامرة ؛ كحجية لما يتداول أمام أي معضلة داخلية:
رجل1: هذا ليس وباء.. هذه مؤامرة ..!
رجل2: (يضحك) دخلنا في العميق.. مؤامرة؟ اتقول مؤامرة..؟ لمصلحة من تلك المؤامرة..؟
رجل1: تعرفهم جيدا.. اولئك الذين لم يصبهم الوباء.. في بروجهم العالية يراقبوننا يتجسسون على افعالنا يحبسون عنا الهواء ويحاولون ان يقتادوننا حيثما شاؤوا..
فالذي يصرح أنها مؤامرة ( رجل1: هويته الواقعية = رجل متعلم و مدرس تاريخ) ولا يمكن لأستاذ التاريخ أن يجازف بالقول: أن الوباء /المرض= مؤامرة ؛ ولكن إشارة قبلية لتأطير رمزية الوباء . تلك الرمزية التي تتحدد في الآخر/الآخرون المشار إليهم ب
( اولئك الذين لم يصبهم الوباء.. في بروجهم العالية...)
إذن الجحيم هو الآخرون ؛ حسب منطق سارتر. وهـنا فالكاتب استعار الجحيم باعتباره صنيعة (مؤامرة ) خارجية ( الإمبريالية)وهذا معروف دوليا؛ ولكن قراءته تختلف. من هنا فكاتبنا قرأ الجحيم بمثابة (الوباء) الذي تعـيشه المدينة (العراق ) اليوم.
إذ الجميل في النص؛ أنه سعى أن ينبش في شتى مجالات تحيط بالوباء؛ ثقافيا / سياسيا / فنيا / دينيا / ونلاحظ عيانيا كيف حاولت سلطة الفقيه أن تؤطر وباء كورونا من الجانب العقائدي؛ ومن خلال النص إن حاولنا صياغة الجحيم بالمفهوم الديني ( الوباء / العمى)= الجحيم/ العـذاب/ مما تكون الصلاة والدعاء هي المخرج الوحيد للخلاص من (العذاب):
رجل2: ادعو ربك أن يبصرك.. ربما ينفعك الدعاء..
رجل1: وهل يصل الدعاء في مدينة كهذه..؟
رجل2: لم لا يصل..؟ ما بها هذه المدينة كل شوارعها نظيفة..
رجل1: وماذا عن النفوس الوسخة.. هل ينفع معها الدعاء..؟
هنا تنطرح إشكالية ( النفوس الوسخة) من هي ؟ التي تلغي منظور المؤامرة ( الخارجية) ليصبح الوباء/ الجحيم مؤامرة ( داخلية) وطبيعي أن أي ممارسة تأمريه تكون لديها أطراف خارجية بإيعاز من أطراف داخلية ؛ والعكس صائب كذلك. ونهاية المطاف تصبح الاطراف الداخلية / تابعة / ذيلية وهذا واقع سياسي / عربي؛ لكن المعضلة التي يعاني منها المجتمع العربي ؛ أن المواطن يصبح ضحية ؛ لسياسة أهواء الطرف الداخلي الذي يخضع لقرارات وتعليمات الطرف الخارجي( المتحكم في اللعبة )وبالتالي يتحول لديكتاتور ومستبد والتي رمز له النص ب(الجزار) هنا من صنع الجزار؟ النص يُحّمل الأمر والمسؤولية المباشرة للمواطن؛ ربما يقصد عملية الاختيار إبان الاقتراع الانتخابي؛ سواء الرئاسي/ البرلماني ؛ هو الذي يحدد مصير الإنسان والوطن . أومن خلاله يتشكل الوباء/ الجحيم للوطن و الإنسان . وهذا ليس ببعيد؛ ومادام الوضع الوبائي جاثما على المدينة . فالاختيار الذي وقع عدة مرات لرجالات السلطة؛ اختيار خطأ وخاطئ من أساسه. والحوار التالي يوضح هذا الأمر؛ ولكن قبل أشير إليه؛ نجد في النص حوارا عميق الدلالة يتكلم به :
(رجل2): سمعت أن هناك رجلا في المدينة يحاول أن يخلصنا من هذا الوباء..
فهذا الحوار صورة للكلام العادي والمتداول في المجتمع بجميع أبعاده، و يشمل كذلك البعد الشاعري الذي يتحكم ديناميكيا في العلاقات الإنسانية. والمحددة في فعل( سمعتُ) (فعل/ ماض) والذي يتكرر عدة مرات والتي يحسمها كذلك
(رجل2): سمعتُ أيضا أنه صنع جهازا يعيدنا الى ما قبل الوباء..
هنا إشارة قوية لما وراء الحوار بأن المدينة عمليا تغرق في نفق مظلم وقاتم ؛ وما يروج حول ذاك ( الشخص) اختياره سيعيد المدينة لأفظع من الجحيم الذي هي فيه ؛ والحوار التالي يكشف ولو رمزيا هاته الحقيقة؛ أي العودة للمدينة البوليسية/ الديكتاتورية :
رجل2: هو يعمل في دائرة الابحاث وعنده مفاتيح كل شيء..
وهذا ناتج عن فعل ( سمعتُ) كمركب من ( السماع/ المتكلم) فرأسيا يفرض تعدد المعاني والدلالات التي يمكن أن نؤطرها في خانة ( الإشاعة / الدعاية/ الكذب/ التضليل/...) لأنه ناتج عن فعل لخطاب متكلمين كثر في الواقع والمحيط الإجتماعي. ومن ثمة فهو يُعبر عن خفايا النفس الإنسانية والكاتب – ع الكريم العامري- بدوره لا يخرج عن الأعراف الخطابية والإجتماعية للغة المتداولة ؛ والتي بشكل أو أخر مساهمة في كتابة النص ؛ اعتبارا أن المسرح في عموميته تجسيد حقيقي لما يحتويه الواقع من مظاهر إما خطابية وطبيعية واجتماعية و نفسية. وهذا يحيلنا للحوار صادق ومجسد للواقع ، كيف يراه الكاتب
رجل2: مميزون بكل شيء.. بالكذب والنفاق والعمى أيضا..
الطبال: نحن لا نكذب ولا ننافق..
رجل2: لكنكم تطبلون لهذا وذاك...تطبلون لكل جزار..
الطبال: اللحوم الحمراء تغرينا.. لم لا نطبل للجزار وهو يشبعنا..
رجل2: يشبعكم ذلا وقهرا..
هنا نستنتج بأن الوباء ارتبط بالعمى، والعمى بالكذب والنفاق؛ كتخريجات عن هشاشة الأخلاق والمبادئ الإنسانية . مظهريا ؛ ولكن عمليا هي تخريجة عن هشاشة سياسية صرفة ؛ تلك الهشاشة هي سبب الجحيم الذي نعيشه ؛ طبعا ناتج عن العمى/ الضلال/ الجهل في الاختيار. اختيار جزارين لديهم استعداد لممارسة الاستبداد والقتل والخيانة وارتكاب كافة الجرائم في حق الشعب من أجل البقاء؛ ورغم ذلك نطبل لهم ونبارك لهم؛ هنا النص سقط في شوفينية غير متوقعة؛ بحيث العمى أصاب الكل باستثناء ذاك (الرجل)الذي يعمل في دائرة الابحاث وعنده مفاتيح كل شيء. وهـذا الاستثناء تم عن طريق ( السماع ) فـلماذا حمَّل الكاتب سبب الوباء للطبال: الذي يؤشر عليه النص كما قلت سابقا ونضيف أنه :(شخصية عامة) و(مطرب)و(مبدع )و( كاتب) و(...)
رجل1: يبدو أنك أيها الطبال سبب بلائنا..
الطبال: (مستفزا) كنت صامتا طيلة الوقت وعندما نطقت تتهمني بالبلوى. انا مثلكما اصبت بالعمى ..
رجل1: ومن لم يصب به.. يبدو ان هذا الوباء لا يعرف الا الفقراء..
هنا ينتقل النص من الشوفينية إلى التخصيص والتفيء ؛ بأن الوباء/ الجحيم لا يشمل أو يصيب إلا الفقراء؛ فهل القصد بالفقراء من الزاوية المادية أو الفكرية أو السياسية ؟
بما أن النص في كليته يحمل بعْـدا فكري/ إيديولوجيا؛ وإن أغفل الجانب الجمالي؛ نتيجة البعد المضمر في ذهنية الكاتب والمتمثل في القلق الوجودي؛ حتى أنه أدخـل (الطبال) عن طريق (رجل1/ أستاذ التاريخ) في قلق وجودي؛ الذي يعيشه :
رجل1: اي جمال تتحدث عنه..؟ لا أرى جمالا ولن أراه أبدا..
هـذا وإن كانت أغلب حوارات (الطبال) تنم عن قلق حاد من العمى؟ وفي ظلها فالإشارة واضحة للفـقـراء ( سياسيا ) كفاعل في [ الوباء = ( العمى) = الجحيم ]:
رغم محاولة إقحام الدين مرة أخرى؛ في تركيب دلالي رهيب الدين/ السياسة وهـذا ما عشناه في بداية اجتياح وباء ( كورونا) أن الدين وسلطة الفقيه تدخلت في الوباء؛ واعتبرته بلاء إلهيا بحكم أن الفيروس جُند من جنود الله ولقد أرسله الله تعالى عقابا للدول ( الكافرة / الفاجرة ) لما ألت إليه الأمور من فساد وتسلط وابتعاد عن الطريق السوي ؛ فهذا التصور حاضر في النص كما يشير: (ربما ينفعك الدعاء../ هذا القدر! / هل هي لعـنة نزلت بنا../....) وإن كان هذا مطروحا فالنص يخالف هاته المنطلقات ؛ محددا نفسه في سياق بعده سياسي صرف؛ وليس مسرحا سياسيا كما سيفهم
رجل2: حين يرى الرب ان لا فائدة من تلك الاعين يطمسها.. كنا نرى كل ما يغضبه ونرضى جلبنا لأنفسنا البلوى بأيدينا وصرنا نندب حظنا.. تركيب دلالي رهيب الدين/ السياسة
رجل1: الرب لا يطمس ما صنعه ما قلته ليس صحيحا..
فمعارضة ( رجل1/ مدرس تاريخ) أمالت الكفة نـحو السبب المباشر لاستفحال الوباء الذي تحول لجحيم قاتل ومدمر . وبالتالي فصرخات (رجل2 ( محاولة توعوية/ نضالية ؛ للخروج من دائرة الجحيم الذي يعيشون فيه ، وكذا إيمانا منه أن رؤية القلب بديل عن رؤية العين. ومن خلال هاته الرؤية ؛ تجعل الإنسان حرا . والفقراء أحرار كذلك وبإمكانهم كسر الجحيم . فعَـبر هـذا الطرح . أين يكمن صوت الكاتب هل يتجسد في (الطبال )أم في( رجل)1 أم في ( رجل2)
رجل2: جهلكم هذا جعل كل من هب ودب ان يسيطر على مصائركم..
الطبال: تقصد الحكومة..؟ ها.. الحكومة.. قلها ولا تستحي.. تريدني ان اشترك في تغيير الحكومة.. انقلاب يعني.. نذيع به البيان رقم 1 (يصمت قليلا) لماذا هو البيان رقم 1 لم لا يكون البيان رقم 5 لأننا شهدنا اربعة انقلابات من قبل ..؟
رجل2: لم تعد الانقلابات تنفع.. الرؤوس كثيرة ومن الصعب جمعها في سلة واحدة..
الطبال: بدأت اشك فيك أنت لست اعمى، انت مبصر وتريد ان تزحلقني للمعتقل..
رجل2: قبل ان ترى في عينيك أبصر في قلبك.. اجعله مجسا تستطيع ان ترى ما ينفع الناس..
فمن خلال التأمل في هاته الحوارات يمكن لقارئ لهاته القراءة المتواضعة أن يستشف أين يكمن صوت كاتبنا – ع الكريم العامري –
فـــاس 02/05 2020
مبدئيا تنطلق هاته المقاربة النقدية للنص المسرحي– الوباء- للشاعر والمبدع عبدالكريم العامري؛ من الوضعية الحالية التي تمر منها البشرية الآن ؛ شرقا وغربا ، دولا وقارات الكل يقاوم شيئا غيرُ مرئي ؛ كل الأجهزة تسابق الزمن لمحو آثـر- فيروس - وبائي: لا شكل له ولا لون له ؛ كأنه شبح أوشئ من هذا القبيل؛ إنه ينتشر ويتفشى ؛ بشكل مثير للغاية ، مخلفا وراءه عشرات الآلاف من الوفيات والضحايا؛ غربا وجنوبا . نتيجة صعوبة مقاومته وعـدم معرفة علاجه ؛ وأي لُقــاح يناسبه ، وكـذا عَـدم الاستعداد لمواجهة لفيروس ( كورونا ) الذي يعتبر من مصاف الأوبئة الفتاكة ( حاليا ) .
وبناء عليه، كما أشرت بأن هاته القراءة مرتبطة جدليا بالوضع الكارثي/ الوبائي، الذي صنعه وباء فيروس كورونا ؛ مما أشرت في العنوان- قراءة وبــائية في رمزية الوباء- لأسباب ترتبط بالمظهر النفسي الذي نعيشه في ظل الحجر الصحي ؛ وإن كان مقبولا كشرط احترازي؛ منطقي. ولكن كفعل له استيهامات مثيرة جدا؛ في عقلية ونفسية أغلب المواطنين ؛ وخاصة أمام الأخبار التي تذيع وتنشر أرقاما مهولة للمصابين ولسقوط ضحايا هنا وهناك ؛ علاوة على الأحداث الأسرية والعائلية في معاناتها ومشاكلها وصراعاتها بين الأفراد ولقمة عيش. و التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي؛ تقريبها للجميع.
قـــراءة وبــائـية:
فهل نص [- الوباء- L'épidémie-] له علاقة بذلك ؟ طبعا لا علاقة له بناء على تاريخية الإنجاز(2018)وانتشار الوباء الكوروني(2020) ولكن هل له علاقة بإحدى نصوصنا التي تحمل نفس العنوان والمؤرخ في(2015) أم بنص الكاتب الإنجليزي - أوكتاف ميربو- والذي يحمل نفس العنوان ( الوباء) والمؤرخ في(1904) إطلاقا ؛ المسألة سوى تشابه العناوين؛ ليس إلا. ولكن وبالعَـودة للنص نجد في مدخله أوفي الإرشاد العام يشير:
[ زقاق قديم في مدينة ابتليت بالعمى وتكاد ان تكون مهجورة.. اظلام في العمق.. رجل 1 ورجل2 يمسكان ببعضهما ويمشيان حتى يصلا الى منتصف الزقاق] ومن خلال هذا الحوار:
رجل2: لست وحدك في هذا البلاء، كل الناس في المدينة اصيبوا بالعمى يقولون انه وباء.. رجل1: (مستغربا) وباء اصاب الجميع..؟ كيف..؟
رجل2: لا تسألني عن ذلك هو وباء وكفى.. هذا ما سمعته ممن بقي في المدينة..
يتضح لنا أن هناك فعلا (وباء ) والمتمثل في (العَـمى ) الذي أصيبت به مدينة ( مجهولة الاسم ) مدينة مجردة/ متخيلـة. ولكن ملامح المدينة شبه معلومة في ذهنية الكاتب؛ مادامت هنالك إشارة ( لزقاق قديم ) وإن كانت أغلب المدن تتوفرعليها .وبالتالي فمن خلال وباء العمى الذي يحمله نص الشاعر – عبدالكريم العامري- يفرض علينا أن نتساءل مرة أخرى : هل النص يحايث أو يتقاطع أو يتقابس ورواية ( العمى) لجوزيه ساراماغو؟ بحيث هاته الرواية تتحدث عن وباء غامض يُصيب تقريباً كل السكان في مدينة مجهولة الاسم، وذلك بشكل مفاجئ ! بحيث أول من أصبح أعمى طبيب العيون عقب معالجته لإحدى مرضاه بالوباء الذي سيُسمى فيما بعد " المرض الأبيض "باستثناء زوجة الطبيب فهي الشخصية الوحيدة التي لم تفقد بصرها. وإن تظاهرت بالعمى كذبا على الأطباء؛ لكي لا تفارق زوجها ولو أنه في الحجر الصحي ، مع بقية المصابين بالوباء. ونلامس بعضا منه تقريبا في الحوار التالي:
رجل1: لم أكن أشكو من أي مرض ولدي مناعة كافية كيف أصابني الوباء..؟
رجل2: يقولون ان هذا الوباء لن تمنعه اي مناعة ولن تستطيع ان تتفاديه حتى وان كنت
في صندوق مغلق..
رجل1: البارحة قبل أن أنام كنت أبصر..
فهاته الحوارات لا تعني إطلاقا أن هنالك تحويلا أو مقابسة لبعض ماورد في الرواية لصالح نص (الوباء- L'épidémie) فحتى وإن مارسنا التعَـسف على النص ؛ ومحاولة إقحامه فيما لا يقحم . تجاه الرواية الأولى( العمى) أو رواية [ بلد العميان ] لـهربرت جورج ويلز. بحيث انتشر نوع غامض من التهاب العيون اجتاح سُكان وَادٍ مَعزول بَين الجبال مما، يَتسبَّب في فقدان أبصارهم ؛ ليعيشوا على إيقاع العمى ؛ بحيث لا توجد كلمة اسمها أرى أو أبصر أبدًا . والتي يحاول ( نيونز ) أن يدافع عنها باعتباره الشخصية الوحيدة التي ترى. وكان أهل الجبال يفسرون ذلك الوباء نتيجة انتشار الخطايا بينهم. بمعنى أن مرض العمى قدري ولعنة ربانية ؛ نفس الرؤية منوجدة في نص (الوباء ) للمسرحي والإعلامي- ع الكريم العامري:
رجل2: انا مثلك تماما.. ما أصابك أصابني واصاب كل الناس..
الطبال: حقا..؟ كل الناس عميان..! هل هي لعنة نزلت بنا..
رجل2: ليست لعـنة.. هذا وباء..
وكما أشرت إن قمنا بنوع من التعـسف اللآنقدي/ اللاقرائي ؛ بين النص والروايتين ؛ سنحسم أن هنالك تقاطعا أو مقابسة بمنظور تركيبي/ تحايلي . لكن أثناء التمعـن في عمق الروايتين معا نستشف تلقائيا بأنهما أساسا مركّبين ومتعددي الأصوات والدلالات. حتى ولو تمت عملية الإختزال (العمى/ بلد العميان إلى الوباء) وبالتالي ما يمكن أن نستنتجه أن هناك تشبع قرائي للمبدع – العامري- وهذا التشبع له ارتباط بتعدد مساراته الإبداعية من شعر/ رواية/ مسرح/ وهذا التشبع يلغي أي تأويل بأن النص له مرجعيته الإحالية التي تكمن في الروايتين؛ بالعكس فالمرجعية الإحالية تكمن في الواقع كما يراه الكاتب المائز- ع الكريم-
رمـزية الـــوباء :
كاتب النص – عراقي – الأصل والنسب؛ ويعلم كل واحد منا ؛ ما آلت إليه الحياة العراقية سياسيا / ثقافيا / اجتماعيا / في براثين المأساة ؛والتطاحن على السلطة ؛ ناهينا عن الخراب والانفجارات اليومية. مما تحول آمل وحلم كل العراقيين بما فيهم المبدعين والأدباء ؛ إلى سراب ومعايشة تراجيديا السقوط ؛ بدل أن يرفلوا في الأمل المشرق بمعالم الحرية والديمقراطية وتعدد الأصوات بدون خلفيات سياسية أو طائفية أو عشائرية. لكن واقع الحال العراقي، المأساوي ولا خلاف ولا مزايدات حول حياته السياسية والاقتصادية ؛ و أغلب هاته وأكثر تـتجسد الآن في عدة نصوص قصصية / روائية/ مسرحية/ شعرية / كرد فعل مجتمعي نفسي ـ ثقافي من أجل غد افضل إشراقة؛ وبالتالي فأغلبية ما اطلعت عليه من أعمال الإخوة والأساتذة والمبدعين العراقيين تميل وتنحو نحو الرمزية والتجريد كمنطلقات تعبيرية عن أفكار وإيديولوجيات ورؤى سياسية، قد يتعذر عليهم التصريح بها حاليا. لأسباب ليس مجالها هاهنا ونص الوباء ينتهج ذلك :
الطبال: انا أطبل للجميع.. الفن من أجل الجميع..
رجل2: ان لم يحدث الفن تغييرا فلا خير به..
الطبال: تقصد اننا معشر الطبالين سبب هذا البلاء..
رجل2: كلنا نشترك فيه.. كل ذي صاحب لسان ولم ينطق الحق مشترك في هذه البلوى..
يبدو ان هذا المقطع تجريدي ؛ ينعكس على أي محيط ؛ ولاسيما أن شخصية الطبال يرمز لها تحديدا ( فنان) وهاته الصفة تشمل كل ممارس للفن ؛ ولكن هل الفنان هو المسؤول المباشر عن سبب هذا ( البلاء/ الوباء ) ؟ ولكن في أي مدينة/ محيط يوجد ذاك الطبال ؟
فمن خلال استحضار ملحمة جلجامش و اختراقها – النص- بشكل ذكي؛ كإشارة دالة ميثولوجيا لبلاد الرافدين ( العراق) القديمة ؛ ونحن أمام نص ليس بقديم ؛ جدليا نحن أمام محيط عراقي والطبال كذلك
رجل2: (ضاحكا) جميل جدا، سنعود الى أصولنا.. ربما ستكون أنت أنكيدو وأنا جلجامش..(يضحك) رجل1: انت تسخر مني.. رجل2: بل قل يضحكني تفكيرك.. انا اتحدث مع رجل متعلم، انت مدرس تاريخ وكنت تحدثنا في جلساتنا عن عشبة الخلود التي ضيعها جلجامش وكنا نصدقك.. بربك، هل هناك عشبة في العالم تجعلك خالدا..؟
رجل1: هذا ما يقوله التاريخ وليس انا..
إذن فتوظيف ثلاث شخصيات (رجل 1- ( مدرس تاريخ)/ رجل2 – ( عادي)/ الطبال( فنان) أعطوا نكهة للعـب ذي العلاقة بالعمى ؛ وهذا يمكن تلمسه في العملية التداولية التي فرضها الخطابي (النصي) كمحاولة فنية / لغوية ؛ للانزياح من الخروج من الدلالة الرمزية التي حصر نص- الوباء- نفسه فيها. باعتبار أن المعاني الرمزية، تكون لها مدلولات متعددة ومتضاربة في آن واحد. ووعيا من الكاتب بهذا الأمر؛ فإنه وظف أغلب الدلالات ، للإحاطة بالسياق العام للوباء ؛ إذ اعتبر أن الوباء مؤامرة ؛ كحجية لما يتداول أمام أي معضلة داخلية:
رجل1: هذا ليس وباء.. هذه مؤامرة ..!
رجل2: (يضحك) دخلنا في العميق.. مؤامرة؟ اتقول مؤامرة..؟ لمصلحة من تلك المؤامرة..؟
رجل1: تعرفهم جيدا.. اولئك الذين لم يصبهم الوباء.. في بروجهم العالية يراقبوننا يتجسسون على افعالنا يحبسون عنا الهواء ويحاولون ان يقتادوننا حيثما شاؤوا..
فالذي يصرح أنها مؤامرة ( رجل1: هويته الواقعية = رجل متعلم و مدرس تاريخ) ولا يمكن لأستاذ التاريخ أن يجازف بالقول: أن الوباء /المرض= مؤامرة ؛ ولكن إشارة قبلية لتأطير رمزية الوباء . تلك الرمزية التي تتحدد في الآخر/الآخرون المشار إليهم ب
( اولئك الذين لم يصبهم الوباء.. في بروجهم العالية...)
إذن الجحيم هو الآخرون ؛ حسب منطق سارتر. وهـنا فالكاتب استعار الجحيم باعتباره صنيعة (مؤامرة ) خارجية ( الإمبريالية)وهذا معروف دوليا؛ ولكن قراءته تختلف. من هنا فكاتبنا قرأ الجحيم بمثابة (الوباء) الذي تعـيشه المدينة (العراق ) اليوم.
إذ الجميل في النص؛ أنه سعى أن ينبش في شتى مجالات تحيط بالوباء؛ ثقافيا / سياسيا / فنيا / دينيا / ونلاحظ عيانيا كيف حاولت سلطة الفقيه أن تؤطر وباء كورونا من الجانب العقائدي؛ ومن خلال النص إن حاولنا صياغة الجحيم بالمفهوم الديني ( الوباء / العمى)= الجحيم/ العـذاب/ مما تكون الصلاة والدعاء هي المخرج الوحيد للخلاص من (العذاب):
رجل2: ادعو ربك أن يبصرك.. ربما ينفعك الدعاء..
رجل1: وهل يصل الدعاء في مدينة كهذه..؟
رجل2: لم لا يصل..؟ ما بها هذه المدينة كل شوارعها نظيفة..
رجل1: وماذا عن النفوس الوسخة.. هل ينفع معها الدعاء..؟
هنا تنطرح إشكالية ( النفوس الوسخة) من هي ؟ التي تلغي منظور المؤامرة ( الخارجية) ليصبح الوباء/ الجحيم مؤامرة ( داخلية) وطبيعي أن أي ممارسة تأمريه تكون لديها أطراف خارجية بإيعاز من أطراف داخلية ؛ والعكس صائب كذلك. ونهاية المطاف تصبح الاطراف الداخلية / تابعة / ذيلية وهذا واقع سياسي / عربي؛ لكن المعضلة التي يعاني منها المجتمع العربي ؛ أن المواطن يصبح ضحية ؛ لسياسة أهواء الطرف الداخلي الذي يخضع لقرارات وتعليمات الطرف الخارجي( المتحكم في اللعبة )وبالتالي يتحول لديكتاتور ومستبد والتي رمز له النص ب(الجزار) هنا من صنع الجزار؟ النص يُحّمل الأمر والمسؤولية المباشرة للمواطن؛ ربما يقصد عملية الاختيار إبان الاقتراع الانتخابي؛ سواء الرئاسي/ البرلماني ؛ هو الذي يحدد مصير الإنسان والوطن . أومن خلاله يتشكل الوباء/ الجحيم للوطن و الإنسان . وهذا ليس ببعيد؛ ومادام الوضع الوبائي جاثما على المدينة . فالاختيار الذي وقع عدة مرات لرجالات السلطة؛ اختيار خطأ وخاطئ من أساسه. والحوار التالي يوضح هذا الأمر؛ ولكن قبل أشير إليه؛ نجد في النص حوارا عميق الدلالة يتكلم به :
(رجل2): سمعت أن هناك رجلا في المدينة يحاول أن يخلصنا من هذا الوباء..
فهذا الحوار صورة للكلام العادي والمتداول في المجتمع بجميع أبعاده، و يشمل كذلك البعد الشاعري الذي يتحكم ديناميكيا في العلاقات الإنسانية. والمحددة في فعل( سمعتُ) (فعل/ ماض) والذي يتكرر عدة مرات والتي يحسمها كذلك
(رجل2): سمعتُ أيضا أنه صنع جهازا يعيدنا الى ما قبل الوباء..
هنا إشارة قوية لما وراء الحوار بأن المدينة عمليا تغرق في نفق مظلم وقاتم ؛ وما يروج حول ذاك ( الشخص) اختياره سيعيد المدينة لأفظع من الجحيم الذي هي فيه ؛ والحوار التالي يكشف ولو رمزيا هاته الحقيقة؛ أي العودة للمدينة البوليسية/ الديكتاتورية :
رجل2: هو يعمل في دائرة الابحاث وعنده مفاتيح كل شيء..
وهذا ناتج عن فعل ( سمعتُ) كمركب من ( السماع/ المتكلم) فرأسيا يفرض تعدد المعاني والدلالات التي يمكن أن نؤطرها في خانة ( الإشاعة / الدعاية/ الكذب/ التضليل/...) لأنه ناتج عن فعل لخطاب متكلمين كثر في الواقع والمحيط الإجتماعي. ومن ثمة فهو يُعبر عن خفايا النفس الإنسانية والكاتب – ع الكريم العامري- بدوره لا يخرج عن الأعراف الخطابية والإجتماعية للغة المتداولة ؛ والتي بشكل أو أخر مساهمة في كتابة النص ؛ اعتبارا أن المسرح في عموميته تجسيد حقيقي لما يحتويه الواقع من مظاهر إما خطابية وطبيعية واجتماعية و نفسية. وهذا يحيلنا للحوار صادق ومجسد للواقع ، كيف يراه الكاتب
رجل2: مميزون بكل شيء.. بالكذب والنفاق والعمى أيضا..
الطبال: نحن لا نكذب ولا ننافق..
رجل2: لكنكم تطبلون لهذا وذاك...تطبلون لكل جزار..
الطبال: اللحوم الحمراء تغرينا.. لم لا نطبل للجزار وهو يشبعنا..
رجل2: يشبعكم ذلا وقهرا..
هنا نستنتج بأن الوباء ارتبط بالعمى، والعمى بالكذب والنفاق؛ كتخريجات عن هشاشة الأخلاق والمبادئ الإنسانية . مظهريا ؛ ولكن عمليا هي تخريجة عن هشاشة سياسية صرفة ؛ تلك الهشاشة هي سبب الجحيم الذي نعيشه ؛ طبعا ناتج عن العمى/ الضلال/ الجهل في الاختيار. اختيار جزارين لديهم استعداد لممارسة الاستبداد والقتل والخيانة وارتكاب كافة الجرائم في حق الشعب من أجل البقاء؛ ورغم ذلك نطبل لهم ونبارك لهم؛ هنا النص سقط في شوفينية غير متوقعة؛ بحيث العمى أصاب الكل باستثناء ذاك (الرجل)الذي يعمل في دائرة الابحاث وعنده مفاتيح كل شيء. وهـذا الاستثناء تم عن طريق ( السماع ) فـلماذا حمَّل الكاتب سبب الوباء للطبال: الذي يؤشر عليه النص كما قلت سابقا ونضيف أنه :(شخصية عامة) و(مطرب)و(مبدع )و( كاتب) و(...)
رجل1: يبدو أنك أيها الطبال سبب بلائنا..
الطبال: (مستفزا) كنت صامتا طيلة الوقت وعندما نطقت تتهمني بالبلوى. انا مثلكما اصبت بالعمى ..
رجل1: ومن لم يصب به.. يبدو ان هذا الوباء لا يعرف الا الفقراء..
هنا ينتقل النص من الشوفينية إلى التخصيص والتفيء ؛ بأن الوباء/ الجحيم لا يشمل أو يصيب إلا الفقراء؛ فهل القصد بالفقراء من الزاوية المادية أو الفكرية أو السياسية ؟
بما أن النص في كليته يحمل بعْـدا فكري/ إيديولوجيا؛ وإن أغفل الجانب الجمالي؛ نتيجة البعد المضمر في ذهنية الكاتب والمتمثل في القلق الوجودي؛ حتى أنه أدخـل (الطبال) عن طريق (رجل1/ أستاذ التاريخ) في قلق وجودي؛ الذي يعيشه :
رجل1: اي جمال تتحدث عنه..؟ لا أرى جمالا ولن أراه أبدا..
هـذا وإن كانت أغلب حوارات (الطبال) تنم عن قلق حاد من العمى؟ وفي ظلها فالإشارة واضحة للفـقـراء ( سياسيا ) كفاعل في [ الوباء = ( العمى) = الجحيم ]:
رغم محاولة إقحام الدين مرة أخرى؛ في تركيب دلالي رهيب الدين/ السياسة وهـذا ما عشناه في بداية اجتياح وباء ( كورونا) أن الدين وسلطة الفقيه تدخلت في الوباء؛ واعتبرته بلاء إلهيا بحكم أن الفيروس جُند من جنود الله ولقد أرسله الله تعالى عقابا للدول ( الكافرة / الفاجرة ) لما ألت إليه الأمور من فساد وتسلط وابتعاد عن الطريق السوي ؛ فهذا التصور حاضر في النص كما يشير: (ربما ينفعك الدعاء../ هذا القدر! / هل هي لعـنة نزلت بنا../....) وإن كان هذا مطروحا فالنص يخالف هاته المنطلقات ؛ محددا نفسه في سياق بعده سياسي صرف؛ وليس مسرحا سياسيا كما سيفهم
رجل2: حين يرى الرب ان لا فائدة من تلك الاعين يطمسها.. كنا نرى كل ما يغضبه ونرضى جلبنا لأنفسنا البلوى بأيدينا وصرنا نندب حظنا.. تركيب دلالي رهيب الدين/ السياسة
رجل1: الرب لا يطمس ما صنعه ما قلته ليس صحيحا..
فمعارضة ( رجل1/ مدرس تاريخ) أمالت الكفة نـحو السبب المباشر لاستفحال الوباء الذي تحول لجحيم قاتل ومدمر . وبالتالي فصرخات (رجل2 ( محاولة توعوية/ نضالية ؛ للخروج من دائرة الجحيم الذي يعيشون فيه ، وكذا إيمانا منه أن رؤية القلب بديل عن رؤية العين. ومن خلال هاته الرؤية ؛ تجعل الإنسان حرا . والفقراء أحرار كذلك وبإمكانهم كسر الجحيم . فعَـبر هـذا الطرح . أين يكمن صوت الكاتب هل يتجسد في (الطبال )أم في( رجل)1 أم في ( رجل2)
رجل2: جهلكم هذا جعل كل من هب ودب ان يسيطر على مصائركم..
الطبال: تقصد الحكومة..؟ ها.. الحكومة.. قلها ولا تستحي.. تريدني ان اشترك في تغيير الحكومة.. انقلاب يعني.. نذيع به البيان رقم 1 (يصمت قليلا) لماذا هو البيان رقم 1 لم لا يكون البيان رقم 5 لأننا شهدنا اربعة انقلابات من قبل ..؟
رجل2: لم تعد الانقلابات تنفع.. الرؤوس كثيرة ومن الصعب جمعها في سلة واحدة..
الطبال: بدأت اشك فيك أنت لست اعمى، انت مبصر وتريد ان تزحلقني للمعتقل..
رجل2: قبل ان ترى في عينيك أبصر في قلبك.. اجعله مجسا تستطيع ان ترى ما ينفع الناس..
فمن خلال التأمل في هاته الحوارات يمكن لقارئ لهاته القراءة المتواضعة أن يستشف أين يكمن صوت كاتبنا – ع الكريم العامري –
فـــاس 02/05 2020