تحكي رواية "هذا الأندلسي[1]" للكاتب المغربي بنسالم حميش[2]، الموزعة على ثلاثة فصول، حياة الصوفي عبد الحق بن سبعين (ت669 هـ) منذ فترات الشباب التي صادفت بداية تفكك الأندلس، إلى لحظات الشيخوخة التي عاشها مطاردا من مكان إلى آخر. وتتناول الرواية على امتداد خمسمئة صفحة مسارات التعلم والإقبال على لذات الحياة والكتابة والتعليم، والسفر في الأرض بحثا عن الحق، وابتعادا عن المكائد التي كانت تحاك له كلما استقرّ به الوضع، واجتمع عليه المزيد من الطلاب التابعين لتوجهه، المقتنعين بسداد أفكاره، وعمق تشخيصه لأحوال الأمة ودائها.
وغنيّ عن البيان، أنّ انفتاح الرواية على المدونة التاريخية لا يكون اعتباطا، وإنّما بهدف الدفع بالتخييل إلى تلك المناطق التاريخية الغميسة لطرح المزيد من الأسئلة الثقافية المستقاة من الواقع، إذ إنّه لا جدوى من استعادة الماضي بمعزل عن مغزى هذا الاستيعاد؛ فالنص كلّما كان مضمخا بقياسات وتشابهات واستعارات كان أجدر بالقراءة، وأكثر حظا في الشيوع والانتشار، علاوة على البحث عن المضمر في الخطاب التاريخي، ذلك أنّ كل خطاب كما يقول عبد الله الغذامي: "يحمل نسقين: أحدهما واع، والآخر مضمر"[3]، فأما الظاهر فهو المصرّح به، وأما الخفي فهو ما يحتاج إلى الاستئناس بالكفاية التأويلية للكشف عنه وإظهاره. لهذا، تضطلع الرواية بمهمة قراءة التاريخ وتقديمه دون أقنعة بصفتها "مملكة الشك" بتعبير غويتصولو: "إنّنا نعلم منذ سرفنتيس أنّ الرواية هي مملكة الشك، فادعاءات تاريخ قائم عادة على حكايات وأفعال خرافية (مصطنعة) تعارضها الرواية بحقيقة الخيال الخلاق وأمانة العمل المتعري من الأقنعة ومن مهازل كل أسطورة مرفوعة إلى سدّة الحقيقة الدوغمائية المتفشية"[4]؛ بمعنى أنّ الرواية لا تؤمن باليقين ولا بالحقيقة المطلقة، بقدر ما تسعى إلى تشكيل متخيّل يقتات من السجل التاريخي، ويواجه بالشك والنقد، فيعمد إلى ملء البياضات، وإعادة نسج الحكايات بإبرة التخييل عبر إعادة رسم الفضاء والزمن والشخصيات، وبث الحياة في كل ذلك.
وإذا تأملنا رواية هذا الأندلسي، انكشف لنا مدى عمق الأسئلة المضمرة التي تثيرها؛ أسئلة تتورط في تشخيص الواقع العربي الإسلامي في تلك الفترة، وهو تشخيص لا يقف عند حدود الحقبة المُعاد إليها، وإنّما يمتد ليصف لنا تعثرات الحضارة الإسلامية، وداءها القديم الذي ما يزال يسكن الجسد نفسه، وإن تغيّر الزمن. بهذا الفهم، فإنّ الرواية وهي "تلقي بالبطل في مواجهة عالم لغزي وغريب يشكل مسرحا للدّسائس والصراعات والعداوات لا تشخص الزمان المروي فيها وحسب، بل تغدو أكثر إفصاحا عن الزمن الراهن وما يبطنه من معاني الصراع والعبث واللاجدوى"[5]. ويظهر هذا بوضوح، في صراع البطل مع السلطة والفقهاء، نظرا لأنّه يرفض الوضع المتردّي، ويدعو إلى تجاوزه.
المثقف والسلطة:
يعد ابن سبعين رجلاً مثقفا استوعب ثقافات عصره الدينية والفلسفية، فحاز بذلك "منزلة وشهرة لا في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم المسيحي أيضا، وذلك في حياته، وبعد مماته"[6]، وعُرف بمناهضته للسلطة، وقد سعت الرواية إلى تمثيل هذا الأمر، حيث نجدها تصف لنا الوضع السياسي المشحون بالاضطرابات، نقرأ: "الموحدون أنقدوا الأندلس في طور قوتهم، وهم اليوم تشرذموا ووهنوا، فتركونا بين مطرقة الإفرنج الطغاة، وسندان ملوك يصحّ عليهم وصف المتنبي: أرانبُ لكنّهم ملوك/ مفتّحة عيونهم نيام"[7]. إنّ هذا المقطع يقف عند أمرين أساسيين: الأول احتماء الأندلس بالموحدين أيام قوتهم، والثاني اضطرابها بعد تفتت قوة الموحدين وفساد حكامهم، وهو ما جعل السارد يتساءل: "هل نحارب العدو الإفرنجي دفاعا عن أنفسنا في موطننا، وكيف السبيل إلى ذلك؟ أم نصارع السلطان ونصبّ جام غضبنا على دوائره وأسلاكه، وهل نقدر عليه؟"[8] واضح أنّ ابن سبعين لم يكن يُخفي موقفه من السلطة، وإنّما كان ممن يجابهونها ويقفون في وجهها دون خوف. موجّها الناس إلى هذا الخطر الداخلي المحدق، يقول: "أولو الأمر زاغوا عن سوء السبيل، وتفرّقوا حتى فرّطوا في الأندلس السليبة، فلم يعد لهم من همّ وقوة إلا في إرهاق البلاد والعباد إذلالا وطغيّا. طاعتك لهم معصية للخالق، وأنت بها من مقامي منزوع الشرعيّة"[9]. ولعلّ هذا الموقف في العمق هو سبب طرد ابن سبعين وترحيله من الأندلس إلى سبتة، ومن سبتة إلى الجزائر، ثم تونس، فمصر، وصولا إلى مكة؛ فالرجل كان يضيق ذرعا بالحكام، ويبتعد عن مجالستهم ومداهنتهم، لأنّه كان صاحب كلمة حق، ولم يكن يطمح في منصب ولا جاه. "لذا آليتُ على نفسي ألا أتلوث في الفكر وفي السياسة بأفعال مهندسي الفتوق والصدوع، وخدّام الاتباع والخضوع"[10]. من هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن يتّهم بقيادة "متّبعيه إلى التزهد المتشدّد والعصيان السليط وخلع حقوق أولي الأمر وأولياء الدين"[11].
مقتضى ما سبق، إنّ ابن سبعين كان مثقفا مُقاوما بكلمته وبكتاباته ضد التسلط الذي ساهم بقسط وافر في ضياع الأندلس "أميرنا لم يتلقّب بالأغلب، إلا لأنّه قهر منافسيه من الأمراء المسلمين. أما مع فرندينان، فكان السامعَ الطائع المغلوب على أمره"[12]. فضلا عن أنّه لم يكن مثقفا متعاليا، بعيدا عن الحياة الاجتماعية، وإنّما انخرط بقوة في مساعي التغيير والوعي بمكامن الخطر. وعليه، فـ "إنّ حركة الحياة السبعينية لم تكن منعزلة عن تيار الحياة العامة، بل إنّ نقاط التقاء وابتعاد الواحدة عن الأخرى تتحوّل إلى دلالات نابضة بالمعاني الكاشفة عن الحالات النفسية والقناعات الفكرية والمطامع الخلقية التي كرّس مفكرنا حياته لتحقيقها وتوكيد وجودها"[13]. فكان بذلك، نموذجا للمتصوف المنخرط في القضايا السياسية والفكرية الكبرى، وليس نموذجا للمتصوف المنعزل في مقام وحدته، شاغلا نفسه بأمور الآخرة، وتاركا أمور الدنيا لغير أهلها.
المثقف ونقد سلطة الفقهاء:
إذا كان ابن سبعين لم يداهن السياسيين والحكام وقتئذ، فإنّه أيضا كشف عن زيف الفقهاء، وتلاعبهم بالناس خدمة لأولي الأمر الفاسدين، من ذلك يقول السارد: "هذا الخطيب، وأنداده كثر يا أخي، صنو الجهالة هو بل عصارتها، لا يعرف كوعه من بوعه، يشتطّ ويخبط خبط عشواء. إنّه من «فقهاء السوء» و«ضعف العقول»، كما وصفهم الإمام الغزالي وأبو الوليد بن رشد"[14]. بسبب انغلاق أفق فكرهم، ومحاربتهم لكل فكر متفلسف حر أو مختلف، وتبريرهم لكل ما يقوم به السلطان، حتى وإن كان مخالفا للشرع. لذلك، نجد الرجل يتصدى للفقهاء، فيحاربونه بدورهم ويتهمونه بالكفر والإلحاد، "فقهاء التعصّب والسوء، يا أحبّتي، يضيّقون علي الأرض بما رحبت، يستغلظون بالسلطان في مطاردتي أينما حللت وارتحلت"[15]. بهذا الشكل، يتفق الحكام والفقهاء في مواجهة فكر ابن سبعين ومشروعه في التصوّف، في مقابل انجذاب الناس إليه، وبعض الخاصة من أمثال الصوفي والزجّال أبي الحسن الششتري (ت668 هـ) الذي كان صديقا ومادحا له في بعض أشعاره.
إنّ المتأمل في الكتابات والآراء حول ابن سبعين، سيلاحظ أنّ له أعداء لا يحصون، نذكر من ذلك معاصره ابن تيمية (ت728 هـ) الذي اعتبره في كتابه "الرسائل والمسائل" "من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة"[16].وابن الأثير صاحب "البداية والنهاية" الذي يرى أنّه "اشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولّد لديه من ذلك نوع من الإلحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يلبّس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء"[17]. أما ابن خلدون، فيذهب أبعد من ذلك، فيقول: "وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضللة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس، مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي، وبدّ العارف لابن سبعين (...) فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار، والغسل بالماء، حتى يمحّي أثر الكتابة"[18].
يبرز بجلاء أنّ فكر ابن سبعين إلى جانب فكر ابن عربي، بل وأغلب المتصوفة كان مزعجا للفقهاء والسّاسة، لذلك لم يتوانوا عن محاربته ليس فقط كما قال ابن خلدون "بالتحريق" و"الغسل"، وإنّما بمحاولة تصفية المتصوفة جسديا، وهو ما حدث لابن الفارض والحلاج وغيرهما، ومنهم من نجا من هذه النهاية التراجيدية، أمثال ابن سبعين. وقد أورد المقري في مؤلفه "نفح الطيب" أنّه سمع من "الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنّه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب ابن سبعين، وتملك الططر للعراق، واستعمال الحشيشة"[19]. ونلاحظ هنا كيف أنّه تم الجمع بين سقوط بغداد عام 656 هـ على يد التتر، وحرق مكتباتها مع مذهب ابن سبعين وتأثيره. ولا نرى مسوغا لهذا الجمع إلا الرفض العقائدي للمتصوفة من لدن بعض الفقهاء، متناسين تفكك الإمارات والدول الإسلامية والصراع حول السلطة، واضطراب الوضع في الأندلس. ومهما يكن من أمر، فإنّ ابن سبعين يمثل ثورة فكرية بالنظر لطبيعة المرحلة التي عاش فيها، كما يعد من الرجال الذين يفوقون عصرهم وزمنهم. وها هو بنسالم حميش يعيد كتابة تاريخ الرجل وفق تخييل روائي يستعيد مكانة ابن سبعين، ويشكل ما يمكن تسميته بـ "الخطاب النقيض" لما أثاره الفقهاء حول شخصية هذا القطب من جدل. وتقديم تمثيل سردي ينظر للمتصوف ابن سبعين من زاوية جرأة الأفكار التي طرحها خاصة تلك التي تهم وحدة الوجود، ومناهضة السلطة، واعتزال الفقهاء.
وهو ما يعني أنّ حميش يعمد إلى "إعادة كتابة التواريخ من منظور نقدي يكشف المسكوت عنه في الذاكرة، وفي استنطاق سياسات التمثيل في صراع القوة والصور، وفي تفكيك أوهام الإيديولوجيا، وفي نقد الهويات القاتلة، والتحليل الدقيق لاستراتيجيات السلطة"[20]، ذلك أنّ أغلب المصادر التاريخية عملت على إغفال هذا الجانب المقاوم في شخصية صاحب "بدّ العارف"، أو الإشارة إليه باحتشام. الأمر الذي يجعل السرد قادرا على مواجهة قانون القوة، فابن سبعين حينما كان يؤلف كتبه ورسائله ويدرّس مريديه، رغم مضايقات السلطة والفقهاء، كان في حقيقة الأمر ينتج "سردا بديلا"، ويكتب تاريخا مختلفا عن تواريخ السياسة الخاضعة للمصلحة. نقرأ في الصفحة 257 ما يلي:
"- أنا ناظر هذا الجامع والقيّم عليه. الدرس في هذا الجناح من دون ترخيص لا يصح، يا شيخ.
- المسجد بيت الله (أجبتُ)، وتعليم الناشئة فرض عين على من له علم.
- صح يا شيخ، لكن ليس من دون إذن أولي الأمر. حضرة الولي يأمر بالنظام وينهى عن الفتنة والسّيب".
يكشف هذا المقطع عن أمرين مهمين: الأول يتجلى في محاولة السلطة فرض سيطرتها على المسجد لما يمثله - في نظرها - من أداة خطِرة في توعية النشء والعامة. من هنا، على كل من يحاول استغلال هذا الفضاء أخذ الإذن منها، واحترام ما تفرضه من أفكار وقيم، فلا يمكن أخذ الترخيص دون إعلان الولاء وخدمة الولي سرّا وعلنا. وهذا ما رفضه ابن سبعين بقوة، ففضّل العيش على هوامش السلطة. أما الأمر الثاني، فيتمثل في اعتبار ابن سبعين رمزا لإثارة الفتنة بين الناس من خلال تحريضهم وتوعيتهم بهذا الخطر الداخلي الذي يرتبط بالحاكم الفاسد. لذلك، كان شخصا مزعجا، غير مرغوب في جعله يقترب من الناس ويختلط بهم، "مساجد الله، فضلا عن المدارس، أغلقها السلطان في وجهي، الشغب المشنع عليّ لا يفتر فقهاء السوء عن تصريفه ضدي، فلا سبيل إلى لقاء المحبين إلا خفية، خلف أبواب موصدة أو في الخلاء"[21].
يضطلع السرد في هذا المقطع بمهمة تمثيلية، إذ يكشف عن طبيعة التهميش والمواجهة الشّرسة بين خطابين متناقضين؛ خطاب السلطة وما يفرضه من أحادية ونبذ الاختلاف، وخطاب ابن سبعين الصوفي وأشكال تصريفه وتبليغه إلى المريدين، وهنا يتواجه "صوت السلطة بأصوات ضحاياها"[22] أو منتقديها. فيبرز بشكل جليّ ذلك الوجه الخفي للسياسة النابذة لكل صوت معارض على مرّ التاريخ، وهو ما يولد لدينا تجاذبات تخلقها سلطة القوة، وتحاول تكريسها. لكن مع ذلك، فخطاب ابن سبعين ظل الأقوى، نظرا لاستناده إلى مرجعية واقعية تقف عند أسباب الداء الذي سيؤدي في آخر المطاف إلى ضياع الأندلس بشكل نهائي. وعليه، فإنّ تشريح ابن سبعين لأسباب الخطر لم يؤخذ بجدية، فبينما كانت الدول المسيحية المحيطة تجهزّ نفسها للانقضاض على الأندلس، كانت السلطات في الأندلس والمغرب منشغلة بالصراعات الداخلية التي أنهكت قوتها. وتحولّ الصراع من مواجهة الخصوم من الخارج (ملوك قشتالة وأرغون وليون)، إلى مواجهة خصوم الداخل عبر التحالف مع خصوم الخارج. ورغم محاولة ابن سبعين كسر جدار الصمت، إلا أنّ منطق السلطة يقول: أنا ومن بعدي الطوفان. "دولة الموحدين لم يبق منها إلا الاسم وأمراء لاهون يعبثون بتراث الأوائل ومجدهم. الأمير السعيد، كأخيه الرشيد، وأبيه المأمون، لا يهمه من الحياة والسياسة إلا الحياة التي هو فيها. هو وبطانته أولا وليأت بعدهم الطوفان. كيف إذن تريد منه الالتفات إلى الأندلس أو النظر في المآل والمصير!"[23].
إنّ رواية "هذا الأندلسي"، وهي تستحضر شخصية ابن سبعين الإشكالية تحاول أن ترصد الوضع السياسي في تلك الفترة، والبوادر المؤدية إلى ضمور الوجود العربي في الأندلس وانحساره، فضلا عن تجاذبات القوة في بلاط الحكم، إن في الأندلس أو في المغرب أو في المشرق من جهة، والكشف عن الوضع الفكري، وعن الصراع الذي شهده الفكر الصوفي في الغرب الإسلامي، ولعل هذا ما يبرر هجرة أغلب المتصوفة إلى الشرق (ابن سبعين، ابن عربي...)، وفرارهم من قبضة الفقهاء ومن ألسنتهم التي رمتهم بسهام الإلحاد والزندقة، وحفّزت السلطة على إحراق كتبهم وإغراقها في الماء، كما لو كان الأمر شبيها بما قام به التتر في بغداد في تلك الفترة نفسها.
[1]ـ بنسالم حميش، هذا الأندلسي، (دار الآداب، ط2، 2011).
[2]- بنسالم حميش: روائي وشاعر مغربي، سبق أن شغل منصب وزير الثقافة، يكتب باللغتين العربية والفرنسية. عُرف برواياته التاريخية، مثل رواية "العلامة" التي خصّصها لشخصية ابن خلدون، ورواية "هذا الأندلسي" التي تعيد استحضار شخصية عبد الحق بن سبعين، ورواية "مجنون الحكم" التي تتوقف عند شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي. كما له مجموعة من الأعمال الفكرية، من بينها: في نقد الحاجة إلى ماركس 1983م، التشكلات الإيديولوجية في الإسلام 1988م، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ 1998م...
[3]- عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي، (دار الفكر، دمشق، 2004)، ص: 31
[4]- انظر مقدمة الطبعة الإسبانية لرواية "مجنون الحكم"، ص 7، مرجع سابق.
[5]- إدريس الخضراوي، مقال: هذا الأندلسي: السرد والتاريخ وأسئلة الزمن الراهن، 2011، رباط الكتب:
السرد والتاريخ وأسئلة الزمن الراهن (تاريخ الزيارة: 30/04/2018).
[6]- ابن سبعين وفلسفته الصوفية، ص: 148
[7]- هذا الأندلسي، ص: 74
[8]- نفسه، ص ص: 74 - 75
[9]- نفسه، ص: 323
[10]- نفسه، ص: 374
[11]- نفسه، ص: 403
[12]- هذا الأندلسي، ص: 248
[13]- فلسفة التصوف السبعيني، ص: 16
[14]- هذا الأندلسي، ص: 71
[15]- نفسه، ص: 284
[16]- ابن تيمية، الرسائل والمسائل، تح: محمد رشيد رضا، لجنة التراث العربي، ج1، ص: 77
[17]- ابن كثير، البداية والنهاية، تح: عبد الله التركي، دار الفكر، 1997، ج17، ص: 497
[18]- انظر "كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق"، عبد القادر السندي، (نشر وتوزيع دار البخاري، 1991)، ص: 52
[19]- أحمد بن المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تح: إحسان عباس، (دار صادر، بيروت، 1997، ج5)، ص: 247
[20]- محمد بوعزة، سرديات ثقافية، من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، (منشورات الاختلاف، ضفاف، ودار الأمان، 2014)، ص: 40
[21]- هذا الأندلسي، ص: 90
[22]- سرديات ثقافية، ص: 17
[23]- هذا الأندلسي، ص: 292
ا
وغنيّ عن البيان، أنّ انفتاح الرواية على المدونة التاريخية لا يكون اعتباطا، وإنّما بهدف الدفع بالتخييل إلى تلك المناطق التاريخية الغميسة لطرح المزيد من الأسئلة الثقافية المستقاة من الواقع، إذ إنّه لا جدوى من استعادة الماضي بمعزل عن مغزى هذا الاستيعاد؛ فالنص كلّما كان مضمخا بقياسات وتشابهات واستعارات كان أجدر بالقراءة، وأكثر حظا في الشيوع والانتشار، علاوة على البحث عن المضمر في الخطاب التاريخي، ذلك أنّ كل خطاب كما يقول عبد الله الغذامي: "يحمل نسقين: أحدهما واع، والآخر مضمر"[3]، فأما الظاهر فهو المصرّح به، وأما الخفي فهو ما يحتاج إلى الاستئناس بالكفاية التأويلية للكشف عنه وإظهاره. لهذا، تضطلع الرواية بمهمة قراءة التاريخ وتقديمه دون أقنعة بصفتها "مملكة الشك" بتعبير غويتصولو: "إنّنا نعلم منذ سرفنتيس أنّ الرواية هي مملكة الشك، فادعاءات تاريخ قائم عادة على حكايات وأفعال خرافية (مصطنعة) تعارضها الرواية بحقيقة الخيال الخلاق وأمانة العمل المتعري من الأقنعة ومن مهازل كل أسطورة مرفوعة إلى سدّة الحقيقة الدوغمائية المتفشية"[4]؛ بمعنى أنّ الرواية لا تؤمن باليقين ولا بالحقيقة المطلقة، بقدر ما تسعى إلى تشكيل متخيّل يقتات من السجل التاريخي، ويواجه بالشك والنقد، فيعمد إلى ملء البياضات، وإعادة نسج الحكايات بإبرة التخييل عبر إعادة رسم الفضاء والزمن والشخصيات، وبث الحياة في كل ذلك.
وإذا تأملنا رواية هذا الأندلسي، انكشف لنا مدى عمق الأسئلة المضمرة التي تثيرها؛ أسئلة تتورط في تشخيص الواقع العربي الإسلامي في تلك الفترة، وهو تشخيص لا يقف عند حدود الحقبة المُعاد إليها، وإنّما يمتد ليصف لنا تعثرات الحضارة الإسلامية، وداءها القديم الذي ما يزال يسكن الجسد نفسه، وإن تغيّر الزمن. بهذا الفهم، فإنّ الرواية وهي "تلقي بالبطل في مواجهة عالم لغزي وغريب يشكل مسرحا للدّسائس والصراعات والعداوات لا تشخص الزمان المروي فيها وحسب، بل تغدو أكثر إفصاحا عن الزمن الراهن وما يبطنه من معاني الصراع والعبث واللاجدوى"[5]. ويظهر هذا بوضوح، في صراع البطل مع السلطة والفقهاء، نظرا لأنّه يرفض الوضع المتردّي، ويدعو إلى تجاوزه.
المثقف والسلطة:
يعد ابن سبعين رجلاً مثقفا استوعب ثقافات عصره الدينية والفلسفية، فحاز بذلك "منزلة وشهرة لا في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم المسيحي أيضا، وذلك في حياته، وبعد مماته"[6]، وعُرف بمناهضته للسلطة، وقد سعت الرواية إلى تمثيل هذا الأمر، حيث نجدها تصف لنا الوضع السياسي المشحون بالاضطرابات، نقرأ: "الموحدون أنقدوا الأندلس في طور قوتهم، وهم اليوم تشرذموا ووهنوا، فتركونا بين مطرقة الإفرنج الطغاة، وسندان ملوك يصحّ عليهم وصف المتنبي: أرانبُ لكنّهم ملوك/ مفتّحة عيونهم نيام"[7]. إنّ هذا المقطع يقف عند أمرين أساسيين: الأول احتماء الأندلس بالموحدين أيام قوتهم، والثاني اضطرابها بعد تفتت قوة الموحدين وفساد حكامهم، وهو ما جعل السارد يتساءل: "هل نحارب العدو الإفرنجي دفاعا عن أنفسنا في موطننا، وكيف السبيل إلى ذلك؟ أم نصارع السلطان ونصبّ جام غضبنا على دوائره وأسلاكه، وهل نقدر عليه؟"[8] واضح أنّ ابن سبعين لم يكن يُخفي موقفه من السلطة، وإنّما كان ممن يجابهونها ويقفون في وجهها دون خوف. موجّها الناس إلى هذا الخطر الداخلي المحدق، يقول: "أولو الأمر زاغوا عن سوء السبيل، وتفرّقوا حتى فرّطوا في الأندلس السليبة، فلم يعد لهم من همّ وقوة إلا في إرهاق البلاد والعباد إذلالا وطغيّا. طاعتك لهم معصية للخالق، وأنت بها من مقامي منزوع الشرعيّة"[9]. ولعلّ هذا الموقف في العمق هو سبب طرد ابن سبعين وترحيله من الأندلس إلى سبتة، ومن سبتة إلى الجزائر، ثم تونس، فمصر، وصولا إلى مكة؛ فالرجل كان يضيق ذرعا بالحكام، ويبتعد عن مجالستهم ومداهنتهم، لأنّه كان صاحب كلمة حق، ولم يكن يطمح في منصب ولا جاه. "لذا آليتُ على نفسي ألا أتلوث في الفكر وفي السياسة بأفعال مهندسي الفتوق والصدوع، وخدّام الاتباع والخضوع"[10]. من هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن يتّهم بقيادة "متّبعيه إلى التزهد المتشدّد والعصيان السليط وخلع حقوق أولي الأمر وأولياء الدين"[11].
مقتضى ما سبق، إنّ ابن سبعين كان مثقفا مُقاوما بكلمته وبكتاباته ضد التسلط الذي ساهم بقسط وافر في ضياع الأندلس "أميرنا لم يتلقّب بالأغلب، إلا لأنّه قهر منافسيه من الأمراء المسلمين. أما مع فرندينان، فكان السامعَ الطائع المغلوب على أمره"[12]. فضلا عن أنّه لم يكن مثقفا متعاليا، بعيدا عن الحياة الاجتماعية، وإنّما انخرط بقوة في مساعي التغيير والوعي بمكامن الخطر. وعليه، فـ "إنّ حركة الحياة السبعينية لم تكن منعزلة عن تيار الحياة العامة، بل إنّ نقاط التقاء وابتعاد الواحدة عن الأخرى تتحوّل إلى دلالات نابضة بالمعاني الكاشفة عن الحالات النفسية والقناعات الفكرية والمطامع الخلقية التي كرّس مفكرنا حياته لتحقيقها وتوكيد وجودها"[13]. فكان بذلك، نموذجا للمتصوف المنخرط في القضايا السياسية والفكرية الكبرى، وليس نموذجا للمتصوف المنعزل في مقام وحدته، شاغلا نفسه بأمور الآخرة، وتاركا أمور الدنيا لغير أهلها.
المثقف ونقد سلطة الفقهاء:
إذا كان ابن سبعين لم يداهن السياسيين والحكام وقتئذ، فإنّه أيضا كشف عن زيف الفقهاء، وتلاعبهم بالناس خدمة لأولي الأمر الفاسدين، من ذلك يقول السارد: "هذا الخطيب، وأنداده كثر يا أخي، صنو الجهالة هو بل عصارتها، لا يعرف كوعه من بوعه، يشتطّ ويخبط خبط عشواء. إنّه من «فقهاء السوء» و«ضعف العقول»، كما وصفهم الإمام الغزالي وأبو الوليد بن رشد"[14]. بسبب انغلاق أفق فكرهم، ومحاربتهم لكل فكر متفلسف حر أو مختلف، وتبريرهم لكل ما يقوم به السلطان، حتى وإن كان مخالفا للشرع. لذلك، نجد الرجل يتصدى للفقهاء، فيحاربونه بدورهم ويتهمونه بالكفر والإلحاد، "فقهاء التعصّب والسوء، يا أحبّتي، يضيّقون علي الأرض بما رحبت، يستغلظون بالسلطان في مطاردتي أينما حللت وارتحلت"[15]. بهذا الشكل، يتفق الحكام والفقهاء في مواجهة فكر ابن سبعين ومشروعه في التصوّف، في مقابل انجذاب الناس إليه، وبعض الخاصة من أمثال الصوفي والزجّال أبي الحسن الششتري (ت668 هـ) الذي كان صديقا ومادحا له في بعض أشعاره.
إنّ المتأمل في الكتابات والآراء حول ابن سبعين، سيلاحظ أنّ له أعداء لا يحصون، نذكر من ذلك معاصره ابن تيمية (ت728 هـ) الذي اعتبره في كتابه "الرسائل والمسائل" "من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة"[16].وابن الأثير صاحب "البداية والنهاية" الذي يرى أنّه "اشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولّد لديه من ذلك نوع من الإلحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يلبّس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء"[17]. أما ابن خلدون، فيذهب أبعد من ذلك، فيقول: "وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضللة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس، مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي، وبدّ العارف لابن سبعين (...) فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار، والغسل بالماء، حتى يمحّي أثر الكتابة"[18].
يبرز بجلاء أنّ فكر ابن سبعين إلى جانب فكر ابن عربي، بل وأغلب المتصوفة كان مزعجا للفقهاء والسّاسة، لذلك لم يتوانوا عن محاربته ليس فقط كما قال ابن خلدون "بالتحريق" و"الغسل"، وإنّما بمحاولة تصفية المتصوفة جسديا، وهو ما حدث لابن الفارض والحلاج وغيرهما، ومنهم من نجا من هذه النهاية التراجيدية، أمثال ابن سبعين. وقد أورد المقري في مؤلفه "نفح الطيب" أنّه سمع من "الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنّه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب ابن سبعين، وتملك الططر للعراق، واستعمال الحشيشة"[19]. ونلاحظ هنا كيف أنّه تم الجمع بين سقوط بغداد عام 656 هـ على يد التتر، وحرق مكتباتها مع مذهب ابن سبعين وتأثيره. ولا نرى مسوغا لهذا الجمع إلا الرفض العقائدي للمتصوفة من لدن بعض الفقهاء، متناسين تفكك الإمارات والدول الإسلامية والصراع حول السلطة، واضطراب الوضع في الأندلس. ومهما يكن من أمر، فإنّ ابن سبعين يمثل ثورة فكرية بالنظر لطبيعة المرحلة التي عاش فيها، كما يعد من الرجال الذين يفوقون عصرهم وزمنهم. وها هو بنسالم حميش يعيد كتابة تاريخ الرجل وفق تخييل روائي يستعيد مكانة ابن سبعين، ويشكل ما يمكن تسميته بـ "الخطاب النقيض" لما أثاره الفقهاء حول شخصية هذا القطب من جدل. وتقديم تمثيل سردي ينظر للمتصوف ابن سبعين من زاوية جرأة الأفكار التي طرحها خاصة تلك التي تهم وحدة الوجود، ومناهضة السلطة، واعتزال الفقهاء.
وهو ما يعني أنّ حميش يعمد إلى "إعادة كتابة التواريخ من منظور نقدي يكشف المسكوت عنه في الذاكرة، وفي استنطاق سياسات التمثيل في صراع القوة والصور، وفي تفكيك أوهام الإيديولوجيا، وفي نقد الهويات القاتلة، والتحليل الدقيق لاستراتيجيات السلطة"[20]، ذلك أنّ أغلب المصادر التاريخية عملت على إغفال هذا الجانب المقاوم في شخصية صاحب "بدّ العارف"، أو الإشارة إليه باحتشام. الأمر الذي يجعل السرد قادرا على مواجهة قانون القوة، فابن سبعين حينما كان يؤلف كتبه ورسائله ويدرّس مريديه، رغم مضايقات السلطة والفقهاء، كان في حقيقة الأمر ينتج "سردا بديلا"، ويكتب تاريخا مختلفا عن تواريخ السياسة الخاضعة للمصلحة. نقرأ في الصفحة 257 ما يلي:
"- أنا ناظر هذا الجامع والقيّم عليه. الدرس في هذا الجناح من دون ترخيص لا يصح، يا شيخ.
- المسجد بيت الله (أجبتُ)، وتعليم الناشئة فرض عين على من له علم.
- صح يا شيخ، لكن ليس من دون إذن أولي الأمر. حضرة الولي يأمر بالنظام وينهى عن الفتنة والسّيب".
يكشف هذا المقطع عن أمرين مهمين: الأول يتجلى في محاولة السلطة فرض سيطرتها على المسجد لما يمثله - في نظرها - من أداة خطِرة في توعية النشء والعامة. من هنا، على كل من يحاول استغلال هذا الفضاء أخذ الإذن منها، واحترام ما تفرضه من أفكار وقيم، فلا يمكن أخذ الترخيص دون إعلان الولاء وخدمة الولي سرّا وعلنا. وهذا ما رفضه ابن سبعين بقوة، ففضّل العيش على هوامش السلطة. أما الأمر الثاني، فيتمثل في اعتبار ابن سبعين رمزا لإثارة الفتنة بين الناس من خلال تحريضهم وتوعيتهم بهذا الخطر الداخلي الذي يرتبط بالحاكم الفاسد. لذلك، كان شخصا مزعجا، غير مرغوب في جعله يقترب من الناس ويختلط بهم، "مساجد الله، فضلا عن المدارس، أغلقها السلطان في وجهي، الشغب المشنع عليّ لا يفتر فقهاء السوء عن تصريفه ضدي، فلا سبيل إلى لقاء المحبين إلا خفية، خلف أبواب موصدة أو في الخلاء"[21].
يضطلع السرد في هذا المقطع بمهمة تمثيلية، إذ يكشف عن طبيعة التهميش والمواجهة الشّرسة بين خطابين متناقضين؛ خطاب السلطة وما يفرضه من أحادية ونبذ الاختلاف، وخطاب ابن سبعين الصوفي وأشكال تصريفه وتبليغه إلى المريدين، وهنا يتواجه "صوت السلطة بأصوات ضحاياها"[22] أو منتقديها. فيبرز بشكل جليّ ذلك الوجه الخفي للسياسة النابذة لكل صوت معارض على مرّ التاريخ، وهو ما يولد لدينا تجاذبات تخلقها سلطة القوة، وتحاول تكريسها. لكن مع ذلك، فخطاب ابن سبعين ظل الأقوى، نظرا لاستناده إلى مرجعية واقعية تقف عند أسباب الداء الذي سيؤدي في آخر المطاف إلى ضياع الأندلس بشكل نهائي. وعليه، فإنّ تشريح ابن سبعين لأسباب الخطر لم يؤخذ بجدية، فبينما كانت الدول المسيحية المحيطة تجهزّ نفسها للانقضاض على الأندلس، كانت السلطات في الأندلس والمغرب منشغلة بالصراعات الداخلية التي أنهكت قوتها. وتحولّ الصراع من مواجهة الخصوم من الخارج (ملوك قشتالة وأرغون وليون)، إلى مواجهة خصوم الداخل عبر التحالف مع خصوم الخارج. ورغم محاولة ابن سبعين كسر جدار الصمت، إلا أنّ منطق السلطة يقول: أنا ومن بعدي الطوفان. "دولة الموحدين لم يبق منها إلا الاسم وأمراء لاهون يعبثون بتراث الأوائل ومجدهم. الأمير السعيد، كأخيه الرشيد، وأبيه المأمون، لا يهمه من الحياة والسياسة إلا الحياة التي هو فيها. هو وبطانته أولا وليأت بعدهم الطوفان. كيف إذن تريد منه الالتفات إلى الأندلس أو النظر في المآل والمصير!"[23].
إنّ رواية "هذا الأندلسي"، وهي تستحضر شخصية ابن سبعين الإشكالية تحاول أن ترصد الوضع السياسي في تلك الفترة، والبوادر المؤدية إلى ضمور الوجود العربي في الأندلس وانحساره، فضلا عن تجاذبات القوة في بلاط الحكم، إن في الأندلس أو في المغرب أو في المشرق من جهة، والكشف عن الوضع الفكري، وعن الصراع الذي شهده الفكر الصوفي في الغرب الإسلامي، ولعل هذا ما يبرر هجرة أغلب المتصوفة إلى الشرق (ابن سبعين، ابن عربي...)، وفرارهم من قبضة الفقهاء ومن ألسنتهم التي رمتهم بسهام الإلحاد والزندقة، وحفّزت السلطة على إحراق كتبهم وإغراقها في الماء، كما لو كان الأمر شبيها بما قام به التتر في بغداد في تلك الفترة نفسها.
[1]ـ بنسالم حميش، هذا الأندلسي، (دار الآداب، ط2، 2011).
[2]- بنسالم حميش: روائي وشاعر مغربي، سبق أن شغل منصب وزير الثقافة، يكتب باللغتين العربية والفرنسية. عُرف برواياته التاريخية، مثل رواية "العلامة" التي خصّصها لشخصية ابن خلدون، ورواية "هذا الأندلسي" التي تعيد استحضار شخصية عبد الحق بن سبعين، ورواية "مجنون الحكم" التي تتوقف عند شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي. كما له مجموعة من الأعمال الفكرية، من بينها: في نقد الحاجة إلى ماركس 1983م، التشكلات الإيديولوجية في الإسلام 1988م، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ 1998م...
[3]- عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي، (دار الفكر، دمشق، 2004)، ص: 31
[4]- انظر مقدمة الطبعة الإسبانية لرواية "مجنون الحكم"، ص 7، مرجع سابق.
[5]- إدريس الخضراوي، مقال: هذا الأندلسي: السرد والتاريخ وأسئلة الزمن الراهن، 2011، رباط الكتب:
السرد والتاريخ وأسئلة الزمن الراهن (تاريخ الزيارة: 30/04/2018).
[6]- ابن سبعين وفلسفته الصوفية، ص: 148
[7]- هذا الأندلسي، ص: 74
[8]- نفسه، ص ص: 74 - 75
[9]- نفسه، ص: 323
[10]- نفسه، ص: 374
[11]- نفسه، ص: 403
[12]- هذا الأندلسي، ص: 248
[13]- فلسفة التصوف السبعيني، ص: 16
[14]- هذا الأندلسي، ص: 71
[15]- نفسه، ص: 284
[16]- ابن تيمية، الرسائل والمسائل، تح: محمد رشيد رضا، لجنة التراث العربي، ج1، ص: 77
[17]- ابن كثير، البداية والنهاية، تح: عبد الله التركي، دار الفكر، 1997، ج17، ص: 497
[18]- انظر "كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق"، عبد القادر السندي، (نشر وتوزيع دار البخاري، 1991)، ص: 52
[19]- أحمد بن المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تح: إحسان عباس، (دار صادر، بيروت، 1997، ج5)، ص: 247
[20]- محمد بوعزة، سرديات ثقافية، من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، (منشورات الاختلاف، ضفاف، ودار الأمان، 2014)، ص: 40
[21]- هذا الأندلسي، ص: 90
[22]- سرديات ثقافية، ص: 17
[23]- هذا الأندلسي، ص: 292
ا