أ. د. عادل الاسطة - الرغيف الطاهر والعرق الزاكي والنكبة التي لا تنتهي

صباح الأربعاء الماضي ركبت الحافلة مع " أبو صقر " ، و " أبو صقر " شاب من سالم إحدى قرى نابلس عرفته منذ سنوات وأنا أصعد معه بين فترة وأخرى في سيارته العمومي ، وغالبا ما يدور حديث بيننا ينتهي بوصولي إلى المدينة أو مساء بوصولي إلى بيتي .
لم أكن أعرف من " أبو صقر " الكثير عن حياته ، فجل ما أعرفه لا يزيد عن حبه متابعة المباريات الرياضية بين " ريال مدريد " و " برشلونة " ، ومرة حدثني عن أبنائه وعن طفله المنغولي تقريبا .
صباح الأربعاء كان فاتحة الحديث بيننا الأطفال الذين يسيرون في الشارع ويتنطنطون أمام الحافلات ، ما جعل " أبو صقر " يتذكر طفولته ليقارن بين جيل اليوم وجيل الأمس .
عرفت من " أبو صقر " أنه ابن شهيد وأخ شهيد ، وسرعان ما خطر ببالي سطر شعري لمحمود درويش ورد في ديوانه " حالة حصار " 2003 نصه :
"الشهيدة بنت الشهيدة بنت الشهيد وأخت الشهيد وأخت الشهيدة كنة أم الشهيد حفيدة جد شهيد وجارة عم الشهيد ( الخ..الخ ) .." وقلت : لعل الشاعر عرف بقصة " أبو صقر " .
عرفت من " أبو صقر " أن أباه استشهد في الانتفاضة الأولى في العام 1991 ، وأن أخاه استشهد في الانتفاضة الثانية . حدثني كيف استشهد والده وأخوه . وقص علي أنه وإخوته درسوا في مدارس الأيتام في القدس .
روى لي أن أباه كان سائقا في بلدية نابلس ، وأنه ذهب ضحية جنديين طلب كل واحد منهما منه طلبا يختلف عن طلب الآخر ، فاحتار أبوه طلب من منهما ينفذ ؛ أطاع جنديا وعصى آخر فأطلق الثاني النار عليه وأرداه قتيلا ، وأما أخوه ابن السادسة والعشرين ربيعا فكان في طريقه إلى العمل في فلسطين 1948 ، وكان يدخل إليها دون تصريح عمل ، وغالبا ما كان هو وزملاؤه يطاردون في الطرق ، ومرة أطلق الجنود عليه النار فأردوه قتيلا .
حكاية " أبو صقر " ظلت عالقة في ذهني وأثارت في ذهني تداعيات عن مأساة العمال الذاهبين إلى الداخل ؛ عمال مخيم عسكر القديم ، والعمال الذين قرأت عنهم في نصوصنا الأدبية وظلت حكاياتهم عالقة في ذاكرتي .
لا أملك إحصائية لعدد عمال مخيم عسكر في فلسطين 1948 ، ولا أملك أيضا إحصائية ثانية لعدد الذين ماتوا منهم في أثناء عملهم أو في أثناء طريقهم إلى أماكن عملهم ، غير أنني أتذكر جيدا صدى شيوع خبر عن موت عامل أو أكثر هناك أو في أثناء طريقه إلى هناك تحديدا . أجواء مأساوية وحزن عميق يلف المخيم وسكانه ، وجنازات ذات حضور غفير وبيوت عزاء تشهد أن الأمر فاجع ومفجع . ولعل دراسة لظاهرة موت العمال الفلسطينيين في فلسطين تستحق أن تنجز ، إن لم تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة ، فعلى الأقل في بيئة مكانية محددة ، ويكفي أن أشير إلى أن قتل ثمانية عمال من غزة في عيون قارة هو ما فجر انتفاضة العام 1987 .
والآن ماذا عن العمال في النصوص الأدبية الفلسطينية ؟
قبل العام 1948 اقترب الشاعر عبد الرحيم محمود من التيار اليساري الفلسطيني وتأثر بافكاره فكتب قصائد يمدح فيها الطبقة العاملة ويصور معاناتها وغربتها وقسوة حياتها ، وتعد قصيدة " الحمال الميت " التي أتى فيها على مأساة حمال في مدينة حيفا ملقى على قارعة الطريق دون أن يلتفت إليه أحد من أفضل ما كتب . يقول الشاعر :
" قد عشت في الناس غريبا /
وها قد مت بين الناس موت الغريب /
والناس - مذ كانوا - ذوو قسوة /
وليس للبائس فيهم نصيب/
رغيفك الطاهر قد غمسته/
من عرق زاك ودمع صبيب
"
بعد العام 1948 كتب المحامي توفيق معمر قصصا قصيرة عن العمال العرب الفلاحين الذين كان أصحاب العمل اليهود يستغلونهم ويسلبونهم حقوقهم .
مثل معمر الشاعر توفيق زياد الذي كتب قصائد وقف في قسم منها مع العمال العرب واليهود المضربين في مصنع " آتا " وفي قسم مع العمال العرب الذين تفرض عليهم ممارسة المهن الحقيرة لعلهم يتركون أرضهم ويرحلون ، وهذا ما يبدو في قصيدته "هنا باقون " .
تصوير معاناة العمال بدا في رواية اميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " 1974 يدحض الكاتب المزاعم الصهيونية التي تقوم على أساس أن فلسطين كانت تحت العرب صحراء قاحلة وأن إصلاحها قام به اليهود .
يرى حبيبي أن الزراعة وشق الطرق وقيام المباني إنما أنجزه العمال الفلسطينيون من فلسطين 1948 وغزة والضفة الغربية ، هؤلاء الذين يعملون في ظروف قاسية جدا " ورأيتهم في المغيب ،يحشرون في سيارات النقل العتيقة ، كما حشروا ، في يومهم ، صناديق البطاطا ، وكوموا الشمندر في سيارات أحدث من السيارات التي ينقلون فيها ، عائدين إلى مدنهم وقراهم ، إلا الذين غض السيد المقاول الطرف عنهم ليبيتوا ليلتهم في بناء لم يتمموا بناءه ، يتسترون بالطوب من الطارقين : برد ما قبل الفجر ، ودهمة الشرطة ما قبل الفجر " .
معاناة العمال ظلت موضوعا يخوض فيه الكتاب ، فإثر حرب حزيران 1967 احتاجت المصانع الإسرائيلية أيدي عاملة ، فبحثت عنها في الضفة الغربية أولا ثم في قطاع غزة ثانيا ، ولم يستسغ بعض الفلسطينيين أن يعمل العمال في مصانع المحتلين ، ولم يقتصر الأمر على المجادلة ، فقد تصدى الرافضون للفكرة للعمال وعملوا على إعاقتهم ولو بالقوة ، وهذا ما صورته سحر خليفة في روايتيها "الصبار " و "عباد الشمس " وغريب عسقلاني في قصته " الجوع " ،ولسوف يواصل كتاب آخرون الكتابة في الموضوع نفسه .
في أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية 87 و2000 أصبح دخول فلسطين 1948 صعبا ومعقدا بسبب الإجراءات الإسرائيلية ، ما جعل عمالا كثيرين يغامرون ويدخلون إلى الداخل الفلسطيني بلا تصاريح إسرائيلية ، ما عرضهم للملاحقة والسجن والرصاص ، هذه المعاناة دفعت بالكاتبة سعاد العامري إلى المغامرة والقيام بالتسلل مع العمال إلى أماكن عملهم لتنجز كتابها " مراد " الذي يصف رحلة البحث عن عمل لا من خلال الإصغاء إلى العمال وحسب ، بل من خلال عيش التجربة التي قد تكلفها حياتها .
هل غطيت في هذه المقالة كل ما كتب في الموضوع ؟
هناك أشعار لسميح القاسم أشاد فيها بالأول من آيار ، وقصص قصيرة لأكرم هنية صور فيها معاناة عمال القدس ، وهناك شهادات لأحمد رفيق عوض عن تجربته الشخصية في المطاعم الإسرائيلية ، وهناك عامل من جنين يقيم في حيفا هو محمد عارف مساد وقد كتب نصا طريفا على صفحته يصور فيها عمله مع الإسرائيليين و..و.. و أعتقد أن الموضوع يستحق ان يتابع .
لعله من المجدي أن أكرر بيت عبد الرحيم محمود :
"رغيفك الطاهر قد غمسته /
من عرق زاك ودمع صبيب " .
وإن أنس فلا أنسى تجربة أبي سائقا في باصات شركة ( ايغد ) الإسرائيلية وعمله ليلا حتى يعيد العمال في الثانية فجرا من مصانع تعليب البرتقال في العفولة ، ولقد عشت شخصيا معه هذه التجربة .
.
الجمعة 17 والسبت 18 آيار 2019



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى