أمل الكردفاني- فلسفة الأرجَحَة

فلسفة الأرجَحَة
-----------

علق جيل دولوز على نسق الفيلم الفرنسي، كنسق مرتد إلى اليقين والقرار، مخالفاً بذلك النسق الأمريكي، الذي يعتمد على الهروب المستمر إلى الأمام نحو الحرية. فغالبا ما يؤوب البطل إلى حيث القرار الأول، أو كما قيل في الشعر العربي:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأوَّل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
ويرفض دولوز تلك الرغبة في المخاطرة المؤقتة والتي لا تعني شيئاً، مثلما تعنيه الرغبة في مواصلة دفع الذات نحو أقصى تجارب الفشل، بحيث تتموقع الذات في دائرة خطر مزمن بغاية التحرر.
الخطر الآمن، هو الخطر الذي يمارسه الأفراد، وفي جائحة كورونا، لا يأبه البشر للتنظير الهوليوودي. إنهم يبقون فحسب. ويدفعون بعضهم للبقاء..وهنا هم يقبلون بالخضوع للقرار الآمن. وتستغل الحكومات ذلك الخضوع لتمرير أجندة السيطرة. وتُمأسِس كل فرد داخل قوقعته. هذا ما تناولته في قصتي القصيرة المعنونة بالفقاعة، وما سأتناوله مستقبلاً كهدم لليقين الأفلاطوني الذي تداعى في الفلسفة المثالية. وما يتجاهله منظرو علوم النظم السياسية، ويحطون من قدر بوليب واوبنهايمر وجوفينيل وهوبز، ويشيطنون ميكافيلي باستمرار عبر السايكوميديا.ثم يحيطوننا بزخْم من فلسفة الأخلاق، لحشر الإنسان في القوقعة. قوقعة الخوف المستمر، ورفض الانفتاح، والمواجهة والحرب والدم والموت. وهي ما أطلقه فلويد ديل في مسرحية "منذ وقت طويل"، كما لو كان تعبيراً أدبياً مناقضاً لنيتشة، أو متجاوراً معه في ذات الخندق؛ إذ بقت النهاية أيبوخية حتى إسدال الستار.
لا يمكننا أن نُجذّر التحرر عبر الخطر، أكثر من لعبة الأرجحة، اللعبة التي تخفي أمنها وتظهر خطرها أمام الطفل، الطفل هنا يمارس فعلاً حربياً بامتياز، يقاتل كجندي، ولكنه يتطور فيما بعد ليمارس ذات الخطر الآمن في مجمل حياته. لا يعرف الطفل العدمية واللا معنى واللا جدوى كالكبار، لذلك هو أكثر تشبثاً بالخطر الآمن. أي ذلك الإحساس الزائف بالقوة والاقتحام والتمرد..وعندما تحلق رجلاه لأعلى وينحني نصفه العلوي لأسفل، وتضرب أذنيه موجات الهواء، ويخفق قلبه كلما تعالى إلى السماء، ويطمئن كلما تهابط إلى الأرض، كان متقلباً بين خطر الزوال والحضور. تبدو الأرجحة تلخيصاً للوجودية. ربما. وهو في كل الأحوال، ورغم كل ذلك، متأكد من أنه سيرتد إلى الأرض لو تمسك جيداً بالسلسلتين الحديدتين اللتان تربطان وجوده بالعدم. أليسا هما شبيهتان بالدين؟ تمثل الأرجوحة رهان باسكال في أقصى حدوده، تلك الخفة، والتعامل الرأسمالي مع الله. (أي القرار)..؟ ربما.. إنه مسلك إنساني محض، والمحض فيه مندس في جاذبية الوهم، وهو ذاته الوهم، الذي يجذب مليارات البشر نحو التعاطي مع الحياة كحقيقة ومعنى ومغزى، وهو ذاته التشبث بالسلسلة التناسلية، والغرق في وحل انتاج اللحم والروح، إذ هناك قلة لا تتعدى بضعة ملايين، يحققون إنتاجاً مفصلياً لبضعة مليارات من البشر. تعتمد الكثرة على القرار باستمرار، وفي أفضل الفروض، الأرجحة (الخطر الآمن). الضحك عند ارتفاع الأرجوحة للسماء، والتجهم عند هبوطها للأرض، أي الشوق للإنسان الخارق..المقتحم، المجازف، اللا إكتراثي مع الإيمان بعدم واقعية ذلك.
غير أن الطفل يكبر، ويعي -إلى حد ما- واقعه، ومع ذلك يظل متمسكا بالخطر الآمن. ينتقل ذلك الفيروس مع حمضه النووي، ويكبر معه، وقد يكبر أكثر مما يجب، فيكون مؤذياً جداً.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى