عادل الاسطة - شحاد فيينا : ( ثيودور هرتسل ) "أرض قديمة - جديدة " وشحاذ المخيم

ما الذي ذكرني بشحاذ ( فيينا ) اليهودي الذي كتب عنه الأب الروحي للحركة الصهيونية ( ثيودور هرتسل ) في روايته " أرض قديمة - جديدة " الصادرة بالألمانية في العام 1902 ؟
ما الذي ذكرني حقا ب ( ديفيد لوتفيك ) الفتى اليهودي المتسول وابن العائلة الفقيرة المعدمة التي لا تستطيع دفع أجرة المنزل لمالكه ، ما يجعلها مهددة بالطرد ؟
هناك مشاهد عديدة في حياتنا اليومية تبلغ ذروتها في شهر رمضان ، حيث يكثر المتسولون في المدن الفلسطينية ، ومنها مدينة نابلس التي أقيم فيها .
أشير ، ابتداء ، إلى خبر لافت نشرته صحيفة " الدستور " الأردنية في آيار الفائت أتت فيه على متسول أردني ألقي القبض عليه ، واكتشف أنه يحصل على راتب تقاعد شهري يزيد على ال360 دينارا أردنيا وله سيارتان تعملان .
في نابلس في شهر رمضان ، يكثر السائلون عن مساعدات - لأكن مهذبا جدا في كتابتي وانتقاء مفرداتي - وتكثر عبارات الاستعطاف التي تدر الشفقة ، ويكثر في المقابل عدد الأشخاص الذين يطلبون منك أن تزكي أموالك وأن تعالج مرضاك بالصدقة " داووا مرضاكم بالصدقات " ، وربما يحدثك أحد معارفك عمن دفع له مبالغ مالية ليوزعها بدوره على المحتاجين ، فهو موضع ثقة من الآخرين .
ما سبق ، وكثرة المتسولين والمتسولات الذين تكثر أعدادهم في هذا الشهر الفضيل ، يذكر حقا بشحاذ فيينا .
غير أن ما ذكرني بشحاذ فيينا هو موقف آخر مررت به في يوم ماطر شديد البرودة من شهر آذار هذا العام .
كنت في حافلة أجرة عمومية توقف سائقها ليقل راكبا يقيم في مخيم لاجئين ، وقد نقدت قريبة الراكب السائق الأجرة ، وبدا الشاب يرتجف من البرد ، مثل شحاذ فيينا تماما . السائق قص على مسمعي قصة الشاب ، فقد كان يقله باستمرار .
قال لي السائق إن الشاب مريض وقد عاد معي من المدينة ، ولكن قريبته أصرت على إعادته ثانية في هذا الجو ليواصل التسول ، وإن لم تصدقني فاسأله ، وسأل السائق الشاب ليؤكد ما يقول .
لم يكذب الشاب السائق ، بل عززه وقال كلاما آخر .
قال إن قريبته وقريبه في البيت يضربانه إن لم يتسول ، وأضاف إن بيتهم ممتليء بالرز والسكر والزيت بأنواعه وبكل ما يحتاجون إليه ، وهما يأخذان منه ما يجمعه ولا يتركان له شيئا .
كان منظر الشاب يبعث على الأسى . إنه مريض ، وعلى الرغم من هذا يجبر على السير في شوارع المدينة في هذه الأجواء ، بدلا من أن ينام في فراشه ويعتنى به .
موضوع الشحاذ موضوع لافت في الآداب العالمية ، وقد خصصته بدراسة ، ( نشرت في مجلة " قضايا إسرائيلية " في العام 2007 ) وبمقالات نشرت في جريدة الأيام الفلسطينية .
ما يهمني هو المقارنة بين شحاذ فيينا وشحاذ المخيم وتبادل المصائر .
يشجع القادة الصهيونيون شحاذ فيينا على الهجرة إلى فلسطين ليصلح أرضها ويقيم دولة اليهود عليها ، حتى تتحسن أحواله ، وهو ما يتم في الرواية المتخيلة ، وفيما بعد على أرض فلسطين . ف ( ديفيد لوتفيك ) يغدو مواطنا منتجا وقائدا سياسيا واعيا ومتحدثا لبقا مجادلا . لقد غدا يملك فيللا فاخرة ومالا وفيرا ويأكل أفضل الطعام ويرتدي ملابس فاخرة . في المقابل نجد الفلسطيني المطرود من أرضه التي كان يزرعها ويأكل من ثمرها نجده غدا عالة على الآخرين ومتسولا بطريقة أو بأخرى ؛ من انتظار نهاية الشهر لتسلم مخصصات اللاجيء إلى التسول في الأماكن التي يقيم فيها ، مرورا طبعا بتوسل وتسول المساعدات من دول كثيرة . لقد غدا اللاجيء عالة على غيره وشحاذا بطريقة أو بأخرى .
لا يقتصر الأمر ، في تبادل المصائر ، على سلوك التسول . إنه يتجسد في جوانب أخرى أهمها امتلاك البيت والشعور بالعزة والكرامة وعدم الشعور بالخوف والاضطهاد وتحقيق الذات من خلال العمل والاستقلال .
شحاذ فيينا الذي كان يستأجر بيتا بائسا يمكن أن يطرد منه في أية لحظة ، يمتلك فيللا وعملا وأرضا يزرعها ، والفلسطيني الذي كان يعيش على أرضه ويزرعها غدا بلا أرض ويقيم في مخيمات بائسة تزداد سوءا مع الأيام ، وهو ما صورته أعمال سميرة عزام "لأنه يحبهم " وغسان كنفاني "أم سعد " وسامية عيسى "حليب التين "و"خلسة في كوبنهاجن " والياس خوري "باب الشمس " وآخرين .
لنقرأ الفقرة الآتية من رواية ( ثيودور هرتسل ) :
" وعندما غادر المقهى بصحبة شيفمن ، رأى صبيا ، في زهاء العاشرة من عمره ، يقف عند ثنية الباب في الخارج ، ملتفا بمعطفه الخفيف ، وقد رفع كتفيه إلى أعلى ضاما ذراعيه إلى جسده ، وهو يدوس برجليه الثلج الذي تراكم نتيجة هبوب الريح . في هذه الزاوية المستورة ، وقد بدت قفزات الصبي مضحكة ، لأول وهلة ، إلا أن فريدريك رأى أن الولد المسكين بحذائيه الممزقين يرتجف بردا . وأدخل يده في جيبه ، وأخرج ، على ضوء المصباح القريب ، ثلاث قطع نقد نحاسية دفع بها إلى الصبي الذي أخذها منه . وقال هامسا بصوت راجف من البرد :
- شكرا ،
وذهب إلى حال سبيله مسرعا .
- ماذا ؟ أتساعد الشحاذ في الشارع ؟
قالها شيفمن متذمرا .
- لست أظن هذا الصبي يتجول في في سبيل المتعة في ثلوج ديسمبر هذه ، وأكبر الظن أنه صبي يهودي .
- إذا كان الأمر كما تقول ، فإن عليه أن يتوجه إلى الطائفة أو إلى جمعية اليانس الإسرائيلية..بدل التجول ليلا في المقاهي .
- علام هذا الغضب يا سيد شيفمن . أنت لم تعطه شيئا .
وقال شيفمن حسما للموضوع :
- يا عزيزي الدكتور إنني عضو في جمعية مكافحة الفقر والشحاذة ورسم العضوية دينار ذهبي في السنة ".
ليس حل مشكلة اليهود الفقراء في المنفى بالصدقات . إنه يكمن في عودتهم إلى أرض فلسطين وإقامة دولتهم فيها ، وقريبة من هذه الفكرة فكرة غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس " 1963 .إن حل المشكلة الفلسطينية يكمن في العودة إلى فلسطين لا في البحث عن عمل في دول الخليج .
ليس في واردي أن أقارن بين ( هرتسل ) وكنفاني ، فالفكرة التي راودتني هي فكرة تبادل المصائر ، وكان مبعثها منظر اللاجيء الفلسطيني في اليوم الماطر شديد البرودة ، حيث دفعته قريبته إلى الذهاب إلى المدينة للتسول ، وهو ما فعله ( ديفيد لوتفيك ) الذي ظل والداه في البيت ينتظران عودته ومعه النقود لينفق عليهم .
تبدو قصة سميرة عزام الوجه الآخر لرواية ( هرتسل ) ، ومثلها طبعا بقية الأعمال الأدبية المذكورة .
في قصتها " لأنه يحبهم " نتوقف أمام شخصية فياض الحاج علي وتبدل أحواله . لقد كان في وطنه انسانا محترما وله كرامة ، وغدا في المنفى ذليلا بلا كرامة وبلا أخلاق .لن افيض في الكتابة فالنص الآتي من القصة يعبر عن الأمر تعبيرا كافيا و بأسلوب مؤثر :
" فياض الحاج علي كان مزارعا في إحدى قرى الشمال...... وكانت مواسمه في بلادنا خضراء دائما ، فسماؤنا سخية ، وتربيتنا سمحاء ، ولم تكن سواعدنا بالمتخاذلة الرخوة "
" كان مزارعا طيبا ، ولكنه فقد الكرامة حين فقد الأرض. هكذا قال لي أحد شيوخ المخيم ، وحدث كيف كان فياض مثال الدماثة ، وكيف نحر أبوه خمسة خراف حين زوجه من ابنة عمه التي يحبها " .
في المنفى وفي ذل اللجوء يعيش فياض عالة على تبرعات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ويبيع الطحين ليسكر وينسى واقعه ويقتل زوجته .
-هل قلت: موتى؟
-ثمة تبديل عوالم ، كما قال الهندي الأحمر .
جريدة الأيام .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى