ما إن تجاوزتُ الصّفحات الأولى من رواية (زيف القصاص) حتى وجدتُ نفسي، ولا أدري الرابط أو الشيء الذي ذكّرني برواية (عمارة يعقوبيان – للروائي علاء الأسواني) رغم اختلاف الموضوع بينهما تمامًا، يبدو أن الفضاء المكاني لكلا الروايتيْن جرى في عمارة احتوت معظم الحدث الذي دارت حوله أحداثهما.
رواية (زيف القصاص) تُصنّف في الأدب البوليسي، حدوث جريمة قتل غامضة المحاسب (جهاد) أردنيّ الجنسيّة في عمارة سكنية، اتّخذ له شقّة لممارساته الآثمة خارج إطار العائلة وزوجته دكتورة علم النّفس (ميسون). وفي كلّ جريمة لابدّ أن يذهب ضحيّتها أبرياء لا علاقة لهم، إلّا أن سوء الحظّ هو ما قادهم إلى مكن الجريمة لسبب ما. كما حدث مع البنت المستهترة (فاتن) التي قادتها الظروف إلى استدراجها برضاها من قبل (جهاد) وفضّ عُذرتها، بعد صحوتها حدث صراع بينهما تخرج وتعود لتجد (جهاد) صريعًا مقتولا يسبح في بركة من الدم.
لا يُذكر الأدب البوليسي وروايات الجيب التي كنّا نشتريها، وفي أغلب الأحيان نستعيرها ممن يمتلكها، لقراءتها للحصول على الإثارة المغامراتيّة لأبطالها، إلّا أن نتذكر الروائية العالمية (آجاتا كريستي)، أشهر كُتّاب الروايات البوليسيّة, وأوّل كتاب اشتريته في حياتي دليلة والزيبق، وقصص علي بابا، وفيه كثيرًا من المقالب ومقاومة الظلم نصرة للمظلومين، يقترب في كثير من جوانبه بطابعه الحكائي البسيط مع الجوانب البوليسيّة الروائيّة.
إشكاليّة العنوان:
جاء العنوان بكلمتين فقط هما (زيف) و(قصاص). وبالرّجوع إلى المُعجم تتضح الصّورة بجلاء: (دِرْهَمٌ زَيْفٌ : أَيْ رَدِيءٌ، مَغْشوشٌ؛ فإذا زافت النّقود، ظهر فيها غَشٌّ ورداءة). استخدم (الزيف) هنا بمعنى الوهميّ، وغير الحقيقي الذي لا يتناسب مع طبيعة الجُرم. و(قصاص) هنا أخذت موقعها في العنوان كمصطلح فقهيّ، وهو في خاص بوليّ الدم. إمّا أن يأخذ القصاص أو العفو.
المفارقة في هاتيْن الكلمتيْن؛ فإذا تحقّقت العدالة وكانت (السّنُّ بالسّن)، ولكن وصف القصاص الذي كان هو غاية العدالة، بقتل الجاني، عندها يوصف هذا بالزّيف، هنا تكمن المفارقة. وحتّى تتضّح الرؤية، فقد ورد في الصفحة 318 على لسان .د. ميسون في لقائها الأخير مع المحقّق راشد:
(إيماني مطلق بأنّ القصاص من القاتل ليس عدلًا في كلّ أحواله، بل العكس تمامًا، قد يكون العدل الحقيقيّ في التّجاوز عن القاتل.. تمجيد تصرّفه.. مكافأته عليه كحالة "جهاد").
(إن أردنا إقامة العدل التجاوز عمّن فعل ذلك). (أظنّك لو تمعّنت في هذا الأمر.. فكّرت فيه بالطّريقة التي أحدّثك عنها؛ لتوقّفت عند هذه النّقطة، لما سعيْت في فكّ غموض القضيّة، حتّى لا تُسهم في تقديم شابّ أو فتاة لعدالتنا الزّائفة).
(فالعدل أن يُكرم القاتل في هكذا حالات، لا أن يُقتل). (لك أن تتخيّل، لو قام أحدهم بقتل ألف رجل، وقام شخص بقتل هذا السّفاح، أترى القانون الذي تسعى إلى تطبيقه سيغفرها له..!!؟).
(صدّقني يا راشد: العدل لا يكون دائمًا في القصاص، بل في التّغاضي، عندما يكون المقتول مُستحقًّا لهذا المصير.. "جهاد" كان ذلك).
من الحكمة التأني عند إبداء الرأي.. استجلاء فلسفة الأمر ،ومَدَاراته بعد تقليبها على جميع أوجه الاحتمالات القويّة والضّعيفة. بعد ذلك يكون الحكم مُنصفًا على ضوء ما تحقّق.
شخصيّات الرواية:
- المحقّقان: راشد وخليل من مُرتّبات شرطة دُبي، وهما إماراتيّان.
- المحاسب جهاد في شركة محاسبة أعمال. (جنسيته أردنية).
- زوجته دكتورة ميسون متخصصة في علم النفس (جنسيتها أردنيّة).
- ميشيل مدير شركة المحاسبة التي يعمل فيها جهاد، (جنسيته لبناني).
- ثامر مبرمج في شركة المحاسبة (جنسيته مصري).
- فتحيّة زوجة ثامر، تعمل مدرسة لغة فرنسية (جنسيتها مصرية).
- إيمان وهي المُتّهمة الأولى في قتل جهاد (جنسيتها فلسطينية من غزة).
- رودينا تعمل في شركة تسويق عقارية مندوبة مبيعات (جنسيتها مغربية).
- سهام مُعدّة برامج سياسية تلفزيونيّة لإحدى المحّطات (جنسيتها سوريّة).
تعدّد الشّخصيّات في رواية (زيف القصاص)، كانت ضرورتها لتعدّد مسارات الحدث الذي تمحورت حوله الرّواية، وهو جريمة قتل المحاسب (جهاد)، وقد توجّهت أصابع الاتّهام لهؤلاء جميعًا، حتمًا كلّهم أبرياء، وبقي القاتل طليقًا قريبًا من مسرح الجريمة، يتلاعب بإدارة الحدث بمهارة وذكاء حادّ بصمتٍ وكتمان، وهو كمن يدير لعبة أتقنها باحتراف قلّ نظيره.
جاءت البطولة موزعة بين البطل الرئيس المحقّق (راشد) الذي قاد مُجريات التّحقيق بصبر وأناة، بالتشاور مع صديقه المحقّق (خليل)، وعرض النتائج التي حصل عليها، ومن خلال ذلك كانا ينسجان قراءاتهما وتحليلاتهما على النتائج والتوقّعات، كون الجريمة غامضة لكثرة تداخلاتها وتشابكاتها، وهو يتحرّى العدالة للقبض على المُجرم الحقيقيّ، وتبرئة المُتّهمين وعلى رأسهم (إيمان) المتّهمة الأولى التي سُجنت، لأن كلّ الأدلّة الواضحة تشير لها.
(رودينا) كذلك تقاسمت البطولة مع المُحّقق (راشد)، وكانت المُحرّك الأساسيّ للرواية، ناصرت قضيّة صديقتها التي تعرّفت عليها مؤخّرًا بعد جريمة اغتصابها من المحاسب (جهاد)، وكانت واثقة من براءتها، ولفتت نظر (راشد) إلى براءتها، ودفعت بالأمور قبل تحويل أوراقها نهائيًا إلى المحكمة، وإعادة البحث مُجدّدًا وفتح ملف التّحقيق بمغامرة استوعبت الحدث السّرديّ الروائيّ بأكمله، وتعاونت (رودينا) مع المُحقّق في كشف علاقة (سهام بجهاد) رغم صداقتهما الحميمة, وتعاونت كذلك معه في محاولة فتح الجدار الصلب مع (د. ميسون).
أمّا باقي الأبطال جاءت أدوارهم متوسّطة الفعل مثل (سهام) التي اتّهمت بجريمة قتل (جهاد)، بينما الباقين كانوا أبطالًا ثانويين، لاستكمال الحدث من خلال مسارات التحقيق المتعدّة المراحل التي استلزمت حضورهم. مثل (ثامر وزوجته فتحيّة)، وهما ممن وُجّهت إليهما أصابع الاتّهام بقتل جهاد، (د. ميسون) كذلك كانت محط اهتمام المُحقّق لمصلحتها في قتل زوجها الذي خانها، وسبّب لها العار، وللكراهة والجفاء عن استهتاره بكلّ القيم الأسريّة، وكونه موظّفًا في الشركة، ولعلاقته مع مديره (ميشيل) اذي كان دورًا في تخفيف حدّة التوتّر بين (جهاد وميسون)، وعلاقة صداقة ميسون مع جهاد بعلاقة ظاهرة استجرّت كلام المحيطون بهم من معارفهم، ووصل الأمر حدّ اتهامهم بعلاقة حميمة سرًّا، مما وجّه أنظار التّحقيق عليهم، لمصلحتهم في قتل جهاد، كي يتزوّجا، وهذه العلاقة حكاها ثامر أوّل للمحقّق (راشد)، كما حكى (ميشيل) عن علاقة (فتحيّة) زوجة (ثامر) مع جهاد بعلاقة جنسيّة بمعرفة زوجها.
هؤلاء جميعًا كان لهم مصلحة في قتل (جهاد)، لأنّهم أكرههم واستعبدهم لنزواته المُتكرّرة على الدوام بلا انقطاع، وقد استأجر شقّة في عمارة استخدمها لعملياته ومغامراته الجنسيّة بِنَهم غير معقول فاق الوصف، وقد جهّزها بتقنيّات التصوير المخفيّ، وبعد ذلك يبتزّ ضحيّته ليستعبدها بشكل دائم، ومن غريب الصّدف أنّهم كانوا يسكنون بها، حتّى زوجته ميسون كان لها شقّة تستخدمها كمكتب لمزاولة مهنتها في الطبّ النفسيّ، وتستقبل فيها مرضاها.
تبيّن أنّ هناك نموذجان للشخصيّات، الأوّل هو الشخصيّة ذات المُركّب البسيط التلقائيّة، من السّهل بناء علاقة ما ربّما تتطوّر إلى صداقة حقيقيّة بعد مدّة قصيرة من الزّمن، وغالبًا ما تكون مُنفتحة، مثالها من الرواية (إيمان، وسهام، وفتحيّه).
الظواهر الاجتماعيّة الصّارمة غالبًا ما تُوَلّد شخصيّة إشكاليّة في حياتها ومماتها. هذا موضوع أساسيّ أخذ بُعدًا واضحًا في تسيير الحركة داخل العمل الروائي (زيف القصاص). فلا بدّ من التوقّف أمام الشخصيّة المحوريّة التي انبنى عليها الحدث الروائيّ، ألا وهو (جهاد) من خلال الوصف الدّقيق لحياته فهو شّخصيّة (سيكوباتيّة) تابعاً لشهواته ونزواته وأطماعه الشّاذّة، وقد يكون سَمْحَ الوجه من الخارج؛ لكنّه يفتقر إلى المشاعر والأحاسيس داخليّاً؛ فهو قد استغّل العديد من ضحاياه جنسيًّا بطريقة بشعة مُقزّزة. ويقول علماء النّفس: (إنّ هذا الشّخص شيطانٌ في صورة إنسان، وهو التّجسيد الحيّ لكلّ المعاني الرّذيلة والسّيّئة). وهو شخصّ أنانيّ لأبعد الحدود، يُحبّ الاستيلاء على كلّ شيء بشغف، فكان شهوانيًّا مهووسًا، وهو شخصيّة مُركّبة بأقنعته التي يختفي خلفها.
شخصيّة المُحقّق (راشد) جادّة واعية لطبيعة عملها وموقعها، عقلانيّة إلى أبعد الحدود باحتراف مهنيّ عالٍ، العقل يتقدّم في كلّ شؤونه، وهذا نتيجة التدريبات المكثّفة التي حصل عليها حتى أصبح ضابط تحقيق في الجرائم، ومثله كذلك صديقه الضّابط (خليل).
أمّا الدكتورة (ميسون) فهو خبيرة علم نفس، وتقوم على ممارسة الطبّ النفسيّ بمعالجة ممن يلجأ لها، وذلك ضمن ظروف اجتماعيّة خاصّة جدًّا، حدّ الالتباس، مما أشيع عنها بعلاقة غراميّة مع (ميشيل) مدير الشّركة التي يعمل بها زوجها المقتول (جهاد). وكذلك يُدرج (ميشيل) في خانتها، كمدير تنفيذي لشركة محاسبة، لما يحمل من شهادات وخبرات، بتسيير عمل تجاريّ ضخم بملايين الدّراهم.
أمّا الشخصيّة الأهمّ (رودينا) البنت المغربيّة ذات الـ (27) عامًا، عاشت حياة بؤس وفقر واضطراب، بسبب والدها المُدمن على الخمر والمُخدّرات، والخوف المُستكنّ الذي صنع منها شخصيّة مُتوجّسة شكّاشة في كلّ شيء. توافقت فيها مِسحة الجمال الآسر، مع ذكاء حادّ، تمتعت بشخصيتها الجذّابة، وتصنّف على أنّها شخصيّة (سيكوباتيّة) ذات شهوة خفيّة انتقاميّة من الآخرين، تحاول أن تتمتع بالأحاسيس والمشاعر، لكنّها في الحقيقة (نرجسيّة) بطاووسيّتها، وهي لا ترى محيطيها إلّا من خلالها، أيضًا إنّها شّخصيّة (اضطهاديّة) لشعورها الدائمٌ بالاضطهاد والضَّيم؛ لذلك فهي تشكّ في الجميع، وتتوقّع الأذى منهم، وتُضمِر لهم الكراهية وعدم الارتياح، رغم أنّ عملها كمندوبة لشركة عقاريّة ُكُبرى، كانت تتخفّى خلف قناعة الأتيكيت التي تدّربت عليه، والابتسامة السّاحرة والدّبلوماسية، وخبرتها في اقتناص الزبائن، وإقناعهم بشراء ما تعرضه عليه، ولغة الجسد إحدى أدواتها حتّى تُحقق مُستوى مبيعات للشركة.
مسار التّحقيق:
مدينة "دبيّ" هي مسرح الرّواية عمومًا، كمدينة مال وأعمال جاذبة للطامحين من كافّة أنحاء العالم، والخليط غير الذي اعتمدته الرّواية، تجمّع من العديد من الدّول العربيّة، وفي إحدى ضواحيها في أحد العمارات، حدث جريمة قتل للمدعو "جهاد"، كلّ الأدّلة الواضحة أدانت البنت "إيمان"، ومع كلّ يوم تظهر أدلّة جديدة، لا تقود إلّا إلى مزيد من الغموض أكثر، "رودينا" حرّكت الحدث بإقناع المحقق "راشد" براءة صديقتها "إيمان"، يوم الدّفن ظهرت صديقتها "سهام" في المقبرة بشكل خاطف متخفية بنظّارتها، من خلال رسم تقريبي أكّدت أنّها "سهام"، ودافعت عنها باستماتة أن تكون هي القاتلة. اعتقلت "سهام"، وجاء اعتراف "فتحيّة" بأنها على علاقة كانت مع القتيل، واتّهام زوجها بقتله، ثم اتّسعت دائرة الاتهام لتطال "ثامر" زوج فتحية الموظّف في نفس الشركة التي يعمل فيها "جهاد"، ولكنّه وجّه الاتّهام إلى مديره "ميشيل" و "د. ميسون" زوجة جهاد.
بعودة "راشد" إلى إطلاع صديق المحقق "خليل" على نتائج تحقيقاته، لفت نظره إلى جهاز هاتف جهاد، وعن شريحة الخطّ المفقودة، عند هذه النقطة أخذ البحث مسارًا آخر، إلى أن جاءت فتحية من تلقاء نفسها باعترافاتها، وسلّمت الشريحة إلى راشد، وبالتدقيق بالأسئلة الحرجة لسهام وفتحيّة أكّدتا أن جهاد كان يُصوّر كلّ جلساته معهن وفي لقاء آخر يأتي به ويشاهده معهن بعد عمل المونتاج له. بالتّفتيش للمّرة الثانية للشقّة، جدوا الكاميرات فقط بدون جهاز التحكم التسجيل، تأكّدوا أنّها كانت تعمل بالتحكم عن بُعد، وفي تفتيش سيّارة جهاد آخر معاقله المتوقّعة، وضع راشد يده على جهاز "اللّابتوب"، وكانت الصّدمة..!!.. تعب وجهد أنهكه واستنفذ كامل قواه، أخيرًا للخروج من حالته، كان لا بدّ من لقاء محبوبته (رودينا)، وفاجأها بإلباسها خاتمًا لؤلؤيًّا نفيسَا، وأعلن لها أمنيته التي طوى قلبه عليها زمانًا: "سأخطبك..". اصطدمت رغبته برفضها، ليعلن لها أنّه يعلم أنّها هي من غرست السّكين في قلب جهاد، رغم ذلك تجاوز عنها، إرضاء لقلبه، وتوصية .د. ميسون بأن لا يدعها تفلت من يده، بالمحافظة عليها، وتكون له زوجة.
رواية (زيف القصاص) تُصنّف في الأدب البوليسي، حدوث جريمة قتل غامضة المحاسب (جهاد) أردنيّ الجنسيّة في عمارة سكنية، اتّخذ له شقّة لممارساته الآثمة خارج إطار العائلة وزوجته دكتورة علم النّفس (ميسون). وفي كلّ جريمة لابدّ أن يذهب ضحيّتها أبرياء لا علاقة لهم، إلّا أن سوء الحظّ هو ما قادهم إلى مكن الجريمة لسبب ما. كما حدث مع البنت المستهترة (فاتن) التي قادتها الظروف إلى استدراجها برضاها من قبل (جهاد) وفضّ عُذرتها، بعد صحوتها حدث صراع بينهما تخرج وتعود لتجد (جهاد) صريعًا مقتولا يسبح في بركة من الدم.
لا يُذكر الأدب البوليسي وروايات الجيب التي كنّا نشتريها، وفي أغلب الأحيان نستعيرها ممن يمتلكها، لقراءتها للحصول على الإثارة المغامراتيّة لأبطالها، إلّا أن نتذكر الروائية العالمية (آجاتا كريستي)، أشهر كُتّاب الروايات البوليسيّة, وأوّل كتاب اشتريته في حياتي دليلة والزيبق، وقصص علي بابا، وفيه كثيرًا من المقالب ومقاومة الظلم نصرة للمظلومين، يقترب في كثير من جوانبه بطابعه الحكائي البسيط مع الجوانب البوليسيّة الروائيّة.
إشكاليّة العنوان:
جاء العنوان بكلمتين فقط هما (زيف) و(قصاص). وبالرّجوع إلى المُعجم تتضح الصّورة بجلاء: (دِرْهَمٌ زَيْفٌ : أَيْ رَدِيءٌ، مَغْشوشٌ؛ فإذا زافت النّقود، ظهر فيها غَشٌّ ورداءة). استخدم (الزيف) هنا بمعنى الوهميّ، وغير الحقيقي الذي لا يتناسب مع طبيعة الجُرم. و(قصاص) هنا أخذت موقعها في العنوان كمصطلح فقهيّ، وهو في خاص بوليّ الدم. إمّا أن يأخذ القصاص أو العفو.
المفارقة في هاتيْن الكلمتيْن؛ فإذا تحقّقت العدالة وكانت (السّنُّ بالسّن)، ولكن وصف القصاص الذي كان هو غاية العدالة، بقتل الجاني، عندها يوصف هذا بالزّيف، هنا تكمن المفارقة. وحتّى تتضّح الرؤية، فقد ورد في الصفحة 318 على لسان .د. ميسون في لقائها الأخير مع المحقّق راشد:
(إيماني مطلق بأنّ القصاص من القاتل ليس عدلًا في كلّ أحواله، بل العكس تمامًا، قد يكون العدل الحقيقيّ في التّجاوز عن القاتل.. تمجيد تصرّفه.. مكافأته عليه كحالة "جهاد").
(إن أردنا إقامة العدل التجاوز عمّن فعل ذلك). (أظنّك لو تمعّنت في هذا الأمر.. فكّرت فيه بالطّريقة التي أحدّثك عنها؛ لتوقّفت عند هذه النّقطة، لما سعيْت في فكّ غموض القضيّة، حتّى لا تُسهم في تقديم شابّ أو فتاة لعدالتنا الزّائفة).
(فالعدل أن يُكرم القاتل في هكذا حالات، لا أن يُقتل). (لك أن تتخيّل، لو قام أحدهم بقتل ألف رجل، وقام شخص بقتل هذا السّفاح، أترى القانون الذي تسعى إلى تطبيقه سيغفرها له..!!؟).
(صدّقني يا راشد: العدل لا يكون دائمًا في القصاص، بل في التّغاضي، عندما يكون المقتول مُستحقًّا لهذا المصير.. "جهاد" كان ذلك).
من الحكمة التأني عند إبداء الرأي.. استجلاء فلسفة الأمر ،ومَدَاراته بعد تقليبها على جميع أوجه الاحتمالات القويّة والضّعيفة. بعد ذلك يكون الحكم مُنصفًا على ضوء ما تحقّق.
شخصيّات الرواية:
- المحقّقان: راشد وخليل من مُرتّبات شرطة دُبي، وهما إماراتيّان.
- المحاسب جهاد في شركة محاسبة أعمال. (جنسيته أردنية).
- زوجته دكتورة ميسون متخصصة في علم النفس (جنسيتها أردنيّة).
- ميشيل مدير شركة المحاسبة التي يعمل فيها جهاد، (جنسيته لبناني).
- ثامر مبرمج في شركة المحاسبة (جنسيته مصري).
- فتحيّة زوجة ثامر، تعمل مدرسة لغة فرنسية (جنسيتها مصرية).
- إيمان وهي المُتّهمة الأولى في قتل جهاد (جنسيتها فلسطينية من غزة).
- رودينا تعمل في شركة تسويق عقارية مندوبة مبيعات (جنسيتها مغربية).
- سهام مُعدّة برامج سياسية تلفزيونيّة لإحدى المحّطات (جنسيتها سوريّة).
تعدّد الشّخصيّات في رواية (زيف القصاص)، كانت ضرورتها لتعدّد مسارات الحدث الذي تمحورت حوله الرّواية، وهو جريمة قتل المحاسب (جهاد)، وقد توجّهت أصابع الاتّهام لهؤلاء جميعًا، حتمًا كلّهم أبرياء، وبقي القاتل طليقًا قريبًا من مسرح الجريمة، يتلاعب بإدارة الحدث بمهارة وذكاء حادّ بصمتٍ وكتمان، وهو كمن يدير لعبة أتقنها باحتراف قلّ نظيره.
جاءت البطولة موزعة بين البطل الرئيس المحقّق (راشد) الذي قاد مُجريات التّحقيق بصبر وأناة، بالتشاور مع صديقه المحقّق (خليل)، وعرض النتائج التي حصل عليها، ومن خلال ذلك كانا ينسجان قراءاتهما وتحليلاتهما على النتائج والتوقّعات، كون الجريمة غامضة لكثرة تداخلاتها وتشابكاتها، وهو يتحرّى العدالة للقبض على المُجرم الحقيقيّ، وتبرئة المُتّهمين وعلى رأسهم (إيمان) المتّهمة الأولى التي سُجنت، لأن كلّ الأدلّة الواضحة تشير لها.
(رودينا) كذلك تقاسمت البطولة مع المُحّقق (راشد)، وكانت المُحرّك الأساسيّ للرواية، ناصرت قضيّة صديقتها التي تعرّفت عليها مؤخّرًا بعد جريمة اغتصابها من المحاسب (جهاد)، وكانت واثقة من براءتها، ولفتت نظر (راشد) إلى براءتها، ودفعت بالأمور قبل تحويل أوراقها نهائيًا إلى المحكمة، وإعادة البحث مُجدّدًا وفتح ملف التّحقيق بمغامرة استوعبت الحدث السّرديّ الروائيّ بأكمله، وتعاونت (رودينا) مع المُحقّق في كشف علاقة (سهام بجهاد) رغم صداقتهما الحميمة, وتعاونت كذلك معه في محاولة فتح الجدار الصلب مع (د. ميسون).
أمّا باقي الأبطال جاءت أدوارهم متوسّطة الفعل مثل (سهام) التي اتّهمت بجريمة قتل (جهاد)، بينما الباقين كانوا أبطالًا ثانويين، لاستكمال الحدث من خلال مسارات التحقيق المتعدّة المراحل التي استلزمت حضورهم. مثل (ثامر وزوجته فتحيّة)، وهما ممن وُجّهت إليهما أصابع الاتّهام بقتل جهاد، (د. ميسون) كذلك كانت محط اهتمام المُحقّق لمصلحتها في قتل زوجها الذي خانها، وسبّب لها العار، وللكراهة والجفاء عن استهتاره بكلّ القيم الأسريّة، وكونه موظّفًا في الشركة، ولعلاقته مع مديره (ميشيل) اذي كان دورًا في تخفيف حدّة التوتّر بين (جهاد وميسون)، وعلاقة صداقة ميسون مع جهاد بعلاقة ظاهرة استجرّت كلام المحيطون بهم من معارفهم، ووصل الأمر حدّ اتهامهم بعلاقة حميمة سرًّا، مما وجّه أنظار التّحقيق عليهم، لمصلحتهم في قتل جهاد، كي يتزوّجا، وهذه العلاقة حكاها ثامر أوّل للمحقّق (راشد)، كما حكى (ميشيل) عن علاقة (فتحيّة) زوجة (ثامر) مع جهاد بعلاقة جنسيّة بمعرفة زوجها.
هؤلاء جميعًا كان لهم مصلحة في قتل (جهاد)، لأنّهم أكرههم واستعبدهم لنزواته المُتكرّرة على الدوام بلا انقطاع، وقد استأجر شقّة في عمارة استخدمها لعملياته ومغامراته الجنسيّة بِنَهم غير معقول فاق الوصف، وقد جهّزها بتقنيّات التصوير المخفيّ، وبعد ذلك يبتزّ ضحيّته ليستعبدها بشكل دائم، ومن غريب الصّدف أنّهم كانوا يسكنون بها، حتّى زوجته ميسون كان لها شقّة تستخدمها كمكتب لمزاولة مهنتها في الطبّ النفسيّ، وتستقبل فيها مرضاها.
تبيّن أنّ هناك نموذجان للشخصيّات، الأوّل هو الشخصيّة ذات المُركّب البسيط التلقائيّة، من السّهل بناء علاقة ما ربّما تتطوّر إلى صداقة حقيقيّة بعد مدّة قصيرة من الزّمن، وغالبًا ما تكون مُنفتحة، مثالها من الرواية (إيمان، وسهام، وفتحيّه).
الظواهر الاجتماعيّة الصّارمة غالبًا ما تُوَلّد شخصيّة إشكاليّة في حياتها ومماتها. هذا موضوع أساسيّ أخذ بُعدًا واضحًا في تسيير الحركة داخل العمل الروائي (زيف القصاص). فلا بدّ من التوقّف أمام الشخصيّة المحوريّة التي انبنى عليها الحدث الروائيّ، ألا وهو (جهاد) من خلال الوصف الدّقيق لحياته فهو شّخصيّة (سيكوباتيّة) تابعاً لشهواته ونزواته وأطماعه الشّاذّة، وقد يكون سَمْحَ الوجه من الخارج؛ لكنّه يفتقر إلى المشاعر والأحاسيس داخليّاً؛ فهو قد استغّل العديد من ضحاياه جنسيًّا بطريقة بشعة مُقزّزة. ويقول علماء النّفس: (إنّ هذا الشّخص شيطانٌ في صورة إنسان، وهو التّجسيد الحيّ لكلّ المعاني الرّذيلة والسّيّئة). وهو شخصّ أنانيّ لأبعد الحدود، يُحبّ الاستيلاء على كلّ شيء بشغف، فكان شهوانيًّا مهووسًا، وهو شخصيّة مُركّبة بأقنعته التي يختفي خلفها.
شخصيّة المُحقّق (راشد) جادّة واعية لطبيعة عملها وموقعها، عقلانيّة إلى أبعد الحدود باحتراف مهنيّ عالٍ، العقل يتقدّم في كلّ شؤونه، وهذا نتيجة التدريبات المكثّفة التي حصل عليها حتى أصبح ضابط تحقيق في الجرائم، ومثله كذلك صديقه الضّابط (خليل).
أمّا الدكتورة (ميسون) فهو خبيرة علم نفس، وتقوم على ممارسة الطبّ النفسيّ بمعالجة ممن يلجأ لها، وذلك ضمن ظروف اجتماعيّة خاصّة جدًّا، حدّ الالتباس، مما أشيع عنها بعلاقة غراميّة مع (ميشيل) مدير الشّركة التي يعمل بها زوجها المقتول (جهاد). وكذلك يُدرج (ميشيل) في خانتها، كمدير تنفيذي لشركة محاسبة، لما يحمل من شهادات وخبرات، بتسيير عمل تجاريّ ضخم بملايين الدّراهم.
أمّا الشخصيّة الأهمّ (رودينا) البنت المغربيّة ذات الـ (27) عامًا، عاشت حياة بؤس وفقر واضطراب، بسبب والدها المُدمن على الخمر والمُخدّرات، والخوف المُستكنّ الذي صنع منها شخصيّة مُتوجّسة شكّاشة في كلّ شيء. توافقت فيها مِسحة الجمال الآسر، مع ذكاء حادّ، تمتعت بشخصيتها الجذّابة، وتصنّف على أنّها شخصيّة (سيكوباتيّة) ذات شهوة خفيّة انتقاميّة من الآخرين، تحاول أن تتمتع بالأحاسيس والمشاعر، لكنّها في الحقيقة (نرجسيّة) بطاووسيّتها، وهي لا ترى محيطيها إلّا من خلالها، أيضًا إنّها شّخصيّة (اضطهاديّة) لشعورها الدائمٌ بالاضطهاد والضَّيم؛ لذلك فهي تشكّ في الجميع، وتتوقّع الأذى منهم، وتُضمِر لهم الكراهية وعدم الارتياح، رغم أنّ عملها كمندوبة لشركة عقاريّة ُكُبرى، كانت تتخفّى خلف قناعة الأتيكيت التي تدّربت عليه، والابتسامة السّاحرة والدّبلوماسية، وخبرتها في اقتناص الزبائن، وإقناعهم بشراء ما تعرضه عليه، ولغة الجسد إحدى أدواتها حتّى تُحقق مُستوى مبيعات للشركة.
مسار التّحقيق:
مدينة "دبيّ" هي مسرح الرّواية عمومًا، كمدينة مال وأعمال جاذبة للطامحين من كافّة أنحاء العالم، والخليط غير الذي اعتمدته الرّواية، تجمّع من العديد من الدّول العربيّة، وفي إحدى ضواحيها في أحد العمارات، حدث جريمة قتل للمدعو "جهاد"، كلّ الأدّلة الواضحة أدانت البنت "إيمان"، ومع كلّ يوم تظهر أدلّة جديدة، لا تقود إلّا إلى مزيد من الغموض أكثر، "رودينا" حرّكت الحدث بإقناع المحقق "راشد" براءة صديقتها "إيمان"، يوم الدّفن ظهرت صديقتها "سهام" في المقبرة بشكل خاطف متخفية بنظّارتها، من خلال رسم تقريبي أكّدت أنّها "سهام"، ودافعت عنها باستماتة أن تكون هي القاتلة. اعتقلت "سهام"، وجاء اعتراف "فتحيّة" بأنها على علاقة كانت مع القتيل، واتّهام زوجها بقتله، ثم اتّسعت دائرة الاتهام لتطال "ثامر" زوج فتحية الموظّف في نفس الشركة التي يعمل فيها "جهاد"، ولكنّه وجّه الاتّهام إلى مديره "ميشيل" و "د. ميسون" زوجة جهاد.
بعودة "راشد" إلى إطلاع صديق المحقق "خليل" على نتائج تحقيقاته، لفت نظره إلى جهاز هاتف جهاد، وعن شريحة الخطّ المفقودة، عند هذه النقطة أخذ البحث مسارًا آخر، إلى أن جاءت فتحية من تلقاء نفسها باعترافاتها، وسلّمت الشريحة إلى راشد، وبالتدقيق بالأسئلة الحرجة لسهام وفتحيّة أكّدتا أن جهاد كان يُصوّر كلّ جلساته معهن وفي لقاء آخر يأتي به ويشاهده معهن بعد عمل المونتاج له. بالتّفتيش للمّرة الثانية للشقّة، جدوا الكاميرات فقط بدون جهاز التحكم التسجيل، تأكّدوا أنّها كانت تعمل بالتحكم عن بُعد، وفي تفتيش سيّارة جهاد آخر معاقله المتوقّعة، وضع راشد يده على جهاز "اللّابتوب"، وكانت الصّدمة..!!.. تعب وجهد أنهكه واستنفذ كامل قواه، أخيرًا للخروج من حالته، كان لا بدّ من لقاء محبوبته (رودينا)، وفاجأها بإلباسها خاتمًا لؤلؤيًّا نفيسَا، وأعلن لها أمنيته التي طوى قلبه عليها زمانًا: "سأخطبك..". اصطدمت رغبته برفضها، ليعلن لها أنّه يعلم أنّها هي من غرست السّكين في قلب جهاد، رغم ذلك تجاوز عنها، إرضاء لقلبه، وتوصية .د. ميسون بأن لا يدعها تفلت من يده، بالمحافظة عليها، وتكون له زوجة.