الشيخ هاني فحص - الأصولية الاسلامية: دعوة الى التدقيق

مصطلح الاصولية الاسلامية، هو آخر المصطلحات التي رقصنا ونرقص وسوف نرقص طويلا على ايقاعها، طالما ان هناك موظفين او متبرعين، قرروا ان يتسمروا في تعاملهم مع الآخرين (في الشرق او العالم الثالث او الجنوب الخ) كمتعددات اثنية ودينية وسلالية، من خلال اعادة برمجة الفوارق وتظهيرها وتشغيلها واستيلاد او استنساخ فوارق تضاف اليها وطالما ان هناك متلقين لا يطمحون لاكثر من كونهم صدى".

ربما يريد الموظفون والمتبرعون في الغرب والمتلقون في الشرق، من تثبيت المصطلح وتعميم تداوله، ان يؤكدوا ان ما يسمونه اصولية اسلامية يجمعونها في صعيد دلالي واحد، على تعددها واختلافها، هي الحامل الحصري لمشروع الدولة الاسلامية، الحامل بدوره لمخاطر الارهاب في مقدماته والالغاء في نتائجه والتخلف "القروسطي" في آلياته وافكاره وتعبيراته؟

ان مشروع الدولة الاسلامية (تحكيم الشريعة ) لم يغب عن وعي المسلمين في اين مرحلة من تاريخهم. غاية الامر انه بعد سقوط الدولة العثمانية وغلبة المشروع (التحديثي) بدا وكأن هذا المشروع قد اصبح من اختصاص تيارات المعاندة، كتيار "الاخوان المسلمين" الذي تأسس في مصر اواخر العشرينات، موصولا بمؤثرات ممتدة على مساحة العالم الاسلامي، بعدما كظم المسلمون غيظهم من مفاعيل الحرب الكونية الاولى وتداعياتها، ويئسوا من متحوّل نهضوي ما وتعويضي من خلال منظومة الدول الوطنية او القطرية التي تشكلت، او الدولة القومية التي تفاقم الاستشعار بضرورتها بعد اغتصاب فلسطين... هذا الكلام ينطوي على حكم بأن الاولوية ليست للنقاش او السجال في اصل المسألة - الدولة الاسلامية - بل في صورتها التي تحافظ على الخلفية العقدية والفقهية دون ان تخرجها عن الوان الطيف المعاصر، فلا يكون الطموح عرضة للادانة والمصادرة السهلة او العكس.

وهذه المسألة على مستوى من الدقة والتعقيد والخطورة تلزم الحركات الاسلامية التي تطرحها بالاقلال من الخفة والمبالغة والاستعجال احتياطاً من المغامرة او المقامرة بالاسلام والمسلمين. قد يشي استشهادنا بمصر و"الاخوان" باعتبار ان المسألة كانت شأنا سنيا، غير ان ايران، مثلا، لم تكن خارج هذا السياق منذ اصبحت شخصيتها المذهبية الشيعية غالبة، بصرف النظر عن الطرق التي سلكها الصفويون. ومن المعهد الصفوي الى الافشاري والزندي والقاجاري، كانت اسلامية الدولة المنشودة هي المدخل التأسيسي الذي لا يلبث ان يتم الانقلاب عليه جزئيا او كليا.

ان الدولة الاسلامية ليست مشروعا افتراضيا يقطعه الفكر الدعاوي الغربي تعسفا عن اطاره العام ويسميه اصولية اسلامية، وان كانت الحركات المسماة اصولية هي التي رفعت هذه المسألة من مستوى الطموح العام الى مستواها السياسي اليومي، على معطيات سالبة وموجبة في تجربة الحداثة الاسلامية والعربية وتجربة الغرب في مفاعيلها ومآلاتها الداخلية وتأثيراتها الخارجية.. اي ان حركات الاسلام السياسي تبتدع الاطروحة وانما هي تبعثها بين مفصل وآخر، فالحوزات العلمية الدينية، ما امتدت اليه يد السلطة منها، كليا او جزئيا (الازهر - الزيتونة - القرويون - النجف - قم الخ) استمرت على تجويدها في الفقه وعلوم الشريعة، رغم كل محاولات التهميش والاعاقة والاستتباع من الدو ل السلطانية والدول الحديثة، التي لم تمنع من الاستحضار اليومي للمنظومة الفقهية في صعيديها العبادي والعلمي بصرف النظر عن مجالات التطبيق وامكاناته.

ومعروف ان المنهجية الدراسية والبحثية في الحوزات والمعاهد الاسلامية، لا تقوم على العموميات المنهجية بل على التفاصيل او التفضيل، ففي المراحل التحضيرية والوسيطة ومراحل البحث المعمق، يبحث الفقه التجاري والعلائقي والزراعي والجنائي والدستوري الخ، بحثا استغراقيا، اي فرعا فرعا ومسألة مسألة، ما يتيح اشباعا وتشبعا معرفيا بكل الفروع ومسائلها، بما يستدعيه ذلك من اطلالات ضرورية على الادلة والادبيات العامة والخلفيات التاريخية والاجتماعية والسياسية للنصوص والاحكام وقضايا الخلاف والاختلاف، وصولا بها الى اعماقها في العقيدة وعلم الكلام، عندما يقتضي الامر ذلك كما في صلاة الجمعة ومسألة الحدود. وعلى هذا التكرار والاستغراق يتربى شوق الطالب والاستاذ والمرجع والمقلد او الملتزم الباحث عن تكليفه الشرعي، ومع الشوق النزوع او الرغبة في تحويل الاحكام الى واقع من خلال مطابقتها مع الوقائع.

والمسلم الملتزم الذي لا يفصل بين التزامه العبادي والشأن العام، يقرأ ايات في القرآن الكريم لها ظاهر من المعنى لا تسمح القواعد المتعارفة بحملها على خلافه من قبيل "ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون" والفاسقون والكافرون في آيات اخرى... ويرى حكومات تحكم بما يتنافى مع منطوق الآيات فماذا يفعل؟ اكثر الحركيين الاسلاميين يسلمون بأن وجود الدولة خير من عدمها ( لا بد للناس من امير بر او فاجر) فهي من ضرورات الاجتماع، اي الدين وهم لا يقدمون علي رفضها الا اذا طغى منسوب الجور فيها واصبح نوعيا، اي اصبح المعروف منكرا او المنكر معروفا، اي انقلب نظام الافكار وقلب معه نظام القيم... يقبلون الدولة الحديثة شرط ان لا يكون التحديث شكلا قاسيا همه القطع مع الاصول واعادة انتاج الجور والتخلف على مقتضى خطاب حداثي مراوغ واحتيالي... واذ يخيب أملهم، يلتفتون الى الماضي ويمضون فيه الى ان يجدوا مثالهم في العهد الراشدي او تجربة المدينة، فيبنون على ذلك فرضية انقاذية يستمدون من الماضي مثالاتها، ولا يهتمون ابان احتدام شوقهم الى العدل، ان يطرحوا السؤال عما اذا كان الاسلام قد وصف دولة او مجتمعا؟

فاذا كانت الاصولية هي التيار الذي يحمل مشروع دولة اسلامية، فكل الذين يؤمنون بأن الاحكام الفقهية في كل وقائع الحياة ملزمة، ويحملون هذا المشروع ، وإن كانت جماعات منهم تحول هذا الطموح الى برامج سياسية، تتوسل الى تحقيقها بالوسائل المتعارفة لدى حركات التغيير السياسي الاممية او القومية او الوطنية، اليمينية او اليسارية، المغربية او المشرقية، من الديموقراطية ومسلك التغيير التدريجي او التراكمي الى العنف والاسلوب الانقلابي، فلا بد ان تخضع في محاسبتها وقبولها او رفضها ومناصرتها او معارضتها، للمقاييس والشروط والآليات نفسها التي يتم التعاطي بها مع غيرها.

ويبقى لأهل الالتزام والاختصاص من المسلمين، الحق في التدقيق في مدى الانسجام بين الغاية المتوخاة او المعلنة وامكانها وسلامتها والطرق المتبعة لتحقيقها، وبين روح الشريعة ومقاصدها طبق معايير المصلحة والمفسدة المحكّمة في مناهج الاستنباط الفقهي والتأصيل وتطبيق الاحكام على موضوعاتها، مأخوذا على نحو القيود على اطلاقاتها والتخصيص لعمومياتها، المتغير في الازمنة والامكنة وأهلها ومعارفهم واولوياتهم وخبراتهم المكتسبة.

اذن، فعلى أي اساس منهجي يتم تلبيس هذا العنوان (الاصولية) لجماعة او جماعات من هذا المجموع الاسلامي الواسع؟ ونحن نعلم ان تيارات اسلامية جادة وفاعلة وعلى معرفة معمقة بالاسلام عقيدة وشريعة ومشروعا حضاريا متبصرا، ظهرت ونشطت من دون ان تتورط في اعتبار معرفتها بالاسلام نهائية وملزمة، ورغم انها كونت حولها قاعدة عريضة، فقد وقفت موقف المخالف من التيارات الاسلامية التي جاهدت المشروع السياسي الاسلامي، من الافغاني الى محمد عبده وعلي عبد الرازق وعبدالله العلايلي، من دون ان ننسى القيادة العلمية للثورة الدستورية في ايران حيث تواصلت الحوزة العلمية في النجف الاشرف مع الحوزات الايرانية. وقدمت تأصيلا فقهيا لدولة الدستور وشرعيتها، ولم تقف طويلا عند كون الدستور المقترح مستندا الى الدستور البلجيكي؟

وفي كل ذلك كانت داعية الى العودة الى الاصول وتصفيتها مما شابها من زيادات مشوِّهة ومشوَّهة، معتبرين ان هذه الاصول من شأنها ان تحرر المشروع الاسلامي العام من الصيغ الجاهزة والمغلقة في السياسة والاجتماع والدولة.

ان مصطلح الاصولية بطابعه الاختزالي والقسري المتداول، قد اصبح بتسليم ضمني منا جميعا، بمثابة حقل رماية للتهم، مفتوح لاستقبال اي خطاب اسلامي لا يمكن ان يكتسب تعريفه وصدقيته الا اذا كانت الاصول منبعه بصرف النظر عن المحطات السياسية التي يذهب اليها، حتى لو كانت هذه المحطات تقع على طريق الحداثة المتوازنة بين الجذور الايمانية وموجبات المعاصرة والمشاركة الحضارية. ولعل أخطر ما في استعمالات مصطلح الاصولية في حالنا في لبنان والحالات العربية ذات التعددية الدينية - مصر خصوصا - استعماله في وجه المسيحية والمسيحيين، رغم كل التطلعات الثقافية والسياسية التي تصدر عن جهات اسلامية معبرة وذات مصداقية غير مشكوك فيها نحو الآخر، والآخر المسيحي اولا، والمسيحي الوطني قبل أي آخر.

ان حوار الحضارات من موقع المكافئ ليس ابتداعا ايرانيا خاتميا، ولم تتسبب ايران وحدها في قطعه، بل الغرب المحافظ هو السبب الاول للانقطاع، واسباب وصله الآن تأتي من ايران اولا. وان كان للتيار الاصلاحي فضل في ذلك، فانه يتمثل في كونه حاول جادا التوسيع في مجال الحوار وتخفيف شر وطه وتسريع وتيرته.

وقد انشغل اسلاميو مصر مبكرا بوصل ذاكرتهم عن تاريخ مصر الوطني المشترك بين الاقباط والمسلمين، والذي استعاده بصورة علمية مشرقة مفكرون كبار في مقدمتهم المستشار طارق البشري، والمرحوم وليم قلادة، برؤيتهم لضوابط العلاقة الايمانية بالشريك الوطني القبطي فاشتغل الشيخ القرضاوي على التكييف الفقهي المعاصر للموضوع وكتب فهمي هويدي "مواطنون لاذميون" واصبح رفيق حبيب نجل القس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الانجيلية عضوا مركزيا وناطقا رسميا باسم حزب الوسط الاسلامي المتحدر من "الاخوان". بعد ان دخل مسيحيون معروفون في هيئات قيادية في حزب العمل الاسلامي المصري. وتصدّى الدكتور محمد سليم للعو للمسألة تأصيلا وتفريعا.

ان الكلام عن الاصوليات الاسلامية لا بد ان يكون مشروطا بمراعاة المعطيات المستجدة حذرا من ان نقع في منطق الذين يريدون ان ينفذوا من قناة الاصولية الى اعماقنا الاسلامية والعربية، في حين انهم يشجعون اصوليات مسيحية معينة من دون ان يكونوا هادفين الى احياء الايمان والقيم المسيحية، بل المرجح ان يكون هدفهم الأبعد هو زعزعة هذا الايمان من خلال جعل الاصولية المسيحية مؤسسة على تسويغ التوجهات الصهيونية وتجديد الهيمنة الامبريالية الاميركية في طورها الامبراطوري المندفع.

من هنا يحسن التوكيد اننا، كأهل اعتدال، نحرص على ان لا يكون نقاشنا مع الاصوليات الاسلامية مصدر التباس لنا بغيرنا ممّن يتذرعون بالاصولية وهم يقصدون الاصول، اصولنا جميعا، في حين ان اعتدالنا هو سبلينا الى قراءة متأنية للاصولية، تتوخى الثبات والتثبيت علي الاصول لا نقضها، وتتوسل التأصيل في ذلك وتتنكب التهويل، آخذين في اعتبارنا اننا دائما على خطر النبذ والاتهام من طرفي التطرف ولطالما وصف المعتدل المسيحي بانه مسلم لإسقاط حجته، ووصف المعتدل المسلم بأنه مسيحي لابطال ادلته، وكذلك وضع اليمين المعتدلين في صف اليسار ووضعهم اليسار يمينا... بل عنك اتهام المعتدل الشيعي بالتسنن، والسني بالتشيع الخ.

ان من اهم وظائف الاعتدال تعديل هذه القسمة الثنائية الحادة والمدخولة. واعلان شأن التركيب في الرأي والرؤية والخطاب، والذي هو اصعب بكثير من التبسيط والتسطيح، وربما كان باهظ الثمن كما ذاق وطعم كثيرون منا، ولكنه الاجمل والاضمن لخير الدنيا والآخرة.

لا بد من المزيد من الحيطة في مناقشة الاصوليات الاسلامية بلغة اميركية، لغتنا بما هي تعبير عن حساسيتنا الايمانية التوحيدية والانسانية والحضارية الحوارية هي التي تجنبنا الخلط العشوائي بين الاختلاف والتناقض.




جريدة النهار (لبنان)


هاني فجص.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى