محمد بنيس - المعنى وما يبقى من : فوْضَى أيّامنا

"...لكن اليوم، ما الذي نستطيعُ أن نحلم به؟ أليس من القسْوة أن تصطدمَ بسؤال كهذا، سؤال بشفْرة حادة؟ أجلسُ هادئاً وأنظر إلى ما يُحيط بي. أقصدُ المجتمعَ والقيمَ التي يتعامل بها، كما أقصد الثقافة والقيمَ التي توزّعُها. ثم أضيف الطبيعة، صيفاً وشتاءً، أو على مدار السنة باخْتصار. عندما نسأل عن الذي يمكن أن يكونَ اليومَ حلمنا، فذاك يعني أنّ السائل عاجز. تركتُ ورائي أحلاماً كنتُ أرعاها بعناية تفوق ما كنتُ أرعى بها ولديّ. لا أندمُ على ما كنتُ عليه، ولا أقول لنفسي كنتُ متهوّراً، بليداً، غافلاً. كذلك كنتُ، وكذلك كان أصدقاء وأقران. لم نكن نشكّ في أن أحلامنا ضرورةٌ للحياة، لحياة ما بعد الاستعمار في بلداننا، لحياة مراهقين ينتبهُون إلى العالم من حولهم. وأحلامهُم تتأصل يوماً بعد يوْم.
وها هي فوْضى أيّامنا تقطع عنّا شريط الأحلام. يمكن أن تلاحظ نفسكَ عن قرب، لكن يمكن أن تتحركَ في ثانية واحدة من قارّة إلى قارّة، من بلد إلى بلد، لتحسّ، ترى، تسمع، ضجةً بها تتعرّف على فوْضى أيّامنا. لم نعُد اليوم في ستّينيات القرن الماضي ولا في ثمانينياته، عندما كان أفقُ رؤيتنا محدُوداً. لنا اليوم من الوسائل السمعيةـ البصرية، ما نختزلُ به المسافات. نتابع ما يحدثُ في أبعد نقطة في البسيطة بالقدر ذاته التي نتابع فيه ما يحدثُ في بيوتنا.
بتلك الأحلام السابقة على أيامنا، وبتلك القيم التي لا تزال تفعل في اعتقاداتنا، نرى العالم اليومَ من حولنا. أقصد أحلامَ التفاعل، الحوار، التكامل، أو قيمَ الحرية، العدالة، الصداقة. تلك وهذه، مجتمعةً، كانت لنا بُوصلة وكنا بها نتعلم كيف نحلمُ بأنْ نعيشَ إبداعياً في عالم مُشترك. تلك كانت. ولا أدري بأيّ حلم يمكن أن أتكلم في حالة هي فوْضى أيّامنا. أعود وأسأل : هل هناك ما يبعثُ على الحيرة أكثر من العجْز عن تعيين حلم لأيّامنا ؟ كنت صاحبَ سؤال وما زلت أتشبثُ به. لذلك لا يعْنيني كثيراً أن الذي أتشبثُ به ينتمي إلى ماض لم يعُد له طعم. تلك مشكلة الذين ألغَوا الحلم من حياتهم. وهم وحدهم الذين لا يحسون بشيء اسمه فوْضى أيّامنا."







L’image contient peut-être : 1 personne, texte
أعلى