عادل الأسطة - أنا والجامعة

-1-
قبل أربعة أيام انتهى عملي في الجامعة ، درست فيها سبعة وثلاثين عاما ليست هي المدة الكاملة لي في التدريس ، فقد درست عاما وثلاثة أشهر تقريبا في مدارس الحكومة وأربع سنوات وعشرة أشهر تقريبا في مدارس وكالة الغوث .
هل تستحق تجربتي في التعليم أن أدونها؟ وإلى أين ستقودني الكتابة؟
هل سأتهم بأنني بصقت في البئر الذي شربت منه ، كما قال لي زميل تم تعيينه بالواسطة؟ أم سأتهم بأنني مغرور أردت أن أخضع الجامعة لشروطي كما قال زميل آخر كان يخضع لشروط الجامعة دون أي اعتراض أو احتجاج؟ وهل سيقول رئيس سابق للجامعة قاضيناه في المحكمة لأننا أردنا ألا نخضع لاستبداده وتسلطه إن الكتابة هذه دافعها عدم تمديد عقد عمله وتمديدنا عقد زميل آخر له ؟
إلى أين ستقودني الكتابة؟ أنا الآن حر ومرة هددني رئيس مجلس أمناء بسبب نص أدبي بأنني سوف أدفع الثمن فأجبته بهدوء:
-هناك قانون!
هل حماني القانون؟
لن تكون الكتابة عموما شبيهة بنص "ليل الضفة الطويل "حتى لا أتهم بتصفية حسابات ، كما اتهمت ، ولكنها ستأتي على الإيجابيات والسلبيات ولسوف تعتمد على كثير مما كتبته هنا أيام كنت عضو هيئة تدريس ولم أحسب حساب وظيفة أو فصل.
التجربة كانت قاسية ومرة وكانت في الوقت نفسه مفيدة وثرية لي وللحركة الثقافية .
حتى صباح الجمعة القادم إن شاء الله

ذكريات
٤/١٠/٢٠١٩

***

-2-
كان تأسيس الجامعة في المدينة خطوة ريادية ، فقد قدمت خدمات جليلة لأبناء الوطن وللمدينة نفسها . أراحت ابناء الوطن من عناء السفر ورحلة العذاب عبر الجسور ووفرت على أهلهم المصاريف الباهظة الكثيرة ودفعت كثيرين منا إلى إكمال تعليمهم وأنا واحد من الفلسطينيين الذين ربما ما فكروا في حينه في إكمال دراساتي العليا لولا إنشاء الجامعة .
في عام تأسيس الجامعة كنت معلما في مدرسة ثانوية ولما أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى أعضاء هيئة تدريس من حملة البكالوريوس فأعلى تقدمت بطلب توظيف ولكن الاختيار لم يقع علي ، علما بأنه تم تعيين ثلاثة من حملة البكالوريوس ، فلم تكن الشهادات العليا متوفرة ، وقد زاملت الثلاثة منذ العام ١٩٨٢ وعرفت في تلك الأثناء كيف تم تعيينهم .
في ربيع العام ١٩٨٠ أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى موظفين للعمل في المكتبة الخاصة بها . كان العمل في الجامعة حلما ظل يراودني ، وكنت في تلك الأيام معلما في مدرسة العقربانية الإعدادية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين ، وهكذا تقدمت بطلب تعيين ، مؤثرا الجامعة والعمل الإداري على العمل معلما في مدرسة .
تقدم لشغل الوظائف ٦٤ شخصا ، وكانت حاجة الجامعة إلى ثمانية ، وقررت من أجل اختيار موضوعي إجراء امتحانين للمتقدمين ، امتحان يختبر صلة المتقدم بعلم المكتبات ، وثان لاختبار ثقافة المتقدم العامة ، وأعلنت الجامعة في الصحف أسماء الثمانية الأوائل في الامتحانين وطلبت منهم التقدم للجنة مقابلة حتى تنظر في شخصياتهم ومنطقهم وما شابه ، وقابلت اللجنة ولكن الاختيار لم يقع علي ، وبعد فترة التقيت بزميلي المرحوم مهيب المصري الذي زاملته في مدرسة الصلاحية وسألته عن أحواله فأخبرني أنه تم تعيينه في مكتبة جامعة النجاح الوطنية ، ولم يكن مهيب تقدم بطلب توظيف أصلا ولم يتقدم للامتحانين ، ولما راجعت المرحوم د. شوكت زيد والمرحومة المربية يسرى صلاح ، وكانا من أعضاء مجلس الأمناء وكانا أيضا عضوين من أعضاء لجنة المقابلة ، فقد أخبرني د.شوكت بأنني موظف والجامعة تريد أن تثبت المعينين في أماكن عملهم وتوظيف من لا وظيفة له ، فأجبته بأن زميلي مهيب يعمل في مدرسة ثانوية في المدينة وليس عاطلا عن العمل ، فابتسم . وأما يسرى صلاح فقالت إنها تتابع كتاباتي في الجريدة وأنها واللجنة رأوا أنه يجب إكمال تعليمي فمكاني هو في التدريس لا في المكتبة ، وطلبت مني هي والمحامي المرحوم موسى الجيوسي أن أحصل على قبول لدراسة الماجستير من جامعة وهما سيوفران لي بعثة ، ولما سجلت في الجامعة الأردنية وقبلت أحضر لي موسى الجيوسي طلبا من صندوق الطلبة الفلسطينيين ولهذا قصة .
صباح الخير
والبقية في يوم الجمعة القادمة إن شاء الله .

١١ تشرين الأول ٢٠١٩ **
[SIZE=26px] [/SIZE]
***

-3-
سافرت إلى عمان لأتابع دراساتي العليا ولم يكن معي سوى 300 دينار دفعت منها قسط الفصل الدراسي الأول وأظنه كان 120 دينارا ،وبقي معي ما يكفيني ثلاثة أشهر .
كنت خلال عملي لمدة أربع سنوات ساعدت أبي في بناء منزل العائلة وبنيت لي شقة مساحتها 100 متر تقريبا ، وهكذا كنت ، ماديا ، شبه معدم .
انتظرت أن يصلني رد من صندوق الطلبة الفلسطينيين فلم يأت ، وأرسلت إلى السيدة يسرى صلاح أعلمها بأنني لم أتلق ردا على طلبي الذي كان على أية حال طلب قرض لا طلب منحة أو بعثة ، فما كان منها إلا أن أرسلت لي من خلال زميلي الأستاذ عادل الزواوي ، وكان صلة الوصل بيننا ، مبلغ 100 دينار سلفة علي أن أردها فيما بعد ، فهي مبلغ جمعته منها ومن صديقاتها . أعدت المبلغ إليها فورا وقد عاتبتها لأنها وعدتني بتوفير منحة لي ، ويبدو أن الأستاذ موسى الجيوسي لم يكن ذا تأثير في الصندوق ، علما بأنه - كما عرفت - كان يناصر حركة فتح .
كيف سأتدبر أمري وقسط الفصل الثاني على الأبواب؟
كان علي أن أبحث عن عمل جزئي في مكتبة الجامعة الأردنية أو في قسم الدراسات العليا ، فذهبت إلى الدكتور عدنان البخيت الذي كان رئيس قسم الأبحاث والمخطوطات أسأله ليوفر لي عملا جزئيا ، فاعتذر وقال لي :
- عندما يعينوني رئيسا للجامعة بدلا من هذا ابن .. سوف أجد لك عملا .
وكانت علاقته بالدكتور ناصر الدين الأسد سيئة جدا على ما بدا لي .
كيف وافقت على السفر قبل أن أضمن المنحة؟
ربما كان الأمر من باب ملاحقة العيار حتى باب الدار ، وانقطعت صلتي بالمرحومة يسرى صلاح والمرحوم موسى الجيوسي ، وما عادا يسألان عن أخباري .
تدبرت أمري بإيجاد عمل جزئي في مكتبة الجامعة الأردنية مع الدكتور المرحوم كامل العسلي ، وأخذت أكتب مقالات في جريدة أردنية أظنها "صوت الشعب " وتعرفت إلى الأستاذ محمد داوودية الذي كان مسؤولا في الجريدة.
في الفصل الدراسي الأول علمني الأستاذ الدكتور المرحوم محمود السمرة وعرفت أنه ذو صلة بصندوق الطلبة الفلسطينيين في الكويت ، فذهبت إليه بتشجيع من الصديق مشهور حبازي أسأله عن منحة ، فقد ساعد المرحوم السمرة في العام المنصرم الصديق مشهور بمبلغ 600 دينار .
ما إن عرضت مشكلتي على الدكتور السمرة حتى عاتبني لتأخري ، فقد وزع قبل أسبوع مبلغ 3000 آلاف دينار على الطلبة وكان يبحث عن طلاب محتاجين .
أخبرت الدكتور بقصتي مع صندوق الطلبة الفلسطينيين في بيروت ، فسألني عن المسؤول عنه ،ولما ذكرت له اسم الدكتور المرحوم محمد يوسف نجم قال لي:
- إنه صديقي .
وكتب لي رسالة إليه ووضعها في مغلف وطلب مني شخصيا أن أرسلها بالبريد المسجل ، وهكذا جاء الفرج لدفع أقساط الدراسة كلها ، فقد قرر الصندوق منحي 1100 دولار أو 1150 دولارا تدفع على ثلاث دفعات كانت كافية لتغطية الأقساط فقط .
واصلت دراستي دون أن تكون لي أية صلة بالجامعة ؟ فكيف تم تعييني فيها ؟
حتى صباح الجمعة القادم أقول لكم:


١٨ تشرين الأول ٢٠١٩


***

-4-
أنهيت الماجستير وعدت إلى الضفة . كانت الرحلة شاقة وربما لا يعرف مقدار المعاناة في تلك الأيام إلا من كابدها ، وبدأت معاناة من نوع آخر ،فقد غدت الشهادة عبئا على حاملها إن لم يدرس في جامعة ما . أن تحصل على الماجستير في ذلك الزمن وتبقى معلما في مدرسة ثانوية أو إعدادية فكأنك لا رحت ولا جئت ولم تحصل على شهادة عليا ، ويبدو الأمر اليوم مختلفا كليا ، فقد غدا امتلاك شهادتي الماجستير والدكتوراه والعمل معلما في مدرسة ثانوية أمرا عاديا ، وإن أثقل على حملة الشهادات وأحزنهم ، بل وأبكاهم ، وحين يسألني طلابي عن رأيي في مواصلة تعليمهم الجامعي المتقدم أنصحهم بألا يفعلوا إلا إذا تبنتهم جامعة وألزمتهم بالعمل فيها بعد حصولهم على الشهادة .
عدت إلى الضفة وبدأت أبحث عن وظيفة في الجامعة ، علما بأنني لم أقدم استقالتي من وظيفتي في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، فعصفور في اليد خير من عشرة عصافير على الشجرة .
ذهبت إلى جامعة النجاح مباشرة ولم أذهب إلى المرحومة يسرى صلاح والمرحوم موسى الجيوسي والمرحوم شوكت زيد ، فقد اقتنعت بأنهم إنما حثوني على مواصلة الدراسة لإقناع أنفسهم بأنهم حريصون على مستقبلي وهم يعرفون أن من يقرر هو المرحوم حكمت المصري فقط .
كان الدكتور أحمد حامد يومها رئيس قسم اللغة العربية ، وذهبت إليه مباشرة اسأله عن إمكانية تعييني في القسم .
رحب بي الدكتور وكان صريحا معي ، فالقسم كان بحاجة إلى متخصص في مادة البلاغة ، ولما أخبرته أنني متخصص في الأدب الفلسطيني اعتذر .
لم أترك جامعة من جامعات الضفة الغربية في ذلك الوقت إلا ذهبت إليها اسأل عن إمكانية تعييني ، وهذا ما تعسر، وهكذا بقيت معلما في مدرسة العقربانية الإعدادية في مدارس الأونروا .
في تلك الفترة أصرت إسرائيل على تطبيق قانون رقم 854 الذي يطلب من المحاضرين القادمين بتصاريح إسرائيلية ولا يملكون هوية ضفة غربية وقطاع غزة ، أن يوقعوا على وثيقة ترفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ، وهذا ما رفضته الجامعات الفلسطينية .
شددت إسرائيل على تطبيق القرار ورفض المحاضرون الانصياع وطلبت منهم منظمة التحرير ألا يوقعوا ، وكانت النتيجة عدم السماح لعدد كبير من أعضاء هيأة التدريس بالبقاء في الضفة الغربية، وهكذا أصبحت الجامعة تعاني من أزمة في المحاضرين .
كان عدد أعضاء هيأة التدريس في قسم اللغة العربية ممن طلب منهم مغادرة الضفة خمسة ، ولما كان الفصل الدراسي الأول على وشك أن يبدأ فقد أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى أعضاء هيأة تدريس من حملة الماجستير فأعلى .
تقدمنا يومها ثلاثة من حملة الماجستير ؛ أنا من الجامعة الأردنية واثنان بالانتساب من الجامعة اليسوعية ، وكنت الأكثر ملاءمة ؛ للجامعة التي تخرجت منها بالالتحاق ولعمري ، وربما لوقوف الدكتور محمد جواد النوري والأستاذ فتحي خضر صديقي إلى جانبي . وهكذا صرت عضو هيأة تدريس في جامعة النجاح الوطنية لمدة 37 عاما .
أحيانا يقول المثل "الله بكسر جمل من أجل أن يتعشى واوي " ، ومع أنني في رحلتي الجامعية لم أكن واويا إلا أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وكان علي طبعا أن أثبت نفسي .
أذكر أنني يوم عينت سئلت من الدكتور محمد جواد النوري إن كنت شيوعيا أم لا ، ولم يكن تعيين اليساريين بشكل عام مرغوبا فيه بخاصة بعد المشاكل التي شهدتها جامعة النجاح في بداية 80 ق 20 بين الإدارة والنقابة .
ما يجدر أن أشير إليه هو أنني طيلة مسيرتي في التعليم لم ألتفت إلى الفصيلية على الإطلاق ، ولم أتعامل مع الطلاب من منطلقها ، ولقد حرصت أن أكون أكاديميا صرفا ، وإن شاع رأي يزعم أصحابه أنني وأنا أدرس الأدب الفلسطيني أدرس نصوص الأدباء اليساريين ، وربما أتوقف أمام هذا في يوم الجمعة القادم .

25 تشرين الأول 2019

***

-5-
بدأت التدريس في الفصل الدراسي الأول من العام ١٩٨٢ ، وقعت العقد في ٩ /١٠ /١٩٨٢ وبدأت أحاضر في ١٦ /١٠ /١٩٨٢ ، بعد أن قدمت استقالتي من وظيفتي في مدارس الأونروا .
في تلك السنوات كان عدد المحاضرين قليلا وكانت المساقات كثيرة ، ولم يكن ثمة مدرجات في الجامعة لتعطى فيها محاضرات فتسهم في اختصار عدد الشعب في بعض المساقات ، وكان ذلك ميزة سوف تفتقد لاحقا وسوف أتوقف فيما بعد أمام إحدى الكوارث في التعليم الجامعي وهي التدريس في المدرجات .
عهد إلى في الأعوام التدريسية الأولى ، بسبب النقص في الكادر التعليمي وأعضاء هيأة التدريس المتخصصين ، بتدريس المساقات التي تطرح وليس لها أستاذ متخصص يدرسها ، وهكذا درست مساقات تاريخ النقد الأدبي عند العرب وأدب مصر والشام والشعر العباسي والنثر العباسي والعروض ومساقات اللغة العربية والمدخل إلى تذوق النص الأدبي والأدب الفلسطيني ، وكان علي أمام هذا أن أحضر للمحاضرات وأن أثقف نفسي ، وكانت هذه فرصة ذهبية لي لإعادة بناء ثقافتي في الأدب العربي . ( أحيانا كنت أمزح قائلا : أنا خمسة دكاترة معا ، فقد شغلت فراغ خمسة من حملة الدكتوراه يوم أبعدوا ، وأحيانا كنت أسخر من نفسي : أنا من حراس الفراغ ، علما بأنني لم أقل عن الخمسة كفاءة ، وكان أكثرهم قبل تعيينهم في الجامعة معلمي مدارس وليس أسوأ من مدرس أنفق في التعليم ٢٠ عاما ثم صار محاضرا في جامعة ) .
هناك مقولة تتكرر على ألسنة الدارسين وهي أن الأستاذ إذا أراد إتقان علم فليدرسه ، وهذا ما حدث معي .
أتقنت النحو من خلال تدريس قواعد اللغة العربية خمس سنوات في المدارس ، واطلعت اطلاعا جيدا على الأدب العربي في العصر العباسي والعصر الوسيط من خلال تدريس المساقات التي تخص العصرين ، وساعدني في ذلك أنني كنت كريما في اقتناء الكتب ، فلم أعد إلى مكتبة الجامعة للاستعارة منها إلا في حالة عدم توفر الكتاب في المكتبات التجارية ، وفوق ما سبق أنني كنت أملك شقة مستقلة وكنت أعزب .
في التدريس في الجامعة شعرت بحالة من السعادة لا توصف ، وكنت أنفق في الجامعة سبع ساعات وأكثر ، وأحيانا بعد انتهاء المحاضرات كنت أتمشى ، مع بعض زملائي من أقسام أخرى ، في الساحة ولم نكن نستعجل المغادرة . كان عدد الموظفين في الجامعة محدودا تقريبا فكنا نعرف بعضنا كما لو أننا أفراد أسرة واحدة ، وغالبا ما كنا نلتقي بداية كل شهر أمام مكتب محاسب الجامعة لاستلام رواتبنا بمغلفات أعدت ووضع فيها مرتبنا الشهري ، وكان هذا يقود إلى تبادل التحيات والمزاح والأحاديث الجانبية ، عدا أن يوم استلام الراتب كان يوم فرح جامعي ويوم لقاء أسري .
كنت أدرس مواد إضافية مثلي مثل جميع أعضاء هيأة التدريس في القسم ، وهذه آفة سوف أعود إليها لاحقا للتوقف أمام ضررها ، بل وكنت أحيانا أدرس تدريسا مجانيا لطلاب التوجيهي .
كانت نقابة العاملين في الجامعة وبعض الفصائل تتابع إجراءات الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة في إغلاق بعض المدارس الثانوية نتيجة تظاهر طلابها واشتباكهم مع دوريات جنود الجيش الإسرائيلي المحتل ، ولما كان طلاب التوجيهي يتضررون من الإغلاق فقد افتتحت لهم شعب تدريسية عصرا في قاعات التدريس في الجامعة وتبرع الأساتذة بتدريسهم ، ما جعلني أحيانا أنفق في الجامغة ساعات إضافية ، وكنت أفعل ذلك بإقبال شديد وبرغبة وبلا تذمر ، فقد كان العمل التطوعي شائعا في سبعينيات القرن العشرين وكان ينظر إليه نظرة إيجابية ، إذ عد شكلا من أشكال مقارعة الاحتلال ومقاومته .
في تلك السنوات تضاعفت قراءتي فقد وجب علي التحضير بالإضافة إلى عملي محررا أدبيا في جريدة " الشعب " .
كنت في الحلقة الرابعة أشرت إلى سؤالي إن كنت شيوعيا أو لا ، فهل انعكس هذا على عملي في الوظيفة. هذا ما سأكتب عنه في الحلقة القادمة.


١ تشرين الثاني ٢٠١٩


***

-6-
في السنوات الخمس ما بين 1982 و 1987 كان التعليم في الجامعة ضربا من الكفاح حقا ، وذلك بسبب الاحتلال الإسرائيلي والحواجز التي توضع على مداخل الجامعة . ( غادرت الجامعة إلى ألمانيا في بداية تشرين الأول من العام ١٩٨٧ ، وغبت أربع سنوات اندلعت فيها الانتفاضة واستمر عدم الانتظام في الدراسة).
لم تكن الجامعة بمعزل عن المجتمع ، ولم تكن الضفة الغربية بمعزل عن غزة ولبنان ، وكانت وحدة الشعب الفلسطيني تتجسد في الجامعة التي كان طلابها موالين لمنظمة التحرير الفلسطينية وأحد أذرعتها المهمة في تعزيز الهوية الوطنية ، ولذلك فما من حدث وطني إلا كان للجامعة إسهام فيه ، وكان الاحتلال الإسرائيلي يعرف هذا ويدركه جيدا ، ولذلك كان غالبا ما يقيم الحواجز التي تحول دون انتظام العملية التعليمية ، وكان أحيانا يفرض الإقامة الجبرية على بعض القيادات الطلابية ولا يسمح لها بدخول نابلس والجامعة ، وقسم من هذه القيادات كان من مدن أخرى مثل الخليل ، ولما تعذر قدوم هؤلاء الطلاب إلى الجامعة لتأدية امتحاناتهم ، فقد ذهب الأساتذة إلى بيوت هؤلاء في مدنهم وقراهم دون تذمر . في تلك الأيام زرت قرى في منطقة الخليل لأول مرة .
نصحو صباحا ونذهب إلى مباني الجامعة وقد ينتظم التدريس وقد يعطي الجندي الإسرائيلي لسائق الحافلة إشارة بالعودة ، فلا ينتظم التدريس ، وهنا قد يشتبك الطلاب مع الجنود بالحجارة . لقد كان الاشتباك مع الجنود طقسا من طقوس تلك السنوات وكنا قد تعايشنا معه و تآلفنا.
كانت الجامعة جامعة وطنية ، ولذلك كان نشر الوعي الوطني مهمة من مهماتها وهدفا من أهدافها ، ولما كنت أدرس مساق الأدب الفلسطيني الحديث ، فقد ساعدني ذلك في اختيار الأدباء ونصوصهم دون اعتراض من أحد ، وبقيت أدرس من أريد من الأدباء وما أريد من النصوص حتى اليوم الأخير من عملي الجامعي ، ولا أذكر أن هناك من اعترض على تدريس أديب أو نص اعتراضا مباشرا من خلال جهة مسؤولة . وإن كانت هناك اعتراضات أستمع إليها ، فقد كانت تقال همسا وبصوت خفيض وبقدر من الود والعتاب .
كان المد الإسلامي بدأ في الجامعة والضفة والعالم الإسلامي يتصاعد ، وكنت أدرس أدباء وطنيين وقوميين ويساريين ، ولم أدرس اديبا ذا توجه إسلامي ، وكانت خلفية الأدباء الوطنيين والقوميين يسارية في الغالب . ولما كان أكثر طلاب قسم اللغة العربية محافظين وريفيين ، فقد كان قسم منهم يسألني بود السؤال الآتي :
- يا أستاذ لماذا لا تدرس أدباء إسلاميي التوجه ؟
وكان يتبع السؤال السابق باستفسار مفاده إن كان فكري اليساري - شاع أنني يساري الفكر - هو ما يحكم اختياراتي للأدباء والنصوص .
كنت أدرس ابراهيم طوقان وأبو سلمى ونجاتي صدقي واسحق موسى الحسيني وغسان كنفاني واميل حبيبي ومحمود درويش وجبرا ابراهيم جبرا وفدوى طوقان وسميرة عزام ومحمود شقير وتوفيق فياض ويحيى يخلف وليانة بدر وأكرم هنية ، ولم يكن بين هؤلاء كاتب إسلامي التوجه . وكنت أجيب الطالب السائل بأنني أراعي في اختياراتي الجانب الأدبي لا التوجه الفكري ، وأن الأدب الفلسطيني غلب عليه الفكر اليساري والوطني منذ النكبة ، بل وما قبلها ، وحتى اليوم ، وأن الأدب الإسلامي ظل حتى نهايات القرن العشرين شبه غائب وشبه ضعيف .
ولا أنكر أن معطيات حقبة الثمانينيات تركت أثرها علي ، ففي تلك الفترة كانت الأدبيات الوطنية واليسارية في فلسطين في صعود .
أذكر مرة وأنا أدرس قصيدة أبو تمام في فتح عمورية ، أذكر أن إحدى الطالبات ذات التوجه الإسلامي شكتني إلى رئيس القسم بحجة أنني أشكك في التاريخ الإسلامي .
كنت سألت الطلبة السؤال الآتي :
- هل تصدقون أن صرخة المرأة المسلمة فقط هي من حرك المعتصم وجيشه لمحاربة الروم ؟
وأتبعت السؤال بآخر:
- لماذا لا يستجيب الحكام العرب في زماننا لصرخات النساء الفلسطينيات ؟
فيما بعد وأنا أدرس مادة " مناهج البحث العلمي " كنت أبذل جهدا كبيرا في إفهام الطلاب المنهج الاستردادي - أي دراسة القديم في ضوء نتائجه وأن الحاضر هو نتاج الماضي ، وكنت أطلب منهم أن ينهجوا نهج ( ديكارت ) وأن يخضعوا كل شيء للعقل ، وألا يصدقوا كل ما يقرؤون .
هل ثمة نصوص أدبية سبب تدريسها لي إشكالات ؟
في الحلقة القادمة سوف أتوقف أمام
- موسم الهجرة إلى الشمال.
- قصيدة لهب القصيد لأبي سلمى
- قصيدة راشد حسين " الله أصبح لاجئا يا سيدي " وما حدث بشأنها مع الأستاذ نبيل أبو زنيد .

٨ تشرين الثاني ٢٠١٩

-7-
نصوص إشكالية :
في سبعينات القرن العشرين قامت منشورات صلاح الدين في القدس بطباعة كتب يسارية وأخرى غير يسارية ذات طابع احتجاجي على النظام السياسي والاجتماعي القمعي والتسلطي في العالم العربي ، وذات تجارب انسانية شمولية تأتي على الصراع الحضاري بين الشرق والغرب ، وقد لاقت هذه الكتب إقبالا جيدا من القراء ، ومن ضمن هذه الكتب روايات الطيب صالح والطاهر وطار ومسرحيات بريخت وسعد الله ونوس .
وكنت زرت سورية في العام ١٩٧٥ واشتريت منها أعمال الطيب صالح التي كانت موضع نقاش وجدل ، فقد عد في حينه عبقري الرواية العربية .
عندما بدأت التدريس في الجامعة قررت تدريس بعض هذه الأعمال ، وفي مساق " المدخل إلى تذوق النص الأدبي " اقترحت على الطلاب قراءة رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " لمناقشتها معهم .
كنت أعرف أن الرواية لا تخلو من مشاهد فيها تصوير لعلاقات جنسية بين بطلها مصطفى سعيد ونساء اوروبيات تعرف إليهن ، وأنا أعرف أن قراءة مثل هذه المشاهد قد يسبب حرجا وارباكا ، ولذلك قررت عدم قراءتها أو الإشارة إليها .
بعد أيام من طلبي من الطلاب قراءة الرواية فوجئت بأن رئيس القسم يراجعني في شأن تدريس الرواية .كان والد إحدى الطالبات قرأ الرواية وتوقف أمام المشاهد التي تأتي على علاقات جنسية واستغرب أن تدرس هذه الرواية في الجامعة ، فراجع رئيس القسم بالأمر ، وقد راجعني به الرئيس .
ما حدث له دلالات عميقة تتمثل بالعلاقة بين الجامعة والمجتمع سيعبر عنه محمود درويش بسطر واحد في قصيدته " أنت ، منذ الآن ، غيرك " والسطر هو :
" ما حاجتنا للجامعة مادامت هي والجامع من جذر واحد " .
مراجعة والد الطالبة رئيس القسم بالموضوع وطلب الثاني من المدرس ألا أدرس الرواية يعني خضوع الجامعة للمجتمع ، لا قيادة الجامعة للمجتمع ، وأعتقد أن أكثر الجامعات العربية تخضع لمجتمعاتها ، وأنها لا تقودها إلى عالم آخر مختلف ، وأعتقد أن المحتمع يخضع الجامعة لشروطها ، ويبدو هذا في سياسة الجامعة المقرة يوم تأسيسها ، فأهدافها المعلنة تقر بأن الجامعة مثلا وطنية عربية إسلامية وما شابه ، وقد تتعارض سياسات الجامعة مع أهم ما يجب أن تحققه وهو إشاعة التفكير العلمي واخضاع ما يدرس للعقل لا للعواطف والمشاعر وما شابه .
لم أكن الوحيد الذي اشتكي ضده بخصوص ما يدرس . لقد قرر أحد أساتذة العلوم السياسية ذات فصل وهو يدرس القانون الإسرائيلي الشهير "قانون أملاك الغائب " ، لقد قرر في مساقه كتابا ترد فيه أبيات راشد حسين الشهيرة :
" الله أصبح لاجئا يا سيدي
صادر إذن حتى بساط المسجد
وبع الكنيسة فهي من أملاكه
وبع المؤذن في المزاد الاسود"
فاعترض الطلاب عليه واشتكوه إلى إدارة الجامعة تدعمهم تيارات دينية ، وقد عرض الموضوع علي وسئلت إن كان البيتان فيهما نوع من الإلحاد .
مرة وأنا أدرس مساق الأدب الفلسطيني ، مرة درست قصيدة عبد الكريم الكرمي " أبو سلمى " " انشر على لهب القصيد " فاعترض بعض الطلاب على البيت الآتي :
" لو كان ربي انجليزيا
دعوت إلى الجحود "
وقال المعترضون إن البيت فيه دعوة واضحة إلى الإلحاد . وأذكر أنني استغرقت وقتا طويلا في إقناعهم بأن لا الحاد إطلاقا في البيت ، فالشاعر يقول " لو " والله ليس انجليزيا بأي حال من الأحوال ولن يصير .
أطرف ما في أمر اعتراض والد الطالبة على تدريس رواية الطيب صالح هو موقف أحد أعضاء هيأة التدريس في القسم . لقد سألني هذا الأستاذ السؤال الآتي :
- كيف تدرس هذه الرواية؟
وتابع :
والله إنني أخجل من وضعها على رفوف مكتبتي .
بعض أساتذة الجامعات غالبا يكونون متناقضين ، فهم يظهرون محافظين أخلاقيين ولكنهم في السر يتبادلون النكت الجنسية الفاضحة ، ولقد كان الأستاذ المعترض واحدا من هؤلاء .
إن المنظومة الأخلاقية لدى كثير من أساتذة الجامعات يجب أن ينظر فيها حقا . وأعتقد أن ما يجب ان يتمتع به الأستاذ الجامعي بالدرجة الأولى هو إخلاصه في عمله وتطويره نفسه علميا ، والتزامه الصارم ، في أثناء التدريس ، بالمساواة التامة بين الطلاب وعدم التمييز بينهم اتكاء على انتمائهم السياسي أو الديني أو الاجتماعي ، وعدم التدخل في شؤونهم الخاصة .
وربما يبقى السؤال الأهم :
ما الدور الذي أسهمت فيه الجامعة في تطوير المجتمع وقيادته ؟
هل خلقت من طلابها طلابا يعتمدون على أنفسهم؟
وهل أوجدت لديهم القدرة على التفكير العلمي السليم أم أنها علمتهم فقط مواد تعليمية حفظوها ونجحوا فيها وكانت بالتالي مثل مدرسة ثانوية عليا ؟


-8-
الجامعة والمجتمع :
ربما تكمن إحدى مشاكل جامعة النجاح الوطنية في موقعها وفي طبيعة المجتمع النابلسي بخاصة والوضع الفلسطيني بعامة ، بالإضافة إلى كون الفلسطينيين جزءا من العالم العربي الذي يعاني من بنية سياسية واجتماعية بائسة .
عندما ذهبت إلى ألمانيا درست في جامعة ( بامبرغ ) التي تقع في وسط البلدة القديمة ، ومثلها جامعة ( فرايبورغ ) ، كما لو أنهما تقعان في خان التجار في نابلس ، وقد مدح كارل زوج المستشرقة التي اصطحبتنا إلى ألمانيا هذا الموفع ، وقال إن جامعتنا بين الناس غير بعيدة عنهم .
ما اعتبره كارل في مجتمع غربي ميزة هو ليس كذلك في مجتمع عربي وبخاصة في المدن الصغيرة التي يعرف أكثر الناس فيها بعضهم ، بخلاف المدن الكبيرة مثل القاهرة وبيروت .
قبل أن أتعين في الجامعة كان موقف باصات الجامعة قرب دوار المدينة مقابل " أحذية نانا " ، ومرة أصغيت إلى مراهق يمر قرب الباص وينادي مستهزئا :
- جامعة الن- اح . مستبدلا حرفا بحرف الجيم ، كما لو أن على الجامعة ألا تكون مختلطة وتخضع لمفهومه للأخلاق .
بعض أهل المدينة من المحافظين لم يستسيغوا قبل تأسيس الجامعة إقامة مسرح في المدينة أو إقامة ناد مختلط للعائلات ، بحجة الحفاظ على الأخلاق ، ولما أقيمت الجامعة ازداد عدد طلابها وطالباتها وصار قسم من الطلاب والطالبات يمشون معا في البلدة ، وهذا لم يرق ربما لبعض الناس ، علما بأن الاختلاط كان في معهد النجاح حاصلا قبل تأسيس الجامعة بسنوات ، ولكن عدد طلاب المعهد كان قليلا وكان الاختلاط يتم داخل أسوار الكلية .
طبعا لا يمكن تعميم حالة المراهق باعتبارها تمثل وجهة نظر سكان المدينة كلهم ، ومع ذلك فإنه كان يصدر عن توجه عرفته المدينة قبل سنوات قليلة حين اعترض على إقامة مسرح في المدينة وإقامة ناد مختلط هو النادي الذي أقيم لاحقا في مكان بعيد عن المدينة .
ما أود كتابته هنا هو أن موقع الجامعة في داخل المدينة ترك مجالا لتدخل السكان فيما يجري فيها ، وزاد الطين بلة حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال .
ليس غريبا وما سبق أن تصبح الجامعة وما يجري فيها على لسان المواطنين وأن يدلي كل واحد من هؤلاء بدلوه بصفته الخبير العليم وصاحب الفضيلة وأنه يمون على فلان وفلان ممن يعملون فيها.
في العالم العربي لا تبني المدارس ولا الجامعات شخصية طالب يعتمد على نفسه حتى بعد أن يتخرج ، ومن هنا لا بد من الاعتماد على الأب أو القريب أو الواسطة ، وهكذا يتدخل الآخرون ممن هم خارج الجامعة في شؤونها .
لن تستغرب إن كنت عضو هيأة تدريس أن يزورك في بيتك والد طالبة أو قريب لها ليتوسط لك بشأن ابنه أو ابنته الذي رسب في المساق الذي تعلمه ، أو أن يأتيك والد طالب أو طالبة ، ممن يعملون في الجامعة ، لتساعد ابنه أو ابنته أو قريبه . ولن تستغرب أيضا أن يطلب منك أخوك أن تنجح فلانا أو فلانة من أبناء أصحابه ، فالكل في نابلس يعرف الكل ، والكل يمون أو يتخيل نفسه أنه يمون على الأساتذة وعلى إدارة الجامعة .
الطلاب القليلون الذين كانوا يعتمدون على أنفسهم كانوا قليلين ، وغالبا ما كانوا سجناء أمنيين قضوا في السجن سنوات ، وهؤلاء شكلوا حالة ما عادت مع مجيء السلطة تتكرر .
ولم يقتصر الأمر على المجتمع ، فقد كانت الفصائل غالبا ما تتدخل في العلاقة بين الأستاذ وبعض الطلاب المنتمين لها ، وإذا كنت قريبا من هذا الفصيل أو ذاك ، فإن الطلب منك بمساعدة أعضائها يزداد ، وهذا كله يفقد العملية التعليمية في الجامعة بعض استقلالها .
مرة في 90 القرن العشرين كتبت مقالا عنوانه " جناية الفصيلية على المجتمع الفلسطيني " وبقدر ما كان للفصائل دور إيجابي كان لها في الوقت نفسه أدوار سلبية في التعليم ، فأنت صرت ترى الطلاب تؤلف قلوبهم ، فيختارون هذا الأستاذ دون غيره لأنه من فصيلهم أو .. .
هنا أشير إلى أن الجامعات العربية ليست أفضل حالا ، وما عليك إلا أن تقرأ رواية خالد خليفة " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " لتعرف هذا ، وما عليك إلا أن تتابع بعض ما جرى في بعض الجامعات الأردنية في السنوات الأخيرة لتتأكد من أن بنية المجتمع العربي والنظام السياسي فيه يفسدان الجامعة دورها الريادي ويقللان منه ، فبدلا من أن تقود الجامعة المجتمع تغدو ذيلا له ، وبدلا من أن تعتمد الصرامة العلمية في شؤون التعليم والتعيين تحضر الواسطة والفصيلية والعائلية وعلى رأي بعض أهل نابلس الذين يميلون إلى الدعابة ، فإن هذا " مننينا " - أي من أهل نابلس - ومن جماعتنا ومحسوب علينا ، والكلام يطول ويتشعب وإلى اللقاء في الجمعة القادم.

22 / 11 / 2019 .


***

-9-
تثقيف الذات
أول ما افتتحت الجامعة سعت إلى تثقيف موظفيها ، فحثتهم على مواصلة تعليمهم ، بخاصة ممن كانوا يعملون فيها وهي مدرسة ثانوية ومعهد إعداد معلمين . ولما كان قسم من أعضاء مجلس أمنائها مثقفين وكان توجههم توجها ليبراليا وغربيا ، مثل السيد حكمت المصري والمربية يسرى صلاح والدكتور شوكت زيد والمحامي موسى الجيوسي والشاعرة فدوى طوقان ، ولما كان رئيسا الجامعة الأولان درسا في جامعات أميركية ، فقد شجعوا على عقد دورات باللغة الانجليزية ؛ لأعضاء هيأة التدريس ممن يرغب ، وللموظفين الإداريين ، ولما كان هناك صلة بين الجامعة كهيأة علمية وبين مؤسسات انجليزية وأميركية علمية ، فقد عقد في صيف 1983 دورة لغة انجليزية لتطوير مستوى العاملين فيها ممن يرغبون في تطوير لغتهم وتنميتها .
أجرى القائمون على الدورة امتحانا لمعرفة مستوى المتقدمين حتى يبنوا على نتائج الامتحان .
كانت رغبتي في تعلم الإنجليزية شديدة ولكني لم أسع بعد التوجيهي لهذا ، علما بأنني حصلت في امتحانات التوجيهي على 273 من 300 - أكثر مما حصلت عليه في مادة اللغة العربية حيث حصلت على 231 من 300 . وهنا قد يسأل سائل :
- لماذا لم تتخصص أصلا في الأدب الإنجليزي؟
ولقد رغبت حقا في ذلك ولكن تجارب آخرين درسوا في الجامعة الأردنية في 1971 لم تشجعني ، فعلى الرغم من أنهم كانوا من الأوائل إلا أنهم لم يغمسوا زيتا في حينه مع طلبة مدارس الفرندز والفرير الذين تخصصوا في الأدب الإنجليزي .
في امتحان اللغة الإنجليزية حصلت على ما يقارب السبعين وهي العلامة التي حصل عليها بعض الموظفين من الجامعة ممن تخرجوا في قسم اللغة الانجليزية في الدفعة الأولى .
واظبت على تعلم اللغة وواصلت حضور محاضرات مع السيدة إنصاف عباس المحاضرة في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة لفترة ثم انقطعت لأسباب منها العبء التدريسي ، فقد كنت أدرس 18 ساعة أسبوعيا - أي ست ساعات إضافي فوق العبء التدريسي ، وهذا فوق الطاقة وعلى حساب الصحة الجسدية والذهنية ، كما أنني في فترة لاحقة أخذت أتعلم اللغة العبرية مع طلاب الجامعة مع معلمها غانم مزعل ، وحملت بذلك ثلاث بطيخات بيد واحدة ، ولهذا لم أفلح في إتقان أية لغة ، عدا أن إتقان أية لغة يتطلب أن تعيش بين أهلها وتخالطهم وتتكلم معهم بلغتهم .
هنا أتذكر قصة الأستاذ الجامعي المصري أحمد أمين وحكايته مع تعلم اللغة الانجليزية .
في سيرته الذاتية " حياتي " يأتي أحمد أمين على قصة تعلمه اللغة الانجليزية يوم كان أستاذا في الجامعة . لقد أراد تعلم اللغة الانجليزية فمن غير المعقول أن يكون أستاذا في الجامعة ، في القاهرة التي كان الأجانب يؤمونها ، ولا يتقن الإنجليزية ، وهكذا عقد العزم على تعلم اللغة ، وقد اتفق مع امرأة إنجليزية كبيرة تقيم في القاهرة على أن تعطيه حصصا خاصة مقابل مبلغ من المال ، وصار يتردد على بيتها حيث كانت تعطيه الحصص ، وقد واظب على التعلم ، ثم أخذ يشارك في مؤتمرات علمية تعقد خارج مصر ، ومرة أراد أن يلقي ورقته بالإنجليزية فتلعثم ولم يجد الحديث ، وهكذا قرر ألا يتحدث بغير العربية .
أعتقد أن مما يؤخذ على أعضاء هيأة التدريس في كثير من أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية ، وأنا منهم ، هو عدم إتقانهم للإنجليزية ، وهذا يقلل من فرصهم ؛ في التدريس في جامعات عالمية ، وفي القراءة بلغة أخرى ، وفي كتابة الأبحاث ونشرها . بل ويقلل من فرصهم في تبوؤ مراكز علمية مهمة حتى في جامعتهم ، إذا غضضنا النظر عن الولاء ، فالولاء في جامعاتنا مقدم كثيرا على الكفاءة . الجامعات العربية للأسف تريد ولاءات ولا تريد كفاءات .
فيما بعد صرنا إذا أردنا كتابة ملخص ما باللغة الانجليزية نستعين بأساتذة قسم اللغة الانجليزية لينظروا في سلامته أسلوبيا ، والطريف أن قسما كبيرا من هؤلاء صاروا يستعينون بنا لننظر في الملخصات التي يكتبونها بالعربية لأبحاثهم ، على قلة ما يكتبون .
مرة كتب الناقد الفلسطيني د. فيصل دراج عن الفرق بين تعلم الإنجليزية في النصف الأول من القرن العشرين وتعلمها الآن وقال كلاما صحيحا . كتب إن إتقان الإنجليزية قديما كان يعني أن تعرف ثقافة تلك اللغة وتسهم في المعرفة بنقلها أو بالتأليف بتلك اللغة ، وأما في عصرنا فقد افتقد إتقان اللغة الأجنبية تلك الميزة ، وهذا واضح جدا من خلال الإنتاج المعرفي لأساتذة أقسام اللغة الانجليزية ، ولكن إدارة جامعة النجاح الوطنية تفرط في أستاذ له عشرون كتابا ، ولا تفرط بدكاترة يتقنون الإنجليزية وليس لهم نتاج علمي يشار إليه ، وتلك طامة كبرى .

وللكتابة بقية يوم الجمعة القادم .

29 تشرين الثاني 2019


***

-10-
الشهادة أولا :
في الجامعة لا يسأل عن ثقافتك وقدرتك على العطاء قدر ما يسأل عن درجتك العلمية .
كانت الجامعة في بداية تأسيسها تحتاج إلى حملة شهادات عليا لتقنع الآخرين بمستواها العلمي وبأنها ليست معهدا أو مدرسة ، وكان لا بد من حملة الدكتوراه ، وهكذا سعت إلى التعاقد مع أعضاء هيأة تدريس من حملة الدكتوراه حتى لو كانوا حصلوا عليها من جامعات ضعيفة وبالانتساب أيضا . نظرت الجامعة ، من أجل سمعتها أمام الآخرين وإقناعهم ، وهذا من حقها ، إلى المسمى حتى لو كان صاحبه مجرد متعلم عادي والمسمى أكبر منه.
درس في قسم اللغة العربية أعضاء من حملة الدكتوراه كانوا معلمي مدارس بالدرجة الأولى ، ولم يكونوا مثقفين أو قراء جيدين ، وكان نتاجهم العلمي شبه معدوم وفقيرا جدا ، ومع ذلك كانوا مزهوين بشهاداتهم التي نقلتهم من المدرسة إلى الجامعة ، وهكذا غادروا مدارس دول الخليج فرحين عائدين إلى جامعة في بلدهم .
عندما عينت في القسم كنت أحمل شهادة الماجستير وكان زميلي الأستاذ فتحي خضر يحمل درجة البكالوريوس ، وفي هذه الأثناء عاد قسم من المبعدين من حملة الدكتوراه .
في اجتماعات القسم ، حين كانت هناك قضايا تتطلب التصويت ، وبخاصة في قضايا التعيين ، كان بعض الدكاترة يقول علنا وبصوت مسموع واضح :
- الزملاء ممن لا يحملون درجة الدكتوراه يحق لهم الإصغاء ولا يحق لهم التصويت .
وكانت عباراته ولهجته تشعرنا بأننا فائضون عن الحاجة ، وهذا جعلني أفكر جديا بضرورة الحصول على الدكتوراه . كما لو أن الشهادة فقط هي التي تمنحك المكانة ، وعدا ما سبق فإنك إن كنت عضو هيأة تدريس في جامعة ، وجب عليك أن تطور نفسك وأن تواصل القراءة والكتابة ، فالشهادة ليست سوى خطوة أولى .
غالبا ما كنت في محاضراتي أقول للطلبة إن الدكتوراه ليست سوى رصيد في البنك عليك أن تضيف إليه لأنك إن لم تفعل فسوف ينقص حتى يتلاشى ، وكذلك المعلومات .
كانت مشكلة الجامعة ، وما زالت ، أنها لا ترسل المبعوثين على نفقتها هي ، وأنها تعتمد على المنح والبعثات التي تقدم لها من الدول والمؤسسات ، وغالبا ما كانت هذه الدول والمؤسسات غربية ، ما جعل إمكانية مواصلة دراستي أمرا صعبا ومتعذرا ، ومع ذلك فلم أستسلم . كان لا بد من التخلص من الإصغاء إلى حملة الدكتوراه وعباراتهم التي تشعرك بأنك أقل منهم مكانة .
في تلك السنوات كنت تزوجت وخلفت طفلتين وكان راتبي جيدا ، ولكنه لا يمكنني من التفرغ لإكمال الدكتوراه ، وهكذا فلا بد من البحث عن منحة .
كانت مؤسسة ال DAAD ، وهي مؤسسة أكاديمية ألمانية للتبادل الثقافي مع العالم الخارجي ، تقدم منحا لا تستثني منها طلاب اللغة العربية والأدب العربي ، وقد عرفت أن زملاء كثيرين لي في الجامعات الأردنية سافروا إلى ألمانيا لإكمال الدكتوراه فيها ، وهكذا تشجعت للدراسة هناك ، علما بأنني لم أكن أعرف الألمانية نهائيا .
السؤال الذي ظل يسأل هو :
- أدب عربي في ألمانيا؟
منذ فكرت في الدراسة هناك أصبح السؤال يجري على لسان الجميع ، وحين عدت ومعي درجة الدكتوراه كتبت أوضح الأمر للمتسائلين .
ما يجدر الإشارة إليه هنا هو أنني خلال عملي محاضرا ما بين 1982 و 1987 كنت أثقف نفسي باستمرار ، وكنت إلى جانب عملي محاضرا أرسخ اسمي كاتبا ، فقد واظبت على كتابة مقال أسبوعي في جريدة " الشعب " المقدسية التي كنت أحرر صفحتها الثقافية. تطلبت كتابة المقال مني القراءة والقراءة ، ولا أبالغ حين أزعم أنني صرت أقرأ أكثر من حملة الدكتوراه ممن كانوا يسندون أنفسهم ، بالدرجة الأولى ، باللقب العلمي . إن الثقافة والمطالعة والكتابة لا تشفع ، فما يشفع هو الكرتونة وحسب ، وجامعة النجاح الوطنية لم تكن في بداياتها جامعة عريقة تجيز لحامل الماجستير المثقف فيها أن يشرف على طالب الدكتوراه . في الجامعات العريقة كما كنت أسمع كان المثقف المشهود له بالكفاءة والبحث والإنجاز يشرف على طلبة الدكتوراه حتى لو لم يكن حاصلا على شهادة الدكتوراه .
في جامعاتنا لا يجوز لمن هو برتبة أستاذ مساعد أن يشارك في التصويت على ترقية أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ دكتور حتى لو كان يبذ حملة الأستاذية ثقافة وعلما .

٧ / ١٢ / ٢٠١٩


***

-11-
بعثة الدكتوراه :
في السنوات التي عملت فيها في الجامعة من 1982 -1987 لم أكن أملك المال الكافي لدراسة الدكتوراه على نفقتي الخاصة ، وكل ما وفرت من نقود في هذه السنوات لم يكن يكفي رسوما لجامعة مثل الجامعة الأردنية لو فكرت في الدراسة فيها ، فقد كانت افتتحت برنامج دكتوراه حديثا ، عدا أنني لم أكن متشجعا للدراسة في الجامعة نفسها التي حصلت منها على شهادتي البكالوريوس والماجستير ، فما سأسمعه من الدكاترة كنت سمعته ، وغالبا ما يكرر المدرسون أنفسهم .
في العام 1986 تقدمت لمؤسسة DAAD الألمانية ، وقد فكرت في موضوع نقدي هو " رمز المسيح في الشعر الفلسطيني " . كتبت الطلب إلى المؤسسة وتقدمت به لمسؤولها في القدس حيث مكتب المؤسسة في البلدة القديمة .
لم يكن اعتماد القبول يتم بناء على الطلب فقط ، فلا بد من إجراء مقابلة مع صاحبه ، وقد حدد يوم لذلك ، وفيه ذهبت إلى القدس .
إن لم تخني الذاكرة فقد كان من أعضاء اللجنة أستاذ ألماني يدرس اللغة الألمانية في جامعة اليرموك ، وقد سألني إن كان هناك حضور للمسيح في الشعر الفلسطيني ، وكنت أجيب متكئا على قراءاتي لأشعار محمود درويش وفدوى طوقان وخليل توما .
أعجب الأستاذ الألماني بالفكرة وأوحى إلي بأنني سوف أقبل لأكمل تعليمي هناك .
كانت مؤسسة ال DAAD تطلب من المتقدم للمنحة ، لكي يحصل عليها ، أن يتصل بأستاذ ألماني يدرس في جامعة ألمانية يبدي استعداده للإشراف على الأطروحة ، وهو ما لم يكن بالأمر الصعب لي ، فقد كان صديقي الأستاذ خليل الشيخ الذي حصل لاحقا على الدكتوراه من جامعة ( بون ) ، كان في ( بون ) ، ولحسن الحظ أننا كنا على تواصل مستمر في حينه ، فقد كان بحاجة إلى من يساعده في الحصول على مصادر رسالته ، وكانت المصادر قديمة وغير متوفرة في الجامعات الألمانية ، وقد بحثت له عنها في فلسطين ، وتحديدا في الجامعة العبرية ووفرت له منها ما استطعت ، يساعدني في ذلك زميلي الذي يدرس اللغة العبرية في جامعة النجاح وكان درس في الجامعة العبرية . أرسلت إلى صديقي خليل رسالة أطلب فيها منه أن يسأل أستاذه ، وهو الدكتور ( اشتيفان فيلد ) ، إن كان مستعدا للإشراف على موضوعي وعلي طالبا للدكتوراه .
أرسل إلي خليل عنوان ( فيلد ) وطلب مني أن أكتب له رسالة اسأله فيها عن إمكانية الإشراف على موضوعي ، ولم يرد الدكتور على رسالتي ، لا سلبا ولا إيجابا . عندما أخبرت خليل بالأمر قال لي إن رسالتي ل ( فيلد ) كانت فاتحة حديث بينهما عن مستوى الطلاب العرب الذي لم يرق له فهو مستوى ضعيف ، علما بأن أستاذه راض عنه ، وما زلت أحتفظ عموما بالرسالة وبعض الرسائل .
كان الود بيني وبين خليل الشيخ ترسخ في العام 1981 حيث كان يدرس مساق اللغة العربية في الجامعة الأردنية قبل أن يتركها إلى جامعة اليرموك لتبتعثه إلى ألمانيا ، ولم يأل جهدا في مساعدتي في البحث عن مشرف آخر ، وهكذا أرسل إلي عنوان أستاذة ألمانية تدرس في جامعة ( بامبرغ ) Bamberg التي سأدرس فيها .
كتبت رسالة إلى الدكتورة ( روتراوند فيلاندت ) أسألها فيها إن كان لديها استعداد للإشراف علي طالب دكتوراه في جامعتها ، وأخبرتها أنني تقدمت بطلب لمؤسسة ال ( DAAD ) التي اشترطت ، لقبولي ، استعداد أستاذ في جامعة للإشراف على الرسالة ، وبقيت أنتظر منها ردا ، ومر العام وانتهى الموعد وضاعت فرصة الحصول على المنحة في العام 1986 ، وواصلت التدريس في الجامعة ، فما الذي حدث؟ وكيف سافرت إلى ألمانيا ؟
كل ذلك جرى ولم يكن لجامعة النجاح دور في المساعدة .
وللكتابة بقية يوم الجمعة القادم

عادل السطة
13 / 12 / 2019

***

-12-
البعثة : ألمانيا ثانية DAAD
لم أحصل على بعثة الDAAD في العام 1986 وصرفت ذهني عن التفكير في إكمال الدكتوراه وواصلت حياتي .
في ذلك العام عدت أحرر الصفحة الثقافية في جريدة " الشعب " المقدسية التي انقطعت عن تحريرها بعد العام 1982 ، ولكن صلتي بالقاص أكرم هنية رئيس تحرير الجريدة لم تنقطع ، ولم أنقطع عن الكتابة والنشر في جريدة " الشعب " وجريدة " الفجر " عدا أنني واصلت العمل الثقافي مع بعض التنظيمات اليسارية .
كانت الجبهة الديمقراطية تنشط ثقافيا وأخذت تصدر مجلة فصلية تحت مسميات مختلفة مثل " العمل الثقافي " و" لجان العمل الثقافي " وما شابه ، وكنت أساهم في تحريرها مع القاص سامي الكيلاني والسيد ربحي العاروري ، وننفق وقتا في إعداد المواد ومراجعتها والنظر في صلاحيتها - من وجهة نظرنا المتواضعة في حينه - ثم الإسهام في طباعة المجلة وتوزيعها .
صرت أزور القدس كل أسبوع تقريبا لكي أشرف على صفحة " الشعب الثقافي " التي تصدر عادة يوم الخميس ، وعلى صفحة أدبية للشباب تصدر كل يوم ثلاثاء . أستلم بريد الصفحتين من رئيس التحرير وأنظر فيه وأختار ما أراه مناسبا وأكتب زاوية أسبوعية أناقش فيها فكرة ثقافية .
في أثناء ترددي على مكاتب الجريدة كنت غالبا ما أعرج على مكتب رئيس التحرير نتحدث قليلا في قضايا ثقافية ثم أتركه وأذهب إلى مكتب التحرير واقرأ المواد وأرتبها .
في إحدى المرات فاجأني السيد أكرم هنية بخبر لافت . قال لي إن مستشرقة ألمانية جاءت إلى مكاتب الجريدة وسألت عني ، وأخبرني أنها تنتظرني اليوم ظهرا في مكتب وكالة أبو عرفة للنشر والتوزيع .
في مكتب وكالة أبو عرفة للنشر والتوزيع وجدت صديقا (؟!!) لي بصحبة السيدة الألمانية وقد عرفها حين كانت تدرس في الجامعة الأردنية .
الصديق (؟!!) هو ابراهيم أبو هشهش والسيدة الألمانية هي البروفيسورة ( انجليكا نويفرت ) .
كانت السيدة ( نويفرت ) ، كما عرفت ، منتدبة من مؤسسة ال DAAD الألمانية وكلمتها مسموعة ، فهي ترشح للمؤسسة من تتوسم فيهم خيرا من الطلاب ، وقد زكت خليل الشيخ وآخرين ، ووعدت ابراهيم أبو هشهش ببعثة حصل عليها في العام 1986 ولكنه لظروف شخصية لم يتمكن في ذلك العام من السفر . ولما كنت ألتقي به ، بين حين وحين ، في القدس ، فقد أخبرته أنني ترشحت للدراسة في ألمانيا ولكنني أخفقت في الحصول على المنحة لعدم وجود مشرف .
كانت العلاقة بين ابراهيم و ( انجليكا نويفرت ) علاقة متميزة ، وقد أخبرها بما حدث معي ، فجاءت تسأل عني .
في اللقاء مع السيدة ( نويفرت ) الذي انتهى بزيارة بيتها في البلدة القديمة ، فقد كان أولادها يقيمون في القدس ، أخبرتني أنها تعمل على مشروع جمع الشعر الفلسطيني ، وأنها معنية بي لكي أساعدها أنا وابراهيم ، ووعدتني بالحصول على المنحة ، وقالت لي :
- اطمئن وهييء نفسك للسفر .
كانت السيدة ( نويفرت ) تعمل في جامعة ( بامبرغ ) مع السيدة ( فيلاندت ) وقد أخبرتها بأنني راسلت زميلتها ولكنها لم ترد على رسالتي ولم توافق على الإشراف على موضوعي " رمز المسيح في الشعر الفلسطيني " وعرفت من السيدة ( نويفرت ) أن الموضوع لم يرق لزميلتها فاطلاعها على الموضوع قليل ، وعرفت أن صلب اهتمام ( فيلاندت ) في كتاب الأستاذية كان يتركز على صورة الغربي في الرواية العربية والمسرح العربي .
سألتني ( نويفرت ) عن موضوع آخر ، فاقترحت عليها أن أكتب عن اليهود في الأدب العربي ، وقد راق الموضوع لها ولزميلتها فوافقت على كتابة موافقة لمؤسسة ال DAAD ، وهكذا حصلت على منحة الدكتوراه .
خلال العام 1987 بدأت أتعلم اللغة الألمانية بطريقة فردية وبحضور دورات صارت تعقدها لجنة أصدقاء جامعة النجاح الوطنية التي كان مقرها بالقرب من مباني الجامعة القديمة ، وأخذت سيدة ألمانية ، متزوجة من صيدلي فلسطيني نابلسي الأصل ، تعلمنا اللغة ، وبدأت رحلة الاستعداد للسفر .
في هذه السنوات كنت نشيطا نقاببا ، فقد انتخبت مرتين في الهيئة الإدارية للنقابة ممثلا لجهة يسارية .
عندما حصلت على المنحة فكرت مطولا في السفر . كانت العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني بدأت تتأزم ، وأسفرت عن طرد الشهيد خليل الوزير ، بل وأسفرت عن إشعار أبو عمار بأنه شخص غير مرغوب فيه في الأردن ، وكان على النقابة أن تتخذ موقفا مؤيدا لمنظمة التحرير الفلسطينية ، فجل أعضاء هيئتها الإدارية من حركة فتح ومن فصائل يسارية في منظمة التحرير ، وهذا جعل أعضاء الهيئة الإدارية موضع استفهام من النظام الأردني الذي ضيق على أنصار م.ت. ف . وأخذ يسائل من يسافر منهم عبر الأردن .
في تلك الأيام أراد أحد إخوتي أن يسافر إلى الخليج وكان عليه أن يصدر جواز سفر ، وأمام مبنى فندق أبو رسول التقى بالدكتور أديب الخطيب الذي كان خارجا لتوه من المبنى وكان رئيس الهيئة الإدارية للنقابة .
كان أخي يعرف الدكتور أديب وكان الدكتور يعرف أخي ولما سلما على بعضهما أخبر الدكتور أخي بأنه سئل عن أعضاء الهيئة الإدارية وسئل أيضا عني ، ولهذا آثرت ، مثل آخرين غيري ، اختصار الطريق وقررت السفر عن طريق مطار اللد ، فاللد بلدنا والمطار مطارنا قبل أن يكون مطار بن غوريون . لقد كان اسم المطار ، قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية ، " مطار اللد " ، فما المانع من السفر منه؟
ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا ، وربما تجدر كتابة حكاية أبو حيدر المختار . وقد يسأل سائل :
- ولكن ما صلة الجامعة بكل ما جرى ؟
ببساطة أجيب :
- لم يكن للجامعة أي دور في الحصول على المنحة ، فالجامعة لم تسهم ، حتى اليوم ، في إرسال أي عضو هيئة تدريس من قسم اللغة العربية لإكمال دراساته العليا والعودة إلى رأس عمله ، ومعظم أعضاء هيئة التدريس في القسم أتموا دراساتهم على نفقتهم الخاصة ، وقد ظل أحد زملائي يحمل البكالوريوس مدة خمسة عشر عاما دون أن تساعده الجامعة على إكمال دراسته ، ولم يواصل تعليمه إلا بعد أن افتتح برنامج الماجستير في الجامعة ، وفيما بعد حصل على الدكتوراه من السودان بالانتساب وعلى نفقته الخاصة .
هنا آتي على خطوة إيجابية سنتها إدارة الجامعة تتمثل في تعيين أوائل الأقسام مساعدي بحث وتدريس لابتعاثهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي ويعودوا إلى الجامعة أعضاء هيئة تدريس فيها ، وهو ما تحقق بنجاح إلا في قسم اللغة العربية ، فالزميلة نجية الحمود التي عينت مساعد بحث وتدريس في القسم ، وكانت الأولى والأخيرة التي تعينت عانت الأمرين في إكمال دراستها وواصلت تعليمها على نفقتها وحين حصلت على شهاداتها لم تعين في القسم .
إن قسم اللغة العربية يبدو قسما فائضا عن الحاجة على ما يبدو وهذا ما سوف أكتب عنه حين آتي على تدريس مساق " اللغة العربية " ومقارنة تدريسه بتدريس مسافات " اللغة الانجليزية " .
ولعل في الكتابة عما جرى مع " أبو حيدر " ما يعزز أن جهد الحصول على البعثة كان جهدا فرديا بامتياز

***

-13-
[SIZE=26px]دنانير د.فيصل الخمسة [/SIZE]

قيم هذا النص
إلغاء المتابعة وضع إشارة مرجعية



الدكتور فيصل زعنون من قرية دير شرف ، وهو زميلي في مدرسة الجاحظ الثانوية ، وفي الجامعة الأردنية ، وفي جامعة النجاح الوطنية ، ولولا دنانيره الخمسة لبقيت معلما في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في منطقة نابلس ، ولحصلت على مكافأة نهاية خدمة تفوق مكافأة نهاية الخدمة في جامعة النجاح الوطنية ، والدليل أنني التقيت في هذا الشهر ، في سبسطية في ظهيرة شعرية ، بزميلي في مدارس وكالة الغوث ، في المدرسة العقربانية ، حيث كنت أعلم معه هناك ، بالشاعر محمد الأخرس ، وسألته عن عمله ، فأخبرني أنه تقاعد وحصل على مكافأة نهاية الخدمة ولم يخف مقدارها وأخبرني عن رقم يبدو لمعلم رقما فلكيا . ولكن من قال إن الأمور تقاس بالمال فقط ، فغالبا ما أسخر من زميل لي يردد على مسامعي ما خلاصته أنه لو فتح بسطة فلافل على دوار المدينة لغدا مليونيرا ، وغالبا ما أقول له : " راحت عليك " وأنا خرجت من الجامعة برصيد لا يقل عن 20 كتابا تعتمد في كتابات باحثين ودارسين في جامعات عالمية ، 20 كتابا حققت لي شهرة واسعة .
درست والدكتور فيصل زعنون في مدرسة الجاحظ وتقدمنا للتوجيهي معا وواصلنا تعليمنا في الجامعة الأردنية من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٦ ثم افترقنا ؛ أنا عدت إلى نابلس وهو ظل في عمان وصار موظفا في الجامعة الأردنية في قسم التسجيل ، ولما ذهبت ، في العام ١٩٨٠ ، لمواصلة دراساتي العليا في الجامعة التقيت به واستعدنا ذكريات الماضي .
في تلك الأيام مكثت في الأردن أسابيع عديدة أنتظر نتائج قبولي طالبا في الماجستير ، ثم آن موعد العودة إلى نابلس ، فالعام الدراسي قد بدأ ولا بد أن أكون على رأس عملي ، وقد مللت أيضا من المبيت هنا وهناك ، عند بعض أقارب أو لدى بعض أصدقاء أو طلاب من مخيم عسكر علمتهم في الثانوية وسافروا للعمل في عمان ، فأنا ، عدا قلة ما في اليد ، لم أعتد ، في تلك الأيام ، على المبيت في الفنادق .
كلفت الصديق فيصل أن يتابع لي إجراءات التسجيل فوافق مشكورا ، ولم يبخل على طلب الدراسة بخمسة دنانير ، لولاها لما واصلت تعليمي .
دفع لي الصديق رسوم التسجيل فقبلت طالبا من ستة طلاب فقط في برنامج الماجستير ، وكنا كلنا حاصلين على تقدير جيد جدا . ولم أعرف أنني قبلت في البرنامج إلا بالصدفة أيضا .
كانت أمي تزور خالتها رحمة ( أم محمد القوقا ) في عمان ، وكانت ابنتها لطيفة موظفة في الجامعة الأردنية وسكرتيرة في عمادة البحث العلمي والدراسات العليا . أخبرت السيدة لطيفة أمي بأنني مقبول في برنامج الماجستير ، وأن علي خلال أيام أن أدفع الرسوم وإلا فقدت مقعدي ، وأعلمتني أمي بهذا ، وسرعان ما حصلت على إجازة من قسم التعليم في وكالة الغوث وسافرت .
كلما التقيت بالدكتور فيصل وتجاذبنا أطراف الحديث وأتينا على الماضي واستثرنا الذكريات ، سألني عن نصيبه من مكافأة نهاية الخدمة مبتسما ، فالفضل يعود إلى دنانيره الخمسة أولا وأخيرا .
دنانير د. فيصل كان لها الفضل الكبير ، وقصة الدنانير تذكرني بأبي حيدر المختار .
لما حصلت على المنحة من مؤسسة DAAD كان علي أن أتدبر الحصول على وثيقة سفر إسرائيلية ( س.ب.س ) ، ويتطلب الحصول عليها الذهاب إلى مكتب الإدارة المدنية والانتظار حتى يأتي دوري ، ثم أتقدم بطلب إلى الموظف الإسرائيلي وعالبا ما كان عسكريا ، فإن وافق حصلت على الوثيقة وسافرت ، وإن لم يوافق ذهبت المنحة أدراج الرياح .
في صالة الانتظار لم أنتبه إلى " أبو حيدر " المختار ، وهو من نابلس ، يلف ويدور بين المنتظرين ، يعرض خدماته مقابل 20 دينارا أردنيا . وقف أبو حيدر إلى جانبي والتقط اسمي من طلب المعاملة وعرض علي مساعدته مقابل 20 دينار فرفضت .
تركني أبو حيدر ودخل إلى مكتب الموظف الإسرائيلي وعندما جاء دوري قدمت الطلب إلى الموظف ، فأخذ ينظر فيه ويقلب ملفاته ثم قال لي :
- الطلب مرفوض .
وأنا أغادر اقترب مني أبو حيدر المختار واستفسر عما ألم بالطلب ، فأخبرته أنه ارتفض ، فعرض علي من جديد أن أدفع له 20 دينارا وهو يتكلف بالحصول على الموافقة .
كان للمخاتير يومها دور فاعل في " تسهيل " أمورنا ، فهم ينسقون مع موظفي الإدارة المدنية من الإسرائيليين ، وكانوا معا ؛ المخاتير - إلا مختار مخيم بلاطة الشهيد أبو دراع - وموظفو الإدارة المدنية ، كانوا يتقاسمون الرشاوي ، فأثرى هؤلاء وهؤلاء ، ما دفع الكاتب الإسرائيلي ( ديفيد غروسمان ) لأن يكتب فصلا في كتابه " الزمن الأصفر " عن " الواسطة " ، وقد أتيت على هذه الظاهرة في كتابي/سيرتي " حزيران الذي لا ينتهي " .
رفضت أن أدفع لأبي حيدر المبلغ ، بدافع ألا أدفع لمتعاون ، وتعقدت الأمور ، وعندما تحدثت في الأمر أمام صديقي المرحوم عدنان عبدالله مدير مخيم بلاطة قال لي إن الإدارة المدنية تنشد ود مخيم بلاطة حتى تهدأ التظاهرات ، وأنه يمكن أن يقدم لي المعاملة من خلال مختار المخيم ، وتمكنت في نهاية الأمر من الحصول على وثيقة السفر . أنا سافرت إلى ألمانيا وأبو حيدر سيسافر بعد ثلاثة أشهر من سفري إلى تل أبيب مع مئات المتعاونين هاربين من شباب الانتفاضة الأولى في كانون الأول 1987 .
كان يمكن ألا يدفع لي صديقي فيصل الدنانير الخمسة ، فلا أقبل في الجامعة ، وكان يمكن لأبي حيدر ، مقابل مبلغ مادي تافه ، أن يحول بيني وبين السفر وإكمال دراستي . نعم كان يمكن أن يحدث هذا ، وغالبا ما أتذكر وأنا استرجع قصة الدنانير الخمسة ، وقصة " أبو حيدر " ما أوردته الشاعرة فدوى طوقان في الجزء الأول من سيرتها الذاتية " رحلة جبلية ... رحلة صعبة " 1985 ، فلولا حادث تافه بسيط لتغير مجرى حياتها ، ولربما واصلت تعليمها وصارت معلمة مثل مئات المعلمات ، ولما غدت شاعرة معروفة عربيا وتترجم بعض قصائدها ، وسيرتها الذاتية ، إلى لغات عالمية .
تقص فدوى قصة حبها الطفولي البريء الأول حيث أعجب بها شاب ، وبينما هي ، ذات يوم ، ذاهبة إلى بيت خالتها ، إذا بالشاب يهديها وردة حبهما ، ولما شاهد أحد أصدقاء اخوانها الأمر ذهب إلى واحد منهم وأبلغه بما رأى ، فثارت ثائرة الأخ ومنع الأخت من مواصلة تعليمها .
ترى ، الآن أسأل ، لو طلبت من الجامعة مساعدتي في موضوع إصدار الوثيقة ، فهل كانت ستفعل ؟
أغلب الأمر أنها ستخبرني بأن هذا ليس في مقدورها وليس من اختصاصها ، وقد تكون محقة في ذلك .
في نهاية أيلول سأقلع من مطار اللد إلى ألمانيا وأغيب أربع سنوات ، فكيف كانت في هذه الفترة علاقتي بالجامعة؟

وإلى اللقاء في كتابة قادمة يوم الجمعة القادم .


27 كانون الأول 2019 .


***

-14-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى