د. خلود النازل - نظرية التلقي في الدراسات اللغوية

أصبحتْ نظريَّةُ التَّلقِّي أو القراءة من أهمِّ النَّظريَّاتِ التي هيمنت على السَّاحَةِ النَّقديَّةِ، وكانت انطلاقتها من مدرسة كونستانس( ) الألمانية (Constance) على يد هانس روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) وفولفغانغ إيزر (Wolfgang Iser)، وبذلك أصبح القارئُ مُنتجًا بعد أنْ كان لسنواتٍ مُستهلكًا فحسب( ). والمقصود بالتَّلقِّي في نظرية التَّلقِّي في الدِّراسَات الأدبيَّة والنَّقديَّة؛ هو تلقِّي الأدب؛ أي: العملية المقابلة لإبداعِه وكتابته، وقد يختلط مفهوم التَّلقِّي بالفاعليَّةِ التي يحدثها العمل، ولكنَّ الفارق كبير، فالتَّلقِّي يرتبط بالقارئ، والفاعليَّة بالعمل نفسه، ونظرية التَّلقِّي إجمالًا تُشير إلى ذلك التَّحوُّل في الاهتمام إلى النَّصّ والقارئ.
ولسبقِ نظرية التَّلقِّي في مجال النَّقد والأدب، حاولتُ تناول (نظرية التَّلقِّي) من مَنظورِ اللِّسانيَّات الحديثة، وبيان أثرها في الدِّراسَاتِ اللُّغويَّةِ، لِـمَدِّ جسور التَّواصل بين علم اللِّسانيَّاتِ الحديث، وتراثنا العربي من خلال كتاب سيبويه أنموذجًا، ولا شكَّ أنَّ الدراسة التَّطبيقيَّة لأيّ نظريَّة تسهم بشكلٍ كبيرٍ -لا يقلُ عن الجُهودِ التَّنظيريَّةِ – في الكَشْف عَن تلكَ النَّظريَّة.
وقد اهتمَّ العرب بموضوع التَّلقِّي والْمُتلقِّي بصورة واضحة في أغلب مدوَّنات التُّراث، لا سيما في الدَّرسين النَّقدي والبَلاغِي، فقد كان الوعي النَّقديّ والبَلاغيّ بعمليَّة التَّلقِّي وصوره، له تجلياته وحضوره في كتابَات نُقَّاد وبلاغيي العرب؛ على الرغم من بساطة الطَّرح، وغياب المنهج؛ لاستيعاب نظريَّةٍ مكتملة العناصر والأركان، من هذا المنطلق قد يتهيَّأُ لنا تَصَوُّر إطار يحدّد السمات العامَّة لنظرية التَّلقِّي في الدِّراسَات اللُّغويَّة، فاعتناء العرب بِموضوع التَّلقِّي يعني أنَّـهم تعاملُوا مع النَّصّ وضروب الكلام بالتَّركيز عن وعي بالذي يتلقَّى هذا النَّصّ.
وفي محاولة لتأصيل (نظرية التَّلقِّي) في الدراسات اللغويَّة، عرضتُ المواضع التي عرض فيها سيبويه في مصنفِه (الكتاب) لصياغة العبارة التركيبيَّة، مع مراعاة اختيار المتكلم هذا التركيب دون سواه مراعاةً للمتلقي والمقام الذي قيلت فيه، وذكرت أكثر الشواهد التي تناثرت في زوايا الكتاب والتي أبرزت أثر سيبويه الفاعل في نظرية التلقي، التي لم تعرض لها معظم البحوث والدراسات السابقة، فقد أشارت إشارةً عابرةً دون تقصي لما في الكتاب من مادة كبيرة حول الموضوع.
يُعدُّ سيبويه رائدًا لنظريَّة لسانيَّة يفخر بِها العرب في القرن العشرين؛ وهي نظرية التَّلقِّي، ولم تكن النظريَّةُ مُـجرَّد إشاراتٍ مبثوثةٍ في الكتاب أو إلْمَاحات، بل إنَّـها الأساس الذي بُنِـي عليه التَّوجيه النحوي عند سيبويه، وقد كانت مُعلنة واضحة صريحة، وعلى الرّغم من كون (الكتاب) أول عمل نحويّ وصل إلينا، وعلى الرغم من كونه يمثل مرحلة النشأة والتكوين لهذا العلم العربي، فإنه قد جاءنا في صورة مثلى، وعلى درجة عليا من درجات الرقي العلمي.
لقد أعطى سيبويه للمعنى والدلالة قيمة مركزية في تحليلاته، فهي غاية التَّلقِّي، على خلاف النحاة المتأخرين الذين عنوا بالشكل على حساب المعنى، ويلتقي سيبويه مع علماءِ اللِّسانيَّاتِ الحديثة الذين عُنوا بنظرية التَّلقِّي بعناصرها (مُنتج النَّص والمتلقّي وسياق الموقف)، فكان الكتاب نموذجًا يُصوّر نظريَّةً مكتملة الأركان بعناصرها التي سمّاها سيبويه (المتكلّم – المخاطب – سياق الحال).
حرص سيبويه على تناغُم هذه العناصر لصياغَة العبارة الترّكيبيَّة ما بين قصد المتكلّم وحالته وصفاته، والمخاطب ونوعه وفهمه، والموقف والملابسات المحيطة به، لتحقيق اتِّصال لُغَويّ ناجح، وعني سيبويه بالمقام والظُّروف واَلْمُلابَسَات المحيطة بالموقف الكلامي، والعلاقة بين المتكلّم والمخاطب في موقفٍ بعينه، وكان يستخدم مصطلح "الحال" ليدلَّ على المقام، وهذا المصطلح الذي استخدمه أستاذه الخليل من قبله، كما يُعنى بالحوَاسّ والحركة الجسميَّة وكُلّ ماله علاقة بالموقف الكلاميّ وأثَّر فيه.
ابتعدَ سيبويه عن المعياريَّةِ في التَّقعيد، وابتعد عن النَّظر إلى الشَّكل فقط، فلم يضع مُسوِّغًا للإخبار عن النَّكرةِ مثلًا إلا الفائدة، ولكن توسَّع فيها مَن جاء بعدَه؛ ليقولِبُوا الكلام في إطارٍ شكليٍّ ابتعد عنه سيبويه في كثيرٍ من المواضع، ولم يكن سيبويه دارسًا للنَّحو فحسب في تقعيده، بل مُفكِّرًا لُغويًا، عنده القدرة على الوصف والتَّحليل ومُلاحَظَة كلام العرب؛ عنايةً بالحدث الكلامي بجوانبه كافّة.




  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأجناس الأدبية
المشاهدات
1,080
آخر تحديث
أعلى