قاسم المحبشي - مع رولان بارت في ماهية الكتابة، ونص اللذة، ولذة النص

النص هو كل كلام مكتوب ومدون تدوينًا يدويًا أو كمبيوترا رقميًا بغض النظر عن نوعية ومحتواه، سواء كان نصًا أدبيًا أو دينيًا أو علميًا أو فلسفيًا وهلم جرا. وهو بذلك يختلف عن الكلام الخطاب الشفاهي بوصفه محادثة مباشرة بحضور الصوت وناطقه إذ يشكّل الصوت المنطوق المسموع جوهر ومحور الثقافة الشفاهية لكن الصوت كحاسة إنسانية يحدث في الزمن مثله مثل كل الإحساسات الأخرى غير أنه يتميز بعلاقة خاصة مع الزمن، ذلك لأن الصوت لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى إنعدام الوجود، فليس ثمة طريقة لإيقاف الصوت وتثبيته، فيمكنك إيقاف آلة تصوير متحركة وتثبيت الصورة على الشاشة ولكن إذا أوقفت الصوت فلن يكون لديك شيء سوى الصمت فحسب. فالصوت يقاوم مقاومة كاملة محاولة التثبيت، بعكس البصر الذي يمكنه أن يسجل الحركة ولكنه أيضا يسجل السكون والصمت، بل أن البصر في الواقع يفضل السكون على الحركة فلكي نفحص شيئا عن قرب ببصرنا يستحسن أن نمسك به ساكناً. لكن الصوت وحده هو الذي لا نستطيع التعرف عليه إلا في حالة الحركة أي في لحظة ميلاده المباشر وانطلاقه الفوري من حنجرة المتكلم لكنه ما أن يتوقف حتى ينعدم ولا يترك أثراً مميزاً، وتلك هي خاصية الثقافة الشفاهية الصوتية بعكس ما هو عليه الحال في الثقافة الكتابية -اقصد ثقافة الكتابة والتدوين والتوثيق والنصوص _اذ تشكل الكلمات المكتوبة بقايا وآثار منقوشة أو مخطوطة في نصوص وعلامات ورموز تقاوم الزمن ونستطيع أن نقرأها أو نراها أو نلمسها في أي زمان ومكان بعد ميلادها وبعد موت كاتبها، ولهذا السبب نلاحظ أن الثقافة الشفاهية تعلي من شأن الخطابة والحفظ والتلقين والتذكر باعتماد على الأنماط التعبيرية في التفكير القابلة للحفظ والتذكر، فالمرء الشفاهي لا يمكنه تذكر إلا عبارات وكلمات محدودة ومسموعة ومكررة ومنمطة ومن ثم فإن أنماط التفكير الشفاهي نفسها تضيق هنا لكي تكون حافزة للتذكر الدائم وكلما زاد الفكر المنمط شفاهياً تعقيداً زاد اعتماده على العبارات الجاهزة المستخدمة بمهارة في أقوال معتمدة على الصيغ (حكم وأمثال واقوال وشعارات وصيغ وعبارات) لا تكون مجرد زينة شفاهية مضافة إلى التشريع بل تشكل هي نفسها القانون الفعلي ولا توجد هنا ثقافة خارج الصيغ والعبارات الجاهزة والمتناقلة لأن الصيغة تساعد الذاكرة وتقويها.ولهذا السبب تزدهر في الثقافات الشفاهية أنماط ثقافية محددة، مثل الشعر والحكم والأمثال والحكايات والأساطير والسجع والأهازيج ومن سمات الثقافة الشفاهية عطف الجمل بدلاً من تداخلها، اذ تكثر حروف العطف بشكل ملحوظ.الأسلوب التجميعي بدلا من التحليل. الأسلوب الإطنابي أو الغزير بدلا من الاختصار والأسلوب المحافظ والتقليدي والقرب من عالم الحياة وردود الأفعال المباشرة اي عدم القدرة على التجريد ،وغياب التمييز بين الكلمات والأشياء، بين الدوال والمدلولات ، شيوع لهجة المخاصمة والتعصب والانحياز وغياب الحياد الموضوعي. تكرار الاحاديث ذاتها في كل المقامات والاحوال، العزوف عن القراءة البصرية وتفضيل الاستماع، ارتفاع نبرة الصوت في المحادثات، عدم الوصول الى اتفاقات حول موضوعات الخلاف. الشغف بالحكي والثرثرة في كل الامور والاحوال، الاهتمام بالألفاظ وإهمال المعاني الانهمام بالمنطق بدلا من الواقع. إلى آخره. وكما أن الكلام والخطابة الشفاهية تختلف عن بعضها بعدد من السمات فمنها هو جميل ومنها ما ردي، وبعضها يجذب الاهتمام ويبعث على الدهشة والفرح والجمال وبعضها يثير القرف والضيق والتوتر والاحتقان. فليس الكلام على درجة واحدة من القيمة والمتعة والجدوى والأهمية والجدارة. فاحيانا قد نستمع لشخص يتحدث برغبه واهتمام بل قد يسحرنا كلامه ربما بأسلوب الخطابة وربما بجزالة اللغة وربما بفصاحة اللسان وربما بنبرة الصوة وربما بقوة الحجة وربما بلغة الجسد وإيماءاته الحركية الرشيقة. وربما باشياء أخرى تختلف من مستمع إلى أخر ولهذا قيل ( أن لمن البيان لسحراً). وحينما تزهر لغة البيان الشفاهي تزدهر معها أدوات وأساليب التعبير وفنون الخطابة؛ الشعر والسجع والجهور والمنطق. وفي زمن هيمنة الكلام المباشر قال حكيم اليونان ( تكلم حتى أرك) وفي ذات السياق نفهم معنى الحكمة العربية ( المرء مخبوء تحت لسانه) وفي ذلك قال الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى ( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
ولم يبق إلا صورة اللحم والدم ) وقيل بالمثل لسانك حصانك إن زلت زل! فكيف هو الحال مع النص وماذا تعني الكتابة وكيف نميز بين النصوص المكتوبة؟ هذا ما تناوله الفيلسوف الفرنسي رولان بارت في كتابه المهم ( لذة النص) الذي صور العلاقة بين النص وقارئه كالعلاقة بين العاشق والمعشوق واليكم خلاصة لذة النص وسمات نصوص اللذة كما كتبها بارت وفهمتها أنا. اللذة تأتي هكذا, إنها حضور من غير سؤال, وجود يعم كل شيء للذة اقتل من سؤال يستفسر عن موضوعها. اللذة ليست موضوعاً إنها هي, إنها تنكشف دائماً من غير سؤال, وسعادة المتلذ كالنور تأتي بقدح زناد الروح في نفسه نصاً.إننا بإزاء صوفية اللغة, التي يتحد في قضائها القارئ الكاتب, بالكلمات كإتحاد العاشق بمعشوقة وحدة حميمية جامحة.يقول بارت: إني اعشق اللغة فإذا أعلنت عشقي للمحبوب أعلنت عشقي للمكتوب... إن وصال المكتوب مبعثة شهوة تورثه لذة. هكذا منذ الوهلة الأولى يحلق بنا في فضاءات مدهشة واشراقات مثيرة حيث تبدو الكلمات والجمل والعبارات طاغية الحضور مفعمة بالحرارة والجموح وكأنها في مهرجان احتفالي راقص, أشبه بعيد (النيروز) الفارسي... هكذا ويذهب قارئ بارت (جون ستروك): إلى أن (بارت) جعل الحال مع النص كالحال مع علاقة الحب.. كلاهما مشحون بمعنى شديد الأثر لا ينقطع سيله والعاشق يجد نفسه (في مجمرة المعنى) بسبب حاجته الجامحة لان يفسر الرموز الغامضة التي يرها في سلوك المعشوق... وعاشق النص هو قارئ قلق ويتألم, ينفعل يهتز من الأعماق وهو يحاول أن يفهم ذلك النص من الداخل. أو أن يعيد لنتاجه لنفسه... على هذا النحو أرد (بارت) أن تصبح العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ علاقة (ايروسية) جسد يتكلم إلى جسد. (جسد) الكاتب وهو اشد ما فيه من واقعية وحميمية, يقدم إلى (جسد) القارئ, الذي يتلقفه بلهفة حارة ولذة طاغية هذا هو منهج (بارت) الفريد والجديد في فن قراءة النص المكتوب بدايات لا تنتهي أنها تكرر المكتوب على نفسه, فهو لا يزال بها يدور حتى لكان كل بداية تظل بداية, ولذا كانت نصوص القراءة هي نصوص البدايات المفتوحة, إلا أنها تقراء وتكتب ولكنها لن تبلغ كمالها كتابة, ولا تمامها قراءة ولعل هذا هو السر في إنها كانت نصوص لذيذة هذا يعني أن بارت يميز بين نوعيين من النصوص هما نص المتعة ونصل اللذة, وهذا الأخير هو لذي صادف هوى في قلبه وأثار ميله الباذخ إلى تحطيم ... الأشكال اللغوية السائدة, تحطيم القوالب الجاهزة, تحطيم الضمنية والرتابة والثبات والتكرار العقيم للكلمات الميتة وهو بذلك يدعو بما يقرب إلى التصوف إلي إيجاد (حالة فلسفية جديدة من المادة اللغوية).أن نص اللذة يختلف عن نص المتعة فالمتعة شعور عادي تماماً, أما اللذة فمتطرفة تثير القلق وتناسب المتابة التي (تسكتسب) وهي تجربة لا توصف... أنها تورثنا الألم بل و(وتضعنا موضع الخسران) ولكنها وحدها التي تهز أسس القارئ التاريخية والثقافية والنفسية مثلما تهز نهز انساق أذواقه وقيمه وذكرياته, أنها أزمة في علاقاته مع اللغة.أن قيمة نص أدبي ليس في ما ينطوي عليه من أفكار فحسب, بل فيما تثيره من لذة جميلة ودهشة حميمة في قارئة, فكم هي تلك الأعمال والنصوص التي تثير ليس المتعة بل الغثيان وتبعث السأم والملل المقيت عند قراءتها نصوص ثقيلة الظل كلماتها أشبه بالحجارة الثقيلة, جامدة عقيمة متلبدة كتلك التي ألغيناها في الأدب الماركسي والذي إذا ما أرادت أن تقرا كتاباً منه يمكنك الاكتفاء بقراءة أول صفحة من المقدمة لتعرف كل شيء يتحدث عنه الكتاب, بل يكفي أن تقرأ العنوان فقط! أن النص الحي هو ذلك الذي يترك أثراً في قرائه أما النصوص الميتة فلا تخلف وراءها ألا حسرة الندم على الوقت الذي ضاع.أن حرارة النص ،خصوبته، حيويته،كلماته الراعشة، هي إرادته في المتعة كما أن رشاقة الأسلوب ورهافة العبارات ومرونة الجملة ونبض الكلمات وزخم المعنى وثراء الأفكار هي التي تجذب القارئ وتهزه من الأعماق (أن نص اللذة هو الذي يرضي فيملأ, فيهب الغبطة, انه النص الذي ينحدر من الثقافة فلا يحدث قطيعة معها ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة.لماذا نجد في نص من النصوص كل هذه الأبهة الكلامية والزخم الجميل؟ يتساءل (بارت) ويجيب: أيشكل ترف اللغة جزءاً من الثروات الزائدة ومن الأنفاق غير المجدي ومن الضياع غير المشروط؟ وهل يشارك عمل كبير من أعمال اللذة (وليكن بروست مثلاً) في الاقتصاد نفسه الذي تشارك فيه أهرامات مصر... الخ سخرية لاذعة للأعمال الأدبية المجدية. أن (بارت) لا يناقش الأسلوب, بقدر اهتمامه بالبحث في الوشائج الحميمة التي ترتبط بين المؤلف والنص, ولقد اختار كلمة (الجسد) لكي يصف المحددات الحيوية التي تميز لغة كاتب عن أخر, حيث يرى: انه ما أن يجلس الكاتب للكتابة حتى يفقد إحساسه بالمكان ويتحول إلى (نبضات قوية) هي في الواقع صوت (جسده) أو صوت حياته النفسية أن صح التعبير (هاجس الروح والجسد) أن النص وليس العمل هو الأشبه بالاحتفال اللغوي التي تكون اللغة أثناءه في إجازة من أعباءها اليومية العادية.وفي سياق نقده اللاذع للأساطير المعاصرة والكتب الدوغمائية, يرى (بارت) أن كل لهجة أنما تقاتل لتحظي بالسيطرة, فإذا انتهت إليها السلطة, انتشرت في مجالي الحياة الاجتماعية لتصبح بذلك سائدة وطبيعية حيث يقول, ثمة مكان لا يرحم ينظم حياة اللسان, ذلك لان اللسان يأتي من مكان ما, انه المكان المحارب, هذا معناه انه من بين جملة أمور أخرى يواجهنا التابو (المحرم) حينما ينبغي علينا وقراءة الأساطير والكتب (المقدسة) فهناك لهجة ماركسية وان أي معارضة بالنسبة إليه هي معارضة طبقية, وثمة لهجة التحليل النفسي, وان أي إنكار بالنسبة إليها إنما هو (اعتراف) وهناك لهجة مسيحية وان أي رفض بالنسبة إليها هو (انحراف)... وثمة لهجة إنسانية متطرفة وأي نقد وحوار معها هو كفر وزندقة, وليس هناك ألا طريقة واحدة للإفلات من هذا الاستلاب, أنها الهروب إلى الإمام, أي أن على اللسان أن لا تكرار للقول, ذلك لان الغالب القولي المكرر في المدرسة والدعاية ولا غنية والصحيفة إنما هو إعادة إنتاج البنية نفسها من البؤس الايديولوجي, ويكون الجديد في مقابل البؤس هو المتعة... يقول: فرويد "أن الجديد يشكل عند البالغ شرط المتعة"! أن الجملة حسب (تشومنسكي) (هي انتصاب لا ينتهي) أي قابلو للتنشيط بشكل لا يتناهى ... ولكن الممارسة تزعم على أنها الجملة دائماً وان كل نشاط ايدولوجي ليتمثل في شكل الجملة المنتهية, المعلم شخص ينهي الجملة والسياسي كذلك, لكن كل عبارة منتهية تتحجر وتكون دوغما ثقيلة الروح قبيحة الشكل عقيمة المضمون سقيمة المعنى سقيمة الكلمات جلالية الملال, تعيد إنتاج ذاتها باستمرار, أن سمات نص اللذة هو التمرد على القاعدة, هي الاستثناء, أي التجديد والتبديد, التنوع والحركة الذاتية, الثقافة الرفيعة, فكلما ازدادت الثقافة تعامدة اللذة وتنوعت, ذكاء سخرية رفه, حكمة, طرافة, مثل, تمكن, امن, رشاقة, حرارة, إيجاز, بلاغة, خصب, أفق, طرفة, أريحية, انفتاح, تسامح... فإذا كان اليوناني يسأل بانفعال ومن غير انقطاع هسهسة أوراق الشجر والينابيع والرياح كان يسأل قشعريرة الطبيعة كلي يدرك قدرة العقل, فاني اسأل قشعريرة المعنى وهسهسة اللسان, إذ من هذه الهسهسة طبيعتي أنا الإنسان المعاصر, هكذا أراد (بارت) في أطروحاته في لذة النص المدهش أن يجعل من الكلمات والمعاني كائنات تنبض بالحياة, تصرخ وتزمجر وتتحدى الموت والجمود والملاك, كائنات جميلة فرحة, تبهج النفس وتفعم الخاطر غبطة وسروراً, أنها دعوة لبعث الروح في هذا الوجود الإنساني الأصيل ذلك لان اللغة تسكن الإنسان وحقيقة وجوده كما عبر هيدجر, وحسبنا أن نختم هذه القراءة السريعة لكتاب (لذة النص) بنص جميل من نصوص اللذة.لذة النص هي الكتابة بصوت مرتفع، أنهما أشبه بالسينما التي تأخذ صوت الكلام عن قرب أنها رنة الكتابة التي نجعل الأنفاس والحصى والباب والشفاه ورعشة الجسد وحمرة الخدين والق العيون, وحضور الخطم الإنساني كله مسموعاً في ماديته في حسيته وسيان في ذلك الصوت والكتابة غصين وطربين ولزجين ومرتعشين كما لو كانا خطم حيواني يتحرك وفي ذات السياق كتب الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي " الكتابة احتفال بالوجود، وامتلاك للعالم نظرياً، وكشف جمالي. إنها حضور الذات فاعلةً في تشكيل الوعي والحس الجمالي، ونشر المعرفة ، وتأكيد الفكر النقدي، إني أتحدث عن الكتابة في ماهيتها، ولست أتحدث عن الكتابة/ اللغو، التي لا تصمد برهة قليلة أمام تيار الزمن، والخاوية من المعنى والجمال. فالكتاب والمجلة والصحيفة الورقية والصحيفة الالكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي جزء لا يتجزأ من حياة الناس، فمن ذا الذي باستطاعته أن يتصور الحياة بلا فيلسوف وشاعر وروائي ومسرحي وكاتب مقال صحفي إلخ؟، لكن الكاتب لا يسـأل نفسه هذا السؤال، ما جدوى الكتابة؟، لأن الكتابة بالنسبة إليه هم داخلي، ونداء مستمر، ولا يرى معنى لوجوده خارج القلم. الكاتب يشعر أنه مندوب في مهمة لم يكلفه بها أحد" وإذا كان ثمة مقولة تقول (لا جديد تحت الشمس) فإن مقولة اللذة تقول (لا عتيق تحت الشمس حتى الشمس ذاتها).يبدأ النص غير الثابت, النص المستحيل مع الكتاب أي مع قرائه). (لاوران بارت) وهكذا يمكن القول أن العلاقة بين نص اللذة ولذة النص هي علاقة المتعة المتحصلة من فعل القراءة. فكم هي تلك النصوص العقيمة التي نقرأها كل يوم في وسائط التواصل الاجتماعي فقد نقبل بالعقم البيولوجي عند الرجل أو المرأة بوصفها حالة طبيعية بل أن المرأة العقيم على الأقل تحافظ على رشاقتها فترة أطول, أما عقم اللغة والتكرار الرتيب للمصطلحات والخزعبلات واللغو الفارغ التي تصفع عيوننا كل يوم في وسائط التواصل الاجتماعي وفي صحفنا المحلية؛ كتابات سقيمة خاوية خالية من أية إثارة وكان الكتابة في عرف هؤلاء مثلها مثل أي مهنة أخرى يستطيع أي شخص ممارستها غير مدركين انه حتى دباغة الجلود هي عمل فني يجعل المرء يفكر ألف مرة قبل الإقدام على العمل فيها. فالكتابة في اعتقادهم ليست إلا صفا لمجموعة من الكلمات والمصطلحات المعدودة لا يتغير إلا ترتيبها فسيان أن تقرأها من البداية أو من آخر كلمة فهي ميتة ولا روح فيها ولا تستحق جهد قرأتها.أن الكتابة أن لم تستطع إثارة الدهشة والإعجاب هي بلا شك صف جامد للكلمات تتحول معه الكتابة من عمل إبداعي إلى طابع وظيفي روتيني ممل ويتحول صاحبها إلى كاتب تقارير مثله مثل المخبرين السريين... إن الكتابة عمل إبداعي والكاتب هو إنسان يعيش مع الناس وأمالهم وآلامهم يتميز عن غيره في قدرته على تحويل ما يجيش في نفس إلى كلمات صادقة معبرة تنبض بالحياة وتتحول الكتابة إلى قيمة إنسانية رائعة ومفيدة.أن الكلمات الصادقة الجريئة هي التي تنطلق من القلب إلى القلب, من قلب الكاتب إلى قلب القارئ أو كما عبر قيثارة داغستان الأصيل رسول حمزاتوف (إن الكلمة أشبه بالجواد الهابط من أقاصي الجبال الوعرة فإذا لم تنحدر من أعماق القلب قبل أن تصل إلى طرف اللسان تفقد كل معناها... هكذا صرح حكيم اليونان العظيم سقراط (تكلم كي أرك) يالها من دلالات عميقة تلك الحكمة الثاقبة فمن بين معان كثيرة نفهم إن هذا التمييز بين الأفراد ونتعرف عليهم ونراهم على حقيقتهم إلا من خلال كلامهم بعكس الحال في مملكة الحيوان فنستطيع التمييز بين أنواع العجول من خلال مشاهدتها مباشرة في سوق البقر.أما الإنسان فالشكل الخارجي لا يدل عليه أبداً بل إننا ومن خبرتنا اليومية لا نتعرف على الآخرين ونختار الأصدقاء ونقيم الناس إلا بعد أن نسمع كلامهم ونقرأ نصوصهم. فإذا كان المثل يقول أن الأسلوب هو الرجل فيجوز لنا القول أن الكلمة هي الرجل فكيف ما تتكلموا تكونوا أو كما يقال من ثمارها تعرف الأشجار! فلماذا يصر بعض الناس على تسميم حياتنا المسممة أصلاً بالبؤس؟ ولماذا يجعلون من أنفسهم مصدراً أضافياً للغثيان والسأم؟ والحقيقة. إن كل إناء بالذي فيه ينضح! وعلى كل إنسان أن يتفحص مالذي يحتويه إناؤه قبل أن يسقي الناس منه ويكتشف انه كان سبباً في إثارة غثيانهم فمن الاشرف للإنسان إن يترك الطبق مستوراً وأن لا يفضح نفسه بكلام عقيم وتكرار رتيب لجمل تقع على رؤوسنا كالحجارة فإذا كان الكلام من فضة فالصمت عندئذ سيكون من الذهب الخالص.والكلمة نحلة أو ذبابة؛ نحلة تحمل العسل المصفى الذي فيه شفاء للناس أو ذبابة تحمل الجراثيم والفيروسات وتنشر الأمراض.


* لذة النص) عمل بارت الذي ترجمه د. منذر عياش, ونشره مركز الإنماء الحضاري عام 1992, ومع أن صفحات الكتاب لا تزيد عن (113) إلا انه مثير وجميل ومدهش حيث يتحفنا بنمط جديد من القراءة, نمط غير مألوف, نمط يجمع بين الرشاقة والإثارة والمتعة والنظرة الثاقبة والعمق الخصيب, فهو الذي مثيل له للنقد الأدبي في فرنسا ما بعد الحداثة فما هي لذة النص؟


أعلى