بدأت قصة كيف أصبح والدي غنيا عام 2002م، وذلك بعد وقت قصير من إعلان إغلاق بنك سافانا الذي كان يعمل به لعشرين عاما. توظف أبي ككاتب صغير بالبنك عبر وساطة عمه على الرغم من أن مؤهلاته العلمية لا تتخطى شهادة المدرسة الثانوية. وترقى حتى أصبح كاتبا رئيسا، ولكن لم يتمكن من التوظف بوظيفة أخرى عند إغلاق البنك، إذ توفي عمه فضاعت على أبي فرصة تطوير نفسه.
في تلك الأيام كان دائما يقول لأمي إنه (يجب أن يعود إلى المدرسة)، ولكن أمي كانت تهز رأسها قائلة (لا لا تفعل ذلك بنفسك، الحمد لله). وأعتقد أن أبي كان يحب سماع ذلك، يحب أن تخفف أمي عنه، تواسيه وتطمئنه كما لو كان طفلا من أطفالها. في إحدى المرات شاهدت أمي تطعمه بالملعقة عندما شعر بالانهيار ذات يوم، بعد أن طلب منه أخي فولو الذي يبلغ عمره ست سنوات أن يشتري له دراجة مثل أحد أبناء جارنا. فلم يفهم هذا الصبي الغبي لماذا لم يكن على العشاء سوى الذرة المسلوق والفول السوداني في تلك الليلة.
كنا نعيش في منزل نملكه، وبعض جيراننا يعملون أيضا في البنك، ولكن يبدو أن عددا كبيرًا قد توقع إغلاق البنك. وفي الحقيقة كانت هناك شائعات عن أن البنك سيغلق قريبا. خلال أسابيع قليلة من نهاية البنك شهدنا على تعويض عائلة بعد الأخرى. بداية الأمر كان مع عائلة "أنجبوس" التي فازت بتأشيرة اليانصيب الأمريكية ويعيش "الأنجبوس" خلفنا ويفصل بيننا وبينهم سور متهالك نطلق عليه أنا وأصدقائي سور الصين العظيم. شهدت على مغادرة صاحب المزاج المتعكر السيد أنجبوس وزوجته وابنتيه إلى أمريكا، وكان البعض يتأمل أن أتزوج إحداهن. ثم أتى دور عائلة "أيو". لقد كافئ أحد اقرباء السيد أيو وهو من السياسيين بعقد عمل. وبين ليلة وضحاها تبدل وضعهم، وفي غضون شهرين اختفت تلك الرائحة الكريهة التي كانت تنتشر بالقرب من منزلهم. لقد أعادوا طلاء واجهة منزلهم الأمامية التي كانت ملطخة بكل شيء من الحبر والفحم والكيروسين والبيض. بدأ السيد أيو الذي يعرج وينحني أثناء المشي يقود سيارة تويوتا كامري جديدة إلى حد ما، وكان يوقفها بعرض الطريق أمام منزلنا، وكأنه يفعل ذلك نكاية بأبي. كان هناك عدد لا يحصى من هذه النماذج مثل عائلة الأوريوميس، والأجروس، والأكبوس إلخ.
لم يستسلم أبي. قاوم انحداره نحو الفقر، وكأنه يحارب قوى خارقة كالشيطان. في الأيام الأخيرة قبل أن يغلق البنك، طرق أبواب كل المصارف الأخرى، عارضاً خبرته الطويلة، ولكن جميعها دون استثناء أغلقت أبوابها في وجهه بمجرد معرفتها بأنه لم يحصل على شهادة جامعية. ركز اهتمامه بعدها على العمل التجاري، باع سيارته، وباع حصته من الأسهم في مصنع الجعة النيجيري الذي كان معتادا على التباهي بها. ودخل بكل هذه الأموال في شركة مزرعة سمكية مع صديقه المهندس فكتور الذي كان قد بدأ تأسيسها قبل ذلك. وقضى المشروع بعد ثلاثة أشهر، حين سكب الابن الأصغر للمهندس مادة الكيروسين في مزرعة السمك الكبيرة، مما نتج عن ذلك موت الأسماك كلها.
أقسم بالله أن الليلة التي أخبر المهندس فكتور أبي بما حدث هي ربما الليلة التي بدأ فيها كل شيء. لم أنس تلك الليلة على مدار سبع سنوات. صوت البكاء والنحيب في منزلنا كان الأعلى في تاريخ العائلة. حتى أقوى من الحزن الذي ولّده رحيل العم توماس. كل ذلك الحزن صنعه المهندس فكتور، رجل صغير الرأس، وذو بشرة داكنة للغاية، مملوءة بإيماءات وضعت كل شيء على حد سكين متحرك.
جاء الرجل باكيا هو وزوجته، ومعه أقل من قيمة ربع المساهمة المالية لأبي في المشروع. حاول أبي أن يكون هادئا في البداية، ثم اصطكت أسنانه، وبدأ ينظر لأسفل، بينما تضع أمي يديها تحت ردائه، وفركت ظهره بحنو، وبين لحظة وأخرى تمسح دموعها بطرف ردائها. وظلت الأمور تسير على ما يرام، حتى سقط المهندس فكتور على السجادة في غرفة الاستقبال، وبدأ في غناء أغنية يوروبا** الحزينة التي غناها بابا واندي*** في فيلم سيء، (ملك الرب):
لقد سقطت في شبكة عنكبوت سميكة
ركضت وزحفت، لكن دون جدوى
ليس هناك حل لهذه المشكلة الكبيرة
هذه معضلة
قام المسافر برحلة لا تؤدي إلى شيء
المزارع غير قادر للوصول إلى مزرعته
هذه هي القصة الغريبة للعالم
هذه معضلة
أقسم بالله أنت بحاجة إلى سماع الطريقة التي غنى بها هذا الرجل الأغنية، لتعرف كيف أشاع جوّا من الحزن على كل الحاضرين. لقد سلط الضوء على اللازمة (هذه معضلة) وأظهرها بصوته في كل مرة يغنيها، ثم يصبح صوته فاترا مع السطر التالي، ثم ينغمس في الهمس حتى ظننا جميعا أنه توقف. وبصوت مملوء بالمرارة بعد ذلك أعلن أن هذه الحادثة هي (القصة الغريبة للعالم).
ردة الفعل كانت سريعة, تنهد أبي بقوّة بعد أن حبسها عميقًا وفيها نوع من التجشؤ، بدأ جسمه الكبير يتأرجح ويهتز، كما لو كان يرقص ببطء. وبدأت زوجة المهندس في البكاء، ودفنت أمي وجهها بين راحتي يديها باكية، وبدأ أخي فولو في البكاء أيضا، وحتى أنا مثل غبي حين تخيلت المهندس وهو يغني تلك الأغنية شعرت بعيني تغطيها سحب الدموع.
***
على الرغم من كل هذا الوضع المأساوي كان يمكن أن نتخطى هذه الأزمة. أقله كان أبي يحصل على بعض( كوبو كوبو)**، عبر وظيفة البنّاء التي عمل بها بشكل يومي. وساهمت أمي من خلال عائدات متجرها الذي تضعه في السقيفة أمام منزلنا. وهي قبل كل ذلك مديرة ذكية وداهية. اعطها خمسة أرغفة وسمكتين، وأقسم بالله المتعالي أنها تستطيع أن تطعم خمسة آلاف. فقد نشأت في القرية، وعملت غالبا في المزرعة. تقوم بالأعمال المنزلية بوصفها هواية. ولم تقيّم الوضع بالمأساوي كما فعل أبي. ولم تر سوداوية بالمسألة كما فعل أبي. فهي تعتبر أن الازمات فرصة ضرورية للحياة، ويجب التعامل معها والتغلب عليها. لأنه نشأ في مدينة، وحصل على وظيفة جيدة، جعلته قادرا على أن يشتري سيارة جديدة، وأن يكوّن أسرة، وأن يلحق شقيقتيه بالجامعة، يرى أبي الأزمة الحالية أزمة شديدة. فالفقر هو الشر الذي لا تشوبه شائبة، ظلمة لا يمكن اختراقها تتعارض مع نظام الأشياء وطبيعتها. الشخص الذي تصل إليه هذه الروح، ليس لديه سوى خيار واحد: استئصالها وإلقاؤها في الظلام الخارجي.
كان يمكننا التحمل. أصرت أمي أنه يمكننا تخطي الأمر وتردد بشكل مستمر على مسامع أبي بأن وضعنا سيء، ولكن يمكن التغلب عليه. على الرغم من كل شيء على حد تعبيرها البكاء لا يعمي. نظرة أبي لمفهوم الفقر دفعته لإثارة الشفقة. بعد أن وافق على مناشدات المهندس، وأهمل-كما كان شائعا لدى كل النيجيريين- أي تفكير في التقاضي لاستعادة استثماراته، بدأ ينحدر إلى نوع من الجنون. كسر ذات يوم أبجور في غرفة الاستقبال، في محاولته قتل حشرة رآها تحلق بجوارها. بدأت أنا وأخي نتجنبه عملا بنصيحة أمي، التي لم تعد تهدهد له ظهره، أو تطعمه بيديها، وأصبحت تراقبه من مسافة بعيدة، وتحادثه من الغرف الأخرى. كان أبي قويا، ولا تزال ذراعاه صلبتين كما في صباه، وتظهر بهما علامات الأوردة القوية، على الرغم من انتفاخ بطنه بشكل لا يجعلك ترى صدره بأي شكل. ومع ذلك لا يزال مخيفا ومرعبا، وكثيرا ما تصارع معه الناس. أصبح مهووسا بالكامل بالظلام أي الفقر نفسه الذي يعارض نظام الطبيعة.
شعرنا جميعا بالنقص. ملابسي لم تعد مناسبة بأي شكل من الأشكال، لأنه لم يكن هناك ما نأكله. أرسل الخال لقمان شقيق أمي الذي يعيش في جوس الأموال مرتين. شكره أبي ببراعة عبر الهاتف، الهاتف الوحيد لم نتمكن من شحنه الآن بالمنزل، لأن موظفي NAPA قاموا بتركيب العمود الكهربائي أمام مجمعنا السكني وقطعوا الكهرباء عن منزلنا بسبب الفواتير المتأخرة المستحقة. بكى أخي باستمرار بسبب الجوع، وكادت أمي أن تفرغ متجرها، لأنها تقدم له أكلات خفيفة من الأشياء التي أحضرتها لإعادة بيعها.
في يوم من الأيام عاد أبي إلى المنزل مصابا بجروح خطيرة، تشاجر مع سائق حافلة على باقي خمسين نيرة. طعن أبي في بطنه بزجاجة، وفقد الكثير من الدم. وبدلا من الذهاب للعيادة تحرك مترنحا إلى المنزل وأغمى عليه. صرخت أمي حتى جاء جارنا الثري الجديد السيد أيو لإنقاذنا. رفعنا أبي بمهمة شاقة إلى سيارة الرجل، وهرعنا به إلى عيادة الدكتور إيكزي. وأخبرنا الطبيب أن أبي يحتاج إلى نقل دم. أنا متأكد أن الوضع لم يكن خطيرا، مثلما حاول الطبيب أن يشعرنا بذلك، إذ جعل صوته يهتز في أسى، كما لو كان مهتما بالأمر. حرك نظارته إلى أعلى وإلى أسفل، وأشار إلى ممرضة تمسك بقطع القطن والإبر ومستلزمات أخرى لتغادر الغرفة.
-قال لأمي: يجب أن يتم نقل الدم اليه من بنك الدم، أيتها السيدة أكينريل، فهذا أمر لابد منه)
- أجابت أمي (كم التكلفة المالية كاملة؟)
تظاهر الرجل بالتفكير العميق، عابثا بأزرار ملابسه، مزمزمًا شفتيه، متأملا السقف والمروحة البطيئة، وقال:(ربما يتكلف الأمر عشرين ألفا)
(أوه موغبي) صرخت أمي، وارتفعت يداها في الوقت نفسه مع ارتفاع صوتها، وقامت بحركة راقصة للمحنة، وأعادت رداءها حول حقويها، وواجهت الطبيب مرة أخرى.
(سيدة أكينريل، سيدتي) كان يتكلم طوال الوقت، ولكن يبدو أن أمي لم تكن تسمعه، ولكنها نزلت على ركبتيها قائلة(أرجوك دكتور، رجاء، باسم الله، أرجوك). استغل الرجل الفرصة، وساعد أمي الباكية، بينما كنت أمسك بأخي في زاوية الغرفة لمنعه من الاستمرار في البكاء. تظاهر أنه يريد أن يتحدث مع أمي على انفراد، وسحبها من خصرها خارج الغرفة. من الصعب معرفة ما حدث هناك أو بعد ذلك، لأن والدي- بوصفي طفلهما الصغير- لم يناقشا هذه الأمور معي. كنت في العاشرة، ولكنني لم أكن غبيا. حتى الأعمى يمكن أن يكتشف اعجاب الدكتور إيكزي الدائم بأمي. ولا يعرف أحد لماذا قد تعجبه امرأة متزوجة مع طفلان(ولا يشمل الحساب أختي الصغيرة التي ماتت وعمرها ثلاثة أشهر، والإجهاض مرة واحدة). لابد لأنها كانت بغمازتين في خديها، ولها بشرة بنية جميلة ناعمة، أمي أيضا كانت مجنونة بالموضة، في أوقات الثروة الجيدة ترتدي ملابس رائعة، وطريقتها في ارتداء الوشاح في أيام الآحاد تلفت الانتباه. حضر الطبيب وزوجته إلى الكنيسة، امرأة طويلة ومخيفة، حجمها أكبر من حجم الطبيب ثلاث مرات، وتضع كميات هائلة من المكياج، وتتحدث بصوت جهير، ولا تبتسم أبدا. كان الطبيب سمينا، ويرتدي بنطالا عاديا، وغالبا ما يكون ضيقا من منطقة الأرداف، ويرفعه دائما أثناء سيره. حتى ونحن في الكنيسة كنت ألمح الطبيب يراقب أمي.
لم تتحدث أمي أبدا عما حصل في المستشفى، حتى أبي الذي كان- كما جعلني استنتج- الشخص الوحيد الذي تعرض للإذلال بسبب ما حدث لم يتحدث عنه إلا في لحظات الغضب. في بعض الأحيان وهو سكران كان يقول(أمك مارست الجنس مع الدكتور إيكزي، هل يمكنك أن تتخيل ذلك). أبي بالتأكيد يعرف ما يفعل. لقد أدرك أنه يبني مسارا أو طريقا لا يقود إلى أي مكان. ولا مرة خاض في التفاصيل، مجرد السؤال يمكن اعتباره تمردا سيئا. ولهذا لم أسأل أبدا. في المرات التي يشعر فيها أبي أنني لن أطيعه وسوف أعصيه، أراه يقول(أنت، ساكا، تريد أن تتخلى عني، مثل والدتك وأخيك آبي، افعل إذن، وتأمل كيف ستعاملك الحياة) يقول ذلك بلغة اليوربا، وهو غاضب، وبدون قميص، وليس هناك من يداعب ظهره، أو يعزيه أو يقدم له طعاما.
أعفانا الطبيب من فواتير المستشفى التي ما كانت كل أملاكنا لو بعناها تكفي لتسديد المبلغ المستحق. تم علاج أبي ونقل الدم إليه، وأصبح بصحة جيدة، وخرج من المستشفى. حين عاد إلى المنزل، ظل لبضعة أيام يسأل أمي كيف حصلت على الأموال لتسديد الفواتير، ويبدو أنها لم ترد الإجابة. وفي ليلة بعد أن ذهبنا للنوم أنا وأخي، بدأ أبي وأمي في الجدال والنزاع. اندلعت أمي في البكاء، ثم بدأت في الصراخ (ناتي!، ناتي!)، وسمعت باب غرفة الجلوس يغلق. وبعد فترة قصيرة ركضت أمي إلى غرفتنا، وأيقظت أخي وأخذته، وقالت (ابق معه ساكا، من فضلك ابق معه من الأحسن).هرعت بإلباس أخي قميصا، وركضت في المنزل، وجمعت أغراضها، تبعتها إلى المطبخ، وعدت إلى غرفتها، حيث كانت الملابس مبعثرة في جميع أنحاء الغرفة.
سألتها: (أمي، أين ستذهبين؟)
قالت باكية):ساكا، يا ولدي، والدك غاضب جدا، غاضب جدا مني، ليس من الجيد أن أبقى هنا الآن، اسمع لا تتكلم، فقط اسمعني، سأذهب لأعيش مع أخي، فقط ابق معه هنا).
أقسم بالله لا أعرف ما إذا كانت أمي فعلت أي شيء مع هذا الطبيب الغبي. شاهدته وزوجته الضخمة في الطريق مرات عدة بعد ذلك، وكان يحدق بي كأنني شبح. لم يذهب أبي إلى الكنيسة، وأعتقد لم يكن يريد رؤية الطبيب. كان رحيل أمي وأخي فولو هي القشة الأخيرة في عملية انحدار أبي إلى تلك الظلمة العظيمة. ضاجع رجل آخر زوجته، لأنه كان فقيرا، وكان يردد في كلمات منفردة(انظر إليّ، ناثانيل، ناثانيل أكينريل). أنا – رجل آخر يستخدم المال لمضاجعة زوجتي، زوجتي أنا، كان يضرب صدره، وينهش أصابعه، وفي بعض الأحيان يبتسم، كما لو أن ما قاله أسعده، ثم يهز رأسه ويقول(ليست مشكلة، ليست هناك مشكلة). أكثر اللحظات التي كنت أكرهها عندما كان يغني أغنية (ملك الرب) الحزينة. كنت أفعل أي شيء لإيقافه. أذهب إلى المطبخ، وأسقط قدرا أو ملعقة. يصمت للحظة، ويسألني، ماذا حدث، وأخبره أن شيئا ما سقط. كان يتنهد ويستمر: لم يتمكن المزارع من الوصول إلى مزرعته. خرجت ذات مرة إلى الفناء وصرخت ممسكا قدمي، في محاولة لجذب انتباهه، لقد خططت إخباره أن عقربا لدغني، ولكنني أدركت أنه من المحتمل أن يأخذني إلى العيادة، وأثقله بالمزيد من الديون، قلت له ببساطة أن رجلي اصطدمت بالحجر. تنهد وغمغم بأنه يجب علي أن أكون حذرا، وأمرني بالعودة إلى للداخل. وحين عدنا إلى غرفة الجلوس، جلس في منتصف الغرفة، واستمر في تلك النغمة الرثائية الحزينة المجنونة: هذه هي القصة الغريبة للعالم. هذه معضلة).
***
القصة الغريبة على الرغم من كل تلك الظروف تدور حول كيف أصبح أبي ثريا. كنت نائما في فراشي في يوم من الأيام، بعد أن أكلت الجزء المتبقي من الأرز الذي جهزه أبي منذ ثلاثة أيام، عندما عاد من عمله في البناء، وهو يجر في يديه عنزة صغيرة. كان موسم الجفاف، شفتاه مشققتان، وعيناه مختنقتان قليلا بالدم. كان ضوء مصباح الكيروسين هادئا، وليس هناك كهرباء، والظلام يكاد أن يكون مطبقا. في البداية لم أعرف كيف أفكر، ولكنني كنت سعيدا، فهل فاز أبي باليانصيب؟ هل لعب، وهل يريد أن يكون مليونيرا؟ مثلما كان يتعهد أن يصبح؟ وقف في غرفة الجلوس، وأزال الستارة إلى جانب من الجوانب، ليستدعي آخر بقايا ضوء النهار، انحنى منخفضا، وربط الحبل الذي يطوق عنق العنزة إلى مقعد البار. تثاءب بينما كنت أشاهد هذا العرض الغبي وأنا غير مصدق.
(أحضر لي كوبا من الماء، ساكا) قال وهو يجلس على إحدى الأرائك البالية بملابسه المتسخة، وحذائه المغطى بالطين. عندما أحضرت الماء إليه، شربه كله، ثم واجهني وأومأ برأسه قائلا (هل رأيت العنزة)، وأومأت برأسي بالإيجاب. انتقل إلى حافة الأريكة كما لو أنه سيقوم، وقال (إنها حيوان مقدس، لقد باركها الكاهن المقدس بابلاو القوي في مزاره، وبدأت عملية الطقوس بالفعل. اذهب وارتدِ ملابسك، هيا بنا)
غالبا ما يقوم أبي وأمي بهذا النوع من الأفعال. يتحدثان معي أحيانا عن موضوع لا أعرف عنه شيئا، كما لو كانا ناقشاه معي بالفعل، وأعرف كل شيء عنه. كأن يقول على سبيل المثال(عملية الطقوس)، ومع نفسي كنت أسأل: ماهي؟ ولكنني لم أكن أطرح أي أسئلة. ارتديت قميصي وسروالي، ولبست صندلي. وبمجرد أن رجعت إلى الغرفة، أومأ برأسه وقال:(ساكا، هل تعرف أنني كنت رجلا ثريا، ربما لست غنيا، ولكن على ما يرام؟)
قلت: (نعم يا أبي)
قال: (حسنا، لا يمكنك إلقاء اللوم عليّ. انظر إلى حياتي هذه، يجب أن أغيرها الآن، حسنا)
قلت:(نعم يا أبي)
(الآن اسمع يا بني) بدأ يهمس كما لو كان هناك شخص آخر في الغرفة، وأضاف( من المفترض أن أخذ هذه العنزة في جولة حول هذه المدينة، من الآن الساعة السادسة حتى منتصف الليل، أو حتى تموت من التعب. يجب ألا تتوقف. لو أردت أن تتبول يجب أن تستمر في المشي، والشيء نفسه معي).
شعرت بالرعب بالطبع، صور الكدح والتعب في المشي مع العنزة من نهاية المدينة إلى الطرف الآخر اندلعت في رأسي فكرت في أن أهرب أختبئ في أي مكان، ولكن والدي جاء بكل ثقة وإيمان. لقد شاهدت صعوبة حياته التي كان يقصد بها سقوطه من النعمة، وأدرك أنه لن يغفر لي إذا عصيته الآن. ولهذا بدون تردد تابعت والدي في هذه المهمة الغريبة، لكي نصبح أغنياء بالطقوس السحرية. لقد شاهدت الكثير من الأفلام المنزلية الذي يتحول فيها الناس إلى أغنياء بالتضحية بالدم. ربما بعد استنزاف العنزة وإرهاقها ستسقط، وعندما تلفظ النفس الأخير، ستبدأ بتقيؤ الأموال، أو سنعيدها إلى المنزل، ونقطعها ونشرحها ونحصل على الأموال.
بدا لي إنه الأمر الأخير، حيث لم يكن مع أبي حقائب لحمل المال، إذا سقطت العنزة وماتت في شارع أويميكون على بعد خمسة عشرة كيلو مترا من منزلنا، أو في عزبة إيجابو على بعد عشرين كيلو مترا. هناك قطعة قماش حمراء حول رقبة العنزة، وبدت مذهولة حين قام أبي بسحبها وأخرجها من رقبتها.
***
بدأنا الرحلة من منزلنا وسرنا بالقرب من منزل جيراننا، فكرت في رأيهم فينا، وفي أبي الذي أصبحت حياته مضطربة للغاية، هل سيعتقدون أنه مجنون؟ أم سيشكون أنه أصبح رجلا طقوسيا؟ لا يبدو أن هناك شيئا من هذا أصاب أبي. مشيت خلفه كما لو أنني أيضا مربوط بحبل، وسرنا في الشارع بالعنزة البيضاء. خرج الناس من منازلهم، أو متاجرهم لمتابعة المشهد المؤسف لأبي ولي. مشيت العنزة بجواره، يبدو عليها العرج كلما تخطينا مجموعة من العلامات والإشارات، معظمها من اللوحات الإعلانية والملصقات. كنا نسير على جانب طريق معبدة بقطع صغيرة من الجرانيت والصلصال، عندما أصدرت العنزة صوتا، ورفعت ذيلها الصغير، وأسقطت كتلة من البراز على الأرض.
(يا مسيح ) صاح أبي شاخصًا بي. كنت أضحك وركزت عيناي على العنزة أثناء سيرنا معها، دفعة أخرى من البراز، تضغطه ببطء من الأرداف الوردية مع كل حركة لساقيها الأماميين. وبينما يلتفت إلي أبي، داس على البراز دون أن يدري. شعر به، ومع حركته وعند رفع قدمه وبينما هو منشغل بذلك وقع الحبل من يده، وسقط على الأرض. قفزت العنزة وهربت، وكأنها قد خططت لهذا الهروب، وجرت الحبل وراءها.
يقلل أبي من الرغبة في الحرية سواء كان إنسانًا أو حيوانًا. لم يلحق العنزة على الفور. وقفت خلفه، لاذت ضحكتي بالصمت بسبب هذا الحدث غير المتوقع. نظر أبي إلي نظرة محدقة باردة، وفُتح فاه وبدا لي أنه سيتكلم، ولكنه عاد إلى قدمه، وكشط حذاءه على التراب لفرك البراز. بدأ المشي بخطوات سريعة وراء العنزة التي كانت تتجه إلى الاتجاه الآخر نحو حقل ينتهي إلى كومة من القمامة. وبمرور الوقت وصلنا إلى العنزة، كانت العنزة قد جرت الحبل عبر حفرة مملوءة بالمياه، رطبته وغيرت لونه. تحركت العنزة عند كومة القمامة ووقفت مصدرة ثغاء. مرت فتاتان ترتديان ملابس رائعة، ويبدو أن الفتاتين قد لاحظتا أننا وراء العنزة، حاولت الابتعاد عنهما- لأنهما صديقتان محتملتان، وأنا صبي رائع عالق في شبكة هذا المشروع اللعين- آملا أن ترحلا.
قالت واحدة منهما وهي تشير إلى العنزة(اعذرني يا سيدي، هل هذه هي العنزة؟)
نظر أبي إلي في ضوء المساء المحتضر، والعبوس على وجهه، هذه النظرة كانت بمنزلة الهزيمة، خدمة من نوع ما عكست الهزيمة والسقوط. إنه الشيء الذي لا يريد أي إنسان رؤيته في وجه إنسان يعاني، فضلا عن أب وحيد. لذلك بدافع الشعور القاسي بالواجب بوصفي ابنه شعرت أنني مضطر لتخويف الفتاتين.
قلت : (هيا اذهبا)، ردت التي ترتدي سترة بيضاء، بها ألوان بنية على صدرها )ها، ها، انظر إلى هذه، أوه)، وربتت بيدها على كتف صديقتها، وحركت الأخرى برقصة محسوبة أثناء رحيلهما. (اخرجا) قلتها مرة أخرى بشكل ضعيف. حين غادرت الفتاتان كانت العنزة قد صعدت إلى قمة القمامة، ونظرت إلينا بين الخرق الممزقة وعلبة أوفالتين كبيرة، ووسادة ممزقة بها رسوم منتشرة. ضوء الشمس الساطع خلف العنزة أظهرها وكأنها محاطة بإكليل متوهج لامع.
قال أبي وأنا أقترب منه:(هل رأيت ما تسببتَ فيه)، قلت:(أنا)، هز رأسه:(هل رأيت)، وكان يريد أن يشير إلى العنزة، ولكنها رحلت.
***
وجدناها بعد ثلاثين دقيقة تقريبا، وراء المطعم في نهاية المظلة، حيث يجلس الناس للطعام والحديث. كانت هناك موسيقى عالية، وبالكاد أستطيع أن أسمع رثاء أبي الطويل لحياته، وتاريخه مع سوء الحظ، وحزن هذه المحاولة الأخيرة للهروب من الظلمة العظيمة للفقر. لقد ألقى عليّ باللوم في ذلك كله، وتوعدني بالضرب إذا فشلت مهمتنا، لأني سبب هروب العنزة. أنا السبب؟ لأني ضحكت وشغلته عندما كان يستطيع أن يكون في مطاردة العنزة. أطبق الظلام، ولكن لحسن الحظ كان هناك كهرباء وبعض المتاجر تحتوي على مصابيح صفراء اللون، أو مصابيح فلورسنت تضيء الشوارع. كل ما أستطيع رؤيته من العنزة هو عيناها وقرناها، رأسها النابض المتحرك وهي تمضغ شيئا ما، وسنامها البارز الذي سقط منه البراز. وقفنا في اتجاهها بصمت، ولكن يبدو أن الحيوان الغبي يمكن أن يشم رائحتنا. بمجرد أن اقتربنا منه سار متمهلا، ورأيت بطريقة أو بأخرى أن الحبل أصبح قصيرا، فقد ذهب ثلثه، وما بقي منه يتدلى تحت الحيوان وينتهي عند مؤخرته.
ركض أبي وراء العنزة التي هربت في اتجاه الطريق، تتحرك أرجلها في حركة جنونية وغباء. للحظة ما اعتقدت أننا أطفال يلعبون في ملعب المدرسة، ولكن هذا كان والدي-والدي يطارد عنزة في الطريق. لقد عبرت الطريق في الوقت الذي وصلنا فيه إلى الزاوية. وكل ما رأيناه عبارة عن مقطورة متداعية. فلو تأخرت العنزة لحظة لوجدنا جثتها منتشرة وموزعة على الطريق في مشهد مروع لانسكاب الدماء. تابعنا العنزة على مسافة محددة حتى وصلت إلى مبنى سكني مرتفع المستوى، وبوابته مغلقة. تنفست بارتياح، لأن بجانبنا جدارا، وحافلة متوقفة على الجانب الآخر. فيمكننا الإمساك بالماعز الآن إذا حاولنا. الوقت متأخر جدا ليلا. وقررت إنقاذ الموقف، بالحصول على هذه العنزة الغبية، حتى نستطيع إنهاء الطقوس. كل ما أريده أن أذهب للنوم، وأن أنسى ما اعتبرته اليوم الأسوأ في حياتي. وبينما أتحرك للأمام أشار والدي إلي أن أتوقف، وقال:(ساكا لا تفعل أي شيء سخيف، هل تسمعني؟)، وأجبت:(نعم سيدي).
وقفت العنزة هناك، تتجلى في شكل خيال. أبي يسير خلسة باتجاهها، عندما توقف فجأة. أدركت السبب: لقد رفعت رأسها واتكأت على أرجلها الأربعة، وكانت على وشك الزحف أسفل البوابة، ووضعت حدا فعليا لنهاية الطقوس من أجل الخير. نظر أبي إليّ والدموع في عينيه، ثم عاد إلى العنزة. (من فضلك لا) سمعته يقول، بينما زحفت العنزة أسفل البوابة.
تسمرت مكاني كابحا الرغبة في التبول، شاهدا على ما حدث، رأيت في لمحة من الإلهام، عودة أبي إلى البيت في يأس، ويقبل حقيقة أنه لن يكون ثريا مرة أخرى. رأيت في رعب لياليه الطويلة وهو ملقى نصف عار على أرضية غرفة الجلوس، يغني تلك الأغنية اللعينة، ويملأ المنزل وحياتنا بكآبتها. شاهدت أبي وأنا أكبر في العمر في هذا المنزل الخالي بدون أمي وأخي فولو. رأيت أمامي القصة الحزينة لمستقبلي، كل ذلك بسبب الخطوة الفردية من العنزة، لقد بكيت تقريبا.
بعد أن استبعدنا الطرق على البوابة، وإيقاظ سكان المبنى انتظرنا العنزة بصمت، وأرحنا ظهورنا على حافلة كانت متوقفة أمام المنزل، على مدار الساعة. أردت أن أخبر أبي أن العنزة قد تكون نائمة الآن، ولكنني نمت بدلا من ذلك، وتقرفصت، ثم مشيت بضع خطوات، ووالدي مازال هناك يقف يقظا، وعيناه مثبتتان على البوابة. عند حوالي الحادية عشرة ظهرت العنزة وهي تركض بشكل سريع، لا أظن أني رأيت شيئا يجري بمثل هذه السرعة. في إثر العنزة كان هناك قطة بيضاء. توقفت القطة حين أبصرتنا، وماءت وعادت داخلة أسفل البوابة. عادت العنزة إلى الطريق. يتابع أبي ما يحدث، وهو غائب عن الواقع، لم ير أو يسمع السيارة. السائق على الرغم من محاولته استخدام الفرامل لم يستطع التوقف. رأيت أبي يسقط، وصلت إليه وهو مستلق على وجهه ممدد على الطريق في بركة من دمائه.
***
عندما تكون صغيرا، وتحت السلطة الكاملة لوالديك، فأنت لا تعرف أنك تحبهما حقا حتى يحدث لواحد منهما أي شيء سيء. أتذكر إجهاض أمي، وبقع الدم المتجمدة على أرضية المطبخ، وكيف جعلني الألم الظاهر على وجهها أرتعب على الرغم من كوني آثما وسيئا للغاية، صليت إلى الله تعالى لمساعدتها. اعتقدت أنه مرض، شيء ما يمكن إيقافه. لم أكن أدرك حتى سنوات خلت أنه كان أخا لي لم يولد. صورة أبي وهو ملقى هناك بينما العنزة الغبية تبتعد شيء آخر لن أنساه أبدا. توقفت السيارة بعيدا عن مكان استلقائه بمسافة بسيطة. جسده كان ظاهرا بسبب إضاءة المصابيح الأمامية للسيارة، هرع رجلان وامرأة من سيارة بي أم دبليو، وهم يهتفون (دم المسيح)
أقسم بالله أن الجهد السريع لهذين الزوجين، السيد فيليب والسيدة فيرونيكا قد أنقذ أبي. كان يمكن أن يموت ميتة غبية، يقتل أثناء مطاردة عنزة. لقد خفت كثيرا، فلم يفتح عينيه لساعات. لقد حاولت استخدام هاتف أبي من ماركة نوكيا لإخبار أمي، ولكن رصيده كان صفرا، ولهذا أعطتني زوجة الرجل السيدة فيرونيكا هاتفها، فأخبرت أمي بكل شيء، مع التأكيد على الرحلة المضطربة في شوارع أكوري أثناء ملاحقة العنزة، لأنها يمكن أن تصاب بالهلع إذا رأت أبي على هذه الحالة المتردية التي سقط فيها. وقلت لها:(لو كنت هنا ما كنت ستدعينه يفعل هذا الشيء الغبي). وبمجرد أن سمعت الشهقات والتنهدات أدركت أنني نجحت في تحقيق هدفي، بأن أجبر أمي وأخي على العودة إلى المنزل. سمع الزوجان مكالمتي، سألاني لماذا يحتاج أبي إلى الأموال الطقوسية، وأخبرتهما بالسبب. وأخبراني أنهما يريدان مني أن أكون معهما في تلك الليلة في منزلهما، ولكني لم أرد أن أترك أبي وحيدا. أدرك أنه على قيد الحياة، ولكنه لم يفتح عينيه بعد. أعطاني الرجل مجموعة من الرزم المالية، وحتى لم يكلف نفسه بعدها، وأثناء مغادرتهما وعداني بالعودة في اليوم التالي، وأدركت انه أعطاني عشرين ألف نيرة تقريبا، فقد انتفخت جيوبي بالأموال، أكثر مما يكسبه والدي لمدة شهر كامل منذ أن انتهى عمله بالمصرف، فأدركت التفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء. لقد أخرج الرجل هذه الأموال ببساطة، وكأنها شيء هزيل، بالطريقة ذاتها التي كان أبي يخرج بها عشرين ورقة نقدية عندما كان لا يزال يعمل مصرفيا في البنك. لقد أصبحت مقتنعا أن الفقر هو الشر العظيم، كما كان أبي يعتقد دائما.
كنت نائما وأنا أشعر براحة في تلك الليلة، حتى بعد منتصف الليل بقليل، تم إيقاظي من الممرضة التي حضرت لتفقد سريان الجلوكوز، وقياس درجة حرارة أبي للمرة العشرين. بعد أن غادرت سمعت أبي يسعل، وأخرج تنهيدة كبيرة. ناديته، وكنت سعيدا لأنه أستفاق أخيرا. وفي الضوء الخافت نظر إليّ، وأدار رأسه للخلف في اتجاه النافذة. ثم بدأ في غناء تلك الأغنية، كان غناؤه مشوبا بدرجة من الحزن الحاد، لدرجة أنني تخيلت أنني سوف أصاب بالجنون. حاولت أن أناديه لكني خشيت أن يغضب مني. وعندما كان يكرر الأغنية ربما للمرة السابعة هززت سريره، واهتز كل شيء، وشاهدت في حالة من القلق زجاجة الجلوكوز تتمايل، وأحد أجزائها ينقر على الحامل الحديد مصدرا صوتا، ولكن أبي لم يتوقف حتى تلك اللحظة. عندما لم أستطع تحمله لفترة أطول من ذلك، غادرت الغرفة، ومشيت خطوات قليلة في الظلام. الصالة فارغة، ومملوءة بالروائح الكيماوية والمطهرات. كنت أتجول في دائرة عنابر المرضى، تليها غرفة مضاءة، حيث جلست ممرضتان ورجل يتحدثون ويضحكون، بينما تمدد آخر نائما على الأرض. عندما عدت للغرفة، وجدت أبي صامتا، وبدلا من صوت الأغنية الغبية كان هناك صوت الشخير.
خرج أبي بعد ثلاثة أيام. وقبل أن نعيده إلى المنزل، كونا- أنا وهو والزوجان الثريان- ثنائيا، وذهبنا إلى مطعم السيد بيجز، وكان هذا اقتراحي للزوجين الثريين: أن نترك أبي يشعر بالرضا عن نفسه، أن يأكل في مطعم عصري عالي المستوى. لم يكن يريد أن يبتسم، لأن هناك ورقة لاصقة على جانب وجهه، حيث سقط، ولكنك يمكنك أن تدرك أنه سعيد. قال الرجل الثري ونحن نتناول طعامنا:(السيد أكنيريل)، ورد أبي وهو يأخذ قطعة من الدجاج المقلي: (نعم سيدي)، قال الرجل: (أنا وزوجتي آسفان لما حدث، الحمد لله أنك بخير الآن)، ورد أبي: (الحمد لله)، قال الرجل:(نعم، نعم بالفعل، ما نريده الآن ليس فقط أن تتحسن، ولكن نريد أن نضمن سلامتك)، وعند هذه النقطة نظر الرجل إلى زوجته الجميلة التي كانت رائحتها أشبه برائحة بعض الزهور الجميلة التي تهبط من السماء. ابتسمت وأومأت، وأكمل الرجل:(قمنا بمشيئة الله بإنشاء محطة بنزين جديدة على طريق مدينة أوندو، بالقرب من الطريق السريع، كنا نبحث عن مدير. نريد أن نقدم لك هذا المنصب مقابل مائة وعشرين ألفا شهريا، بالإضافة إلى الفوائد).
توقفت عن الأكل، وأبي الذي كان ساكنا، حين نطق الرجل بالجملة الأخيرة، بدا انهياره، وبدأت حركة اهتزازه الغبية التي تتوقف فقط عندما تفرك أمي ظهره، وتريحه، أو تضع له الطعام في فمه. لا أعرف إن كان بسبب الإحراج من رؤية أبي يبكي في مكان عام على هذا النحو، أم بسبب دوافعي المجنونة، وصلت إلى ظهر أبي، ورفعت قميصه، وفركت له ظهره.
يبدو أن هذا الفعل أثر عليه. مسح عينيه بمنديل، وقال:(لا أعرف ماذا أقول)، وظل يكرر ذلك، وصافح الرجل الغني. بعد انتهاء الغذاء تحول أبي تماما، لقد انتقل من رجل فقير، ليس إلى رجل من أبناء الطبقة الوسطى، ولكن إلى رجل غني. فهو الآن يكسب ضعف ما كان يجنيه من عمله في البنك، بالإضافة إلى الأرباح والفوائد الأخرى. حتى أنا ساكا كنت أفتخر أنني أمتلك بعض المال السري.
بالطبع لا يمكنه تصديق ذلك. ومما زاد دهشته حين عدنا إلى البيت وجدنا أمي وأخي فولو في انتظارنا، وقبل أن يتمكن من فتح فمه، وخوض الجدل القديم، قالت أمي بالإنجليزية:(لا تتحدث عن هذا الهراء والموضوع التافه مع إيكزي، أرجوك، أرجوك، أرجوك. فقط انظر إلى نفسك. لو كنت هنا هل كنت سأسمح لك بالذهاب لمطاردة العنزة من أجل طقوس المال. إيه من فضلك اجلس بهدوء، بهدوء).
وبهذه الطريقة، مثل الحمل، جلس أبي ولم يثر المشكلة - على حد علمي - مرة أخرى. بطريقة ما، في تلك الليلة، تصالح والداي، وترك أبي الظلام وذهب إلى النور. كما لو أنني لم أفكر في الأمر طوال الوقت، أدهشني أن كل هذا حدث بسبب العنزة. في لحظة الصمت، انفجرت في نوبة مفاجئة من المرح، ضحكت بشكل هستيري، حتى انتبه الجميع وراحوا يسألوني لماذا أضحك. ولكن حتى قبل أن أخبرهم، انضمت إليّ أمي وفولو. ثم قلت لهما وضحك أبي أيضا. وبين مسح عيني والقتال لتهدئة نفسي، صرخت:(هذه هي قصة العالم الغريبة!)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب نيجيري من مواليد 1986، وأستاذ مساعد للأدب والكتابة الإبداعية بجامعة نبراسكا لنكولن، أشارت إحدى المراجعات النقدية لرواياته في نيويورك تايمز أنه وريث تشينوا تشابي، أهم أعماله: الصيادون 2015م، وأوركسترا الأقليات 2019م). وقد رشحت الروايتان لجائزة البوكر العالمية، ووصلتا للقائمة القصيرة.
** هي أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، ويمثلون 26% من سكانها، يوجد حوالي 30 مليون يوروبيا، في غرب أفريقيا، يعيش أغلبهم في نيجيريا، والبقية موزعة في بنين وتوجو وسيراليون.
*** اسم الشهرة للممثل النيجيري كريم أديبوجو، عرف بفيلمه الشهير (ملك الرب)، وحوله بعد ذلك إلى مسلسل تلفزيوني.
**** عملة نيجيرية، تحتوي النيرة الواحدة على مائة كوبو، وهي مساوية للقرش في العملة المصرية.
في تلك الأيام كان دائما يقول لأمي إنه (يجب أن يعود إلى المدرسة)، ولكن أمي كانت تهز رأسها قائلة (لا لا تفعل ذلك بنفسك، الحمد لله). وأعتقد أن أبي كان يحب سماع ذلك، يحب أن تخفف أمي عنه، تواسيه وتطمئنه كما لو كان طفلا من أطفالها. في إحدى المرات شاهدت أمي تطعمه بالملعقة عندما شعر بالانهيار ذات يوم، بعد أن طلب منه أخي فولو الذي يبلغ عمره ست سنوات أن يشتري له دراجة مثل أحد أبناء جارنا. فلم يفهم هذا الصبي الغبي لماذا لم يكن على العشاء سوى الذرة المسلوق والفول السوداني في تلك الليلة.
كنا نعيش في منزل نملكه، وبعض جيراننا يعملون أيضا في البنك، ولكن يبدو أن عددا كبيرًا قد توقع إغلاق البنك. وفي الحقيقة كانت هناك شائعات عن أن البنك سيغلق قريبا. خلال أسابيع قليلة من نهاية البنك شهدنا على تعويض عائلة بعد الأخرى. بداية الأمر كان مع عائلة "أنجبوس" التي فازت بتأشيرة اليانصيب الأمريكية ويعيش "الأنجبوس" خلفنا ويفصل بيننا وبينهم سور متهالك نطلق عليه أنا وأصدقائي سور الصين العظيم. شهدت على مغادرة صاحب المزاج المتعكر السيد أنجبوس وزوجته وابنتيه إلى أمريكا، وكان البعض يتأمل أن أتزوج إحداهن. ثم أتى دور عائلة "أيو". لقد كافئ أحد اقرباء السيد أيو وهو من السياسيين بعقد عمل. وبين ليلة وضحاها تبدل وضعهم، وفي غضون شهرين اختفت تلك الرائحة الكريهة التي كانت تنتشر بالقرب من منزلهم. لقد أعادوا طلاء واجهة منزلهم الأمامية التي كانت ملطخة بكل شيء من الحبر والفحم والكيروسين والبيض. بدأ السيد أيو الذي يعرج وينحني أثناء المشي يقود سيارة تويوتا كامري جديدة إلى حد ما، وكان يوقفها بعرض الطريق أمام منزلنا، وكأنه يفعل ذلك نكاية بأبي. كان هناك عدد لا يحصى من هذه النماذج مثل عائلة الأوريوميس، والأجروس، والأكبوس إلخ.
لم يستسلم أبي. قاوم انحداره نحو الفقر، وكأنه يحارب قوى خارقة كالشيطان. في الأيام الأخيرة قبل أن يغلق البنك، طرق أبواب كل المصارف الأخرى، عارضاً خبرته الطويلة، ولكن جميعها دون استثناء أغلقت أبوابها في وجهه بمجرد معرفتها بأنه لم يحصل على شهادة جامعية. ركز اهتمامه بعدها على العمل التجاري، باع سيارته، وباع حصته من الأسهم في مصنع الجعة النيجيري الذي كان معتادا على التباهي بها. ودخل بكل هذه الأموال في شركة مزرعة سمكية مع صديقه المهندس فكتور الذي كان قد بدأ تأسيسها قبل ذلك. وقضى المشروع بعد ثلاثة أشهر، حين سكب الابن الأصغر للمهندس مادة الكيروسين في مزرعة السمك الكبيرة، مما نتج عن ذلك موت الأسماك كلها.
أقسم بالله أن الليلة التي أخبر المهندس فكتور أبي بما حدث هي ربما الليلة التي بدأ فيها كل شيء. لم أنس تلك الليلة على مدار سبع سنوات. صوت البكاء والنحيب في منزلنا كان الأعلى في تاريخ العائلة. حتى أقوى من الحزن الذي ولّده رحيل العم توماس. كل ذلك الحزن صنعه المهندس فكتور، رجل صغير الرأس، وذو بشرة داكنة للغاية، مملوءة بإيماءات وضعت كل شيء على حد سكين متحرك.
جاء الرجل باكيا هو وزوجته، ومعه أقل من قيمة ربع المساهمة المالية لأبي في المشروع. حاول أبي أن يكون هادئا في البداية، ثم اصطكت أسنانه، وبدأ ينظر لأسفل، بينما تضع أمي يديها تحت ردائه، وفركت ظهره بحنو، وبين لحظة وأخرى تمسح دموعها بطرف ردائها. وظلت الأمور تسير على ما يرام، حتى سقط المهندس فكتور على السجادة في غرفة الاستقبال، وبدأ في غناء أغنية يوروبا** الحزينة التي غناها بابا واندي*** في فيلم سيء، (ملك الرب):
لقد سقطت في شبكة عنكبوت سميكة
ركضت وزحفت، لكن دون جدوى
ليس هناك حل لهذه المشكلة الكبيرة
هذه معضلة
قام المسافر برحلة لا تؤدي إلى شيء
المزارع غير قادر للوصول إلى مزرعته
هذه هي القصة الغريبة للعالم
هذه معضلة
أقسم بالله أنت بحاجة إلى سماع الطريقة التي غنى بها هذا الرجل الأغنية، لتعرف كيف أشاع جوّا من الحزن على كل الحاضرين. لقد سلط الضوء على اللازمة (هذه معضلة) وأظهرها بصوته في كل مرة يغنيها، ثم يصبح صوته فاترا مع السطر التالي، ثم ينغمس في الهمس حتى ظننا جميعا أنه توقف. وبصوت مملوء بالمرارة بعد ذلك أعلن أن هذه الحادثة هي (القصة الغريبة للعالم).
ردة الفعل كانت سريعة, تنهد أبي بقوّة بعد أن حبسها عميقًا وفيها نوع من التجشؤ، بدأ جسمه الكبير يتأرجح ويهتز، كما لو كان يرقص ببطء. وبدأت زوجة المهندس في البكاء، ودفنت أمي وجهها بين راحتي يديها باكية، وبدأ أخي فولو في البكاء أيضا، وحتى أنا مثل غبي حين تخيلت المهندس وهو يغني تلك الأغنية شعرت بعيني تغطيها سحب الدموع.
***
على الرغم من كل هذا الوضع المأساوي كان يمكن أن نتخطى هذه الأزمة. أقله كان أبي يحصل على بعض( كوبو كوبو)**، عبر وظيفة البنّاء التي عمل بها بشكل يومي. وساهمت أمي من خلال عائدات متجرها الذي تضعه في السقيفة أمام منزلنا. وهي قبل كل ذلك مديرة ذكية وداهية. اعطها خمسة أرغفة وسمكتين، وأقسم بالله المتعالي أنها تستطيع أن تطعم خمسة آلاف. فقد نشأت في القرية، وعملت غالبا في المزرعة. تقوم بالأعمال المنزلية بوصفها هواية. ولم تقيّم الوضع بالمأساوي كما فعل أبي. ولم تر سوداوية بالمسألة كما فعل أبي. فهي تعتبر أن الازمات فرصة ضرورية للحياة، ويجب التعامل معها والتغلب عليها. لأنه نشأ في مدينة، وحصل على وظيفة جيدة، جعلته قادرا على أن يشتري سيارة جديدة، وأن يكوّن أسرة، وأن يلحق شقيقتيه بالجامعة، يرى أبي الأزمة الحالية أزمة شديدة. فالفقر هو الشر الذي لا تشوبه شائبة، ظلمة لا يمكن اختراقها تتعارض مع نظام الأشياء وطبيعتها. الشخص الذي تصل إليه هذه الروح، ليس لديه سوى خيار واحد: استئصالها وإلقاؤها في الظلام الخارجي.
كان يمكننا التحمل. أصرت أمي أنه يمكننا تخطي الأمر وتردد بشكل مستمر على مسامع أبي بأن وضعنا سيء، ولكن يمكن التغلب عليه. على الرغم من كل شيء على حد تعبيرها البكاء لا يعمي. نظرة أبي لمفهوم الفقر دفعته لإثارة الشفقة. بعد أن وافق على مناشدات المهندس، وأهمل-كما كان شائعا لدى كل النيجيريين- أي تفكير في التقاضي لاستعادة استثماراته، بدأ ينحدر إلى نوع من الجنون. كسر ذات يوم أبجور في غرفة الاستقبال، في محاولته قتل حشرة رآها تحلق بجوارها. بدأت أنا وأخي نتجنبه عملا بنصيحة أمي، التي لم تعد تهدهد له ظهره، أو تطعمه بيديها، وأصبحت تراقبه من مسافة بعيدة، وتحادثه من الغرف الأخرى. كان أبي قويا، ولا تزال ذراعاه صلبتين كما في صباه، وتظهر بهما علامات الأوردة القوية، على الرغم من انتفاخ بطنه بشكل لا يجعلك ترى صدره بأي شكل. ومع ذلك لا يزال مخيفا ومرعبا، وكثيرا ما تصارع معه الناس. أصبح مهووسا بالكامل بالظلام أي الفقر نفسه الذي يعارض نظام الطبيعة.
شعرنا جميعا بالنقص. ملابسي لم تعد مناسبة بأي شكل من الأشكال، لأنه لم يكن هناك ما نأكله. أرسل الخال لقمان شقيق أمي الذي يعيش في جوس الأموال مرتين. شكره أبي ببراعة عبر الهاتف، الهاتف الوحيد لم نتمكن من شحنه الآن بالمنزل، لأن موظفي NAPA قاموا بتركيب العمود الكهربائي أمام مجمعنا السكني وقطعوا الكهرباء عن منزلنا بسبب الفواتير المتأخرة المستحقة. بكى أخي باستمرار بسبب الجوع، وكادت أمي أن تفرغ متجرها، لأنها تقدم له أكلات خفيفة من الأشياء التي أحضرتها لإعادة بيعها.
في يوم من الأيام عاد أبي إلى المنزل مصابا بجروح خطيرة، تشاجر مع سائق حافلة على باقي خمسين نيرة. طعن أبي في بطنه بزجاجة، وفقد الكثير من الدم. وبدلا من الذهاب للعيادة تحرك مترنحا إلى المنزل وأغمى عليه. صرخت أمي حتى جاء جارنا الثري الجديد السيد أيو لإنقاذنا. رفعنا أبي بمهمة شاقة إلى سيارة الرجل، وهرعنا به إلى عيادة الدكتور إيكزي. وأخبرنا الطبيب أن أبي يحتاج إلى نقل دم. أنا متأكد أن الوضع لم يكن خطيرا، مثلما حاول الطبيب أن يشعرنا بذلك، إذ جعل صوته يهتز في أسى، كما لو كان مهتما بالأمر. حرك نظارته إلى أعلى وإلى أسفل، وأشار إلى ممرضة تمسك بقطع القطن والإبر ومستلزمات أخرى لتغادر الغرفة.
-قال لأمي: يجب أن يتم نقل الدم اليه من بنك الدم، أيتها السيدة أكينريل، فهذا أمر لابد منه)
- أجابت أمي (كم التكلفة المالية كاملة؟)
تظاهر الرجل بالتفكير العميق، عابثا بأزرار ملابسه، مزمزمًا شفتيه، متأملا السقف والمروحة البطيئة، وقال:(ربما يتكلف الأمر عشرين ألفا)
(أوه موغبي) صرخت أمي، وارتفعت يداها في الوقت نفسه مع ارتفاع صوتها، وقامت بحركة راقصة للمحنة، وأعادت رداءها حول حقويها، وواجهت الطبيب مرة أخرى.
(سيدة أكينريل، سيدتي) كان يتكلم طوال الوقت، ولكن يبدو أن أمي لم تكن تسمعه، ولكنها نزلت على ركبتيها قائلة(أرجوك دكتور، رجاء، باسم الله، أرجوك). استغل الرجل الفرصة، وساعد أمي الباكية، بينما كنت أمسك بأخي في زاوية الغرفة لمنعه من الاستمرار في البكاء. تظاهر أنه يريد أن يتحدث مع أمي على انفراد، وسحبها من خصرها خارج الغرفة. من الصعب معرفة ما حدث هناك أو بعد ذلك، لأن والدي- بوصفي طفلهما الصغير- لم يناقشا هذه الأمور معي. كنت في العاشرة، ولكنني لم أكن غبيا. حتى الأعمى يمكن أن يكتشف اعجاب الدكتور إيكزي الدائم بأمي. ولا يعرف أحد لماذا قد تعجبه امرأة متزوجة مع طفلان(ولا يشمل الحساب أختي الصغيرة التي ماتت وعمرها ثلاثة أشهر، والإجهاض مرة واحدة). لابد لأنها كانت بغمازتين في خديها، ولها بشرة بنية جميلة ناعمة، أمي أيضا كانت مجنونة بالموضة، في أوقات الثروة الجيدة ترتدي ملابس رائعة، وطريقتها في ارتداء الوشاح في أيام الآحاد تلفت الانتباه. حضر الطبيب وزوجته إلى الكنيسة، امرأة طويلة ومخيفة، حجمها أكبر من حجم الطبيب ثلاث مرات، وتضع كميات هائلة من المكياج، وتتحدث بصوت جهير، ولا تبتسم أبدا. كان الطبيب سمينا، ويرتدي بنطالا عاديا، وغالبا ما يكون ضيقا من منطقة الأرداف، ويرفعه دائما أثناء سيره. حتى ونحن في الكنيسة كنت ألمح الطبيب يراقب أمي.
لم تتحدث أمي أبدا عما حصل في المستشفى، حتى أبي الذي كان- كما جعلني استنتج- الشخص الوحيد الذي تعرض للإذلال بسبب ما حدث لم يتحدث عنه إلا في لحظات الغضب. في بعض الأحيان وهو سكران كان يقول(أمك مارست الجنس مع الدكتور إيكزي، هل يمكنك أن تتخيل ذلك). أبي بالتأكيد يعرف ما يفعل. لقد أدرك أنه يبني مسارا أو طريقا لا يقود إلى أي مكان. ولا مرة خاض في التفاصيل، مجرد السؤال يمكن اعتباره تمردا سيئا. ولهذا لم أسأل أبدا. في المرات التي يشعر فيها أبي أنني لن أطيعه وسوف أعصيه، أراه يقول(أنت، ساكا، تريد أن تتخلى عني، مثل والدتك وأخيك آبي، افعل إذن، وتأمل كيف ستعاملك الحياة) يقول ذلك بلغة اليوربا، وهو غاضب، وبدون قميص، وليس هناك من يداعب ظهره، أو يعزيه أو يقدم له طعاما.
أعفانا الطبيب من فواتير المستشفى التي ما كانت كل أملاكنا لو بعناها تكفي لتسديد المبلغ المستحق. تم علاج أبي ونقل الدم إليه، وأصبح بصحة جيدة، وخرج من المستشفى. حين عاد إلى المنزل، ظل لبضعة أيام يسأل أمي كيف حصلت على الأموال لتسديد الفواتير، ويبدو أنها لم ترد الإجابة. وفي ليلة بعد أن ذهبنا للنوم أنا وأخي، بدأ أبي وأمي في الجدال والنزاع. اندلعت أمي في البكاء، ثم بدأت في الصراخ (ناتي!، ناتي!)، وسمعت باب غرفة الجلوس يغلق. وبعد فترة قصيرة ركضت أمي إلى غرفتنا، وأيقظت أخي وأخذته، وقالت (ابق معه ساكا، من فضلك ابق معه من الأحسن).هرعت بإلباس أخي قميصا، وركضت في المنزل، وجمعت أغراضها، تبعتها إلى المطبخ، وعدت إلى غرفتها، حيث كانت الملابس مبعثرة في جميع أنحاء الغرفة.
سألتها: (أمي، أين ستذهبين؟)
قالت باكية):ساكا، يا ولدي، والدك غاضب جدا، غاضب جدا مني، ليس من الجيد أن أبقى هنا الآن، اسمع لا تتكلم، فقط اسمعني، سأذهب لأعيش مع أخي، فقط ابق معه هنا).
أقسم بالله لا أعرف ما إذا كانت أمي فعلت أي شيء مع هذا الطبيب الغبي. شاهدته وزوجته الضخمة في الطريق مرات عدة بعد ذلك، وكان يحدق بي كأنني شبح. لم يذهب أبي إلى الكنيسة، وأعتقد لم يكن يريد رؤية الطبيب. كان رحيل أمي وأخي فولو هي القشة الأخيرة في عملية انحدار أبي إلى تلك الظلمة العظيمة. ضاجع رجل آخر زوجته، لأنه كان فقيرا، وكان يردد في كلمات منفردة(انظر إليّ، ناثانيل، ناثانيل أكينريل). أنا – رجل آخر يستخدم المال لمضاجعة زوجتي، زوجتي أنا، كان يضرب صدره، وينهش أصابعه، وفي بعض الأحيان يبتسم، كما لو أن ما قاله أسعده، ثم يهز رأسه ويقول(ليست مشكلة، ليست هناك مشكلة). أكثر اللحظات التي كنت أكرهها عندما كان يغني أغنية (ملك الرب) الحزينة. كنت أفعل أي شيء لإيقافه. أذهب إلى المطبخ، وأسقط قدرا أو ملعقة. يصمت للحظة، ويسألني، ماذا حدث، وأخبره أن شيئا ما سقط. كان يتنهد ويستمر: لم يتمكن المزارع من الوصول إلى مزرعته. خرجت ذات مرة إلى الفناء وصرخت ممسكا قدمي، في محاولة لجذب انتباهه، لقد خططت إخباره أن عقربا لدغني، ولكنني أدركت أنه من المحتمل أن يأخذني إلى العيادة، وأثقله بالمزيد من الديون، قلت له ببساطة أن رجلي اصطدمت بالحجر. تنهد وغمغم بأنه يجب علي أن أكون حذرا، وأمرني بالعودة إلى للداخل. وحين عدنا إلى غرفة الجلوس، جلس في منتصف الغرفة، واستمر في تلك النغمة الرثائية الحزينة المجنونة: هذه هي القصة الغريبة للعالم. هذه معضلة).
***
القصة الغريبة على الرغم من كل تلك الظروف تدور حول كيف أصبح أبي ثريا. كنت نائما في فراشي في يوم من الأيام، بعد أن أكلت الجزء المتبقي من الأرز الذي جهزه أبي منذ ثلاثة أيام، عندما عاد من عمله في البناء، وهو يجر في يديه عنزة صغيرة. كان موسم الجفاف، شفتاه مشققتان، وعيناه مختنقتان قليلا بالدم. كان ضوء مصباح الكيروسين هادئا، وليس هناك كهرباء، والظلام يكاد أن يكون مطبقا. في البداية لم أعرف كيف أفكر، ولكنني كنت سعيدا، فهل فاز أبي باليانصيب؟ هل لعب، وهل يريد أن يكون مليونيرا؟ مثلما كان يتعهد أن يصبح؟ وقف في غرفة الجلوس، وأزال الستارة إلى جانب من الجوانب، ليستدعي آخر بقايا ضوء النهار، انحنى منخفضا، وربط الحبل الذي يطوق عنق العنزة إلى مقعد البار. تثاءب بينما كنت أشاهد هذا العرض الغبي وأنا غير مصدق.
(أحضر لي كوبا من الماء، ساكا) قال وهو يجلس على إحدى الأرائك البالية بملابسه المتسخة، وحذائه المغطى بالطين. عندما أحضرت الماء إليه، شربه كله، ثم واجهني وأومأ برأسه قائلا (هل رأيت العنزة)، وأومأت برأسي بالإيجاب. انتقل إلى حافة الأريكة كما لو أنه سيقوم، وقال (إنها حيوان مقدس، لقد باركها الكاهن المقدس بابلاو القوي في مزاره، وبدأت عملية الطقوس بالفعل. اذهب وارتدِ ملابسك، هيا بنا)
غالبا ما يقوم أبي وأمي بهذا النوع من الأفعال. يتحدثان معي أحيانا عن موضوع لا أعرف عنه شيئا، كما لو كانا ناقشاه معي بالفعل، وأعرف كل شيء عنه. كأن يقول على سبيل المثال(عملية الطقوس)، ومع نفسي كنت أسأل: ماهي؟ ولكنني لم أكن أطرح أي أسئلة. ارتديت قميصي وسروالي، ولبست صندلي. وبمجرد أن رجعت إلى الغرفة، أومأ برأسه وقال:(ساكا، هل تعرف أنني كنت رجلا ثريا، ربما لست غنيا، ولكن على ما يرام؟)
قلت: (نعم يا أبي)
قال: (حسنا، لا يمكنك إلقاء اللوم عليّ. انظر إلى حياتي هذه، يجب أن أغيرها الآن، حسنا)
قلت:(نعم يا أبي)
(الآن اسمع يا بني) بدأ يهمس كما لو كان هناك شخص آخر في الغرفة، وأضاف( من المفترض أن أخذ هذه العنزة في جولة حول هذه المدينة، من الآن الساعة السادسة حتى منتصف الليل، أو حتى تموت من التعب. يجب ألا تتوقف. لو أردت أن تتبول يجب أن تستمر في المشي، والشيء نفسه معي).
شعرت بالرعب بالطبع، صور الكدح والتعب في المشي مع العنزة من نهاية المدينة إلى الطرف الآخر اندلعت في رأسي فكرت في أن أهرب أختبئ في أي مكان، ولكن والدي جاء بكل ثقة وإيمان. لقد شاهدت صعوبة حياته التي كان يقصد بها سقوطه من النعمة، وأدرك أنه لن يغفر لي إذا عصيته الآن. ولهذا بدون تردد تابعت والدي في هذه المهمة الغريبة، لكي نصبح أغنياء بالطقوس السحرية. لقد شاهدت الكثير من الأفلام المنزلية الذي يتحول فيها الناس إلى أغنياء بالتضحية بالدم. ربما بعد استنزاف العنزة وإرهاقها ستسقط، وعندما تلفظ النفس الأخير، ستبدأ بتقيؤ الأموال، أو سنعيدها إلى المنزل، ونقطعها ونشرحها ونحصل على الأموال.
بدا لي إنه الأمر الأخير، حيث لم يكن مع أبي حقائب لحمل المال، إذا سقطت العنزة وماتت في شارع أويميكون على بعد خمسة عشرة كيلو مترا من منزلنا، أو في عزبة إيجابو على بعد عشرين كيلو مترا. هناك قطعة قماش حمراء حول رقبة العنزة، وبدت مذهولة حين قام أبي بسحبها وأخرجها من رقبتها.
***
بدأنا الرحلة من منزلنا وسرنا بالقرب من منزل جيراننا، فكرت في رأيهم فينا، وفي أبي الذي أصبحت حياته مضطربة للغاية، هل سيعتقدون أنه مجنون؟ أم سيشكون أنه أصبح رجلا طقوسيا؟ لا يبدو أن هناك شيئا من هذا أصاب أبي. مشيت خلفه كما لو أنني أيضا مربوط بحبل، وسرنا في الشارع بالعنزة البيضاء. خرج الناس من منازلهم، أو متاجرهم لمتابعة المشهد المؤسف لأبي ولي. مشيت العنزة بجواره، يبدو عليها العرج كلما تخطينا مجموعة من العلامات والإشارات، معظمها من اللوحات الإعلانية والملصقات. كنا نسير على جانب طريق معبدة بقطع صغيرة من الجرانيت والصلصال، عندما أصدرت العنزة صوتا، ورفعت ذيلها الصغير، وأسقطت كتلة من البراز على الأرض.
(يا مسيح ) صاح أبي شاخصًا بي. كنت أضحك وركزت عيناي على العنزة أثناء سيرنا معها، دفعة أخرى من البراز، تضغطه ببطء من الأرداف الوردية مع كل حركة لساقيها الأماميين. وبينما يلتفت إلي أبي، داس على البراز دون أن يدري. شعر به، ومع حركته وعند رفع قدمه وبينما هو منشغل بذلك وقع الحبل من يده، وسقط على الأرض. قفزت العنزة وهربت، وكأنها قد خططت لهذا الهروب، وجرت الحبل وراءها.
يقلل أبي من الرغبة في الحرية سواء كان إنسانًا أو حيوانًا. لم يلحق العنزة على الفور. وقفت خلفه، لاذت ضحكتي بالصمت بسبب هذا الحدث غير المتوقع. نظر أبي إلي نظرة محدقة باردة، وفُتح فاه وبدا لي أنه سيتكلم، ولكنه عاد إلى قدمه، وكشط حذاءه على التراب لفرك البراز. بدأ المشي بخطوات سريعة وراء العنزة التي كانت تتجه إلى الاتجاه الآخر نحو حقل ينتهي إلى كومة من القمامة. وبمرور الوقت وصلنا إلى العنزة، كانت العنزة قد جرت الحبل عبر حفرة مملوءة بالمياه، رطبته وغيرت لونه. تحركت العنزة عند كومة القمامة ووقفت مصدرة ثغاء. مرت فتاتان ترتديان ملابس رائعة، ويبدو أن الفتاتين قد لاحظتا أننا وراء العنزة، حاولت الابتعاد عنهما- لأنهما صديقتان محتملتان، وأنا صبي رائع عالق في شبكة هذا المشروع اللعين- آملا أن ترحلا.
قالت واحدة منهما وهي تشير إلى العنزة(اعذرني يا سيدي، هل هذه هي العنزة؟)
نظر أبي إلي في ضوء المساء المحتضر، والعبوس على وجهه، هذه النظرة كانت بمنزلة الهزيمة، خدمة من نوع ما عكست الهزيمة والسقوط. إنه الشيء الذي لا يريد أي إنسان رؤيته في وجه إنسان يعاني، فضلا عن أب وحيد. لذلك بدافع الشعور القاسي بالواجب بوصفي ابنه شعرت أنني مضطر لتخويف الفتاتين.
قلت : (هيا اذهبا)، ردت التي ترتدي سترة بيضاء، بها ألوان بنية على صدرها )ها، ها، انظر إلى هذه، أوه)، وربتت بيدها على كتف صديقتها، وحركت الأخرى برقصة محسوبة أثناء رحيلهما. (اخرجا) قلتها مرة أخرى بشكل ضعيف. حين غادرت الفتاتان كانت العنزة قد صعدت إلى قمة القمامة، ونظرت إلينا بين الخرق الممزقة وعلبة أوفالتين كبيرة، ووسادة ممزقة بها رسوم منتشرة. ضوء الشمس الساطع خلف العنزة أظهرها وكأنها محاطة بإكليل متوهج لامع.
قال أبي وأنا أقترب منه:(هل رأيت ما تسببتَ فيه)، قلت:(أنا)، هز رأسه:(هل رأيت)، وكان يريد أن يشير إلى العنزة، ولكنها رحلت.
***
وجدناها بعد ثلاثين دقيقة تقريبا، وراء المطعم في نهاية المظلة، حيث يجلس الناس للطعام والحديث. كانت هناك موسيقى عالية، وبالكاد أستطيع أن أسمع رثاء أبي الطويل لحياته، وتاريخه مع سوء الحظ، وحزن هذه المحاولة الأخيرة للهروب من الظلمة العظيمة للفقر. لقد ألقى عليّ باللوم في ذلك كله، وتوعدني بالضرب إذا فشلت مهمتنا، لأني سبب هروب العنزة. أنا السبب؟ لأني ضحكت وشغلته عندما كان يستطيع أن يكون في مطاردة العنزة. أطبق الظلام، ولكن لحسن الحظ كان هناك كهرباء وبعض المتاجر تحتوي على مصابيح صفراء اللون، أو مصابيح فلورسنت تضيء الشوارع. كل ما أستطيع رؤيته من العنزة هو عيناها وقرناها، رأسها النابض المتحرك وهي تمضغ شيئا ما، وسنامها البارز الذي سقط منه البراز. وقفنا في اتجاهها بصمت، ولكن يبدو أن الحيوان الغبي يمكن أن يشم رائحتنا. بمجرد أن اقتربنا منه سار متمهلا، ورأيت بطريقة أو بأخرى أن الحبل أصبح قصيرا، فقد ذهب ثلثه، وما بقي منه يتدلى تحت الحيوان وينتهي عند مؤخرته.
ركض أبي وراء العنزة التي هربت في اتجاه الطريق، تتحرك أرجلها في حركة جنونية وغباء. للحظة ما اعتقدت أننا أطفال يلعبون في ملعب المدرسة، ولكن هذا كان والدي-والدي يطارد عنزة في الطريق. لقد عبرت الطريق في الوقت الذي وصلنا فيه إلى الزاوية. وكل ما رأيناه عبارة عن مقطورة متداعية. فلو تأخرت العنزة لحظة لوجدنا جثتها منتشرة وموزعة على الطريق في مشهد مروع لانسكاب الدماء. تابعنا العنزة على مسافة محددة حتى وصلت إلى مبنى سكني مرتفع المستوى، وبوابته مغلقة. تنفست بارتياح، لأن بجانبنا جدارا، وحافلة متوقفة على الجانب الآخر. فيمكننا الإمساك بالماعز الآن إذا حاولنا. الوقت متأخر جدا ليلا. وقررت إنقاذ الموقف، بالحصول على هذه العنزة الغبية، حتى نستطيع إنهاء الطقوس. كل ما أريده أن أذهب للنوم، وأن أنسى ما اعتبرته اليوم الأسوأ في حياتي. وبينما أتحرك للأمام أشار والدي إلي أن أتوقف، وقال:(ساكا لا تفعل أي شيء سخيف، هل تسمعني؟)، وأجبت:(نعم سيدي).
وقفت العنزة هناك، تتجلى في شكل خيال. أبي يسير خلسة باتجاهها، عندما توقف فجأة. أدركت السبب: لقد رفعت رأسها واتكأت على أرجلها الأربعة، وكانت على وشك الزحف أسفل البوابة، ووضعت حدا فعليا لنهاية الطقوس من أجل الخير. نظر أبي إليّ والدموع في عينيه، ثم عاد إلى العنزة. (من فضلك لا) سمعته يقول، بينما زحفت العنزة أسفل البوابة.
تسمرت مكاني كابحا الرغبة في التبول، شاهدا على ما حدث، رأيت في لمحة من الإلهام، عودة أبي إلى البيت في يأس، ويقبل حقيقة أنه لن يكون ثريا مرة أخرى. رأيت في رعب لياليه الطويلة وهو ملقى نصف عار على أرضية غرفة الجلوس، يغني تلك الأغنية اللعينة، ويملأ المنزل وحياتنا بكآبتها. شاهدت أبي وأنا أكبر في العمر في هذا المنزل الخالي بدون أمي وأخي فولو. رأيت أمامي القصة الحزينة لمستقبلي، كل ذلك بسبب الخطوة الفردية من العنزة، لقد بكيت تقريبا.
بعد أن استبعدنا الطرق على البوابة، وإيقاظ سكان المبنى انتظرنا العنزة بصمت، وأرحنا ظهورنا على حافلة كانت متوقفة أمام المنزل، على مدار الساعة. أردت أن أخبر أبي أن العنزة قد تكون نائمة الآن، ولكنني نمت بدلا من ذلك، وتقرفصت، ثم مشيت بضع خطوات، ووالدي مازال هناك يقف يقظا، وعيناه مثبتتان على البوابة. عند حوالي الحادية عشرة ظهرت العنزة وهي تركض بشكل سريع، لا أظن أني رأيت شيئا يجري بمثل هذه السرعة. في إثر العنزة كان هناك قطة بيضاء. توقفت القطة حين أبصرتنا، وماءت وعادت داخلة أسفل البوابة. عادت العنزة إلى الطريق. يتابع أبي ما يحدث، وهو غائب عن الواقع، لم ير أو يسمع السيارة. السائق على الرغم من محاولته استخدام الفرامل لم يستطع التوقف. رأيت أبي يسقط، وصلت إليه وهو مستلق على وجهه ممدد على الطريق في بركة من دمائه.
***
عندما تكون صغيرا، وتحت السلطة الكاملة لوالديك، فأنت لا تعرف أنك تحبهما حقا حتى يحدث لواحد منهما أي شيء سيء. أتذكر إجهاض أمي، وبقع الدم المتجمدة على أرضية المطبخ، وكيف جعلني الألم الظاهر على وجهها أرتعب على الرغم من كوني آثما وسيئا للغاية، صليت إلى الله تعالى لمساعدتها. اعتقدت أنه مرض، شيء ما يمكن إيقافه. لم أكن أدرك حتى سنوات خلت أنه كان أخا لي لم يولد. صورة أبي وهو ملقى هناك بينما العنزة الغبية تبتعد شيء آخر لن أنساه أبدا. توقفت السيارة بعيدا عن مكان استلقائه بمسافة بسيطة. جسده كان ظاهرا بسبب إضاءة المصابيح الأمامية للسيارة، هرع رجلان وامرأة من سيارة بي أم دبليو، وهم يهتفون (دم المسيح)
أقسم بالله أن الجهد السريع لهذين الزوجين، السيد فيليب والسيدة فيرونيكا قد أنقذ أبي. كان يمكن أن يموت ميتة غبية، يقتل أثناء مطاردة عنزة. لقد خفت كثيرا، فلم يفتح عينيه لساعات. لقد حاولت استخدام هاتف أبي من ماركة نوكيا لإخبار أمي، ولكن رصيده كان صفرا، ولهذا أعطتني زوجة الرجل السيدة فيرونيكا هاتفها، فأخبرت أمي بكل شيء، مع التأكيد على الرحلة المضطربة في شوارع أكوري أثناء ملاحقة العنزة، لأنها يمكن أن تصاب بالهلع إذا رأت أبي على هذه الحالة المتردية التي سقط فيها. وقلت لها:(لو كنت هنا ما كنت ستدعينه يفعل هذا الشيء الغبي). وبمجرد أن سمعت الشهقات والتنهدات أدركت أنني نجحت في تحقيق هدفي، بأن أجبر أمي وأخي على العودة إلى المنزل. سمع الزوجان مكالمتي، سألاني لماذا يحتاج أبي إلى الأموال الطقوسية، وأخبرتهما بالسبب. وأخبراني أنهما يريدان مني أن أكون معهما في تلك الليلة في منزلهما، ولكني لم أرد أن أترك أبي وحيدا. أدرك أنه على قيد الحياة، ولكنه لم يفتح عينيه بعد. أعطاني الرجل مجموعة من الرزم المالية، وحتى لم يكلف نفسه بعدها، وأثناء مغادرتهما وعداني بالعودة في اليوم التالي، وأدركت انه أعطاني عشرين ألف نيرة تقريبا، فقد انتفخت جيوبي بالأموال، أكثر مما يكسبه والدي لمدة شهر كامل منذ أن انتهى عمله بالمصرف، فأدركت التفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء. لقد أخرج الرجل هذه الأموال ببساطة، وكأنها شيء هزيل، بالطريقة ذاتها التي كان أبي يخرج بها عشرين ورقة نقدية عندما كان لا يزال يعمل مصرفيا في البنك. لقد أصبحت مقتنعا أن الفقر هو الشر العظيم، كما كان أبي يعتقد دائما.
كنت نائما وأنا أشعر براحة في تلك الليلة، حتى بعد منتصف الليل بقليل، تم إيقاظي من الممرضة التي حضرت لتفقد سريان الجلوكوز، وقياس درجة حرارة أبي للمرة العشرين. بعد أن غادرت سمعت أبي يسعل، وأخرج تنهيدة كبيرة. ناديته، وكنت سعيدا لأنه أستفاق أخيرا. وفي الضوء الخافت نظر إليّ، وأدار رأسه للخلف في اتجاه النافذة. ثم بدأ في غناء تلك الأغنية، كان غناؤه مشوبا بدرجة من الحزن الحاد، لدرجة أنني تخيلت أنني سوف أصاب بالجنون. حاولت أن أناديه لكني خشيت أن يغضب مني. وعندما كان يكرر الأغنية ربما للمرة السابعة هززت سريره، واهتز كل شيء، وشاهدت في حالة من القلق زجاجة الجلوكوز تتمايل، وأحد أجزائها ينقر على الحامل الحديد مصدرا صوتا، ولكن أبي لم يتوقف حتى تلك اللحظة. عندما لم أستطع تحمله لفترة أطول من ذلك، غادرت الغرفة، ومشيت خطوات قليلة في الظلام. الصالة فارغة، ومملوءة بالروائح الكيماوية والمطهرات. كنت أتجول في دائرة عنابر المرضى، تليها غرفة مضاءة، حيث جلست ممرضتان ورجل يتحدثون ويضحكون، بينما تمدد آخر نائما على الأرض. عندما عدت للغرفة، وجدت أبي صامتا، وبدلا من صوت الأغنية الغبية كان هناك صوت الشخير.
خرج أبي بعد ثلاثة أيام. وقبل أن نعيده إلى المنزل، كونا- أنا وهو والزوجان الثريان- ثنائيا، وذهبنا إلى مطعم السيد بيجز، وكان هذا اقتراحي للزوجين الثريين: أن نترك أبي يشعر بالرضا عن نفسه، أن يأكل في مطعم عصري عالي المستوى. لم يكن يريد أن يبتسم، لأن هناك ورقة لاصقة على جانب وجهه، حيث سقط، ولكنك يمكنك أن تدرك أنه سعيد. قال الرجل الثري ونحن نتناول طعامنا:(السيد أكنيريل)، ورد أبي وهو يأخذ قطعة من الدجاج المقلي: (نعم سيدي)، قال الرجل: (أنا وزوجتي آسفان لما حدث، الحمد لله أنك بخير الآن)، ورد أبي: (الحمد لله)، قال الرجل:(نعم، نعم بالفعل، ما نريده الآن ليس فقط أن تتحسن، ولكن نريد أن نضمن سلامتك)، وعند هذه النقطة نظر الرجل إلى زوجته الجميلة التي كانت رائحتها أشبه برائحة بعض الزهور الجميلة التي تهبط من السماء. ابتسمت وأومأت، وأكمل الرجل:(قمنا بمشيئة الله بإنشاء محطة بنزين جديدة على طريق مدينة أوندو، بالقرب من الطريق السريع، كنا نبحث عن مدير. نريد أن نقدم لك هذا المنصب مقابل مائة وعشرين ألفا شهريا، بالإضافة إلى الفوائد).
توقفت عن الأكل، وأبي الذي كان ساكنا، حين نطق الرجل بالجملة الأخيرة، بدا انهياره، وبدأت حركة اهتزازه الغبية التي تتوقف فقط عندما تفرك أمي ظهره، وتريحه، أو تضع له الطعام في فمه. لا أعرف إن كان بسبب الإحراج من رؤية أبي يبكي في مكان عام على هذا النحو، أم بسبب دوافعي المجنونة، وصلت إلى ظهر أبي، ورفعت قميصه، وفركت له ظهره.
يبدو أن هذا الفعل أثر عليه. مسح عينيه بمنديل، وقال:(لا أعرف ماذا أقول)، وظل يكرر ذلك، وصافح الرجل الغني. بعد انتهاء الغذاء تحول أبي تماما، لقد انتقل من رجل فقير، ليس إلى رجل من أبناء الطبقة الوسطى، ولكن إلى رجل غني. فهو الآن يكسب ضعف ما كان يجنيه من عمله في البنك، بالإضافة إلى الأرباح والفوائد الأخرى. حتى أنا ساكا كنت أفتخر أنني أمتلك بعض المال السري.
بالطبع لا يمكنه تصديق ذلك. ومما زاد دهشته حين عدنا إلى البيت وجدنا أمي وأخي فولو في انتظارنا، وقبل أن يتمكن من فتح فمه، وخوض الجدل القديم، قالت أمي بالإنجليزية:(لا تتحدث عن هذا الهراء والموضوع التافه مع إيكزي، أرجوك، أرجوك، أرجوك. فقط انظر إلى نفسك. لو كنت هنا هل كنت سأسمح لك بالذهاب لمطاردة العنزة من أجل طقوس المال. إيه من فضلك اجلس بهدوء، بهدوء).
وبهذه الطريقة، مثل الحمل، جلس أبي ولم يثر المشكلة - على حد علمي - مرة أخرى. بطريقة ما، في تلك الليلة، تصالح والداي، وترك أبي الظلام وذهب إلى النور. كما لو أنني لم أفكر في الأمر طوال الوقت، أدهشني أن كل هذا حدث بسبب العنزة. في لحظة الصمت، انفجرت في نوبة مفاجئة من المرح، ضحكت بشكل هستيري، حتى انتبه الجميع وراحوا يسألوني لماذا أضحك. ولكن حتى قبل أن أخبرهم، انضمت إليّ أمي وفولو. ثم قلت لهما وضحك أبي أيضا. وبين مسح عيني والقتال لتهدئة نفسي، صرخت:(هذه هي قصة العالم الغريبة!)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب نيجيري من مواليد 1986، وأستاذ مساعد للأدب والكتابة الإبداعية بجامعة نبراسكا لنكولن، أشارت إحدى المراجعات النقدية لرواياته في نيويورك تايمز أنه وريث تشينوا تشابي، أهم أعماله: الصيادون 2015م، وأوركسترا الأقليات 2019م). وقد رشحت الروايتان لجائزة البوكر العالمية، ووصلتا للقائمة القصيرة.
** هي أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، ويمثلون 26% من سكانها، يوجد حوالي 30 مليون يوروبيا، في غرب أفريقيا، يعيش أغلبهم في نيجيريا، والبقية موزعة في بنين وتوجو وسيراليون.
*** اسم الشهرة للممثل النيجيري كريم أديبوجو، عرف بفيلمه الشهير (ملك الرب)، وحوله بعد ذلك إلى مسلسل تلفزيوني.
**** عملة نيجيرية، تحتوي النيرة الواحدة على مائة كوبو، وهي مساوية للقرش في العملة المصرية.