هل نحتاج للقراءة؟
سؤال يجب طرحه بتجرد...
الإجابة التي يفترض دائماً أنها صحيحة هي: نعم..
ولكن لماذا؟
الإجابة أيضاً تتبادر إلى الذهن بذات البساطة: لكي نفهم العالم ونفهم أنفسنا وبالتالي نستطيع أولاً اتخاذ القرار السليم وثانيا أن نمنع خداعنا...ثم في مرحلة أعلى لكي نطور أنفسنا..
هذا ما يبدو لنا إجابة بسيطة...لكن دعونا ننطلق من زاوية أخرى، ليست زاوية الوعي، إذ تتم السخرية اليوم من حديث الفلاسفة حول أن الوعي يزيد البؤس الإنساني. ورغم هذه السخرية، فهذه ليست غالباً الحقيقة. إذ أننا نفضل غالبا أن لا نصدق الحقيقة، أن لا نصدق بأننا ضعفاء، أو بأننا نتعرض لاستغلال، أو بأن الآلهة التي نعبدها ليست آلهة (في هذه اللحظة أذن المؤذن ذو الصوت القبيح كعلامة سلبية)، وأننا نرفض تصديق أن الآيدولوجيا التي نتبعها ليست مطلقة الصواب، وأن ابناءنا الذين وقعوا في إدمان المخدرات وقعوا فيه بمحض إرادتهم وليس بسبب أصدقاء السوء، وأن من تحبه يمقتك، وأن الوطن وهم، وأن العرق واللون والشكل لا يحددان مدى ذكاء الشخص أو بلادته، أو أننا لا نحمل دماءً ملكية مختلفة عن دماء الآخرين أو أن دولتنا ليست عظيمة كما نحب أن نسمع ذلك من الأجانب فنشعر بالفخر...الخ... أقول،ليس بسبب ذلك كله، ففي الواقع، حتى عندما نقرأ فنحن نقرأ بتحيز، بل أننا أساساً لا نملك حيادا مطلقاً عندما نمارس وظيفتنا الأساسية وهي الحكم على كل ما حولنا، بالخير أو الشر أو القبح أو الجمال أو البراءة أو الإدانة أو الحب أو الكره...الخ فالإنسان لا يمكن أن يكون محايداً، إذ أنه حتى عندما يحكم فهو يحكم من خلال تجربته الشخصية التي هي جماع عقله وقلبه وتاريخه وتكوينه التراكمي المادي والمعنوي...فلنتخيل أن شخص قزم سيحكم على شخصين في قضية مختلفة، أحدهما طويل والآخر قصير وليس قزماً، هو إما أن يتخذ موقفاً نفسياً من هذا أو ذاك، وبالتالي يتأثر بهذا الموقف عند الحكم. ولذلك يعتمد المحامون غالباً على التوجيه النفسي للمحلفين أو القاضي في النظم التي لا تعتمد نظام المحلفين، وقد أثبتت دراسات اطلعت عليها قبل قرابة خمسة عشر عاماً؛ أن أغلب لجان المحلفين تقف ضد الشركات الضخمة عندما يكون خصمها شخصاً فقيراً، وضد الرجل عندما يكون خصمه امرأة،...الخ. كما تؤثر الدعاية الإعلامية (السياسية أو الاقتصادية أو الحقوقية أو الاجتماعية) على رأي القاضي أو المحلفين، بالإضافة إلى شعبية المتهم كالفنانين المشهورين، وجنسيته عندما يكون مواطناً وخصمه أجنبي، ولونه عندما يكون خصمه مختلف اللون...الخ.
فالقراءة نفسها لا تجعلنا محايدين، لأننا عندما نقرأ، فنحن لا نقرأ بحياد، بل بانحياز، سواء انحياز مسبق أو أثناء القراءة أو بعدها، وعلى هذا، سنجد أن البعض يرفض أدباً ما لموقف مسبق من هذا الجنس من الأدب، أو يرفض قصيدة لأن فيها اسم أحد أقاربه، أو يشعر بعظمة القصيدة لمجرد أنها تشبه آلامه الخاصة...وهكذا... ولذلك فالقراءة قد لا تغير آراءنا كثيراً، بل تعززها، فعندما يقرأ ملحد ومؤمن، فهما يقرآن ما يعزز إلحادهما أو إيمانهما فقط. وعبر اختباري الشخصي لمن أعرفهم، لاحظت أنهم -بما فيهم أنا- لا نستطيع اكمال قراءة خبر مخالف لتوجهاتنا السياسية أو الرياضية أو حتى الأدبية، وقد يبلغ الأمر حد الخصومة والفراق الأبدي، وهذا ما يتطلب منا البحث في الديموقراطية المصدرة لنا كنظام مثالي، لفهم مدى توافقها مع محتوانا النفسي والذهني. ومن السخرية أيضاً أن البعض قد يقرأ الجملة السابقة برفض أو بارتياح مسبقين بحسب توافقها مع مصالحه.
أقول؛ القراءة من زاوية إيجاد الحقيقة، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من أهدافها، ففي الواقع نحن نتقبل الحقيقة التي نكون مسبقاً متقبلين لها..وعندما ننحرف عن ذلك فغالباً ما لا يكون الإنحراف عن حياد، بل له أيضاً دوافع تعزيزية للانحياز.
إذاً؛ فما هي أهمية القراءة؟
قبل عقدين تقريباً كتبت قصة عن الراعي آدم الذي يشتري مذياعاً فتتحول حياته لجحيم بسبب معرفة حقائق العالم، مما يدفعه للتخلي عن المذياع في آخر الفصة.. وهذا ما نحاول تجاهله الآن من التأمل في هذا المقال، بذلك التوجه المثالي ضد المعرفة، وننعطف قليلاً إلى منطقة عدم الرغبة (بإرادة حرة) في المعرفة، وبالتالي رفض القراءة. هنا نحن لا نطعن في الجهل، لأن طعننا نفسه لن يكون نزيهاً فنحن نفترض مسبقاً أننا لسنا جهلاء، رغم أننا لو استطعنا معرفة حدود علمنا فلن نستطيع معرفة حدود جهلنا، فهذا من قبيل الإستحالة. نحن نتحدث عن عدم توجه نحو القراءة، وهو توجه إرادي، يبدو لا إكتراثياً، كما هو حال الكثيرين الذين يرفضون الاهتمام بأخبار الرياضة أو الفن أو الممثلين دون تقديم مبررات..لكنهم في الواقع يعرفون أنهم لا يرغبون في ذلك على الأقل. ويمكننا أن نطلق عليه (التجاهل المعرفي)، وسنحاول البحث عن فوائد ذلك التجاهل المعرفي، إذ تبدو مساوؤه متبادرة إلى الذهن، فمصطلح (تجاهل معرفي) سلبية بذاتها، لكننا سننظر إلى مدى تواؤمها مع الطبيعة الإنسانية، لقد كانت هذه أولى مشكلة واجهت تحديد (النوع والكم) اللازمين لسبغ شخص ما بصفة (مثقف). ونتج عن ذلك الجدل المزمن حول أفضلية التخصص أم أفضلية الثقافة، وقبل ذلك بقرابة ألفين وخمسمائة عام كان فلاسفة اليونان يعتبرون الحب الأسمى هو حب المعرفة، وأفلاطون في جمهوريته يضع المعرفة في قمة هيكل جمهوريته، والجهل في قاع ذلك الهيكل التراتبي. وهو نفسه تقسيم الهندوسية لطبقات..بالرغم مم أنه - كما أسلفنا- لم يستطع أي من فلاسفة اليونان وحتى المعاصرين من تحديد سقف نوعي أو كمي يفصل ما بين المعرفة والجهل. وعلى هذا فمعرفة الزبال لجميع مكبات القمامة يتساوى بمعرفة الفيزيائي بفيزياء الكم. إذ لا يمكن أن نحدد المعرفة بمستواها النفعي دائماً، إذ المنفعة من معرفة الزبال قد تكون أكثر أهمية في أزمنة الأوبئة والطاعون من معرفة الفيزيائي. وقد تكون معرفة غاسل الصحون بكيفية الغسل الجيد للصحون كذلك أكثر أهمية من معرفة مهندس البناء، وفي أزمنة الجفاف والجوع فإن معرفة المزارع وحفار الآبار قد تكون أهم من معرفة الشاعر...الخ.. وقد تكون معرفة المثقف (المتعددة والناقصة بحكم تعددها) مهمة لتعميق تحليل ظاهرة من الظواهر عبر ربطها بمعارف متعددة، وذلك أكثر من معرفة متخصص في الظاهرة نفسها. إذاً؛ ففلسفة المنفعة ليست مطلقة لنتمكن عبرها من تحديد نوع وكم المعرفة، اللازمين للتفرقة بين المعرفة والجهل. على هذا فنحن نستطيع أن نرد الأمور إلى نصابها، عبر معيار شخصي، إذ القراءة بذاتها ليست مهمة وظيفياً، بل هي مسألة تحددها عوامل شخصية؛ رغبات، اهتمامات، شغف، خوف، حب، كره، ...الخ. فليس للقراءة أي أهمية في ذاتها.
سؤال يجب طرحه بتجرد...
الإجابة التي يفترض دائماً أنها صحيحة هي: نعم..
ولكن لماذا؟
الإجابة أيضاً تتبادر إلى الذهن بذات البساطة: لكي نفهم العالم ونفهم أنفسنا وبالتالي نستطيع أولاً اتخاذ القرار السليم وثانيا أن نمنع خداعنا...ثم في مرحلة أعلى لكي نطور أنفسنا..
هذا ما يبدو لنا إجابة بسيطة...لكن دعونا ننطلق من زاوية أخرى، ليست زاوية الوعي، إذ تتم السخرية اليوم من حديث الفلاسفة حول أن الوعي يزيد البؤس الإنساني. ورغم هذه السخرية، فهذه ليست غالباً الحقيقة. إذ أننا نفضل غالبا أن لا نصدق الحقيقة، أن لا نصدق بأننا ضعفاء، أو بأننا نتعرض لاستغلال، أو بأن الآلهة التي نعبدها ليست آلهة (في هذه اللحظة أذن المؤذن ذو الصوت القبيح كعلامة سلبية)، وأننا نرفض تصديق أن الآيدولوجيا التي نتبعها ليست مطلقة الصواب، وأن ابناءنا الذين وقعوا في إدمان المخدرات وقعوا فيه بمحض إرادتهم وليس بسبب أصدقاء السوء، وأن من تحبه يمقتك، وأن الوطن وهم، وأن العرق واللون والشكل لا يحددان مدى ذكاء الشخص أو بلادته، أو أننا لا نحمل دماءً ملكية مختلفة عن دماء الآخرين أو أن دولتنا ليست عظيمة كما نحب أن نسمع ذلك من الأجانب فنشعر بالفخر...الخ... أقول،ليس بسبب ذلك كله، ففي الواقع، حتى عندما نقرأ فنحن نقرأ بتحيز، بل أننا أساساً لا نملك حيادا مطلقاً عندما نمارس وظيفتنا الأساسية وهي الحكم على كل ما حولنا، بالخير أو الشر أو القبح أو الجمال أو البراءة أو الإدانة أو الحب أو الكره...الخ فالإنسان لا يمكن أن يكون محايداً، إذ أنه حتى عندما يحكم فهو يحكم من خلال تجربته الشخصية التي هي جماع عقله وقلبه وتاريخه وتكوينه التراكمي المادي والمعنوي...فلنتخيل أن شخص قزم سيحكم على شخصين في قضية مختلفة، أحدهما طويل والآخر قصير وليس قزماً، هو إما أن يتخذ موقفاً نفسياً من هذا أو ذاك، وبالتالي يتأثر بهذا الموقف عند الحكم. ولذلك يعتمد المحامون غالباً على التوجيه النفسي للمحلفين أو القاضي في النظم التي لا تعتمد نظام المحلفين، وقد أثبتت دراسات اطلعت عليها قبل قرابة خمسة عشر عاماً؛ أن أغلب لجان المحلفين تقف ضد الشركات الضخمة عندما يكون خصمها شخصاً فقيراً، وضد الرجل عندما يكون خصمه امرأة،...الخ. كما تؤثر الدعاية الإعلامية (السياسية أو الاقتصادية أو الحقوقية أو الاجتماعية) على رأي القاضي أو المحلفين، بالإضافة إلى شعبية المتهم كالفنانين المشهورين، وجنسيته عندما يكون مواطناً وخصمه أجنبي، ولونه عندما يكون خصمه مختلف اللون...الخ.
فالقراءة نفسها لا تجعلنا محايدين، لأننا عندما نقرأ، فنحن لا نقرأ بحياد، بل بانحياز، سواء انحياز مسبق أو أثناء القراءة أو بعدها، وعلى هذا، سنجد أن البعض يرفض أدباً ما لموقف مسبق من هذا الجنس من الأدب، أو يرفض قصيدة لأن فيها اسم أحد أقاربه، أو يشعر بعظمة القصيدة لمجرد أنها تشبه آلامه الخاصة...وهكذا... ولذلك فالقراءة قد لا تغير آراءنا كثيراً، بل تعززها، فعندما يقرأ ملحد ومؤمن، فهما يقرآن ما يعزز إلحادهما أو إيمانهما فقط. وعبر اختباري الشخصي لمن أعرفهم، لاحظت أنهم -بما فيهم أنا- لا نستطيع اكمال قراءة خبر مخالف لتوجهاتنا السياسية أو الرياضية أو حتى الأدبية، وقد يبلغ الأمر حد الخصومة والفراق الأبدي، وهذا ما يتطلب منا البحث في الديموقراطية المصدرة لنا كنظام مثالي، لفهم مدى توافقها مع محتوانا النفسي والذهني. ومن السخرية أيضاً أن البعض قد يقرأ الجملة السابقة برفض أو بارتياح مسبقين بحسب توافقها مع مصالحه.
أقول؛ القراءة من زاوية إيجاد الحقيقة، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من أهدافها، ففي الواقع نحن نتقبل الحقيقة التي نكون مسبقاً متقبلين لها..وعندما ننحرف عن ذلك فغالباً ما لا يكون الإنحراف عن حياد، بل له أيضاً دوافع تعزيزية للانحياز.
إذاً؛ فما هي أهمية القراءة؟
قبل عقدين تقريباً كتبت قصة عن الراعي آدم الذي يشتري مذياعاً فتتحول حياته لجحيم بسبب معرفة حقائق العالم، مما يدفعه للتخلي عن المذياع في آخر الفصة.. وهذا ما نحاول تجاهله الآن من التأمل في هذا المقال، بذلك التوجه المثالي ضد المعرفة، وننعطف قليلاً إلى منطقة عدم الرغبة (بإرادة حرة) في المعرفة، وبالتالي رفض القراءة. هنا نحن لا نطعن في الجهل، لأن طعننا نفسه لن يكون نزيهاً فنحن نفترض مسبقاً أننا لسنا جهلاء، رغم أننا لو استطعنا معرفة حدود علمنا فلن نستطيع معرفة حدود جهلنا، فهذا من قبيل الإستحالة. نحن نتحدث عن عدم توجه نحو القراءة، وهو توجه إرادي، يبدو لا إكتراثياً، كما هو حال الكثيرين الذين يرفضون الاهتمام بأخبار الرياضة أو الفن أو الممثلين دون تقديم مبررات..لكنهم في الواقع يعرفون أنهم لا يرغبون في ذلك على الأقل. ويمكننا أن نطلق عليه (التجاهل المعرفي)، وسنحاول البحث عن فوائد ذلك التجاهل المعرفي، إذ تبدو مساوؤه متبادرة إلى الذهن، فمصطلح (تجاهل معرفي) سلبية بذاتها، لكننا سننظر إلى مدى تواؤمها مع الطبيعة الإنسانية، لقد كانت هذه أولى مشكلة واجهت تحديد (النوع والكم) اللازمين لسبغ شخص ما بصفة (مثقف). ونتج عن ذلك الجدل المزمن حول أفضلية التخصص أم أفضلية الثقافة، وقبل ذلك بقرابة ألفين وخمسمائة عام كان فلاسفة اليونان يعتبرون الحب الأسمى هو حب المعرفة، وأفلاطون في جمهوريته يضع المعرفة في قمة هيكل جمهوريته، والجهل في قاع ذلك الهيكل التراتبي. وهو نفسه تقسيم الهندوسية لطبقات..بالرغم مم أنه - كما أسلفنا- لم يستطع أي من فلاسفة اليونان وحتى المعاصرين من تحديد سقف نوعي أو كمي يفصل ما بين المعرفة والجهل. وعلى هذا فمعرفة الزبال لجميع مكبات القمامة يتساوى بمعرفة الفيزيائي بفيزياء الكم. إذ لا يمكن أن نحدد المعرفة بمستواها النفعي دائماً، إذ المنفعة من معرفة الزبال قد تكون أكثر أهمية في أزمنة الأوبئة والطاعون من معرفة الفيزيائي. وقد تكون معرفة غاسل الصحون بكيفية الغسل الجيد للصحون كذلك أكثر أهمية من معرفة مهندس البناء، وفي أزمنة الجفاف والجوع فإن معرفة المزارع وحفار الآبار قد تكون أهم من معرفة الشاعر...الخ.. وقد تكون معرفة المثقف (المتعددة والناقصة بحكم تعددها) مهمة لتعميق تحليل ظاهرة من الظواهر عبر ربطها بمعارف متعددة، وذلك أكثر من معرفة متخصص في الظاهرة نفسها. إذاً؛ ففلسفة المنفعة ليست مطلقة لنتمكن عبرها من تحديد نوع وكم المعرفة، اللازمين للتفرقة بين المعرفة والجهل. على هذا فنحن نستطيع أن نرد الأمور إلى نصابها، عبر معيار شخصي، إذ القراءة بذاتها ليست مهمة وظيفياً، بل هي مسألة تحددها عوامل شخصية؛ رغبات، اهتمامات، شغف، خوف، حب، كره، ...الخ. فليس للقراءة أي أهمية في ذاتها.