حاولت الدراسات النقدية - قديمها وحديثها - سبر أغوار النص الأدبي، والكشف عن كوامنه وعوالمه التي تتخفى فيه، بصورة تسحر متلقيه، وتجعلهم يتساءلون عن سره الخفي. وقد درس ذلك في متون نصوصها المختلفة. إلا أن المقامة وإن كانت في الدرس العربي قد لقيت من الاهتمام والعناية عند القدماء، من حيث التداول والتقليد والمحاكاة، إلا أنها لم تلقَ في الدراسات الحديثة حظًا وافرًا من مداخل نقدية حديثة.
وعلى الرغم من قيمة كتاب مقامات الحريري، لأبي محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، في نظر كثير من الدارسين، ما تزال البحوث في شأنه ضئيلة، وبخاصة عند النظر إليه بوصفه خبرًا ثقافيًا أدبيًا، ولد ضمن أنساق متباينة، شكلته وبنت متنه وجوهره، وأفضت إلى خطاباته المتعددة، في ثقافة تولد في الخبر، وتتجدد به وفيه.
وكتاب الباحث الدكتور علي فرحان «مقامات الحريري.. حجاجية السرد والنسق الثقافي، دراسة في البنية والخطاب»، الصادر مؤخرًا عن الجامعة الأهلية في مملكة البحرين، إضافة يشير إليها الدارسون في المكتبة العربية بالبنان، وإضاءة في ركن من زوايا ذلك المنتج الضخم في تراثنا الأصيل، أجابت على عديد من التساؤلات.
وقد بيَّن رئيس قسم اللغة العربية والدراسات العامة في الجامعة الأهلية، د. فرحان، في مقدمة كتابه، أن اختياره مدونة من الثقافة العربية القديمة، «إنما كان لأن الثقافة العربية القديمة تكون نظامًا تعددت أجناسه، موضوعاته، وأساليبه، واتجاهاته، لكن البحث فيها لا يزال بحاجة إلى جهود كبيرة ينبغي أن تصرف في دراستها، فلا غرابة إذن أن يعلق همي بوصف أحد أنظمتها (المتمثلة في المقامة)، والكشف عن أسس بنائه.
ولعل هذا المدخل يفتح النظر إلى دراسة المقامة ضمن علاقة المقال بالمقام، وإلى دراسة خطة المقامة ووسائل التخاطب فيها، إلى البحث في الأبنية المجردة التي يمكن أن ترد إليها موضوعات المقامات وإلى الكشف عن قوانين الخطاب القصصي في المقامة، وتحديد أصوله وفروعه.
وبما أن الثقافة العربية تكاد تكون ثقافة خبر، وأن المقامة ارتبطت منذ بداياتها بالخبر، وتطورت عنه، وأن كما كبيرًا من هذا الجنس يشغل مساحة لا يستهان بها في الثقافة العربية، ويعد علامة تكشف عن أنساق ثقافية تسود المجتمع العربي آنذاك، فإن إهمال دراسته ترك فراغًا معرفيًا ينبغي أن ينال حقه من الدرس، وأن يلتفت إليه بوصفه أنموذجا تكاثر في الثقافة العربية بصوره المتعددة، ووظائفه وخصائصه المتباينة».
وقد وجد د.فرحان في مقامات الحريري، المدونة الأدبية التي ينبغي أن يوجه إليها آلته البحثية. فجعل بحثه في بابين: الأول: وعنونه بـ «البنية والنسق الثقافي دراسة معرفية». وتناول هذا الباب الإطار النظري للبحث، وقسمه إلى فصلين هما: البنية والنسق الثقافي، وعلاقتهما بمقامات الحريري. الثاني: مقامات الحريري بوصفها مادة ثقافية.
أما الباب الثاني: فعنونه بـ «مقامات الحريري بوصفها دالاً». وقسمه إلى فصلين، تناول في الأول: البنية الشكلية للمقامات عند الحريري من حيث بنيتها الأصلية، والبنى الفرعية التي تحكم السرد عنده. أما الثاني: فتناول الخطاب في مقامات الحريري من حيث خصائصه، ووظائفه الحجاجية والتداولية، وفق أنساق ثقافية سائدة، وأنساق ثقافية مضادة.
وختم الباب الثاني بدراسة نصية تحليلية لثلاثة نصوص من مقامات الحريري، ممثلة لبنية العنصر المهيمن في المقامات كل على حده.
وانتقى د. فرحان من الأدوات البحثية ما ييسر عليه مقاربة مقامات الحريري بصورة تكشف عن مكونات هذا النص ومحدداته الثقافية، وأنساقه المضمرة فيه، وجمالياته الفنية، فكان أن استعان بثلاثة مناهج للبحث أولها البنيوية، للكشف عن البنى والأنساق المتحكمة في مدونة الحريري (المقامات)، وثانيها النقد الثقافي، للكشف عن المحددات والبنى المضمرة التي تؤطر هذه المقامات، وثالثها: نقد الخطاب للوقوف على البنية الخطابية في المقامات، وطرائق القول، ووظائفه الحجاجية في المقامات.
ودرس المقامات بوصفها نصًا ثقافيًا يتنزل ضمن ما هو ثقافي لمجتمع ما، فكانت أداة النقد الثقافي للكشف عن هذا الجانب من المقامات. ودرسها بوصفها دالاً، فكشف عن بنيتها النصية في ضوء معطيات النظرية البنيوية، ثم كشف عن بنيتها الخطابية في ضوء نظريات تحليل الخطاب، ونظرية الحجاج في البلاغة الجديدة.
وأفضت دراسة د. فرحان إلى مجموعة من الملاحظات، أجملها في: خضوع نص المقامات عمومًا، ونص الحريري على الخصوص، إلى صور عديدة من التلقي تمثلت في التلقي الانبهاري، والتلقي الاقصائي، والتلقي المحاكي. وبيَّن أن المقامة تمثل جنسًا أدبيًا مستقلاً، على الرغم من تناصه مع مجموعة من النصوص النثرية والشعرية، والموروث الشعبي الحاضر في ضمير الجماعة التي تصنع الخطاب أو تتلقاه.
وأكد أنه لا شيء في نصوص المقامات ورد اعتباطيًا، فكل ما في النص له وظيفة. وأن المقامات عمل إبداعي فريد لم يستوفِ حقه من الدراسة والبحث، وما زال فيه من المداخل ما يؤهله لأن يكون مدونة أدبية مبدعة، تحمل الكثير من الإمكانات البحثية.
وبالنسبة للنتائج: خلص الباحث إلى تأثر بنية المقامات بمجموعة من المحددات والأنساق الثقافية، وقد تمظهرت في وظائف الراوي، والمروي عليه، والمؤلف (الواقعي والضمني)، والشخصية، وفي الخطاب.
وأوضح أن المقامات طرحت مجموعة من الأنساق الثقافية، فاتسقت مع بعضها، وعارضت بعضها الآخر، إما تصريحًا أو تلميحًا، إذ تحمل مقامات الحريري خطابًا تداوليًا، يتسلح بالحجاج، بغية التأثير في متلقيه وإقناعه به.