المشهد الأول:
خارطة الخليج مجسمة.. الكاميرا تزحف كما لو تطارد شيئا ناحية الشمال.. تصعد بتوجس حتى تصطدم بحقل نوروز(*)، يبدو كالجرح الغائر، ينزف سائله الأسود، يبدأ السائل بتثاقل وبطء يملأ شبه البحيرة التي يشكلها الخليج ، يغطيها تماما.. ثم يمضي ليكتسح المناطق جنوبا، عابرا مضيق هرمز الى باب خليج عمان.. كل ذلك يتم بصمت، صمت ثقيل قاتل.
المشهد الثاني:
(كاتب السيناريو يجلس الى مكتب متواضع ، يخلع نظارته بأمر من المخرج، حتى لا تعكس الإضاءة)
الكاتب: أصدقائي .. هذا ليس سيناريو بالمعنى المتعارف عليه، هذه محاولة، مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة، لم يكن بالإمكان كتابة قصة، فالقصة في مفهومي لابد أن تخلق جوها بأدواتها، وفي ظل هذا الزيت (يشير الى المجسم السابق) لايمكن لأي قصة إلا أن تكون اتكاءة على مثل هذا الحدث.
صوت المخرج: يكفي، سنعود إليك مرة أخرى.
الكاتب: مهلا.. لم أنه كلامي..
صوت المخرج : إذن أسرع..
الكاتب: كما تلاحظون ، لأنني قليل الدراية بفن كتابة السيناريو، فأنا مضطر لقبول مقاطعات المخرج لي، على أية حال السيناريو بما يمتاز به من تقطيع وانتقاء وتوليف لم يعد أسلوب كاتب التلفزيون والسينما فقط، صار أسلوب المتلقي أيضا، به يضمن الاستغناء عن هضم الحشو والبلاغيات الساكنة، ويستمتع بالمشاهد الدرامية والحركة المتلاحقة.
صوت المخرج: أسرع..
الكاتب: (يسرع في حديثه) بل السيناريو لم يعد شكلا فنيا وحسب، بل صار أسلوبا في النظر الى الأمور، تخيلها ، التنبؤ بها، ابتداء من الحب وانتهاء بالحرب.
صوت المخرج (في ضيق) أسرع..
الكاتب: ( في بطء ) إنها مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة.
المشهد الثالث:
طابور طويل من الرجال والنساء والأطفال، طابور طويل جدا يمتد إلى حد الأفق، بيد كل واحد منهم زجاجة مياه معدنية، الزجاجات التي بيد الأطفال من الحجم الصغير، تبدو عليهم إمارات الإعياء من الوقوف الطويل ، تظللهم غيمة سوداء، وجو حار خانق، ورطوبة ترشح على أجسادهم، رطوبة لا قبل لهم بها، ذات رائحة لا تخطأ، لا أحد منهم ينبس بكلمة، حتى الأطفال، بين لحظة وأخرى يختلس أحدهم من زجاجته قطرات، بضع قطرات، يبلل ريقه بها، ويحاذر أن يلحظه رجال الشرطة. رجال الشرطة يلبسون خوذا وكمامات ويحملون على ظهورهم خزانات الأوكسجين، ويمسكون بهراواتهم يهددون بها الواقفين.
تتساقط رذاذات من المطر، يهمهم الطابور، تدب فيه الحياة.. ترتفع الوجوه وتنفتح الأفواه، ثم ترتعد باصقة ما تلقفته .. غير مصدقة.. قطرات زيت من السماء !.
المشهد الرابع:
المذيع التلفزيوني: بصفتكم أحد المتفاوضين، هل لكم أن تطلعوا السادة المشاهدين على آخر عرض ناقشتموه في اللجنة الخليجية المشتركة؟.
المسؤول: آخر عرض تلقيناه من فرنسا، وهو في الحقيقة عرض مشجع للغاية، إذ مقابل حصولهم على مخزون بئر (بدون صوت) وبئر (بدون صوت أيضا) مستعدون لاستقبال أربعمائة ألف مواطن خليجي للحياة بصفة دائمة في منطقة فرساي، وهي منطقة قد زرتها أكثر من خمس مرات، وأعجبت بها جدا فمناظرها خلابة ورائعة و..
المذيع التلفزيوني: (محاولا إعادة المسؤول الى الموضوع الأصلي) ماهي مزايا هذا العرض عن غيره من العروض؟.
المسؤول: مزايا هذا العرض، إنه أرخص من العروض السابقة، حيث تبلغ حياة المواطن الخليجي الواحد هناك أربعمائة ألف برميل من النفط في حين إنه في العروض الأخرى كان سيكلفنا خمسمائة برميل. علاوة على تسهيلات جديدة إضافية.
المذيع: هل لنا أن نعرف بعضها؟.
المسؤول : رغم أن الموضوع لازال قيد المناقشة والتشاور بين الأشقاء، إلا إنني أستطيع الإفصاح بأن من ضمن التسهيلات الجيدة في هذا العرض، إقامة محطة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية مع بث البرامج وعلى الأخص المسلسلات العربية يوميا وفي نفس الساعة التي تعود عليها مواطنونا الكرام.
المشهد الخامس:
نتوء كالجبل، له قمة سوداء، رويدا رويدا تبتعد الكاميرا ليبرز إلى جانبه أكثر من نتوء، تبتعد الكاميرا أكثر، تصغر النتوءات ولكنها تنتشر على مساحة أكبر، المساحة هي صفحة خد فتاة في السابعة عشرة من عمرها، واقفة في الطابور الطويل جدا.
المشهد السادس:
شخص يلبس بالطو لم يعد أبيض، تتدلى من رقبته سماعة الأطباء، يخلع نظارته بناء على أوامر المخرج ويواجه الكاميرا:
الطبيب: هذه البثور التي رأيتموها على خد الفتاة، هي نتيجة تفاعل الأتربة والغبار مع الغاز المتولد بسبب الحرارة عن الزيت الذي غطى البحر.
صوت المذيع: ماهي مخاطر هذه البثور؟.
الطبيب: في الحقيقة، لا رأي قاطع حتى الآن، أنت تعلم إنها حالة نواجهها لأول مرة، ولم يتسن لنا في أوضاعنا هذه إجراء تجارب مخبرية توصلنا إلى نتائج حاسمة بشأنها، ولكن ما ننصح به في الوقت الحاضر هو تحاشي البثور، رغم صعوبة مثل هذا التحاشي في الواقع.. واستعمال المرهم، والذي نرجو أن يتم الاقتصاد في استخدامه، كاقتصادنا في شرب مياه الشرب ، فالكمية محدودة، والتوزيع يتم وفق قواعد صارمة لضرورات لاتخفى على أحد!.
المشهد السابع:
الكاميرا في حركة سريعة كما لو كانت ستشق سطح الزيت.. الزيت يغطي الشاطئ ، تتوقف الكاميرا قريبة جدا من السطح لتبرز سماكته، تخثره، تقذف حصاة، لكنها لا تغوص بسرعة، وإنما تنزل ببطء، ولاتنداح لها دوائر، بل يظل السطح ساكنا.
تصعد الكاميرا، تبدو على البعد بواخر عديدة عاجزة عن الحركة، وليس هناك ثمة طير نورس، وحتى الأفق المظلم تحت ثقل الغيمة التي لاتحركها ريح، يتمدد هذا السطح الأسود الساكن، ثقيلا راكدا، من بعد تتصاعد غازات ملونة، ولا يبدو هنا أو هناك ثمة شيء يتحرك، سكون وصمت وهدوء لا ينتظر عاصفة.
(يمكن مزج صور من البحر في أحسن حالاته وصحوه يتصارع مع السواد القادم، حتى يسيطر الأخير ويسود).
المشهد الثامن:
عودة إلى الطابور الطويل جدا، حركة الكاميرا تمر بسرعة به، تستعرضه، وجوه مملوءة بالبثور السوداء، متداعية بإعياء وباستسلام غريب كالمنومة، تستمر الكاميرا لنصف دقيقة في سرعتها، ثم تخففها حتى تتوقف عند شاب وسيم لم يسلم من البثور، لكنه بجسمه الرياضي يبدو أكثر تحملا من الآخرين، وزجاجته لم تتجاوز مياهها النصف إلا بقليل عكس البقية، الذين لم تتبق في زجاجاتهم إلا قطرات معدودة، تقترب منه الكاميرا أكثر يلتفت إليها، يتطلع بدون اهتمام، لاتعبير على وجهه.
صوت من خارج الكادر: كيف حصلت على مكانك في هذا الطابور الطويل؟.
الشاب: رغم أني أسكن قرب المطار . فقد اضطررت أن أسير على قدمي خمسة عشر كيلومترا حتى حصلت على هذا المكان.
الصوت: هذا يعني إنك ستعود تمشي المسافة مرة أخرى عائدا؟.
الشاب: وببطء كما تلاحظ، فكل ربع ساعة نتحرك خطوة.
الصوت: لماذا تصطفون في هذا الطابور؟
الشاب (يبدو على وجهه الاستغراب لأول مرة، يتطلع الى حامل الكاميرا، يبدو أن الآخر يشجعه على الحديث) لا أصدق أنك لا تدري، من أي جحر خارج أنت؟.
الصوت: (يحثه) هيا.. أخبر المشاهدين، إنهم قد لا يدرون.
الشاب: (يحملق في الكاميرا، تختلج شفتاه قليلا، تعاوده لامبالاته) نحن ذاهبون الى الخارج، ستحملنا الطائرات إلى إحدى الدول الأوربية، سنستوطن هناك بعد هذا الذي حدث.
الصوت: ماذا تحمل؟ لا أراك تمحل متاعا أو شيئا.
الشاب: (يرفع زجاجة المياه المعدنية وجواز سفره) ماعدا هذين لا يحق لك حمل شيء.. لعلمك سوف نشحن حتى في الأماكن المخصصة للأمتعة، هكذا قالوا لنا.
الصوت: ماذا كنت تعمل؟ ماهي اهتماماتك قبل أن يحدث ما حدث؟
الشاب: (تغرورق عيناه) أنا.. كنت موظفا في أحد بنوك الأوفشور، أتقاضي راتبا كبيرا، كنت لاعب كرة مشهور أيضا، لي علاقات عديدة ،بجوازي هذا تم تسجيل آلاف الآلاف من الأسهم (يتنهد بحسرة) كانت الدنيا مقبلة علي.. الفتيات تملأ مفكرتي أرقام تليفونا تهن، وفي سيارتي قضيت ساعات لا تنسى (يتنهد) كانت الدنيا مقبلة علي..
(يمكن عرض لقطات سريعة أو بأسلوب اللقطات الثابتة المتتالية للشاب في أوضاعه وحياته السابقة).
المشهد التاسع:
منخفض من الأرض بين جذوع نخيل ، يبدأ الزيت في التسرب، مغطيا الأعشاب الطفيلية، حتى لا يبقى منها شيئا، ترتفع الكاميرا إلى رؤوس النخيل فإذا هي محروقة منذ زمن، بلا سعفات.
المشهد العاشر:
خبير من اللجنة المنحلة لحماية البيئة البحرية، ترمش عيناه باستمرار بشكل لاإرادي، يفشل المخرج في جعله يتحدث مواجها الكاميرا، فيصوره وهو يتحدث في وضع جانبي.
الخبير: في الحقيقة، لازلت حتى هذه الساعة غير متأكد من سمك طبقة الزيت التي تغطي الخليج كله الآن، فبعض التقارير تقول انه قدم وأخرى تقول بأنه قدمان، وتقرير يقول إنه بلغ في بعض المناطق أكثر من متر.
الصوت: وما الفارق بين هذا وذاك وذاك؟.
الخبير: (كمن يتلذذ للسؤال بهزات رأسه) الفارق كبير، بحجم سمك طبقة الزيت تكون الخطورة، إذا كان قدما مثلا فالأمل كبير في أن يتبخر جزء كبير منه ثم يسهل امتصاص المتبقي بوسائلنا.. كما أن هذا السمك لا يشكل خطرا على الكائنات البحرية إذا تم امتصاصه بسرعة.
الصوت: وإذا كان سمكه مترا أو أكثر؟.
الخبير: عندها لا تنفع كل المحاولات.. مثل هذا السمك يعني امتناع الأوكسجين عن الكائنات البحرية و..
الصوت: ماذا عن الكائنات غير البحرية.. ماذا عن الناس؟.
الخبير: (في حرج شديد) في الحقيقة أنا لست خبيرا إلا في الكائنات البحرية.. آسف.
المشهد الحادي عشر:
(الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني)
الكاتب: عفوا لتدخلي، إنها فرصة لأن أقول شيئا، ورغم أن ذلك يعتبر خروجا على قواعد السيناريو، فإنني وبحكم اهتماماتي لا أملك إلا أن أتدخل هنا وأبدي ملاحظة، هي في الواقع ليست ملاحظة، هي صورة أرجو أن يستطيع المخرج تحقيقها.
صوت المخرج: أسرع .
الكاتب (لا يهتم لاستعجال المخرج ويواصل كما بدأ) الصورة أن يتم التوليف بين ما قاله خبير البيئة البحرية بخصوص طبقة الزيت وبين سمك (طبقة) الاستهلاك ومظاهر الرخاء الجوفاء التي غطت على الأحاسيس وبلت المشاعر، فما عادوا يهتمون بما يحدث للآخرين، زادت البلادة فلم يعودوا يهتمون بما سيحدث لهم غدا، صاروا كقطيع من النمل خدره السكر الكثير و…
صوت المخرج: (مقاطعا) يا أستاذ، هذا سيناريو لا يحتمل صورك البلاغية هذه وتشبيهاتك.
الكاتب (مواصلا بعناد) ما حدث قبل طوفان الزيت هذا كثير وكان بإمكانهم أن يفعلوا شيئا للآخرين، لأنفسهم، ولكنهم استمرءوا العيش بلا مسؤولية.
صوت المخرج: يا أستاذ لاتعمم، ليس كلهم عاشوا رخاء وسعادة كما تصورهم.
الكاتب : دعنا نسأل صديقنا عالم الاجتماع الذي يجلس معنا (الكاميرا تدور في الأرجاء، فلا تجد أحدا، تعود الى الكاتب).
الكاتب: (يتحدث كما لو كان عالم الاجتماع) في الواقع أن صديقي الكاتب، لم يعني أن الجميع عاش في رخاء ورفاهية، ولكن الجميع عاش أمراض الرخاء، بمعنى أن الرخاء قد لا يكون شاملا، لكن أمراضه هي التي تسود حتى الطبقات الفقيرة، فالمضاربات بالأسهم مجرد مثال بارز، والأمثلة الأخرى كثيرة تبدأ من الاهتمام العفوي باختيار لون طقم الصحون وتنتهي بالتطلع إلى لون سيارة مشتهاة..
صوت المخرج: يا أستاذ اختصر.. هذا سيناريو..
الكاتب: (يحاول أن يكبت ضيقه من المخرج) تستطيع أن تستفيد من الأرشيف، أعرض مشاهد بدلا من مقاطعتي، مشهد العامل الهندي الذي يعود الى قريته النائية المحرومة من الكهرباء ولا يصلها إرسال المحطات حاملا تلفزيونا ملونا، مشهد صفوف من الأزواج الذين يجلسون عند عتبات البيوت في سيريلانكا يحتسون الخمرة صباح مساء، ينتظرون حوالات النقود من زوجاتهم العاملات في الخليج، والأطفال بلا أمهات، مشهد الأراضي الزراعية التي هجرها الفلاحون في مصر وسوريا وغيرها يلهثون وراء السراب في المياه الدافئة.
صوت المخرج: يا أستاذ.. يا أستاذ..
الكاتب: إن مجتمعا كمجتمع الخليج لم يشهد له العالم مثيلا في يوم مضى، ولن يشهد..
صوت المخرج: (صارخا) ستوب..
المشهد الثاني عشر:
جولة سريعة بالكاميرا في شوارع البنوك والمحلات التجارية الكبرى، السيارات معطلة بشكل فوضوي، بعضها توقف عند تقاطع طرق، البعض الآخر صعد الى الرصيف.
الكاميرا تدخل سوبر ماركت، مجموعة من العمال الآسيويين تفتش بين المحتويات عن زجاجة مياه معدنية، تبعثر العلب، تقذف بها الى مختلف الجهات حنقا، تكسر زجاج الواجهات الكبيرة.
وجه عامل منهم، قريب من الكاميرا، غاضب جدا ، يصرخ، يبدأ يلاحق حامل الكاميرا، ويركل كل ما يعترضه.
المشهد الثالث العاشر:
مسؤول يواجه الكاميرا، بعد أن ينزع كمامته ويشير للمخرج، أمامك ثلاث دقائق فقط.
المسؤول يبدو كمن يستمع الى سؤال لا يسمعه غيره.
المسؤول: إجابتي على سؤالك بكل بساطة، أن كل دولة مسؤولة بالمقام الأول عن رعاياها، إن الذين وفدوا الى البلاد للارتزاق تتحمل مسؤولية رعايتهم في مثل هذه الأوضاع دولهم، ذلك أمر بديهي، ونحن كما أخبرتك نعطي الأولوية لأبناء الوطن، والموقف كما تلاحظ صعب للغاية، فما من وسيلة غير الطائرات عندنا، والبحر لم يعد صالحا للملاحة، ولو تحلى الوافدون الأجانب بالصبر وضبط النفس قليلا لجاء دورهم. (يتوقف المسؤول لحظة، كمن يستمع إلى سؤال لا يسمعه غيره، ثم يواصل بعد ذلك) في الحقيقة، وكما تعرف عن الأوربيين والغربيين بشكل عام هم أكثر الشعوب رعاية من قبل حكوماتهم، لهذا يكونون أول المهاجرين من أي منطقة تتعرض للأخطار، ونحن هنا لم نقرر الهجرة الجماعية إلا في اليومين الأخيرين، وذلك بعد أن تأكدت لنا استحالة الحياة هنا، لقد توقفت محطات تحلية المياه وتسرب الزيت إلى كل الآبار الارتوازية، ونحن في الحقيقة نوزع على الجميع حتى العمال الآسيويين زجاجات المياه المعدنية، بواقع زجاجة واحدة لك فرد كل أربع وعشرين ساعة، أنا مقدر صعوبة الموقف، وحرارة الجو، معذرة (يفتح غطاء زجاجته ويرشف رشفة صغيرة).. أنت ترى كل شيء غدا مشلولا، لا ماء، لا كهرباء، لا بنزين للسيارات.. لا.. لاشيء سوى الطائرات تحمل الأفواج بعد الأفواج .. لم يعد هذا الخليج صالحا إلا لاستخراج النفط الخام، معذرة لا أستطيع البقاء هنا أكثر (يضع الكمامة على فمه وأنفه ويدير للكاميرا ظهره خارجا، على ظهره يحمل خزان أوكسجين أنيق).
المشهد الرابع عشر:
لقطات عامة لشوارع مهجورة، محلات مبعثرة المحتويات ، سيارات متوقفة في كل مكان، لاشيء يتحرك.. حتى ولاقطة تبحث بين القمامة والبقايا التي تناثرت في الشوارع.
لقطات عامة للبحر الذي تخثر سطحه ,أسود حتى الأفق الحالك، لا حركة في أي مكان.
كل اللقطات تبرز آثار الإنسان الذي غادر على عجل.. بلا أمل في العودة.. وصمت ثقيل.. وقفر لا نهاية له.
المشهد الخامس عشر:
الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني.
الكاتب: ما شاهدتموه ليس هو ما أردت أن أقوله، فرغم إنها محاولة لقول شيء بالمناسبة، إلا أن الهاجس الذي في نفسي لازال أفضل بكثير من هذه المحاولة.. فإلى جانب أن المخرج لم يفهمني، فإنه أيضا لم يستطع إبراز ما هو وراء هذه المشاهد، توقف عند سطحها، وكان مزجه لتكوين الصور السينمائية مفتعلا.. وتلك هي مشكلة الإبداع عندما يكون مشتركا.. و..
صوت المخرج: (محتجا) تكتب سيناريو لأول مرة وتبدأ في التنظير.. ومتى؟.. في الوقت الذي تغطي بقعة الزيت أجساد الناس في الخليج!..
الكاتب: (مبتسما بانتصار) هذا هو الفرق بيني وبينه، أنا أطمح الى عمل فني يتجاوز الأحداث، لا يتكئ عليها.
صوت المخرج: (مقاطعا) اللعنة..
الكاتب: (مستطردا) حتى العنوان، كنت أفضل أن يكون" عندما يبلغ الزيت الزبى".. ولكن المخرج أصر على العنوان الآخر.. كما إنني كنت أتوق كثيرا الى أن أختم هذا العمل بمشهد لرجل بحر عجوز يجلس عند الشاطئ ينظر بحسرة، ويرفض الانضمام الى الطابور الطويل وهجر الوطن، ومشهد آخر لفلاح يسند ظهره الى جذع نخلة محروقة ويرفض أن يترك أرضه.. كل ذلك كان مدار خلاف ونقاش.. كان المخرج يصر على أن هذا كله قد يصلح للقصص ولكنه بالتأكيد لا يصلح لمشاهد سيناريو، أصارحكم القول: إنني آسف.. آسف جدا لأنني اشتركت في هذا العمل..
صوت المخرج (غاضبا، مقاطعا) اللعنة ألف مرة.. ستوب.
الكاتب (مواصلا حديثه الذي لا يسمع الآن. فيما بدا السائل الأسود يملأ الشاشة من أسفل، رويدا رويدا، ليخفي صورة الكاتب في النهاية).
* حقل نوروز حقل نفط بحري إيراني في الخليج العربي قصف خلال الحرب العراقية الإيرانية مما هدد المنطقة بتلوث واسع .
قام أمين صالح بإعداد سهرة تلفزيونية من وحي وأجواء هذا النص وأخرجها لتلفزيون البحرين عبد الله يوسف .
خارطة الخليج مجسمة.. الكاميرا تزحف كما لو تطارد شيئا ناحية الشمال.. تصعد بتوجس حتى تصطدم بحقل نوروز(*)، يبدو كالجرح الغائر، ينزف سائله الأسود، يبدأ السائل بتثاقل وبطء يملأ شبه البحيرة التي يشكلها الخليج ، يغطيها تماما.. ثم يمضي ليكتسح المناطق جنوبا، عابرا مضيق هرمز الى باب خليج عمان.. كل ذلك يتم بصمت، صمت ثقيل قاتل.
المشهد الثاني:
(كاتب السيناريو يجلس الى مكتب متواضع ، يخلع نظارته بأمر من المخرج، حتى لا تعكس الإضاءة)
الكاتب: أصدقائي .. هذا ليس سيناريو بالمعنى المتعارف عليه، هذه محاولة، مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة، لم يكن بالإمكان كتابة قصة، فالقصة في مفهومي لابد أن تخلق جوها بأدواتها، وفي ظل هذا الزيت (يشير الى المجسم السابق) لايمكن لأي قصة إلا أن تكون اتكاءة على مثل هذا الحدث.
صوت المخرج: يكفي، سنعود إليك مرة أخرى.
الكاتب: مهلا.. لم أنه كلامي..
صوت المخرج : إذن أسرع..
الكاتب: كما تلاحظون ، لأنني قليل الدراية بفن كتابة السيناريو، فأنا مضطر لقبول مقاطعات المخرج لي، على أية حال السيناريو بما يمتاز به من تقطيع وانتقاء وتوليف لم يعد أسلوب كاتب التلفزيون والسينما فقط، صار أسلوب المتلقي أيضا، به يضمن الاستغناء عن هضم الحشو والبلاغيات الساكنة، ويستمتع بالمشاهد الدرامية والحركة المتلاحقة.
صوت المخرج: أسرع..
الكاتب: (يسرع في حديثه) بل السيناريو لم يعد شكلا فنيا وحسب، بل صار أسلوبا في النظر الى الأمور، تخيلها ، التنبؤ بها، ابتداء من الحب وانتهاء بالحرب.
صوت المخرج (في ضيق) أسرع..
الكاتب: ( في بطء ) إنها مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة.
المشهد الثالث:
طابور طويل من الرجال والنساء والأطفال، طابور طويل جدا يمتد إلى حد الأفق، بيد كل واحد منهم زجاجة مياه معدنية، الزجاجات التي بيد الأطفال من الحجم الصغير، تبدو عليهم إمارات الإعياء من الوقوف الطويل ، تظللهم غيمة سوداء، وجو حار خانق، ورطوبة ترشح على أجسادهم، رطوبة لا قبل لهم بها، ذات رائحة لا تخطأ، لا أحد منهم ينبس بكلمة، حتى الأطفال، بين لحظة وأخرى يختلس أحدهم من زجاجته قطرات، بضع قطرات، يبلل ريقه بها، ويحاذر أن يلحظه رجال الشرطة. رجال الشرطة يلبسون خوذا وكمامات ويحملون على ظهورهم خزانات الأوكسجين، ويمسكون بهراواتهم يهددون بها الواقفين.
تتساقط رذاذات من المطر، يهمهم الطابور، تدب فيه الحياة.. ترتفع الوجوه وتنفتح الأفواه، ثم ترتعد باصقة ما تلقفته .. غير مصدقة.. قطرات زيت من السماء !.
المشهد الرابع:
المذيع التلفزيوني: بصفتكم أحد المتفاوضين، هل لكم أن تطلعوا السادة المشاهدين على آخر عرض ناقشتموه في اللجنة الخليجية المشتركة؟.
المسؤول: آخر عرض تلقيناه من فرنسا، وهو في الحقيقة عرض مشجع للغاية، إذ مقابل حصولهم على مخزون بئر (بدون صوت) وبئر (بدون صوت أيضا) مستعدون لاستقبال أربعمائة ألف مواطن خليجي للحياة بصفة دائمة في منطقة فرساي، وهي منطقة قد زرتها أكثر من خمس مرات، وأعجبت بها جدا فمناظرها خلابة ورائعة و..
المذيع التلفزيوني: (محاولا إعادة المسؤول الى الموضوع الأصلي) ماهي مزايا هذا العرض عن غيره من العروض؟.
المسؤول: مزايا هذا العرض، إنه أرخص من العروض السابقة، حيث تبلغ حياة المواطن الخليجي الواحد هناك أربعمائة ألف برميل من النفط في حين إنه في العروض الأخرى كان سيكلفنا خمسمائة برميل. علاوة على تسهيلات جديدة إضافية.
المذيع: هل لنا أن نعرف بعضها؟.
المسؤول : رغم أن الموضوع لازال قيد المناقشة والتشاور بين الأشقاء، إلا إنني أستطيع الإفصاح بأن من ضمن التسهيلات الجيدة في هذا العرض، إقامة محطة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية مع بث البرامج وعلى الأخص المسلسلات العربية يوميا وفي نفس الساعة التي تعود عليها مواطنونا الكرام.
المشهد الخامس:
نتوء كالجبل، له قمة سوداء، رويدا رويدا تبتعد الكاميرا ليبرز إلى جانبه أكثر من نتوء، تبتعد الكاميرا أكثر، تصغر النتوءات ولكنها تنتشر على مساحة أكبر، المساحة هي صفحة خد فتاة في السابعة عشرة من عمرها، واقفة في الطابور الطويل جدا.
المشهد السادس:
شخص يلبس بالطو لم يعد أبيض، تتدلى من رقبته سماعة الأطباء، يخلع نظارته بناء على أوامر المخرج ويواجه الكاميرا:
الطبيب: هذه البثور التي رأيتموها على خد الفتاة، هي نتيجة تفاعل الأتربة والغبار مع الغاز المتولد بسبب الحرارة عن الزيت الذي غطى البحر.
صوت المذيع: ماهي مخاطر هذه البثور؟.
الطبيب: في الحقيقة، لا رأي قاطع حتى الآن، أنت تعلم إنها حالة نواجهها لأول مرة، ولم يتسن لنا في أوضاعنا هذه إجراء تجارب مخبرية توصلنا إلى نتائج حاسمة بشأنها، ولكن ما ننصح به في الوقت الحاضر هو تحاشي البثور، رغم صعوبة مثل هذا التحاشي في الواقع.. واستعمال المرهم، والذي نرجو أن يتم الاقتصاد في استخدامه، كاقتصادنا في شرب مياه الشرب ، فالكمية محدودة، والتوزيع يتم وفق قواعد صارمة لضرورات لاتخفى على أحد!.
المشهد السابع:
الكاميرا في حركة سريعة كما لو كانت ستشق سطح الزيت.. الزيت يغطي الشاطئ ، تتوقف الكاميرا قريبة جدا من السطح لتبرز سماكته، تخثره، تقذف حصاة، لكنها لا تغوص بسرعة، وإنما تنزل ببطء، ولاتنداح لها دوائر، بل يظل السطح ساكنا.
تصعد الكاميرا، تبدو على البعد بواخر عديدة عاجزة عن الحركة، وليس هناك ثمة طير نورس، وحتى الأفق المظلم تحت ثقل الغيمة التي لاتحركها ريح، يتمدد هذا السطح الأسود الساكن، ثقيلا راكدا، من بعد تتصاعد غازات ملونة، ولا يبدو هنا أو هناك ثمة شيء يتحرك، سكون وصمت وهدوء لا ينتظر عاصفة.
(يمكن مزج صور من البحر في أحسن حالاته وصحوه يتصارع مع السواد القادم، حتى يسيطر الأخير ويسود).
المشهد الثامن:
عودة إلى الطابور الطويل جدا، حركة الكاميرا تمر بسرعة به، تستعرضه، وجوه مملوءة بالبثور السوداء، متداعية بإعياء وباستسلام غريب كالمنومة، تستمر الكاميرا لنصف دقيقة في سرعتها، ثم تخففها حتى تتوقف عند شاب وسيم لم يسلم من البثور، لكنه بجسمه الرياضي يبدو أكثر تحملا من الآخرين، وزجاجته لم تتجاوز مياهها النصف إلا بقليل عكس البقية، الذين لم تتبق في زجاجاتهم إلا قطرات معدودة، تقترب منه الكاميرا أكثر يلتفت إليها، يتطلع بدون اهتمام، لاتعبير على وجهه.
صوت من خارج الكادر: كيف حصلت على مكانك في هذا الطابور الطويل؟.
الشاب: رغم أني أسكن قرب المطار . فقد اضطررت أن أسير على قدمي خمسة عشر كيلومترا حتى حصلت على هذا المكان.
الصوت: هذا يعني إنك ستعود تمشي المسافة مرة أخرى عائدا؟.
الشاب: وببطء كما تلاحظ، فكل ربع ساعة نتحرك خطوة.
الصوت: لماذا تصطفون في هذا الطابور؟
الشاب (يبدو على وجهه الاستغراب لأول مرة، يتطلع الى حامل الكاميرا، يبدو أن الآخر يشجعه على الحديث) لا أصدق أنك لا تدري، من أي جحر خارج أنت؟.
الصوت: (يحثه) هيا.. أخبر المشاهدين، إنهم قد لا يدرون.
الشاب: (يحملق في الكاميرا، تختلج شفتاه قليلا، تعاوده لامبالاته) نحن ذاهبون الى الخارج، ستحملنا الطائرات إلى إحدى الدول الأوربية، سنستوطن هناك بعد هذا الذي حدث.
الصوت: ماذا تحمل؟ لا أراك تمحل متاعا أو شيئا.
الشاب: (يرفع زجاجة المياه المعدنية وجواز سفره) ماعدا هذين لا يحق لك حمل شيء.. لعلمك سوف نشحن حتى في الأماكن المخصصة للأمتعة، هكذا قالوا لنا.
الصوت: ماذا كنت تعمل؟ ماهي اهتماماتك قبل أن يحدث ما حدث؟
الشاب: (تغرورق عيناه) أنا.. كنت موظفا في أحد بنوك الأوفشور، أتقاضي راتبا كبيرا، كنت لاعب كرة مشهور أيضا، لي علاقات عديدة ،بجوازي هذا تم تسجيل آلاف الآلاف من الأسهم (يتنهد بحسرة) كانت الدنيا مقبلة علي.. الفتيات تملأ مفكرتي أرقام تليفونا تهن، وفي سيارتي قضيت ساعات لا تنسى (يتنهد) كانت الدنيا مقبلة علي..
(يمكن عرض لقطات سريعة أو بأسلوب اللقطات الثابتة المتتالية للشاب في أوضاعه وحياته السابقة).
المشهد التاسع:
منخفض من الأرض بين جذوع نخيل ، يبدأ الزيت في التسرب، مغطيا الأعشاب الطفيلية، حتى لا يبقى منها شيئا، ترتفع الكاميرا إلى رؤوس النخيل فإذا هي محروقة منذ زمن، بلا سعفات.
المشهد العاشر:
خبير من اللجنة المنحلة لحماية البيئة البحرية، ترمش عيناه باستمرار بشكل لاإرادي، يفشل المخرج في جعله يتحدث مواجها الكاميرا، فيصوره وهو يتحدث في وضع جانبي.
الخبير: في الحقيقة، لازلت حتى هذه الساعة غير متأكد من سمك طبقة الزيت التي تغطي الخليج كله الآن، فبعض التقارير تقول انه قدم وأخرى تقول بأنه قدمان، وتقرير يقول إنه بلغ في بعض المناطق أكثر من متر.
الصوت: وما الفارق بين هذا وذاك وذاك؟.
الخبير: (كمن يتلذذ للسؤال بهزات رأسه) الفارق كبير، بحجم سمك طبقة الزيت تكون الخطورة، إذا كان قدما مثلا فالأمل كبير في أن يتبخر جزء كبير منه ثم يسهل امتصاص المتبقي بوسائلنا.. كما أن هذا السمك لا يشكل خطرا على الكائنات البحرية إذا تم امتصاصه بسرعة.
الصوت: وإذا كان سمكه مترا أو أكثر؟.
الخبير: عندها لا تنفع كل المحاولات.. مثل هذا السمك يعني امتناع الأوكسجين عن الكائنات البحرية و..
الصوت: ماذا عن الكائنات غير البحرية.. ماذا عن الناس؟.
الخبير: (في حرج شديد) في الحقيقة أنا لست خبيرا إلا في الكائنات البحرية.. آسف.
المشهد الحادي عشر:
(الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني)
الكاتب: عفوا لتدخلي، إنها فرصة لأن أقول شيئا، ورغم أن ذلك يعتبر خروجا على قواعد السيناريو، فإنني وبحكم اهتماماتي لا أملك إلا أن أتدخل هنا وأبدي ملاحظة، هي في الواقع ليست ملاحظة، هي صورة أرجو أن يستطيع المخرج تحقيقها.
صوت المخرج: أسرع .
الكاتب (لا يهتم لاستعجال المخرج ويواصل كما بدأ) الصورة أن يتم التوليف بين ما قاله خبير البيئة البحرية بخصوص طبقة الزيت وبين سمك (طبقة) الاستهلاك ومظاهر الرخاء الجوفاء التي غطت على الأحاسيس وبلت المشاعر، فما عادوا يهتمون بما يحدث للآخرين، زادت البلادة فلم يعودوا يهتمون بما سيحدث لهم غدا، صاروا كقطيع من النمل خدره السكر الكثير و…
صوت المخرج: (مقاطعا) يا أستاذ، هذا سيناريو لا يحتمل صورك البلاغية هذه وتشبيهاتك.
الكاتب (مواصلا بعناد) ما حدث قبل طوفان الزيت هذا كثير وكان بإمكانهم أن يفعلوا شيئا للآخرين، لأنفسهم، ولكنهم استمرءوا العيش بلا مسؤولية.
صوت المخرج: يا أستاذ لاتعمم، ليس كلهم عاشوا رخاء وسعادة كما تصورهم.
الكاتب : دعنا نسأل صديقنا عالم الاجتماع الذي يجلس معنا (الكاميرا تدور في الأرجاء، فلا تجد أحدا، تعود الى الكاتب).
الكاتب: (يتحدث كما لو كان عالم الاجتماع) في الواقع أن صديقي الكاتب، لم يعني أن الجميع عاش في رخاء ورفاهية، ولكن الجميع عاش أمراض الرخاء، بمعنى أن الرخاء قد لا يكون شاملا، لكن أمراضه هي التي تسود حتى الطبقات الفقيرة، فالمضاربات بالأسهم مجرد مثال بارز، والأمثلة الأخرى كثيرة تبدأ من الاهتمام العفوي باختيار لون طقم الصحون وتنتهي بالتطلع إلى لون سيارة مشتهاة..
صوت المخرج: يا أستاذ اختصر.. هذا سيناريو..
الكاتب: (يحاول أن يكبت ضيقه من المخرج) تستطيع أن تستفيد من الأرشيف، أعرض مشاهد بدلا من مقاطعتي، مشهد العامل الهندي الذي يعود الى قريته النائية المحرومة من الكهرباء ولا يصلها إرسال المحطات حاملا تلفزيونا ملونا، مشهد صفوف من الأزواج الذين يجلسون عند عتبات البيوت في سيريلانكا يحتسون الخمرة صباح مساء، ينتظرون حوالات النقود من زوجاتهم العاملات في الخليج، والأطفال بلا أمهات، مشهد الأراضي الزراعية التي هجرها الفلاحون في مصر وسوريا وغيرها يلهثون وراء السراب في المياه الدافئة.
صوت المخرج: يا أستاذ.. يا أستاذ..
الكاتب: إن مجتمعا كمجتمع الخليج لم يشهد له العالم مثيلا في يوم مضى، ولن يشهد..
صوت المخرج: (صارخا) ستوب..
المشهد الثاني عشر:
جولة سريعة بالكاميرا في شوارع البنوك والمحلات التجارية الكبرى، السيارات معطلة بشكل فوضوي، بعضها توقف عند تقاطع طرق، البعض الآخر صعد الى الرصيف.
الكاميرا تدخل سوبر ماركت، مجموعة من العمال الآسيويين تفتش بين المحتويات عن زجاجة مياه معدنية، تبعثر العلب، تقذف بها الى مختلف الجهات حنقا، تكسر زجاج الواجهات الكبيرة.
وجه عامل منهم، قريب من الكاميرا، غاضب جدا ، يصرخ، يبدأ يلاحق حامل الكاميرا، ويركل كل ما يعترضه.
المشهد الثالث العاشر:
مسؤول يواجه الكاميرا، بعد أن ينزع كمامته ويشير للمخرج، أمامك ثلاث دقائق فقط.
المسؤول يبدو كمن يستمع الى سؤال لا يسمعه غيره.
المسؤول: إجابتي على سؤالك بكل بساطة، أن كل دولة مسؤولة بالمقام الأول عن رعاياها، إن الذين وفدوا الى البلاد للارتزاق تتحمل مسؤولية رعايتهم في مثل هذه الأوضاع دولهم، ذلك أمر بديهي، ونحن كما أخبرتك نعطي الأولوية لأبناء الوطن، والموقف كما تلاحظ صعب للغاية، فما من وسيلة غير الطائرات عندنا، والبحر لم يعد صالحا للملاحة، ولو تحلى الوافدون الأجانب بالصبر وضبط النفس قليلا لجاء دورهم. (يتوقف المسؤول لحظة، كمن يستمع إلى سؤال لا يسمعه غيره، ثم يواصل بعد ذلك) في الحقيقة، وكما تعرف عن الأوربيين والغربيين بشكل عام هم أكثر الشعوب رعاية من قبل حكوماتهم، لهذا يكونون أول المهاجرين من أي منطقة تتعرض للأخطار، ونحن هنا لم نقرر الهجرة الجماعية إلا في اليومين الأخيرين، وذلك بعد أن تأكدت لنا استحالة الحياة هنا، لقد توقفت محطات تحلية المياه وتسرب الزيت إلى كل الآبار الارتوازية، ونحن في الحقيقة نوزع على الجميع حتى العمال الآسيويين زجاجات المياه المعدنية، بواقع زجاجة واحدة لك فرد كل أربع وعشرين ساعة، أنا مقدر صعوبة الموقف، وحرارة الجو، معذرة (يفتح غطاء زجاجته ويرشف رشفة صغيرة).. أنت ترى كل شيء غدا مشلولا، لا ماء، لا كهرباء، لا بنزين للسيارات.. لا.. لاشيء سوى الطائرات تحمل الأفواج بعد الأفواج .. لم يعد هذا الخليج صالحا إلا لاستخراج النفط الخام، معذرة لا أستطيع البقاء هنا أكثر (يضع الكمامة على فمه وأنفه ويدير للكاميرا ظهره خارجا، على ظهره يحمل خزان أوكسجين أنيق).
المشهد الرابع عشر:
لقطات عامة لشوارع مهجورة، محلات مبعثرة المحتويات ، سيارات متوقفة في كل مكان، لاشيء يتحرك.. حتى ولاقطة تبحث بين القمامة والبقايا التي تناثرت في الشوارع.
لقطات عامة للبحر الذي تخثر سطحه ,أسود حتى الأفق الحالك، لا حركة في أي مكان.
كل اللقطات تبرز آثار الإنسان الذي غادر على عجل.. بلا أمل في العودة.. وصمت ثقيل.. وقفر لا نهاية له.
المشهد الخامس عشر:
الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني.
الكاتب: ما شاهدتموه ليس هو ما أردت أن أقوله، فرغم إنها محاولة لقول شيء بالمناسبة، إلا أن الهاجس الذي في نفسي لازال أفضل بكثير من هذه المحاولة.. فإلى جانب أن المخرج لم يفهمني، فإنه أيضا لم يستطع إبراز ما هو وراء هذه المشاهد، توقف عند سطحها، وكان مزجه لتكوين الصور السينمائية مفتعلا.. وتلك هي مشكلة الإبداع عندما يكون مشتركا.. و..
صوت المخرج: (محتجا) تكتب سيناريو لأول مرة وتبدأ في التنظير.. ومتى؟.. في الوقت الذي تغطي بقعة الزيت أجساد الناس في الخليج!..
الكاتب: (مبتسما بانتصار) هذا هو الفرق بيني وبينه، أنا أطمح الى عمل فني يتجاوز الأحداث، لا يتكئ عليها.
صوت المخرج: (مقاطعا) اللعنة..
الكاتب: (مستطردا) حتى العنوان، كنت أفضل أن يكون" عندما يبلغ الزيت الزبى".. ولكن المخرج أصر على العنوان الآخر.. كما إنني كنت أتوق كثيرا الى أن أختم هذا العمل بمشهد لرجل بحر عجوز يجلس عند الشاطئ ينظر بحسرة، ويرفض الانضمام الى الطابور الطويل وهجر الوطن، ومشهد آخر لفلاح يسند ظهره الى جذع نخلة محروقة ويرفض أن يترك أرضه.. كل ذلك كان مدار خلاف ونقاش.. كان المخرج يصر على أن هذا كله قد يصلح للقصص ولكنه بالتأكيد لا يصلح لمشاهد سيناريو، أصارحكم القول: إنني آسف.. آسف جدا لأنني اشتركت في هذا العمل..
صوت المخرج (غاضبا، مقاطعا) اللعنة ألف مرة.. ستوب.
الكاتب (مواصلا حديثه الذي لا يسمع الآن. فيما بدا السائل الأسود يملأ الشاشة من أسفل، رويدا رويدا، ليخفي صورة الكاتب في النهاية).
* حقل نوروز حقل نفط بحري إيراني في الخليج العربي قصف خلال الحرب العراقية الإيرانية مما هدد المنطقة بتلوث واسع .
قام أمين صالح بإعداد سهرة تلفزيونية من وحي وأجواء هذا النص وأخرجها لتلفزيون البحرين عبد الله يوسف .