" توقعات محايدة"، بل هي توقعات منحازة كليّا وبقوة إلى عشيقة الشاعر ومحبوبته، وإن جاءت حياديتة في بعض القصائد إلى الصراع السياسي والثقافي الدائر في مدينته منذ زمن.. إلا أن الشاعر علاء الغول يغرق في حبّه لها حد الجنون، وهي ليست المرة الأولى التي يؤنسن فيها المدينة إلى فتاة جميلة يتغزل في جسدها الممشوق.. يسامرها، ويطارحها الغرام، ويسافر معها على أجنحة السندباد ليحط بها في جزرٍ البليار أو في جزرٍ للحب صنعها هو..؛ فهو الشاعرُ الأول عالميا الذي قدم لنا ديوانا شعريا كاملا بعنوان "تركواز" وحمّله مائة قصيدة جميعها أُفتتحت بـ "في عينيها.."، وها هو اليوم يقدم لنا ديوانا جديدا حمل اثنتي وثلاثين قصيدة مطولة جميعها تبدأ بـ "في شَعْرِها.."، على غرار آبائنا الشعراء الأقدمين الذين كانوا يفتتحون قصائدهم أيًّ كانت مدحا أم ذما، وصفا، أم رثاءً، أم هجاء بالوقوف على الأطلال، ليؤكد لنا الشاعر أنه من سلالة هؤلاء الفحول في اللغة العربية الجميلة..! بل إن الشاعر علاء الغول في مجمل قصائده يرسخ لنا حضور الأنثى والحب، تعبيرا عن الحضور الإنساني، وعن فحوى وجوده في هذه الحياة وعلى هذه الأرض.. استحضار المحبوبة دائما في خيال الشاعر فيه ظفر بالنفس من خلال محاكاته لذاته.. وأعتقد أن محاكاة المبدع لذاته هي تطهيرٌ للمتلقي خصوصا عندما تكون هذه الذات هي المأساة (الغزّية).. وهذان المحوران (المحاكاة للمبدع، والتطهير للمتلقي) دارت عليهما آراء أرسطو في الفن.. فالمحاكاة تصوير للطبيعة البشرية والعيانية، وهي عند شاعرنا ليست تصويرا حرفيا، بل يضيف شيئا من عنده إلى الحقيقة والصدق، ليصبحا حقيقةً فنية وصدقا فنيا.. (أرسطو، الشعر ص18 ، ترجمة عبد الرحمن بدوي) وفي هذا ظَفرُه الكبير، أما نحن المتلقون فإننا نكتسب لذة عقلية ومتعة روحية..
عندما تطفح اللغة بالأشعار والقصائد المكرورة والمتشابهة، كان لا بد من شاعر ما.. أن يخرج عن مألوف الشعر الحر الذي تعودنا على قراءته منذ نازك الملائكة والسياب وصولا إلى أدونيس ومحمود درويش، ودرويش حاول أن يوفق بين النثر والوزن كما ظهر في قصائده الأخيرة قبل أن يغيبَ عن عالمنا الحاضر، وكما ظهر ذلك في قصائد "سرير الغريبة"، يقول درويش في حوار لمجلة "الشعراء" الصادرة عن بيت الشعر 1999: "إن النثر أكثر اقترابا من الحياة العصرية، لكن الاستسلام لإيقاعه الإخباري السريع قد يدمر الشعرية، نعم لماذا لا تكون هناك مصالحة بين الخيارين، بين خيار الوزن والخيار الآخر، فهناك منطقة وسطى عمل عليها، ت س إليوت. Thomas Stearns Eliot" نؤكد هنا.. من جديد أن الشاعر علاء الغول مستمرٌ في مشروعه الفني الفريد والذي لم يسبقه أي من شعراء عصره، ويعتمد فيه الشاعر أسلوبا جديدا من السرد يوائم فيه بين النثر والوزن؛ فالمتلقي يقرأ قصائد علاء الغنية بالمعرفة والثقافة، فيعتقد أنها نثرٌ، يعود ليقرأها من جديد فيكتشف أنها تفعيلية تدويرية تعتمد على الكامل مُتفاعِلُن/مُتفاعلن، في بناء هارموني متصل، ليصل بنا إلى الذروة في نهاية القصيدة، وهذا ما يشبه لحظة التنوير في القصة القصيرة التقليدية، فالتفاصيل تتزاحم من أول القصيدة حتى قرب نهايتها لتجلو موقفا ما.. وتبدو هذه التفاصيل في بعض الأحيان لونا من الثرثرة الحميمة المحملة بالأحاجي والأسئلة الخرساء.. ثم ما يلبث كل ذلك أن يرتفع بارتفاع الذروة، ويكتسب دلالاتها بعمقها.. وهنا يعود القارئ مرة ثانية على ضوء الذروة الأخيرة لكي يعيد تقدير قيمة التفاصيل الأولى..
إذا كان الشعرُ يستند إلى تكثيف اللغة، والصور الجمالية، فلا أدلّ على ذلك عندما تظهر الأسطورة في كلمة واحدة مثلا؛ لكنها تروي قصة أو رواية كبيرة.. وشاعرُنا علاء في "توقعات محايدة" كان مميزا في توظيف الأساطير الشرقية والعالمية؛ فامتلأت قصائدُه بتلك الأساطير كمعادل موضوعي لحالة (غزّة) التي يعيش فيها الناس هواجسا وكوابيسا صعبة قد تبدو لا خلاص منها.. وكأننا في متاهة غير منتهية! يقول الدكتور عبد الرحمن القاعود: "بعد نكبة 1948، صحا الشعراء على ضياع فلسطين وضياع الكرامة العربية معها بسبب هزيمة الأمة العربية، وكان هذا أشبه بالقحط والجدب في الحياة العربية والواقع العربي، وشكل هذا هاجسا في ذهن الشاعر، وبعد النكبة في الخمسينيات والستينيات ظهرت بعض الحركات الثورية التي أحيت الأمل في النفوس ورغبتها في التحرر والتقدم، فكان هذا أشبه بهاجس الخصب والبعث والولادة، فأحس الشاعر أن في مضامين بعض الأساطير ما يوظفه للتعبير عن هذه الهواجس، وبخاصة أساطير الخصب والبعث والميلاد، وما يرمز إلى الحياة وانبعاثها وتجددها بعد جدب أو فناء.. وهذا ما يفسر في الوقت نفسه انطلاقة شعر الحداثة العربية بأساطير النماء والخصب والبعث والولادة (العنقاء الفينيق وتموز وأدونيس وعشتار) قبل غيرها من الأساطير، وفي مجال هذه المضامين جاء شعر ما يعرف بالحركة التموزية أو الشعراء التموزيين أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي" (د.عبد الرحمن محمد القاعود، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، الكويت: آذار 2002، ص54)
في قصيدة "حكايات وحكايات وأنا" يقول علاء: في شعرها قُزحٌ/ وأعرف أن (أنزار) اكتفى بالحب ينزل عن عروش المجد معترفا أن صبية أسرت إله الماء/ والمطر الذي يحي بلمسته قرىً بورا ويسقي/ بلدة عطشى و(تسليت) العروس تعود معه إلى السماء فيجعلان الطيف ألوانا هي العشق/ الذي يكفي ليجعل للحياة مكانة في النفس..(ص 30 ديوان توقعات محايدة) هنا يحن الشاعر إلى حكايات الأقدمين التي صارت أساطير؛ فـ (أنزار) هو ملك أو إله الماء في الميثولوجيا الأمازيغية، و(تسليت، أو تاسيليت) في الأمازيغية تعني خطيبة أو عروس، وتاسليت أنزار تعني عروس أو أميرة أنزار إله المطر.. وحسب الرواية أن تاسليت كانت فاتنةً عاشقةً للماء وكانت ترتاد النهر الفياض بالمياه لترتوي من مائه، وترضي عشقها له، وكان أن رأها أنزار إله الماء فتعلق بها وغدا عاشقها وأصبح يهيم عشقا بها، وحاول باستمرار أن يصارحها بحبه، لكنَّ تاسليت التي هي قوس قزح الذي يزين السماء بألوانه الزاهية، كانت عفيفة خجولة، ولطالما عملت على تفادي مصارحة أنزار حتى لا يعيبها قومها بتهمةٍ خزيئة، وأمام تفادي تاسليت المستمر لأنزار، لم يجد هذا إلا أن يقدم بجرأة حاسمة، وبعد أن أفصح عما شغل قلبه، فوجئ باعتراض وتعفف تاسليت عنه، وبعد الرفض غضب أنزار وانطلق مزمجرا إلى السماء، فنضب النهر وغارت مياهه، فجف النهر من الماء الذي هو روح تاسليت، فبدأت بالبكاء وتضرعت ولانت لأنزار وقبلت بحبه، وبعد هذا أبشر أنزار وعاد من السماء كالبرق إلى الأرض وأخذ حبيبته بعيدا إلى السماء.. ومن حنين الشاعر إلى البعث والميلاد، يعود ليتذكر بطولات الصعاليك في تحررهم من استبداد القبيلة، ويربط تلك القصص بأساطير بريطانيا وسيف الملك أرثر الذي ينسب إليه حق السيادة على بريطانيا العظمى، وكما يقال: إن حامل السيف لا يموت. كل هذه الحكايات والهواجس التي تلبست حالة الشاعر الذي يعيش في غزة المدينة التي مزقتها الفرقة والحروب وقبضة حكامها فأشقتها بدلا من أن تنعشها لتحيا من جديد كما يأمل الشاعر..
في قصيدة "عمعموت" ص17 يقول: في شعرها قد أودع المدفون في جوف/ الحقيقة إنه المجهول والموت المفاجئ/ والحساب على موازين القيامة/ عمعموت الوحش يلتهم القلوب الآثمة/ ياهذه الأسفار يا فحوى وجودي هكذا/ متورطا لا شيء يحميني كما لا شيء يمكن/ أن يطمئن سائرٌ فأحرِّك الدنيا/ وهل أنا واقف ويقاد لي هذا المصير أم الجواب متاهةٌ/ أخرى ويبقى القلب غرَّا سادرا في الوهم... عمعموت هنا.. الوحش الذي يحكم مدينة علاء، وحسب الأسطورة المصرية هو كائن خرافي ويتمثل في رأس تمساح وجسد لأسد، ويقيم في منزل إله الموت "أوزيريس" في العالم السفلي ينتظر الموتى، وهناك يتم محاكمتهم، فيوْزن قلبَ كلً منهم.. فإن كان القلبُ نقيا أي أخف من ريشة العدل والنظام مرّ المرءُ بسلام ويعطى ثوبا أبيضا جميلا وحديقة يعيش فيها هو وزوجته يأكلون من ثمارها، أما إن كان قلبُ المرء مثقلا بالذنوب والأعمال السيئة يلقى إلى عمعموت يلتهمه فيُمحى صاحبه ويختفي من الوجود.. هذه هي مدينة علاء، إما أن يكون قلبك نقيا مع الحاكم فتنجو وتعيش سعيدا، وإما أن يكون مثقلا بالآثام حسب عُرفهم؛ فتنتظر ليلتهمك عمعموت وتفنى من الوجود!؟ هذا الإسقاط الأسطوري من الشاعر على مدينته يلائم تماما أهل غزة الخائفين من "عمعموت".. علاء الشاعر دكتور الأدب الإنجليزي واسع المعرفة والثقافة العالمية والإنسانية، بحيث لا يجاريه شاعر آخر في هذا المضمار، ومن هنا يمكننا القول: إن كنت مدرسا أم أكاديميا، مثقفا أم أميّا وكنت في امتحان فلا أصعب عليك من امتحان في التفسير لشعر علاء الغول، يقول أدونيس: "الفرق بين الشاعر الكبير والشاعر الصغير، هو أن الصغير حين يعبر عن نفسه لا يعبر إلا عنها، وأن الكبير حين يعبر عن نفسه فإنه يعبر عن عصره كله.." أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط 3، ص 174.
في قصيدة "حب من خرافة وفلسفة" ص 28 يقول علاء: في شعرها دنتِ القطوف العاريات النازفات/ تحرق الفانون من أجل الخلود وأنت يا ابن/ الليل يا ثناتوس أيمكن أن تُصفَّد كي نظل لنحتفي/ بنسائنا ونرى الصغار على التلال يصارعون/ الوقت بين الشمس والأبدية الحمقاء/ نشرب من ينابيعِ البقاء ونستحمَّ أمام/ أسراب الطيور ندور حول الغانيات وقد حملن/ الريح تجري في مزامير الرعاة إلى السفوح/ الفائضات بنبتة النسيان يرقصن حولها أبناءُ هيبنوس/ (وما شر الثلاثة أم عمرو ـ ـ ـ بصاحبك الذي لا تصبحينا) / ترجل أيها الموت الذي أوقعت سيزيف/ الجريء ضحية لزيوس/ هي الأحلامُ تأتينا لنهدأ كي ندافع عن بذور/ الحب فينا والتشرد في منافي الروح والعبث/ .... (ثناتوس) في الأسطورة اليونانية ابن ألهة الليل (نيكس) ويصور على أنه روحا أو رجلا له أجنحة ويمثل عندهم الموت الهادئ، حيث لمسته لينة، وهيبنوس يعتبر شقيقه التوأم، ويمثل النوم، أما الموت العنيف فكان من اختصاص أخته (كيريس)، وحسب الأسطورة، كان ثاناتوس على علاقة وطيدة بزيوس رب الألهة، حيث كان يقتل من يريد زيوس قتلهم وأما من يريد بقاءهم أحياء يتعذبون يضعهم في سجن سري لا يعلم مكانه الا زيوس وثاناتوس. وارتبطت شخصيته أيضا بأسطورة سيزيف، وهوة ابن آيولوس إله الرياح وكان محاربا عظيما بارعا ماهرا في القتال يتميز بالحكمة والمكر والدهاء وكان زيوس يفشي أسرار مغامراته له، وقرر سيزيف ان يفشي أسرار زيوس لإزاحته من عرش الأولمب إلى إله النهر فأعلمه بها، وأنه على علاقة مع ابنته وعندما علم زيوس بالأمر، قرر معاقبته بإرساله إلى الجحيم ليتعذب هناك ولكن سيزيف استطاع خداع قابض الأرواح ثاناتوس فطلب منه أن يتاكد من صلابة ومتانة الأصفاد والأقفال، وعندما جربها ثاناتوس قام سيزيف بتكبيله وأسره عنده لمدة، ولكن تدخل إله الحرب (آرس) لينقذ ثاناتوس من أكباله وهروب سيزيف. هذه الأسطورة تعيد لنا الحكاية التي نعيشها في غزة؛ إذ أن ما يحاك هنا من أرباب الحكم لا يختلف عن مكر ودواهي الآلهة اليونانية لأجل السلطة وامتيازاتها والتمتع بلذاتها، مغلفة بسلطة دينية مقدسة.. ويذهب شاعرنا أكثر في الأسطورة ومحاكاته لـ (سيزيف) رمز العذاب الأبدي عندما عاقبه زيوس برفع الصخرة من الوادي إلى قمة الجبل، وكلما اقترب بها من القمة تعود لتتدحرج من جديد إلى الوادي ليعود المُعَاقب مرة أخرى ليرفعها إلى القمة متحملا المشقة والعذاب وهكذا دواليك.. شاعرُنا لم يكتف بمحاكاة الأسطورة الإغريقية؛ إنما ربطها بقصة عربية تاريخية مشهورة لشاعر معروف، وهو من أصحاب المعلقات الشهيرة في الأدب العربي، وهو: عمر ابن كلثوم التغلبي، وعُرف بأنه قتل عمر بن هند التي ادعت يوما بأنها أشرف نساء العرب؛ فهي بنت ملك الحيرة، وزوجة ملك، وأم ملك... فقالت لها احدى جليساتها بأن: ليلى بنت المهلهل أشرف منك فعمُّها الملك كليب وأبوها الزير سالم (المهلهل) وزوجها كلثوم بن مالك وولدها عمر بن كلثوم سيد قومه.. فأجابتها هند: سأجعلنها خادمة لي، ثم طلبت من ابنها عمر أن يدعو عمر بن كلثوم وأمه لزيارتهم؛ فكان ذلك.. وفي أثناء الضيافة حاولت أم الملك تنفيذ نذرها، فأشارت إلى جفنة على الطاولة، وقالت يا ليلى ناوليني تلك الجفنة، فأجابتها ليلى: لتتقدم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.. ولمّا ألحّت عليها، صرخت ليلى "وا أذلاه"، فسمعها ابنها عمر بن كلثوم وكان جالسا مع عمر بن هند في حجرة مجاورة، فقام إلى سيف معلق وقتله به، ثم أمر رجاله خارج القصر وقاموا بنهبه... هذه القصة التي رمز لها شاعرنا باقتباسه لبيت شعر من معلقة عمر بن كلثوم، ليعيد لنا الحكاية في إشارة من الشاعر إلى الانقلاب الذي تبعه الانقسام الفلسطيني، وأحد طرفي الانقسام ادعى بأنه الأحق والأشرف للحكم..؟!
في قصيدة "عثتر سمين" ص 64، يقول علاء: في شعرها نور القلوب تجسدت آيات هذا/ الكون والناس الذين استشعروا وجع الفراغ/ تدافعوا مهللين ومن حكاياهم تناسلت/ السما قمرٌ وشمسٌ ينجبان فجاءنا (عثتر سمين)/ وتدفقت زمرٌ من الآلام تلهث خلف رحماتٍ تنزلُ/ حول من طافوا ومن نزلوا السهوب وشيدوا نصف/ المعابد من ضمائرهم وظلّ السعي يسترضي الإله/ يسوع يلهج قائلا (إيلي إيلي لما شبقتني) أيلول/ ولولة على تموز رب الخصب والكلآ الذي نُحرت له/ نوقٌ وأنعامٌ تغني أول العباد يا عشتار/ (يا ام الزلف عيني يا موليا)... الشاعر هنا يعيدنا إلى أول الأساطير العربية، في محاكاة ساخرة وأقرب إلى الكوميديا السوداء لما يدور في غزة وحكامها؛ وكأن الدنيا بدأت من عندهم..! ومن سبقهم كانوا جهلة لا يفكرون ولا يتأملون.. أما هم عندما بدأوا يتأملون الكون، واكتشفوا أن الشمس الأنثى هي الأله الأم، والقمر هو الإله الأب فأنجبا كوكب الزهرة، الذي يمثل الإله (عثتر سمين)..! واستمروا في اكتشافاتهم وهم يهللون ويبتهلون بالطريقة الآرامية: إلهي إلهي لمذا تركتني؟ ويفرحون لتموز رب الخصب والكلأ ويغنون لآلهتهم عشتار أم الزلف أي الجمال، أو لصغر أنفها مع استواء الأرنبة، كما جاء في الصحاح. يقول الدكتور نضال الصالح في مقال بعنوان "كيفية ظهور ـ الله ـ في الوعي العربي": كان الأب يتمثل في السماء في صورة الإله القمر وتتمثل الأم في صورة الألهة الأنثى الشمس أما الإبن فتمثل في صورة النجم الزُهرة، ولقد تغير مركز وماهية الشمس والزهرة حسب المجتمعات وطبيعتها وعلاقتها بالشمس والزهرة، أما القمر فظل محافظا على مركزه وألوهيته بغض النظر عن الإسم الذي كان يعرف به، ولقد عُرف الإله القمر بـ (إل) والألهة الشمس بـ (إيلات) والإبن المتمثل في كوكب الزهرة بـ (عثتر سمين) أي عثتر السماء، و في حضرموت عُرف باسم (سين) ولقد عبد المعينيون القمر باسم (ود) ويعني الودود، وعرف في الجنوب العربي باسم (ودم شهرن) ويعني الأب القمر ولقد وصفه اليمنيون بـ (صدوق) أي الصادق، كما وصفوه بـ (نهى) أي الحسن و(حريمن) أي المحرم أو القدوس و(حكم) أي الحكيم و(رحمن) أي الرحيم كما وصفوه بالرب والملك والعزيز والعادل والأمين.. (نضال الصالح، كيفية ظهور الله في الوعي العربي، الحوار المتمدن، العدد 2792، 2009.) يستمر شاعرنا في أسطورته، فيقول: يا الله بادت هذه الأوثان/ لكن بُدّلت في ألف شكل إن شعرك مرأةٌ مسحورة تركت/ على الأرض الخطى وتخللت في الغيم غابت ليلتين/ وعاد معها الزائرون من الخرافة والحكايات البعيدة/ قسّموا ليل المدينة بينهم وأنا حظيت بوردة فضية/ قد أسقطتْها فوق نافذتي (سميرامات)/ ففُوك سحر القلب واتسعت دروب الحب لي/ وأنا أنتظرتُك كل هذا الوقت معترفا بأني لم أطع/ عُرف القبيلة في الهوى... رغم كل هذه الأساطير التي حدثت في مدينة الشاعر ظلّ هو بعيدا عن هذه المغريات وهذه الملذات، ولم يطع عُرف القبيلة في إشارة إلى الذين غادروا أعمالهم واستكانوا في بيوتهم يتأملون وينتظرون وردة فضية تسقطها على شبابيكهم (سميراميس)، وحسب الأسطورة العراقية أن (سميرامات أو سميراميس) التي ألهمت عقول الفنانين والأدباء في أوروبا طوال عدة قرون وفرضت حضورها في الأدب والتاريخ والرسم والموسيقى والسينما والمسرح، فهي تمثل الجمال والحكمة من ناحية، والقدرة على إدارة الدولة وخوض الحروب من ناحية أخرى، استطاعت قيادة بلاد الرافدين، ومدّ نفوذها ليشمل العالم القديم طيلة عشرات السنين، خلدها التاريخ وسطرها بأحرف من نور لتهيمن على القلوب وتهيم بالألباب.. هي من يحلم بها الشاعر ويقبل بحكمها..
في قصيدة "على باب المتاهة" يقول الشاعر: في شعرها جدل الخرافة وانعتاق الفكر/ من أسَر التخوف والتحرر مثلما فعل (ابن فرناس)/ الذي قتل الحقيقة حين قال أنا الهواء وخَمسُ/ أجنحة وقلبٌ ليس يجزع إنما الدنيا متاهات/ على أبوابها وحشٌ يلاحق من يفرُّ وحين حلق/ (دايدالوس) بقيت متاهته لـ (مينوس) ثم أنت/ حبيبتي قلبي وعطرُكِ وانشغال التائبين بلحظةٍ جعلت/ من القربان وجها واحدا ليؤوب قلبٌ متعبٌ تبدو السماء/ عنيدة سدا من الأوجاع والتهم التي لا تنتهي/... غزة مدينة الشاعر وحبيبته التي لا تفارقه ولا يفارقها.. يليق بها هذه الأساطير، كيف لا وهي قد أصبحت محط أنظار واهتمام دول الكون وعلى رأسهم الدول العظمى..؟؟ كيف لا وغزة منذ كنعان لها أهميتها الكونية نظرا لموقعها الجغرافي؟! والحالى التي تعيشها غزة مؤخرا كأنها في نفق لا ينتهي، أو في طريق متاهي لا نهاية له... دفع بشاعرنا علاء لأن يسقط أسطورة (ديدالوس) الإغريفية؛ فهو كان مهندسا ونحاتا.. ويعني اسمه باللغة الإغريقية "المخترع الماهر" ديدالوس، بنى متاهة، وفيها تم إحتجاز وحش (المينوتور)، وذلك بأمر من الملك مينوس.. (المينوتور) هو مخلوق نصفه رجل ونصفه الآخر ثور، وبعد زمن غضب الملك (مينوس) على (ديدالوس) لسبب ما.. وأمر بأن يسجن مع ابنه (إيكاروس) في المتاهة التي بناها.. ورغم أن (ديدالوس) هو الذي صمم المتاهة، إلا أنه كان من المستحيل عليه أن يعرف طريق الخروج منها.. وبعد تفكير وجد أن الحل الوحيد للخروج من المتاهة هو الطيران، فقام ابنه (إيكاروس) بجمع الريش الذي يجده وقام (ديدالوس) بصنع أجنحة والصق الريش فيها بواسطة الشمع.. وحين أصبحا مستعدين للطيران، قال (ديدالوس) لولده (إيكاروس): يجب أن تطير على ارتفاع معتدل.. ولا تطير على ارتفاع منخفض، حتى لا تفسد الرطوبة أجنحتك ولا تطير عاليا حتى لا تذّوّب الشمس أجنحتك، ابقى قريبا مني لتكون بأمان.. وأخيرا وبوجه تبلله الدموع ويدان ترتعشان، قبل ابنه لأخر مرة ثم طار مع ابنه (إيكاروس) وخرجا من المتاهة.. وحين شاهدهم أحد الرعاة ذهل وظن أنهم من الآلهة لأنهما يطيران، بدأ الحماس يدخل في نفس (إيكاروس) حين وجد نفسه يطير فعلا في الجو ونسي نصيحة والده، طار عاليا فأذابت الشمس أجنحته وهوى نحو البحر وغرق.. يؤكد ذلك علاء في قصيدته حيث يقول: حبيبتي تتآكل الأوقاتُ نسحبها وتسحبنا/ (إيكاروس) ذاب بين الشمس والتفكير في تضليل/ وحش أطلقته النية العمياء شعرُكِ قطعة الموزاييك/ تفسيري لمعنى اللون في ورق الخريف ولحظة الأحلام/ وهي تمر من خصلات شعرك دونما استئذانه وكقول/ نابغة الجزيرة (كأنكَ كالليل الذي هو مدركي ـ ـ ـ وإن خلت أن المنتأى عنك واسع)/ وأنا قريبٌ منك أعبث بين قلبي والمسافة بيننا وأتوه/ في أسماء وردك تاركا نفسي ليقتلها انتظاري عند فوهة/ الحكاية والمدى لك واسعٌ أيضا وخيلي حين/ تعدو تترك الوقتَ الذي لا يكترث. نلاحظ أن شاعرنا لا يكتفي بالإشارة للأسطورة إنما يضيف من عنده كي يعطيها صدقا فنيا وتأكيدا لحضورها، وكذلك يدعّم رؤيته وما ذهب إليه في قصيدته باستعارته لبيت شعر للنابغة الذبياني، وهذ البيت قاله النابغة، كما أورده أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني حيث قال: كان يُضرب للنابغة الذبياني قبة بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتُعرض عليه أشعارها.. وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الخنساء وبنت عمرو وبن الشريد. وعندما وصلت الخنساء إلى البيت الذي تقول فيه: وإن صَخراً لتَأْثمُّ الهُداة بِهِ/ كأنهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نَارُ/.. وهنا اهتزّ النابغة طرباً وقال: والله لولا أن أبا صخرٍ أنشدني آنفاً لقلتُ: إنك أشعر الجن والإنس.. عندها نهض الشاعر حسان بن ثابت ثائراً وقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك.. فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول: فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدْركي/ وإنْ خِلتُ أنَّ المنْتأى عنك واسعُ/ خطاطيف حَجْنٍ في حبال متينة/ تُمَدُّ بها أَيْدٍ إليكَ نوازعُ.. فخنس حسان ولم يرد.
نكتفي هنا.. بما تناولناه من قصائد من ديوان "توقعات محايدة" كأمثلة مهمة في توظيف الأسطورة، وتبقى أساطير أخرى.. في قصائد أخرى من الديوان نتركها للقارئ، كي يستمتع بتأويلها كيفما يشاء علّه يحث الخطى لقراءة أشعار علاء من جديد.. وإذا كانت الأسطورة هي الملاذ الأول للإنسان للانتصار على خيباته، وتخطي فواجعه المختلفة.. جاءت محاولة علاء لخلق بديلا جديدا، أكثر اشراقا وجمالا، انها البؤرة التي يرى منها الانسان النور والفرح، لأنها تشكل له حالة توازن نفسي مع محيطه ومجتمعه، فبواسطتها تتم عملية الحلم والتخيل والاستذكار إن اللجوء إلى الاسطورة هو استحضار للبطولة الغائبة! والحنين لها، وعندما نستدعي البطل الأسطوري والتاريخي عبر زمن القصيدة وشفافيتها، فإن توْقاً شديداً يدفعُنا إلى تمثُّل حالات هذا البطل عله يكون المفدي والمخلص، والشعلة التي تنير لنا طريقا مظلما.. وكذلك إن توليد الأسطورة وتشكيلها وإعادة صياغتها عملية جمالية تهدف للبحث عن عالم فسيحٍ جميلٍ، لم تقتله بعد الشعارات الأيديولوجية، ونعتقد أن شاعرنا قد نجح إلى حد بعيد في استحضار الأسطورة وتماثلها لما يجري وجرى في مدينته من جهة، وإعادة أسطرتها من جهة أخرى.. وأخيرا يمكننا القول أن تجربة علاء الشعرية، هي تجربة عميقة تدل على شاعريتة، وتستحق منا أن نقف عندها، ونتأمل صياغاتها الشعرية وصورها، حيث امتازت نصوصه بتعدد الصور وتكثيفها، وشكلت هذه النصوص فضاءً شعرياً أنفتح على صور ذهنية مكثفة، كشفت عن مدى قدرة الشاعر على خلق معاني يمكن أن نمسك بها من خلال فعل القراءة المعمقة له؛ فهو ينتقي ويقتني الكلمات المكتنزة بالإيحاء، ذات الدلالات التي تلامس مدارك الحس مستعينا بلغة التكثيف والاختزال، التي تحتاج من المتلقي التأمل والإدراك حتى يتمكن من تفكيك مغاليق النص. وهو يحرك التراكم المعرفي والباطني فيه من أجل خلق فهم جديد للنص الشعري، كي ينقل القارئ في قراءته من الحالة الإستاتيكية السكونية الى الديناميكية المتحركة، لتبعث الحركة في النص نحو أحتمالات وتأويلات يرتقي فيها الى مستوى يقترب من المحتوى الصوفي في الكشف عن جوهر النص ضمن الإطار العام له. فيبلغ في تصوراته آفاق ما ورائية ذات منطق دلالي في صياغة الجملة الشعرية خارج مستويات اللغة المعجمية والتحرر من تبعاتها وإيجاد أشكال تعبيرية وصور شعرية في وضع المفردة في سياقها الشعري، كاشفاً عن مقوماته اللغوية وقدرته الإبداعية في اخراج اللغة من محتواها الحقيقي الى محتوى مجازي ابداعي، لايتوقف عند الوظيفة اللغوية أو المعجمية للكلمات في تكوين صوره الفنية، بل يستند الى بنية النص الشعرية، يعبر بها عن المعاني التي تختلج في نفسه، لأن النص ينبثق من ذات واعية، مدركة لخصائص اللغة في واقعية التصور والاحداث.. شكرا علاء، شكرا لأنك فضحتنا، شكرا لأنك أمتعتنا، شكرا لأنك أضفت للساحة الشعرية ما هو جديد، وليس أمامنا إلا أن نرفع القبعة ونقدم له التحية!
عندما تطفح اللغة بالأشعار والقصائد المكرورة والمتشابهة، كان لا بد من شاعر ما.. أن يخرج عن مألوف الشعر الحر الذي تعودنا على قراءته منذ نازك الملائكة والسياب وصولا إلى أدونيس ومحمود درويش، ودرويش حاول أن يوفق بين النثر والوزن كما ظهر في قصائده الأخيرة قبل أن يغيبَ عن عالمنا الحاضر، وكما ظهر ذلك في قصائد "سرير الغريبة"، يقول درويش في حوار لمجلة "الشعراء" الصادرة عن بيت الشعر 1999: "إن النثر أكثر اقترابا من الحياة العصرية، لكن الاستسلام لإيقاعه الإخباري السريع قد يدمر الشعرية، نعم لماذا لا تكون هناك مصالحة بين الخيارين، بين خيار الوزن والخيار الآخر، فهناك منطقة وسطى عمل عليها، ت س إليوت. Thomas Stearns Eliot" نؤكد هنا.. من جديد أن الشاعر علاء الغول مستمرٌ في مشروعه الفني الفريد والذي لم يسبقه أي من شعراء عصره، ويعتمد فيه الشاعر أسلوبا جديدا من السرد يوائم فيه بين النثر والوزن؛ فالمتلقي يقرأ قصائد علاء الغنية بالمعرفة والثقافة، فيعتقد أنها نثرٌ، يعود ليقرأها من جديد فيكتشف أنها تفعيلية تدويرية تعتمد على الكامل مُتفاعِلُن/مُتفاعلن، في بناء هارموني متصل، ليصل بنا إلى الذروة في نهاية القصيدة، وهذا ما يشبه لحظة التنوير في القصة القصيرة التقليدية، فالتفاصيل تتزاحم من أول القصيدة حتى قرب نهايتها لتجلو موقفا ما.. وتبدو هذه التفاصيل في بعض الأحيان لونا من الثرثرة الحميمة المحملة بالأحاجي والأسئلة الخرساء.. ثم ما يلبث كل ذلك أن يرتفع بارتفاع الذروة، ويكتسب دلالاتها بعمقها.. وهنا يعود القارئ مرة ثانية على ضوء الذروة الأخيرة لكي يعيد تقدير قيمة التفاصيل الأولى..
إذا كان الشعرُ يستند إلى تكثيف اللغة، والصور الجمالية، فلا أدلّ على ذلك عندما تظهر الأسطورة في كلمة واحدة مثلا؛ لكنها تروي قصة أو رواية كبيرة.. وشاعرُنا علاء في "توقعات محايدة" كان مميزا في توظيف الأساطير الشرقية والعالمية؛ فامتلأت قصائدُه بتلك الأساطير كمعادل موضوعي لحالة (غزّة) التي يعيش فيها الناس هواجسا وكوابيسا صعبة قد تبدو لا خلاص منها.. وكأننا في متاهة غير منتهية! يقول الدكتور عبد الرحمن القاعود: "بعد نكبة 1948، صحا الشعراء على ضياع فلسطين وضياع الكرامة العربية معها بسبب هزيمة الأمة العربية، وكان هذا أشبه بالقحط والجدب في الحياة العربية والواقع العربي، وشكل هذا هاجسا في ذهن الشاعر، وبعد النكبة في الخمسينيات والستينيات ظهرت بعض الحركات الثورية التي أحيت الأمل في النفوس ورغبتها في التحرر والتقدم، فكان هذا أشبه بهاجس الخصب والبعث والولادة، فأحس الشاعر أن في مضامين بعض الأساطير ما يوظفه للتعبير عن هذه الهواجس، وبخاصة أساطير الخصب والبعث والميلاد، وما يرمز إلى الحياة وانبعاثها وتجددها بعد جدب أو فناء.. وهذا ما يفسر في الوقت نفسه انطلاقة شعر الحداثة العربية بأساطير النماء والخصب والبعث والولادة (العنقاء الفينيق وتموز وأدونيس وعشتار) قبل غيرها من الأساطير، وفي مجال هذه المضامين جاء شعر ما يعرف بالحركة التموزية أو الشعراء التموزيين أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي" (د.عبد الرحمن محمد القاعود، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، الكويت: آذار 2002، ص54)
في قصيدة "حكايات وحكايات وأنا" يقول علاء: في شعرها قُزحٌ/ وأعرف أن (أنزار) اكتفى بالحب ينزل عن عروش المجد معترفا أن صبية أسرت إله الماء/ والمطر الذي يحي بلمسته قرىً بورا ويسقي/ بلدة عطشى و(تسليت) العروس تعود معه إلى السماء فيجعلان الطيف ألوانا هي العشق/ الذي يكفي ليجعل للحياة مكانة في النفس..(ص 30 ديوان توقعات محايدة) هنا يحن الشاعر إلى حكايات الأقدمين التي صارت أساطير؛ فـ (أنزار) هو ملك أو إله الماء في الميثولوجيا الأمازيغية، و(تسليت، أو تاسيليت) في الأمازيغية تعني خطيبة أو عروس، وتاسليت أنزار تعني عروس أو أميرة أنزار إله المطر.. وحسب الرواية أن تاسليت كانت فاتنةً عاشقةً للماء وكانت ترتاد النهر الفياض بالمياه لترتوي من مائه، وترضي عشقها له، وكان أن رأها أنزار إله الماء فتعلق بها وغدا عاشقها وأصبح يهيم عشقا بها، وحاول باستمرار أن يصارحها بحبه، لكنَّ تاسليت التي هي قوس قزح الذي يزين السماء بألوانه الزاهية، كانت عفيفة خجولة، ولطالما عملت على تفادي مصارحة أنزار حتى لا يعيبها قومها بتهمةٍ خزيئة، وأمام تفادي تاسليت المستمر لأنزار، لم يجد هذا إلا أن يقدم بجرأة حاسمة، وبعد أن أفصح عما شغل قلبه، فوجئ باعتراض وتعفف تاسليت عنه، وبعد الرفض غضب أنزار وانطلق مزمجرا إلى السماء، فنضب النهر وغارت مياهه، فجف النهر من الماء الذي هو روح تاسليت، فبدأت بالبكاء وتضرعت ولانت لأنزار وقبلت بحبه، وبعد هذا أبشر أنزار وعاد من السماء كالبرق إلى الأرض وأخذ حبيبته بعيدا إلى السماء.. ومن حنين الشاعر إلى البعث والميلاد، يعود ليتذكر بطولات الصعاليك في تحررهم من استبداد القبيلة، ويربط تلك القصص بأساطير بريطانيا وسيف الملك أرثر الذي ينسب إليه حق السيادة على بريطانيا العظمى، وكما يقال: إن حامل السيف لا يموت. كل هذه الحكايات والهواجس التي تلبست حالة الشاعر الذي يعيش في غزة المدينة التي مزقتها الفرقة والحروب وقبضة حكامها فأشقتها بدلا من أن تنعشها لتحيا من جديد كما يأمل الشاعر..
في قصيدة "عمعموت" ص17 يقول: في شعرها قد أودع المدفون في جوف/ الحقيقة إنه المجهول والموت المفاجئ/ والحساب على موازين القيامة/ عمعموت الوحش يلتهم القلوب الآثمة/ ياهذه الأسفار يا فحوى وجودي هكذا/ متورطا لا شيء يحميني كما لا شيء يمكن/ أن يطمئن سائرٌ فأحرِّك الدنيا/ وهل أنا واقف ويقاد لي هذا المصير أم الجواب متاهةٌ/ أخرى ويبقى القلب غرَّا سادرا في الوهم... عمعموت هنا.. الوحش الذي يحكم مدينة علاء، وحسب الأسطورة المصرية هو كائن خرافي ويتمثل في رأس تمساح وجسد لأسد، ويقيم في منزل إله الموت "أوزيريس" في العالم السفلي ينتظر الموتى، وهناك يتم محاكمتهم، فيوْزن قلبَ كلً منهم.. فإن كان القلبُ نقيا أي أخف من ريشة العدل والنظام مرّ المرءُ بسلام ويعطى ثوبا أبيضا جميلا وحديقة يعيش فيها هو وزوجته يأكلون من ثمارها، أما إن كان قلبُ المرء مثقلا بالذنوب والأعمال السيئة يلقى إلى عمعموت يلتهمه فيُمحى صاحبه ويختفي من الوجود.. هذه هي مدينة علاء، إما أن يكون قلبك نقيا مع الحاكم فتنجو وتعيش سعيدا، وإما أن يكون مثقلا بالآثام حسب عُرفهم؛ فتنتظر ليلتهمك عمعموت وتفنى من الوجود!؟ هذا الإسقاط الأسطوري من الشاعر على مدينته يلائم تماما أهل غزة الخائفين من "عمعموت".. علاء الشاعر دكتور الأدب الإنجليزي واسع المعرفة والثقافة العالمية والإنسانية، بحيث لا يجاريه شاعر آخر في هذا المضمار، ومن هنا يمكننا القول: إن كنت مدرسا أم أكاديميا، مثقفا أم أميّا وكنت في امتحان فلا أصعب عليك من امتحان في التفسير لشعر علاء الغول، يقول أدونيس: "الفرق بين الشاعر الكبير والشاعر الصغير، هو أن الصغير حين يعبر عن نفسه لا يعبر إلا عنها، وأن الكبير حين يعبر عن نفسه فإنه يعبر عن عصره كله.." أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط 3، ص 174.
في قصيدة "حب من خرافة وفلسفة" ص 28 يقول علاء: في شعرها دنتِ القطوف العاريات النازفات/ تحرق الفانون من أجل الخلود وأنت يا ابن/ الليل يا ثناتوس أيمكن أن تُصفَّد كي نظل لنحتفي/ بنسائنا ونرى الصغار على التلال يصارعون/ الوقت بين الشمس والأبدية الحمقاء/ نشرب من ينابيعِ البقاء ونستحمَّ أمام/ أسراب الطيور ندور حول الغانيات وقد حملن/ الريح تجري في مزامير الرعاة إلى السفوح/ الفائضات بنبتة النسيان يرقصن حولها أبناءُ هيبنوس/ (وما شر الثلاثة أم عمرو ـ ـ ـ بصاحبك الذي لا تصبحينا) / ترجل أيها الموت الذي أوقعت سيزيف/ الجريء ضحية لزيوس/ هي الأحلامُ تأتينا لنهدأ كي ندافع عن بذور/ الحب فينا والتشرد في منافي الروح والعبث/ .... (ثناتوس) في الأسطورة اليونانية ابن ألهة الليل (نيكس) ويصور على أنه روحا أو رجلا له أجنحة ويمثل عندهم الموت الهادئ، حيث لمسته لينة، وهيبنوس يعتبر شقيقه التوأم، ويمثل النوم، أما الموت العنيف فكان من اختصاص أخته (كيريس)، وحسب الأسطورة، كان ثاناتوس على علاقة وطيدة بزيوس رب الألهة، حيث كان يقتل من يريد زيوس قتلهم وأما من يريد بقاءهم أحياء يتعذبون يضعهم في سجن سري لا يعلم مكانه الا زيوس وثاناتوس. وارتبطت شخصيته أيضا بأسطورة سيزيف، وهوة ابن آيولوس إله الرياح وكان محاربا عظيما بارعا ماهرا في القتال يتميز بالحكمة والمكر والدهاء وكان زيوس يفشي أسرار مغامراته له، وقرر سيزيف ان يفشي أسرار زيوس لإزاحته من عرش الأولمب إلى إله النهر فأعلمه بها، وأنه على علاقة مع ابنته وعندما علم زيوس بالأمر، قرر معاقبته بإرساله إلى الجحيم ليتعذب هناك ولكن سيزيف استطاع خداع قابض الأرواح ثاناتوس فطلب منه أن يتاكد من صلابة ومتانة الأصفاد والأقفال، وعندما جربها ثاناتوس قام سيزيف بتكبيله وأسره عنده لمدة، ولكن تدخل إله الحرب (آرس) لينقذ ثاناتوس من أكباله وهروب سيزيف. هذه الأسطورة تعيد لنا الحكاية التي نعيشها في غزة؛ إذ أن ما يحاك هنا من أرباب الحكم لا يختلف عن مكر ودواهي الآلهة اليونانية لأجل السلطة وامتيازاتها والتمتع بلذاتها، مغلفة بسلطة دينية مقدسة.. ويذهب شاعرنا أكثر في الأسطورة ومحاكاته لـ (سيزيف) رمز العذاب الأبدي عندما عاقبه زيوس برفع الصخرة من الوادي إلى قمة الجبل، وكلما اقترب بها من القمة تعود لتتدحرج من جديد إلى الوادي ليعود المُعَاقب مرة أخرى ليرفعها إلى القمة متحملا المشقة والعذاب وهكذا دواليك.. شاعرُنا لم يكتف بمحاكاة الأسطورة الإغريقية؛ إنما ربطها بقصة عربية تاريخية مشهورة لشاعر معروف، وهو من أصحاب المعلقات الشهيرة في الأدب العربي، وهو: عمر ابن كلثوم التغلبي، وعُرف بأنه قتل عمر بن هند التي ادعت يوما بأنها أشرف نساء العرب؛ فهي بنت ملك الحيرة، وزوجة ملك، وأم ملك... فقالت لها احدى جليساتها بأن: ليلى بنت المهلهل أشرف منك فعمُّها الملك كليب وأبوها الزير سالم (المهلهل) وزوجها كلثوم بن مالك وولدها عمر بن كلثوم سيد قومه.. فأجابتها هند: سأجعلنها خادمة لي، ثم طلبت من ابنها عمر أن يدعو عمر بن كلثوم وأمه لزيارتهم؛ فكان ذلك.. وفي أثناء الضيافة حاولت أم الملك تنفيذ نذرها، فأشارت إلى جفنة على الطاولة، وقالت يا ليلى ناوليني تلك الجفنة، فأجابتها ليلى: لتتقدم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.. ولمّا ألحّت عليها، صرخت ليلى "وا أذلاه"، فسمعها ابنها عمر بن كلثوم وكان جالسا مع عمر بن هند في حجرة مجاورة، فقام إلى سيف معلق وقتله به، ثم أمر رجاله خارج القصر وقاموا بنهبه... هذه القصة التي رمز لها شاعرنا باقتباسه لبيت شعر من معلقة عمر بن كلثوم، ليعيد لنا الحكاية في إشارة من الشاعر إلى الانقلاب الذي تبعه الانقسام الفلسطيني، وأحد طرفي الانقسام ادعى بأنه الأحق والأشرف للحكم..؟!
في قصيدة "عثتر سمين" ص 64، يقول علاء: في شعرها نور القلوب تجسدت آيات هذا/ الكون والناس الذين استشعروا وجع الفراغ/ تدافعوا مهللين ومن حكاياهم تناسلت/ السما قمرٌ وشمسٌ ينجبان فجاءنا (عثتر سمين)/ وتدفقت زمرٌ من الآلام تلهث خلف رحماتٍ تنزلُ/ حول من طافوا ومن نزلوا السهوب وشيدوا نصف/ المعابد من ضمائرهم وظلّ السعي يسترضي الإله/ يسوع يلهج قائلا (إيلي إيلي لما شبقتني) أيلول/ ولولة على تموز رب الخصب والكلآ الذي نُحرت له/ نوقٌ وأنعامٌ تغني أول العباد يا عشتار/ (يا ام الزلف عيني يا موليا)... الشاعر هنا يعيدنا إلى أول الأساطير العربية، في محاكاة ساخرة وأقرب إلى الكوميديا السوداء لما يدور في غزة وحكامها؛ وكأن الدنيا بدأت من عندهم..! ومن سبقهم كانوا جهلة لا يفكرون ولا يتأملون.. أما هم عندما بدأوا يتأملون الكون، واكتشفوا أن الشمس الأنثى هي الأله الأم، والقمر هو الإله الأب فأنجبا كوكب الزهرة، الذي يمثل الإله (عثتر سمين)..! واستمروا في اكتشافاتهم وهم يهللون ويبتهلون بالطريقة الآرامية: إلهي إلهي لمذا تركتني؟ ويفرحون لتموز رب الخصب والكلأ ويغنون لآلهتهم عشتار أم الزلف أي الجمال، أو لصغر أنفها مع استواء الأرنبة، كما جاء في الصحاح. يقول الدكتور نضال الصالح في مقال بعنوان "كيفية ظهور ـ الله ـ في الوعي العربي": كان الأب يتمثل في السماء في صورة الإله القمر وتتمثل الأم في صورة الألهة الأنثى الشمس أما الإبن فتمثل في صورة النجم الزُهرة، ولقد تغير مركز وماهية الشمس والزهرة حسب المجتمعات وطبيعتها وعلاقتها بالشمس والزهرة، أما القمر فظل محافظا على مركزه وألوهيته بغض النظر عن الإسم الذي كان يعرف به، ولقد عُرف الإله القمر بـ (إل) والألهة الشمس بـ (إيلات) والإبن المتمثل في كوكب الزهرة بـ (عثتر سمين) أي عثتر السماء، و في حضرموت عُرف باسم (سين) ولقد عبد المعينيون القمر باسم (ود) ويعني الودود، وعرف في الجنوب العربي باسم (ودم شهرن) ويعني الأب القمر ولقد وصفه اليمنيون بـ (صدوق) أي الصادق، كما وصفوه بـ (نهى) أي الحسن و(حريمن) أي المحرم أو القدوس و(حكم) أي الحكيم و(رحمن) أي الرحيم كما وصفوه بالرب والملك والعزيز والعادل والأمين.. (نضال الصالح، كيفية ظهور الله في الوعي العربي، الحوار المتمدن، العدد 2792، 2009.) يستمر شاعرنا في أسطورته، فيقول: يا الله بادت هذه الأوثان/ لكن بُدّلت في ألف شكل إن شعرك مرأةٌ مسحورة تركت/ على الأرض الخطى وتخللت في الغيم غابت ليلتين/ وعاد معها الزائرون من الخرافة والحكايات البعيدة/ قسّموا ليل المدينة بينهم وأنا حظيت بوردة فضية/ قد أسقطتْها فوق نافذتي (سميرامات)/ ففُوك سحر القلب واتسعت دروب الحب لي/ وأنا أنتظرتُك كل هذا الوقت معترفا بأني لم أطع/ عُرف القبيلة في الهوى... رغم كل هذه الأساطير التي حدثت في مدينة الشاعر ظلّ هو بعيدا عن هذه المغريات وهذه الملذات، ولم يطع عُرف القبيلة في إشارة إلى الذين غادروا أعمالهم واستكانوا في بيوتهم يتأملون وينتظرون وردة فضية تسقطها على شبابيكهم (سميراميس)، وحسب الأسطورة العراقية أن (سميرامات أو سميراميس) التي ألهمت عقول الفنانين والأدباء في أوروبا طوال عدة قرون وفرضت حضورها في الأدب والتاريخ والرسم والموسيقى والسينما والمسرح، فهي تمثل الجمال والحكمة من ناحية، والقدرة على إدارة الدولة وخوض الحروب من ناحية أخرى، استطاعت قيادة بلاد الرافدين، ومدّ نفوذها ليشمل العالم القديم طيلة عشرات السنين، خلدها التاريخ وسطرها بأحرف من نور لتهيمن على القلوب وتهيم بالألباب.. هي من يحلم بها الشاعر ويقبل بحكمها..
في قصيدة "على باب المتاهة" يقول الشاعر: في شعرها جدل الخرافة وانعتاق الفكر/ من أسَر التخوف والتحرر مثلما فعل (ابن فرناس)/ الذي قتل الحقيقة حين قال أنا الهواء وخَمسُ/ أجنحة وقلبٌ ليس يجزع إنما الدنيا متاهات/ على أبوابها وحشٌ يلاحق من يفرُّ وحين حلق/ (دايدالوس) بقيت متاهته لـ (مينوس) ثم أنت/ حبيبتي قلبي وعطرُكِ وانشغال التائبين بلحظةٍ جعلت/ من القربان وجها واحدا ليؤوب قلبٌ متعبٌ تبدو السماء/ عنيدة سدا من الأوجاع والتهم التي لا تنتهي/... غزة مدينة الشاعر وحبيبته التي لا تفارقه ولا يفارقها.. يليق بها هذه الأساطير، كيف لا وهي قد أصبحت محط أنظار واهتمام دول الكون وعلى رأسهم الدول العظمى..؟؟ كيف لا وغزة منذ كنعان لها أهميتها الكونية نظرا لموقعها الجغرافي؟! والحالى التي تعيشها غزة مؤخرا كأنها في نفق لا ينتهي، أو في طريق متاهي لا نهاية له... دفع بشاعرنا علاء لأن يسقط أسطورة (ديدالوس) الإغريفية؛ فهو كان مهندسا ونحاتا.. ويعني اسمه باللغة الإغريقية "المخترع الماهر" ديدالوس، بنى متاهة، وفيها تم إحتجاز وحش (المينوتور)، وذلك بأمر من الملك مينوس.. (المينوتور) هو مخلوق نصفه رجل ونصفه الآخر ثور، وبعد زمن غضب الملك (مينوس) على (ديدالوس) لسبب ما.. وأمر بأن يسجن مع ابنه (إيكاروس) في المتاهة التي بناها.. ورغم أن (ديدالوس) هو الذي صمم المتاهة، إلا أنه كان من المستحيل عليه أن يعرف طريق الخروج منها.. وبعد تفكير وجد أن الحل الوحيد للخروج من المتاهة هو الطيران، فقام ابنه (إيكاروس) بجمع الريش الذي يجده وقام (ديدالوس) بصنع أجنحة والصق الريش فيها بواسطة الشمع.. وحين أصبحا مستعدين للطيران، قال (ديدالوس) لولده (إيكاروس): يجب أن تطير على ارتفاع معتدل.. ولا تطير على ارتفاع منخفض، حتى لا تفسد الرطوبة أجنحتك ولا تطير عاليا حتى لا تذّوّب الشمس أجنحتك، ابقى قريبا مني لتكون بأمان.. وأخيرا وبوجه تبلله الدموع ويدان ترتعشان، قبل ابنه لأخر مرة ثم طار مع ابنه (إيكاروس) وخرجا من المتاهة.. وحين شاهدهم أحد الرعاة ذهل وظن أنهم من الآلهة لأنهما يطيران، بدأ الحماس يدخل في نفس (إيكاروس) حين وجد نفسه يطير فعلا في الجو ونسي نصيحة والده، طار عاليا فأذابت الشمس أجنحته وهوى نحو البحر وغرق.. يؤكد ذلك علاء في قصيدته حيث يقول: حبيبتي تتآكل الأوقاتُ نسحبها وتسحبنا/ (إيكاروس) ذاب بين الشمس والتفكير في تضليل/ وحش أطلقته النية العمياء شعرُكِ قطعة الموزاييك/ تفسيري لمعنى اللون في ورق الخريف ولحظة الأحلام/ وهي تمر من خصلات شعرك دونما استئذانه وكقول/ نابغة الجزيرة (كأنكَ كالليل الذي هو مدركي ـ ـ ـ وإن خلت أن المنتأى عنك واسع)/ وأنا قريبٌ منك أعبث بين قلبي والمسافة بيننا وأتوه/ في أسماء وردك تاركا نفسي ليقتلها انتظاري عند فوهة/ الحكاية والمدى لك واسعٌ أيضا وخيلي حين/ تعدو تترك الوقتَ الذي لا يكترث. نلاحظ أن شاعرنا لا يكتفي بالإشارة للأسطورة إنما يضيف من عنده كي يعطيها صدقا فنيا وتأكيدا لحضورها، وكذلك يدعّم رؤيته وما ذهب إليه في قصيدته باستعارته لبيت شعر للنابغة الذبياني، وهذ البيت قاله النابغة، كما أورده أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني حيث قال: كان يُضرب للنابغة الذبياني قبة بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتُعرض عليه أشعارها.. وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الخنساء وبنت عمرو وبن الشريد. وعندما وصلت الخنساء إلى البيت الذي تقول فيه: وإن صَخراً لتَأْثمُّ الهُداة بِهِ/ كأنهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نَارُ/.. وهنا اهتزّ النابغة طرباً وقال: والله لولا أن أبا صخرٍ أنشدني آنفاً لقلتُ: إنك أشعر الجن والإنس.. عندها نهض الشاعر حسان بن ثابت ثائراً وقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك.. فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول: فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدْركي/ وإنْ خِلتُ أنَّ المنْتأى عنك واسعُ/ خطاطيف حَجْنٍ في حبال متينة/ تُمَدُّ بها أَيْدٍ إليكَ نوازعُ.. فخنس حسان ولم يرد.
نكتفي هنا.. بما تناولناه من قصائد من ديوان "توقعات محايدة" كأمثلة مهمة في توظيف الأسطورة، وتبقى أساطير أخرى.. في قصائد أخرى من الديوان نتركها للقارئ، كي يستمتع بتأويلها كيفما يشاء علّه يحث الخطى لقراءة أشعار علاء من جديد.. وإذا كانت الأسطورة هي الملاذ الأول للإنسان للانتصار على خيباته، وتخطي فواجعه المختلفة.. جاءت محاولة علاء لخلق بديلا جديدا، أكثر اشراقا وجمالا، انها البؤرة التي يرى منها الانسان النور والفرح، لأنها تشكل له حالة توازن نفسي مع محيطه ومجتمعه، فبواسطتها تتم عملية الحلم والتخيل والاستذكار إن اللجوء إلى الاسطورة هو استحضار للبطولة الغائبة! والحنين لها، وعندما نستدعي البطل الأسطوري والتاريخي عبر زمن القصيدة وشفافيتها، فإن توْقاً شديداً يدفعُنا إلى تمثُّل حالات هذا البطل عله يكون المفدي والمخلص، والشعلة التي تنير لنا طريقا مظلما.. وكذلك إن توليد الأسطورة وتشكيلها وإعادة صياغتها عملية جمالية تهدف للبحث عن عالم فسيحٍ جميلٍ، لم تقتله بعد الشعارات الأيديولوجية، ونعتقد أن شاعرنا قد نجح إلى حد بعيد في استحضار الأسطورة وتماثلها لما يجري وجرى في مدينته من جهة، وإعادة أسطرتها من جهة أخرى.. وأخيرا يمكننا القول أن تجربة علاء الشعرية، هي تجربة عميقة تدل على شاعريتة، وتستحق منا أن نقف عندها، ونتأمل صياغاتها الشعرية وصورها، حيث امتازت نصوصه بتعدد الصور وتكثيفها، وشكلت هذه النصوص فضاءً شعرياً أنفتح على صور ذهنية مكثفة، كشفت عن مدى قدرة الشاعر على خلق معاني يمكن أن نمسك بها من خلال فعل القراءة المعمقة له؛ فهو ينتقي ويقتني الكلمات المكتنزة بالإيحاء، ذات الدلالات التي تلامس مدارك الحس مستعينا بلغة التكثيف والاختزال، التي تحتاج من المتلقي التأمل والإدراك حتى يتمكن من تفكيك مغاليق النص. وهو يحرك التراكم المعرفي والباطني فيه من أجل خلق فهم جديد للنص الشعري، كي ينقل القارئ في قراءته من الحالة الإستاتيكية السكونية الى الديناميكية المتحركة، لتبعث الحركة في النص نحو أحتمالات وتأويلات يرتقي فيها الى مستوى يقترب من المحتوى الصوفي في الكشف عن جوهر النص ضمن الإطار العام له. فيبلغ في تصوراته آفاق ما ورائية ذات منطق دلالي في صياغة الجملة الشعرية خارج مستويات اللغة المعجمية والتحرر من تبعاتها وإيجاد أشكال تعبيرية وصور شعرية في وضع المفردة في سياقها الشعري، كاشفاً عن مقوماته اللغوية وقدرته الإبداعية في اخراج اللغة من محتواها الحقيقي الى محتوى مجازي ابداعي، لايتوقف عند الوظيفة اللغوية أو المعجمية للكلمات في تكوين صوره الفنية، بل يستند الى بنية النص الشعرية، يعبر بها عن المعاني التي تختلج في نفسه، لأن النص ينبثق من ذات واعية، مدركة لخصائص اللغة في واقعية التصور والاحداث.. شكرا علاء، شكرا لأنك فضحتنا، شكرا لأنك أمتعتنا، شكرا لأنك أضفت للساحة الشعرية ما هو جديد، وليس أمامنا إلا أن نرفع القبعة ونقدم له التحية!