جعفر حسن - الشعرية الطارئة..

سنعتمد هنا على مختصر مفيد حول الشعر قبل أن ندخل في الشعرية الطارئة ، حيث أن ما يجعل عملا ما شعرا ، بالتحديد هو الشعرية ، إي اعتبار ما يحيله إلى هذا الصنف من الأدب ويجعله ينتمي إليه بمعنى أدبية الأدب . وفي هذا التحديد سنجد الكثير من التعريفات التي في جوهرها تميل إلى شقين عامين عن الشعر ، حسب ما نعتقد (وزنا أو معنى)، فإما ينظر إلى الشعر من ناحية الشكل الفني القار في التراث العربي ، فيكون الإيقاع سيد الموقف ليؤدي غرضا ما له علاقة بالتطريب ، ويؤدي وظيفة توصيلية في الأغراض الشعرية القديمة ، وتكون القافية فيه سيدة الموقف ، وذلك على الرغم ممن يرى أنها لا تنتمي إلى الإيقاع ، وإما أن يكون النظر مرتكزا على من مجموعة التقنيات المستخدمة لتحيل العمل على الشعر بالإيقاع وبدونه ، أي أن التركيز سيكون على مجمل أدوات الإبداع في الشعرية.
وعندما نتكلم عن الشعرية الطارئة ، إنما نحيل إلى ذلك الحد الذي يدخل في الاستخدام العملي أو التداول اليومي للغة أو في الأشكال الأدبية الأخرى مثل السرد ، فيمكننا معرفة تلك العلاقة بين المتباعدات التي توظف في الشعرية العربية أو حتى الشعرية بعامة ، مهما كان نوع الشكل الذي تظهر فيه القصيدة (عمود ، تفعيلة ، قصيدة النثر) ، ولعل هذا الحد التقني الخاص بالشعر ، ينتشر في الإعلان والدعاية التي تربط بين متباعدين (التدخين ، متع استهلاك الخيرات المادية والاستمتاع بالنساء) ، ويبدو المشهد كأنه موجه للرجال بالتحديد (التدخين وركوب الخيل) يؤدي إلى قضاء وقت ممتع ، فتلك العلاقات تضفي صيغة شعرية ترابطية تحث على استهلاك التبغ مثلا أو غيره من المنتجات المادية.
لكل من خبر الشعر وإنتاجه ، يجده يرتبط بالفنون الأخرى مثل التشكيل والمسرح والسينما ، ويظهر في كل واحدة من تلك الفنون بحسب تقنياته ، ولكننا نرى بعض الإنتاج الشعري على شكل دواوين يحتوي في داخل الديوان على ربط بين القول الشعري والتشكيل أو بين الشعر والنحت وقد ظهر ذلك الترابط عندنا في البحرين في عديد الأعمال منها (أرى الموسيقى لأحمد العجمي وكتاب الأنثى لإيمان أسيري) على سبيل المثال ، بينما ترصع الأعمال الفنية كثيرا من أغلفة الدواوين ، وكتابات السرد عبر الوطن العربي ، فلا تخلو تلك العلاقة من رابطة موحية بين المجالين ، وهي كذلك ربما بين كل مجالات الفن ، وتتعقد تلك العلاقة في تمظهراتها خصوصا إذا دخل الشعر مجال الفنون المركبة .
ونجد في الدعاية والإعلان ما يشبه تلك العلاقة بين سمات الشعرية العربية والصور المرافقة للإعلان في الفنون البصرية ، سواء كان الثابت منها أو المتحرك أو ذلك المرتبط بنصوص تظهر في الأعمال السينمائية الدعائية . وهناك ميل في الشعرية العربية يتخذ مسارا نحو التحول من التشبيه إلى الاستعارة والتي تنفتح على الرمز ، ذلك أيضا ما يوظف في الإعلان اليومي ويمكننا تصور استعارة الضحك من فعل الإنسان إلى البقرة ، وتحول البقرة التي تضحك إلى رمز دال على الحليب ومشتقاته ، ومن ذلك إلى الجبن في تسمية البقرة الضاحكة وعلاقة العبارة بصورة البقرة التي تضحك مثلا .
ولعلنا نشير إلى درجة أقل من الشعرية تلك التي تتعلق بالجناس اللغوي ، ولكنها أيضا تلعب في الدعاية والإعلان وقد ابتكر سيناريست فلم الفنكوش مثل ذلك ، عندما سجل إعلانا بكلمات تقول (نهارنا عسل الفنكوش وصل) ، ونلاحظ كلمتي عسل ووصل تنتهيان بحرف اللام ، وبذلك هي تلامس ما تربت عليه الأذن العربية من الإيقاع النابع من السجع ، وسهولة حفظ الجمل المتساوية نهارنا عسل و الفنكوش وصل ، بينما يلعب المشهد البصري بوجود الراقصة ما نشير إليه من العلاقة بين المتباعدات ، على الرغم من كون الفنكوش عامل مجهول حسب البناء الفني الذي يعرف فيه المشاهد ما لا يعرفه بعض الأبطال مما يخلق التشويق ، ويمكن القياس على ذلك في الكثير مما حولنا من الإعلان .
لا تخلو حواراتنا اليومية الشفاهية من جماليات غير قابلة للاستعادة ، ذلك أن تراكيبها وصورها ناتجة عن لحظة التواصل الاجتماعي ، وهي من عبقريات اللغة ، ونحن نفقد الكثير من العبارات الموحية الجمالية والشعرية بمجرد انتهاء الحوار ، ولست أشير هنا إلى المجاز المرسل الذي مات بدخوله في التداولية اليومية لحياة الناس ، ولكنه كان في ابتدائه لحظة مبدعة شفاهية (أنا ميت من العطش) (احس أن روحي ستطفر) ... الخ ، أما شعرية القص والرواية فهي مبسوطة في الكثير من الكتابات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى