عبد الامير المجر - الواقعية السياسية..

بعد وفاة ستالين العام 1953 دعا الزعيم السوفيتي (الجديد) خروتشوف الى مبدأ (التعايش السلمي)، ويترجم هذا الطرح بقبول تعدد المذاهب الايديولوجية والتفاهم بين المعسكرين الكبيرين وقتذاك، الشيوعي والرأسمالي .. بعد نحو اربع سنوات، اعلن الرئيس الاميركي ايزنهاور مبدأه الشهير الذي دخل الادبيات السياسية باسم (مبدأ ايزنهاور) وخلاصته، انه يدعم فكرة التدخل لمساعدة اية دولة تطلب مساعدة اميركا ضد اي عدوان شيوعي!.
قد يبدو في الامر نوع من الاذعان السوفييتي لأميركا، وهو ما ذهب اليه بعض العقائديين الراديكاليين الشيوعيين، وعبرت عنه بشكل واضح القيادة الصينية بزعامة ماوتسي تونغ، التي شنت هجوما عنيفا على خروتشوف، بدأ بافتتاحيات جريدة (الشعب) الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، وتحت عنوان شهير (عاشت اللينينية)! ، وكان من نتائج هذا الخلاف، مواجهة عسكرية بين البلدين، وان كانت محدودة، وتقنّعت بالخلاف الحدودي على منطقة قريبة من جزيرة (تشينباو) التي اصبحت تحت السيادة الصينية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
من خلال قراءتنا لسياسة البلدين حينذاك، وجدنا انه لا الزعيم خروتشوف كان خائنا للعقيدة، كما وصفه خصومه، ولا اميركا ايزنهاور جاءت بجديد، وان الذي قام به الزعيمان، يمثل امتدادا لسياسة اسلافهما، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما وضعوا اسسا لطبيعة العلاقة بينهما، تجنبهما والعالم ويلات تصادم عسكري قد ينهي الحياة على الارض، لان كليهما بات يمتلك السلاح الذري، فالبلدان اتفقا على تقاسم مناطق النفوذ في العالم، في مؤتمر يالطا بالقرم العام 1945 الذي جمع ستالين وروزفلت وتشرشل، لمواجهة النازية، ووضع ايضا خارطة طريق سياسية تجنبهما المواجهة بعد الانتصار، وهذا ما تحقق في خطوطه العريضة، وان حصلت بعض التجاوزات من قبل الطرفين في اماكن متفرقة، قلقة سياسيا.
لم تدرك القيادة الصينية التي وصلت السلطة العام1949 هذه الحقائق، وقد كانت تحت سطوة نشوتها العقائدية التي عززها انتصارها على القوميين (الكومنتاج)، ترى ان بالامكان اكتساح العالم لإقامة الشيوعية، انطلاقا من رؤية تروتسكي الذي يرى ان الثورة يجب ان تبقى دائمة لحين القضاء على آخر نظام راسمالي! وتحت تاثير هذه الثقافة والحماسة، دفعت الصين بالزعيم الكوري الشمالي كيم ايل سنغ لاكتساح الجنوب، بعد ان حرر مع السوفييت شمال البلاد المحتل من قبل اليابانيين، واقام نظاما شيوعيا فيه.. وهكذا حلت الكارثة الكبرى التي جلبتها لكوريا الحماسة العقائدية وغياب ثقافة (الواقعية السياسية) التي انتهجها من قبل ستالين نفسه، عندما قبل باقتسام النفوذ بين السوفييت والاميركان في شبه الجزيرة، اي الشمال للشيوعيين والجنوب للاميركان.
وجد ستالين نفسه في حرج حقيقي، لأنه في حال عدم وقوفه مع الشيوعيين، سيبدو خائنا للعقيدة امام العالم الشيوعي الذي يتزعمه، وفي حال وقف معهم بثقل كبير وحاسم، فقد يتطور الامر الى مواجهة شاملة مع اميركا، ما يعد خرقا للاتفاق السري بينهما .. ارسل الصينيون مئات الالاف من المتطوعين لدعم رفاقهم الكوريين الشماليين بغية توحيد شبه الجزيرة تحت العلم الشيوعي، وتدخل الاتحاد السوفييتي بشكل محدود لضبط المعادلة العسكرية، لتبقى الامور كما هي، فالعواقب التي لم يدركها ماوتسي تونغ ستكون وخيمة، ان خسر الاميركان المعركة، وبعد ثلاث سنوات من المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها الملايين وكرست الانقسام بين ابناء الشعب الكوري، انتهت بالوقوف على الحدود التي رسمها الكبار من قبل .. لا غالب ولا مغلوب!! ليكون موقف السوفييت (الخياني)! كما رآه الصينيون، بداية لتدهور العلاقة بين الطرفين، بلغت ذروتها باعلان خروتشوف، مبدأ (التعايش السلمي)، الذي لم يكن سوى تأطير لسياسة انتهجها سلفه ستالين من دون ان يعلن عنها صراحة لحساسية تلك المرحلة!
انتبه الصينيون، بعد تجربة قاسية وطويلة نسبيا، الى ان الواقعية السياسية مبدأ لا يمكن تجاوزه في اي بلد يريد ان يبني مستقبله ويحقق تنمية مستدامة، فالعقائد المتعارضة قديمة، لكن الحماسة لفرضها ظلت مدخلا قديما ايضا للتصادم والحروب المدمرة، وان قبول تعدد المذاهب والافكار، يعني تحصينا للذات وللجماعة، وليس تهديدا لها كما يتوهم بعض العقائديين، فبالحوار ينضج الوعي الانساني، وبالتنافذ الثقافي بين الامم والشعوب، تفتح آفاق متعددة للتلاقي وبناء الحياة والانسان معا، وهو ما وصله العقل السياسي الصيني اليوم من دون التخلي عن جوهر عقيدته، ليصنع عقلا علميا كبيرا، نهض بواحد من اكبر اقتصادات العالم، ويتطلع لزعامته بعيدا عن الانطواء والتطرف العقائدي الذي عزل الصين طويلا وكلفها كثيرا.
ترى هل يقرأ البعض تجارب الشعوب ليتعلم منها؟! .







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى