( فَقُلْ لِلَّذي يَلْفظُ الْكلماتِ مِنَ الْمزْبَلةْ/ ويَقْتاتُ مِنْ دِمْنَةِ الْمَرْحَلَة/ خَسِئْتَ فَما الشّعْرُ إلاّ/ عُيونٌ تَسيلْ/ فَتورِقُ مِنْ فَيْئِها/ عافِياتُ الشَّجَر!)
تطرح مقاربة القصيدة المشتركة إشكالية كبيرة مع المشترك الشعري الذي تتفاعل داخله تجربتان شعريتان لشاعرين مختلفين أو أكثر، إذ يصعب على قارئه، في كثير من الحالات، أن يتبين أين يبتدئ أحدهما وأين ينتهي الآخر؟ وهو ما يتطلب البحث في ماهية النص وخصوصية المشترك الشعري. ونعني بالقصيدة المشتركة النص الشعري الذي يحمل توقيعا مشتركا بين شاعرين، كما هو الحال مع الشاعرين المغربيين عبد الناصر لقاح والمرحوم فريد الأنصاري في (جداول الروح)، وتحديدا القسم الأول من الديوان الذي يشمل نصين شعريين طويلين، يغطيان ثمانِي عشْرَةَ صفحةً، ويحملان توقيع الشاعرين معا، ويسميانه (بيان في الإبداع).
ولا شك في أن في صعوبة الفصل بين التجربتين الشعريتين سر نجاح العملية وجوهر وغاية العمل المشترك، كما سوف يتضح من خلال هذه المقاربة، لأن الهدف الأول والأساس من القصيدة المشتركة هو الرغبة في تحقيق انسجام المختلف وتوحيد المتعدد وانصهار الذوات الشاعرة في ذات واحدة. ونستثني من هذه المقاربة كل الأشكال التي قد تجمع لأسباب عديدة بين نصوص متفرقة لشاعرين أو أكثر في عمل واحد. إذ يستطيع قارئ هذا النوع المشترك، وهو كثير، أن يتبين بيسر وسهولة نصوص كل شاعر على حدة. كما يتبين ذلك في القسم الثاني والثالث من ديوان (جداول الروح).
يضم القسم الثاني الخاص بالشاعر عبد الناصر لقاح اثنى عَشَرَ نصا شعريا وهي: المؤنث والمذكر/ مبدأ/ أشباح/ احتمال/ مقام المحاسبة/ تصالح/ الطائر والخونة/ ينافقني الورد سرا/ رسالة اعتذار إلى إيفا/ دمعة أخرى وأسقط في انشداهي/ الشاعر/ عشب. أما القسم الثالث الخاص بالشاعر المرحوم فريد الأنصاري فيضم سبْعَةَ نصوص شعرية: أحزاني جريد يخضر في عينيك/ سناك اخضراري وإذن اشتعالي/ صعلوك خارج عكاظ الشعر/ توأمة قارسة/ مواجيد أبي العالية الريحاني/ غفار وفتوى السلام/ همس النيلين.
إن فرادة القصيدتين المشتركتين بين الشاعر عبد الناصر لقاح والشاعر المرحوم فريد الأنصاري تبرز إشكاليتها في الجمع بين تجربتين مختلفتين إن لم نقل متباينتين، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل، ويقتضي الوقوف عند أبعاد العمل المشترك. على خلاف ما نجده مثلا في قصيدة مشتركة بين الشاعرين حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي والتي نشرت تحت عنوان “رماد الأربعاء” وهما شاعران ما يوحدهما ويجمعهما ويشغلهما معا أكثر مما يفرق بينهما ويميز تجربة كل منهما عن الآخر.
روح وجداول المدلول:
يهتدي القارئ من خلال قراءته الأولى للعنوان إلى أن (جداول الروح) مركب إضافي أضيف فيه المركب الإسمي الأول (جداول) إلى المركب الإسمي الثاني (الروح). ويدرك أن لفظة الجداول جمع جدول، والجدول نبع عين الماء ومورده الذي هو أصل الحياة، وورد جمعا للتأشير على الثراء والغزارة والوفرة، أما كلمة الروح فتؤشر على الجوهر والحياة والأصل وما يخلق لدى القارئ تنافرا دلاليا كون الكلمة الأولى جمع لشيء مادي بينما الكلمة الثانية مفرد لشيء مجرد” ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. وهو ما يؤشر على التوحد (الروح) ضمن التعدد (الجداول) أي على المتجانس في المتعدد والمشترك، وكأن منطوق الكلام يقول بأن روح الشاعرين واحدة تصُب فيها جداول القصيدتين المشتركتين، ولا غرابة في ذلك مادامت (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وإذا كان عنوان القصيدة الأولى في الديوان هو عنوان الديوان نفسه (جداول الروح) فإن عنوان القصيدة المشتركة الثانية موسوم ب (أفراح الروح) حيث تم إبدال كلمة (جداول) بكلمة (أفراح) التي تنفتح على دلالات المرح والحبور والسعادة والحلم والنعيم. ومعلوم أن (أفراح الروح) عنوان لكتيب كتبه السيد قطب. وهو في الأصل رسالة أرسلها إلى ابنته، يقول فيها “وبالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضا، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين”. فكيف تعكس القصيدتان المشتركتان هذه القيم النبيلة القائمة على الائتلاف والتجانس؟ وما علاقتها ببيان في الإبداع الذي يؤطر القسم الأول من الديوان؟ وما هي مظاهر روح الاختلاف وما هي جداولها؟
تستهل القصيدة المشتركة الأولى التي يحمل الديوان عنوانها على نغمات إيقاع الروح، حيث تسبح الذات الشاعرة في أريج الضياء نحو عالم النور، فينجلي الحزن، وتنمو شجيرات الكلمات في عرصات الروح الفيحاء، وبالمطر تسْتَقي الذات، وبالغناء والشجر ينتشي الجسد، ويذوب فرحا في عالم بلا قيود. ويتردد النداء كمتوالية صوتية تتخلل النص في بداية ثلاثة مقاطع شعرية تحدث نشيدا مغنى مشحونا ومختوما بالمدى، مسكونا ومرويا بالندى، موشوما ومختوما بالصدى : فَيا أيُّها الشّاعِرُ الْمنْتَمي لِلْمَدَى.. / فَيا أيُّها الشّاعِرُ الْمُنْتَمي لِلنَّدَى.. / فيا أيُّها الشّاعِرُ الْمُنْتَمي لِلرَّدَى..
نداء يدعو الشاعرَـ كل شاعرـ إلى التجدد والتوحد وتفيض الحروف وتولد المعاني فَتَسْقي شعرا أصيلا وعالما من الجمال مليئا بالرواء والنغم والحال والمآل، نداء يدعو الشاعرَ إلى مد الجناح والرحيل إلى مملكات الهديل، حيث الجداول من نور، وحيث الفضاء الرحب، وحيث المسك يهُبُّ رياحا، وحيث الظلال والكهرمان والنغم:
( فلا ثَمَّ حَدٌّ ولا ثَمَّ سُورٌ!/ تلالٌ تهُبُّ عليها رياحٌ من الْمِسْكِ والْكَهْرَمان! / ظلالٌ مِنَ النَّغَم).
في القصيدة المشتركة الثانية الموسومة بـ “أفراح الروح” تتردد متوالية صوتية حزينة تتخلل القصيدة وتؤشر على مقاطعها ويتم استبدال كلمة أو كلمتين في المتوالية الأصل لتتولد دلالات جديدة تعمق الدلالات الأولى وتؤكدها: هذا النهر المتدفق يبدو الآن رهيبا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن رحيبا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن جميلا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن كريما وقويا! / هذا الموت المتدفق كم يبدو الآن جميلا وحليما!
و تُوَجَّهُ دعوةٌ في مستهل القصيدة إلى الآخر إلى الموت أن يخطئ في حق الشاعر لأنه يحتاج إلى خطإ يروي روحه بالعفو القادر والندم: إني أهوى أخطاءك في خطئي/ أهوى أن تشبهني في سهوي في عدمي/ أخطئ! أخطئ في حقي كي تنمو أشجاري ثانية/ ويعود إلَيَّ دمي يسري في صفصاف الجسم وفي ألمي. ولا يدري الشاعر إن كان الخطأ يهواه ولا يملك إلا أن يعترف، بأنه في خوفه وضعفه ولغة شعره يهوى الخطأ بل يغدو الخوف حلمه الذي يسقط أوراقه: إني الغصن المجبول على نقض الأوراق.
فيبدو للشاعر نهر الحياة المتدفق غريبا تجتاح ألسنته النارية الغاب فتغدو الأعشاش رمادا والأطيار تجرفها الأشجار، وإذا الظل الأخاذ يئيض إلى أنوار/ تتدلى من أيدي الأشجار. وتدعو الشاعر في ألق إلى أن ينضو أثواب الردة والزهو والزهر الخائن والأدواء. ولكي يتجلى جمال الموت يدعوه أن يقذف أشلاءه في الماء ليكون بذرة إخصاب تتحول على إثرها وتنتقل من اليباب إلى الحياة: فإذا الغابات عرائس من نور تستأنف بهجتها/ وإذا الأشجار../ قصائد ترسل في الريح المسكون غدائرها!/ فتفيض الروح بكل الأغصان ندى فرحا،/ ..
وتَدْمَعُ أحداقُ الأزْهار!
روح وجداول الرؤيا:
تنشأ الصورة الشعرية في القصيدة المشتركة عن التوليف التركيبي الجيد للغة الشعرية الراقية التي تستند إلى الانزياح بمختلف مستوياته وتقنياته وتنم عن خبرة عميقة وتجربة واسعة وراسخة بمنطوق الكلام المنساب الذي يُكْسِبُ اللغة شعريتها عن طريق حسن التركيب والتوليف والنظم، فتترقرق مياه المعاني وتتدفق اللغة مدرارا، لغة راقية منتقاة بعناية وحذق، لغة هادئة هدوء الروح وساكنة سكون النفس التواقة للفضائل والطهر والنقاء، لغة حية تسح مدلولات معانيها الغزيرة التي لا تنضب.
وتستمد الصورة عناصرها من الطبيعة التي تحضر بعض عناصرها بعد أن يتم شحنها دلاليا وسياقيا لترقى إلى مستوى الرمز من قبيل (المطر، الشجر، النهْر، النخيل، الندى، عرصات، رياح، ظلال، جبال، المكان، الزهر، المياه..). في قصيدة (جداول الروح)، في حين أن أهم الرموز الطبيعية التي ترد في قصيدة (أفراح الروح) هي (أوراق، النهر، غصن، الأعشاش، الأطيار، الأشجار، البحر، الأقمار، الريح، الإعصار، شطآن، موج، الأحجار، ماء، الطير..) ترسم هذه الكلمات عالما روحيا وفضاء شعريا تؤثثه القيم الإنسانية الراقية والمبادئ النبيلة التي افتقدها الواقع المادي اليوم وتسمو بالكائن إلى معارج التُّقى والنُّهى والجمال والجلال حيث تتطهر الذوات من الأدران والأحقاد والأشجان وكل ما يكبلها ويأسر حريتها ورغبتها في الحضور والتجدد والتوحد: له تنبع الشجرات/ له تكبر الكلمات../ فأنى لدالية الحزن أن تتفتح أسحارها/ وهذا اللحاء البليد يغلفها؟
تنبع الرؤيا الشعرية في القصيدة المشتركة في ديوان (جداول الروح) من إيمان يقيني بضرورة التوحد في عالم الروح وعالم النور وعالم الفرح الرحب الذي لا يعرف الشر والحزن والقيود، إنه عالم جميل جمال الروح وطاهر طهارة النفس المطمئنة الراضية المرضية التواقة إلى النور والضياء والأمل. ويحضر الزمن في القصيدتين في بعده الوجودي والكوني والفلسفي، إذ يقف القارئ عند معجم يؤطر هذه الرؤيا الفنية التي تصدر عنها القصيدتان المشتركتان معا، مثل (المدى، حال، ارحل، غياب، تموت، دورات الزمان، يكبر، الردى، سبيلك، المنتهى، في حينها، فأنى، اليوم، الحياة../عدمي، الآن، الموت، الكون، بقاء، فضاء، الأعمار، لحظة، عمر، تعداد، ينتهي، حياة، الأمل، الأكوان، الأحوال، طليق، الفيحاء، الموت، الساعة..) مما بعني أن بنية الزمن تشكل مؤطرا أساسيا لمخلف الصور الشعرية سواء البسيطة أو المركبة في بعده الوجودي والكوني والديني.
وفي قصيدة أفراح الروح وعبر النهر المتدفق الجميل، تسبح الروح في عالم رحب لا تحاصره أسوار الطين عالم الطهر فتغسل أدرانها ويغدو الشاعر: أميرا شفاف اللون نبيلا! فتتخلص الذات من أسر الأعمار بالإبحار في عالم الأفراح: ما عمرك يا صاح بتعداد الريش المتناثر خفقا خفقا؛ حتى ينتهي الإعصار/ بل هو موج الغبطة حين تفيض به الروح حياةٌ ليس لها شطآن!. وبلهجة قوية يخاطب الشاعر الذات ويدعوها أن تغتسل بشلال الكوثر: يتدفق بالفرح الصافي!/ بالأمل الضافي/ بالشعر وبالسحر وبالألحانْ. فلا تملك الذات الشاعرة إلا أن تتقبل عطاء سيدها العدل والجلال والعفو والجمال: فاغمر أغصاني بالأنوار! عل فؤادي يخفق نورا.
روح وجداول البيان:
يمكن أن نجمل أهم تجليات البيان في الإبداع الذي جعل عنوانا فرعيا للقصيدتين المشتركتين في الآتي:
ـ بيان أن الشعر بالمفهوم المضمن في القصيدتين المشتركتين إعلان صريح عما يجمع بين الشاعرين في الجوهر والروح على الرغم من اختلافهما في الشكل والدليل على هذا الأمر اغترافهما من معين شعري مشترك يصدر عن تجربة شعرية لها خصوصيات مميزة معلنة (بيان) ومضمرة (في الإبداع).
ـ بيان أن الشعر الذي لا ينسجم مع الرؤيا الفكرية والفنية والجمالية التي تعلن عنها التجربة الشعرية المشتركة مرفوض لأنه زبد يذهب جفاء ولا يرقى إلى المطلوب ويموت مع الزمن ولا يتجدد تاريخيا عبر أزمنة قرائية لأنه مبتذل وضحل وعابر: فقل للذي يلفظ الكلمات من المزبلةْ/ ويقتات من دمنة المرحلة/ خسئت فما الشعر إلا/ عيون تسيلْ/ فتورق من فيئها/ عافيات الشجر!.
ـ بيان أن الشعر الجميل له قواعده وقوانينه وضوابطه وهو براء من كل شعر لا ينضبط لهذا البيان وهذا التصور المشترك بين الشاعرين ومفتوح روحيا على كل الشعراء لأنه يوحد بين مختلف الذوات الشاعرة الراقية والرائدة والأصيلة التي تستمد مقوماتها الفنية ومبادئها القيمية من الجذور العريقة في بعدها الروحي والإنساني.
ـ بيان أن الشعر الحق هو ما تقوله القصيدة المشتركة هو ما تقوله جداول الروح حين تغمرها الأفراح وما تقوله علنا يستشف من نبرة الخطاب المباشر الموجه لكل شاعر والمضمر في صيغة الإبداع الشعري الذي تمثله القصيدتان المشتركتان وديوان جداول الروح عامة.
ـ بيان أن الشعر جمال وأخلاق وتقدير واعتراف واحتراق وانصهار وانسجام وجوهر ومسؤولية. ألا بلغنَّ يا كاهن الشعر عني بانيَ آليت أن أفضحَ/ الوثنية في معبد الأغبياءْ!/ وأفضح أوهام شعر تُقَطِعُهُ الْببغاءْ!/ فإني كفرت بكل الطقوس التي قدستها قصائدكم!/ فحرفي لهيب يذوب به الصخرُ!/ لا لطقوس الكهانة في الشعر!/ لا للببغاءْ!
ـ بيان أن للشعر رسالة سامية لها مرامي نبيلة وغايات راقية وأهداف بنّاءة اجتماعية وإنسانية وتاريخية وأن مقولة الفن للفن أوالشعر للشعر مقولة مرفوضة: فقل للذي يلقط الكلمات من المزبلةْ/ ويقتات من دمنة المرحلةْ/ خسئت فما الشعر إلا/ عيون تسيلْ/ فتورق من فيئها/ عافيات الشجرْ!/ حدائق من ودق معشب في المدى بالشعَرْ/ فأنى لمن يعشق الزهرات لقَىً/ وأنى لمن يرتدي جسمه من علقْ/ ويغرق في سكرات الشبقْ/ أن يؤلف من قطرات الضياء قصيدا/ ويسمع لونا تمَوَّجَ فيه الغناءْ/ ويبصرَ لحن الصدى راحلا كالصلاهْ؟
ـ بيان أن حساسيتين شعريتين مختلفتين وأن رؤيتين فنيتين متباينتين وأن روحين لشاعرين يمكن أن تتوحدا فنيا وفكريا وروحيا في تصور مشترك وموحد ومتكامل ومنسجم بحيث يصعب على القارئ أن يتبين ما لهذا الشاعر وما لغيره.
قد نستطيع في نهاية هذه القراءة أن نعتمد على جملة مؤشرات فنية لنحدد ما لم يتم تحديده فنقف مثلا عند بعض الخصوصيات الشعرية التي تسم القصيدتين المشتركتين والتي يمكن أن يعتمدها القارئ دليلا على كونها للشاعر عبد الناصر لقاح أو للمرحوم فريد الأنصاري فنقول مثلا بأن الأسطر الشعرية في القصيدة الثانية ممتلئة وممتدة على خلاف القصيدة المشتركة الثانية التي تأتي فيها الأسطر الشعرية مختصرة ومنحسرة وهي سمة تنسجم مع طبيعة السطر الشعري والكتابة الشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح الذي يتميز شعره بالاختزال على خلاف المرحوم الشاعر فريد الأنصاري.
كما يلاحظ القارئ اطراد صيغة (أفعال) في قصيدة “أفراح الروح” (أخطاء، أنداء، أدواء ،أوراق، أحلام، أعشاش، أطيار، أمطار، أعمار، أشجار، أقمار، أحجار، أغيار، أنوار، أسرار، أثواب، أفراح، أكوان…). واطراد صيغة (فعل) في “جداول الروح” (مطر، شجر، نهر، زهر، ودق، علق، شبق، جسد، ندى..) ألا يمكن اعتبار الصيغة المختصرة خاصة بالشاعر عبد الناصر لقاح والصيغة الثانية خاصة بالشاعر المرحوم فريد الأنصاري أم أن الضرورة الشعرية حتمت اختيار هذه الصيغة في القصيدة الأولى وتلك في القصيدة الثانية؟
وقد تتناسل الأسئلة وتتعدد الاستنتاجات التي يمكن للقارئ أن يصل إليها، ذلك أن المشترك الشعري يصدر في الديوان المشترك عامة عن غاية نبيلة محورها عظيم فضل الحب في الله، ولا شك في أن هذا الفضل جوهر المشترك الشعري وروحه وإن تعددت جداوله وأشجار قصائده. ويبقى جوهر الاشتراك حاضرا بقوة في القصيدتين المشتركتين حضورا تنم عنه كل المكونات الفنية للنص الشعري، وحضوره سر من أسرار جداول الروح وأفراحها، وهكذا وعلى الرغم من كون الدارس للمشترك الشعري في ديوان الشاعرين قد يهتدي من خلال عدة مؤشرات فنية إلى ما لكل شاعر وما ليس له فإن ما يثير الانتباه بالأساس هو ما يجمع ويوحد ويؤلف بين التجربتين بالأساس وهي روح المشترك الشعري لشخصين مختلفين على ائتلافهما ومؤتلفين على اختلافهما.
مصطفى الشاوي
تطرح مقاربة القصيدة المشتركة إشكالية كبيرة مع المشترك الشعري الذي تتفاعل داخله تجربتان شعريتان لشاعرين مختلفين أو أكثر، إذ يصعب على قارئه، في كثير من الحالات، أن يتبين أين يبتدئ أحدهما وأين ينتهي الآخر؟ وهو ما يتطلب البحث في ماهية النص وخصوصية المشترك الشعري. ونعني بالقصيدة المشتركة النص الشعري الذي يحمل توقيعا مشتركا بين شاعرين، كما هو الحال مع الشاعرين المغربيين عبد الناصر لقاح والمرحوم فريد الأنصاري في (جداول الروح)، وتحديدا القسم الأول من الديوان الذي يشمل نصين شعريين طويلين، يغطيان ثمانِي عشْرَةَ صفحةً، ويحملان توقيع الشاعرين معا، ويسميانه (بيان في الإبداع).
ولا شك في أن في صعوبة الفصل بين التجربتين الشعريتين سر نجاح العملية وجوهر وغاية العمل المشترك، كما سوف يتضح من خلال هذه المقاربة، لأن الهدف الأول والأساس من القصيدة المشتركة هو الرغبة في تحقيق انسجام المختلف وتوحيد المتعدد وانصهار الذوات الشاعرة في ذات واحدة. ونستثني من هذه المقاربة كل الأشكال التي قد تجمع لأسباب عديدة بين نصوص متفرقة لشاعرين أو أكثر في عمل واحد. إذ يستطيع قارئ هذا النوع المشترك، وهو كثير، أن يتبين بيسر وسهولة نصوص كل شاعر على حدة. كما يتبين ذلك في القسم الثاني والثالث من ديوان (جداول الروح).
يضم القسم الثاني الخاص بالشاعر عبد الناصر لقاح اثنى عَشَرَ نصا شعريا وهي: المؤنث والمذكر/ مبدأ/ أشباح/ احتمال/ مقام المحاسبة/ تصالح/ الطائر والخونة/ ينافقني الورد سرا/ رسالة اعتذار إلى إيفا/ دمعة أخرى وأسقط في انشداهي/ الشاعر/ عشب. أما القسم الثالث الخاص بالشاعر المرحوم فريد الأنصاري فيضم سبْعَةَ نصوص شعرية: أحزاني جريد يخضر في عينيك/ سناك اخضراري وإذن اشتعالي/ صعلوك خارج عكاظ الشعر/ توأمة قارسة/ مواجيد أبي العالية الريحاني/ غفار وفتوى السلام/ همس النيلين.
إن فرادة القصيدتين المشتركتين بين الشاعر عبد الناصر لقاح والشاعر المرحوم فريد الأنصاري تبرز إشكاليتها في الجمع بين تجربتين مختلفتين إن لم نقل متباينتين، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل، ويقتضي الوقوف عند أبعاد العمل المشترك. على خلاف ما نجده مثلا في قصيدة مشتركة بين الشاعرين حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي والتي نشرت تحت عنوان “رماد الأربعاء” وهما شاعران ما يوحدهما ويجمعهما ويشغلهما معا أكثر مما يفرق بينهما ويميز تجربة كل منهما عن الآخر.
روح وجداول المدلول:
يهتدي القارئ من خلال قراءته الأولى للعنوان إلى أن (جداول الروح) مركب إضافي أضيف فيه المركب الإسمي الأول (جداول) إلى المركب الإسمي الثاني (الروح). ويدرك أن لفظة الجداول جمع جدول، والجدول نبع عين الماء ومورده الذي هو أصل الحياة، وورد جمعا للتأشير على الثراء والغزارة والوفرة، أما كلمة الروح فتؤشر على الجوهر والحياة والأصل وما يخلق لدى القارئ تنافرا دلاليا كون الكلمة الأولى جمع لشيء مادي بينما الكلمة الثانية مفرد لشيء مجرد” ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. وهو ما يؤشر على التوحد (الروح) ضمن التعدد (الجداول) أي على المتجانس في المتعدد والمشترك، وكأن منطوق الكلام يقول بأن روح الشاعرين واحدة تصُب فيها جداول القصيدتين المشتركتين، ولا غرابة في ذلك مادامت (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وإذا كان عنوان القصيدة الأولى في الديوان هو عنوان الديوان نفسه (جداول الروح) فإن عنوان القصيدة المشتركة الثانية موسوم ب (أفراح الروح) حيث تم إبدال كلمة (جداول) بكلمة (أفراح) التي تنفتح على دلالات المرح والحبور والسعادة والحلم والنعيم. ومعلوم أن (أفراح الروح) عنوان لكتيب كتبه السيد قطب. وهو في الأصل رسالة أرسلها إلى ابنته، يقول فيها “وبالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضا، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين”. فكيف تعكس القصيدتان المشتركتان هذه القيم النبيلة القائمة على الائتلاف والتجانس؟ وما علاقتها ببيان في الإبداع الذي يؤطر القسم الأول من الديوان؟ وما هي مظاهر روح الاختلاف وما هي جداولها؟
تستهل القصيدة المشتركة الأولى التي يحمل الديوان عنوانها على نغمات إيقاع الروح، حيث تسبح الذات الشاعرة في أريج الضياء نحو عالم النور، فينجلي الحزن، وتنمو شجيرات الكلمات في عرصات الروح الفيحاء، وبالمطر تسْتَقي الذات، وبالغناء والشجر ينتشي الجسد، ويذوب فرحا في عالم بلا قيود. ويتردد النداء كمتوالية صوتية تتخلل النص في بداية ثلاثة مقاطع شعرية تحدث نشيدا مغنى مشحونا ومختوما بالمدى، مسكونا ومرويا بالندى، موشوما ومختوما بالصدى : فَيا أيُّها الشّاعِرُ الْمنْتَمي لِلْمَدَى.. / فَيا أيُّها الشّاعِرُ الْمُنْتَمي لِلنَّدَى.. / فيا أيُّها الشّاعِرُ الْمُنْتَمي لِلرَّدَى..
نداء يدعو الشاعرَـ كل شاعرـ إلى التجدد والتوحد وتفيض الحروف وتولد المعاني فَتَسْقي شعرا أصيلا وعالما من الجمال مليئا بالرواء والنغم والحال والمآل، نداء يدعو الشاعرَ إلى مد الجناح والرحيل إلى مملكات الهديل، حيث الجداول من نور، وحيث الفضاء الرحب، وحيث المسك يهُبُّ رياحا، وحيث الظلال والكهرمان والنغم:
( فلا ثَمَّ حَدٌّ ولا ثَمَّ سُورٌ!/ تلالٌ تهُبُّ عليها رياحٌ من الْمِسْكِ والْكَهْرَمان! / ظلالٌ مِنَ النَّغَم).
في القصيدة المشتركة الثانية الموسومة بـ “أفراح الروح” تتردد متوالية صوتية حزينة تتخلل القصيدة وتؤشر على مقاطعها ويتم استبدال كلمة أو كلمتين في المتوالية الأصل لتتولد دلالات جديدة تعمق الدلالات الأولى وتؤكدها: هذا النهر المتدفق يبدو الآن رهيبا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن رحيبا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن جميلا! / هذا النهر المتدفق كم يبدو الآن كريما وقويا! / هذا الموت المتدفق كم يبدو الآن جميلا وحليما!
و تُوَجَّهُ دعوةٌ في مستهل القصيدة إلى الآخر إلى الموت أن يخطئ في حق الشاعر لأنه يحتاج إلى خطإ يروي روحه بالعفو القادر والندم: إني أهوى أخطاءك في خطئي/ أهوى أن تشبهني في سهوي في عدمي/ أخطئ! أخطئ في حقي كي تنمو أشجاري ثانية/ ويعود إلَيَّ دمي يسري في صفصاف الجسم وفي ألمي. ولا يدري الشاعر إن كان الخطأ يهواه ولا يملك إلا أن يعترف، بأنه في خوفه وضعفه ولغة شعره يهوى الخطأ بل يغدو الخوف حلمه الذي يسقط أوراقه: إني الغصن المجبول على نقض الأوراق.
فيبدو للشاعر نهر الحياة المتدفق غريبا تجتاح ألسنته النارية الغاب فتغدو الأعشاش رمادا والأطيار تجرفها الأشجار، وإذا الظل الأخاذ يئيض إلى أنوار/ تتدلى من أيدي الأشجار. وتدعو الشاعر في ألق إلى أن ينضو أثواب الردة والزهو والزهر الخائن والأدواء. ولكي يتجلى جمال الموت يدعوه أن يقذف أشلاءه في الماء ليكون بذرة إخصاب تتحول على إثرها وتنتقل من اليباب إلى الحياة: فإذا الغابات عرائس من نور تستأنف بهجتها/ وإذا الأشجار../ قصائد ترسل في الريح المسكون غدائرها!/ فتفيض الروح بكل الأغصان ندى فرحا،/ ..
وتَدْمَعُ أحداقُ الأزْهار!
روح وجداول الرؤيا:
تنشأ الصورة الشعرية في القصيدة المشتركة عن التوليف التركيبي الجيد للغة الشعرية الراقية التي تستند إلى الانزياح بمختلف مستوياته وتقنياته وتنم عن خبرة عميقة وتجربة واسعة وراسخة بمنطوق الكلام المنساب الذي يُكْسِبُ اللغة شعريتها عن طريق حسن التركيب والتوليف والنظم، فتترقرق مياه المعاني وتتدفق اللغة مدرارا، لغة راقية منتقاة بعناية وحذق، لغة هادئة هدوء الروح وساكنة سكون النفس التواقة للفضائل والطهر والنقاء، لغة حية تسح مدلولات معانيها الغزيرة التي لا تنضب.
وتستمد الصورة عناصرها من الطبيعة التي تحضر بعض عناصرها بعد أن يتم شحنها دلاليا وسياقيا لترقى إلى مستوى الرمز من قبيل (المطر، الشجر، النهْر، النخيل، الندى، عرصات، رياح، ظلال، جبال، المكان، الزهر، المياه..). في قصيدة (جداول الروح)، في حين أن أهم الرموز الطبيعية التي ترد في قصيدة (أفراح الروح) هي (أوراق، النهر، غصن، الأعشاش، الأطيار، الأشجار، البحر، الأقمار، الريح، الإعصار، شطآن، موج، الأحجار، ماء، الطير..) ترسم هذه الكلمات عالما روحيا وفضاء شعريا تؤثثه القيم الإنسانية الراقية والمبادئ النبيلة التي افتقدها الواقع المادي اليوم وتسمو بالكائن إلى معارج التُّقى والنُّهى والجمال والجلال حيث تتطهر الذوات من الأدران والأحقاد والأشجان وكل ما يكبلها ويأسر حريتها ورغبتها في الحضور والتجدد والتوحد: له تنبع الشجرات/ له تكبر الكلمات../ فأنى لدالية الحزن أن تتفتح أسحارها/ وهذا اللحاء البليد يغلفها؟
تنبع الرؤيا الشعرية في القصيدة المشتركة في ديوان (جداول الروح) من إيمان يقيني بضرورة التوحد في عالم الروح وعالم النور وعالم الفرح الرحب الذي لا يعرف الشر والحزن والقيود، إنه عالم جميل جمال الروح وطاهر طهارة النفس المطمئنة الراضية المرضية التواقة إلى النور والضياء والأمل. ويحضر الزمن في القصيدتين في بعده الوجودي والكوني والفلسفي، إذ يقف القارئ عند معجم يؤطر هذه الرؤيا الفنية التي تصدر عنها القصيدتان المشتركتان معا، مثل (المدى، حال، ارحل، غياب، تموت، دورات الزمان، يكبر، الردى، سبيلك، المنتهى، في حينها، فأنى، اليوم، الحياة../عدمي، الآن، الموت، الكون، بقاء، فضاء، الأعمار، لحظة، عمر، تعداد، ينتهي، حياة، الأمل، الأكوان، الأحوال، طليق، الفيحاء، الموت، الساعة..) مما بعني أن بنية الزمن تشكل مؤطرا أساسيا لمخلف الصور الشعرية سواء البسيطة أو المركبة في بعده الوجودي والكوني والديني.
وفي قصيدة أفراح الروح وعبر النهر المتدفق الجميل، تسبح الروح في عالم رحب لا تحاصره أسوار الطين عالم الطهر فتغسل أدرانها ويغدو الشاعر: أميرا شفاف اللون نبيلا! فتتخلص الذات من أسر الأعمار بالإبحار في عالم الأفراح: ما عمرك يا صاح بتعداد الريش المتناثر خفقا خفقا؛ حتى ينتهي الإعصار/ بل هو موج الغبطة حين تفيض به الروح حياةٌ ليس لها شطآن!. وبلهجة قوية يخاطب الشاعر الذات ويدعوها أن تغتسل بشلال الكوثر: يتدفق بالفرح الصافي!/ بالأمل الضافي/ بالشعر وبالسحر وبالألحانْ. فلا تملك الذات الشاعرة إلا أن تتقبل عطاء سيدها العدل والجلال والعفو والجمال: فاغمر أغصاني بالأنوار! عل فؤادي يخفق نورا.
روح وجداول البيان:
يمكن أن نجمل أهم تجليات البيان في الإبداع الذي جعل عنوانا فرعيا للقصيدتين المشتركتين في الآتي:
ـ بيان أن الشعر بالمفهوم المضمن في القصيدتين المشتركتين إعلان صريح عما يجمع بين الشاعرين في الجوهر والروح على الرغم من اختلافهما في الشكل والدليل على هذا الأمر اغترافهما من معين شعري مشترك يصدر عن تجربة شعرية لها خصوصيات مميزة معلنة (بيان) ومضمرة (في الإبداع).
ـ بيان أن الشعر الذي لا ينسجم مع الرؤيا الفكرية والفنية والجمالية التي تعلن عنها التجربة الشعرية المشتركة مرفوض لأنه زبد يذهب جفاء ولا يرقى إلى المطلوب ويموت مع الزمن ولا يتجدد تاريخيا عبر أزمنة قرائية لأنه مبتذل وضحل وعابر: فقل للذي يلفظ الكلمات من المزبلةْ/ ويقتات من دمنة المرحلة/ خسئت فما الشعر إلا/ عيون تسيلْ/ فتورق من فيئها/ عافيات الشجر!.
ـ بيان أن الشعر الجميل له قواعده وقوانينه وضوابطه وهو براء من كل شعر لا ينضبط لهذا البيان وهذا التصور المشترك بين الشاعرين ومفتوح روحيا على كل الشعراء لأنه يوحد بين مختلف الذوات الشاعرة الراقية والرائدة والأصيلة التي تستمد مقوماتها الفنية ومبادئها القيمية من الجذور العريقة في بعدها الروحي والإنساني.
ـ بيان أن الشعر الحق هو ما تقوله القصيدة المشتركة هو ما تقوله جداول الروح حين تغمرها الأفراح وما تقوله علنا يستشف من نبرة الخطاب المباشر الموجه لكل شاعر والمضمر في صيغة الإبداع الشعري الذي تمثله القصيدتان المشتركتان وديوان جداول الروح عامة.
ـ بيان أن الشعر جمال وأخلاق وتقدير واعتراف واحتراق وانصهار وانسجام وجوهر ومسؤولية. ألا بلغنَّ يا كاهن الشعر عني بانيَ آليت أن أفضحَ/ الوثنية في معبد الأغبياءْ!/ وأفضح أوهام شعر تُقَطِعُهُ الْببغاءْ!/ فإني كفرت بكل الطقوس التي قدستها قصائدكم!/ فحرفي لهيب يذوب به الصخرُ!/ لا لطقوس الكهانة في الشعر!/ لا للببغاءْ!
ـ بيان أن للشعر رسالة سامية لها مرامي نبيلة وغايات راقية وأهداف بنّاءة اجتماعية وإنسانية وتاريخية وأن مقولة الفن للفن أوالشعر للشعر مقولة مرفوضة: فقل للذي يلقط الكلمات من المزبلةْ/ ويقتات من دمنة المرحلةْ/ خسئت فما الشعر إلا/ عيون تسيلْ/ فتورق من فيئها/ عافيات الشجرْ!/ حدائق من ودق معشب في المدى بالشعَرْ/ فأنى لمن يعشق الزهرات لقَىً/ وأنى لمن يرتدي جسمه من علقْ/ ويغرق في سكرات الشبقْ/ أن يؤلف من قطرات الضياء قصيدا/ ويسمع لونا تمَوَّجَ فيه الغناءْ/ ويبصرَ لحن الصدى راحلا كالصلاهْ؟
ـ بيان أن حساسيتين شعريتين مختلفتين وأن رؤيتين فنيتين متباينتين وأن روحين لشاعرين يمكن أن تتوحدا فنيا وفكريا وروحيا في تصور مشترك وموحد ومتكامل ومنسجم بحيث يصعب على القارئ أن يتبين ما لهذا الشاعر وما لغيره.
قد نستطيع في نهاية هذه القراءة أن نعتمد على جملة مؤشرات فنية لنحدد ما لم يتم تحديده فنقف مثلا عند بعض الخصوصيات الشعرية التي تسم القصيدتين المشتركتين والتي يمكن أن يعتمدها القارئ دليلا على كونها للشاعر عبد الناصر لقاح أو للمرحوم فريد الأنصاري فنقول مثلا بأن الأسطر الشعرية في القصيدة الثانية ممتلئة وممتدة على خلاف القصيدة المشتركة الثانية التي تأتي فيها الأسطر الشعرية مختصرة ومنحسرة وهي سمة تنسجم مع طبيعة السطر الشعري والكتابة الشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح الذي يتميز شعره بالاختزال على خلاف المرحوم الشاعر فريد الأنصاري.
كما يلاحظ القارئ اطراد صيغة (أفعال) في قصيدة “أفراح الروح” (أخطاء، أنداء، أدواء ،أوراق، أحلام، أعشاش، أطيار، أمطار، أعمار، أشجار، أقمار، أحجار، أغيار، أنوار، أسرار، أثواب، أفراح، أكوان…). واطراد صيغة (فعل) في “جداول الروح” (مطر، شجر، نهر، زهر، ودق، علق، شبق، جسد، ندى..) ألا يمكن اعتبار الصيغة المختصرة خاصة بالشاعر عبد الناصر لقاح والصيغة الثانية خاصة بالشاعر المرحوم فريد الأنصاري أم أن الضرورة الشعرية حتمت اختيار هذه الصيغة في القصيدة الأولى وتلك في القصيدة الثانية؟
وقد تتناسل الأسئلة وتتعدد الاستنتاجات التي يمكن للقارئ أن يصل إليها، ذلك أن المشترك الشعري يصدر في الديوان المشترك عامة عن غاية نبيلة محورها عظيم فضل الحب في الله، ولا شك في أن هذا الفضل جوهر المشترك الشعري وروحه وإن تعددت جداوله وأشجار قصائده. ويبقى جوهر الاشتراك حاضرا بقوة في القصيدتين المشتركتين حضورا تنم عنه كل المكونات الفنية للنص الشعري، وحضوره سر من أسرار جداول الروح وأفراحها، وهكذا وعلى الرغم من كون الدارس للمشترك الشعري في ديوان الشاعرين قد يهتدي من خلال عدة مؤشرات فنية إلى ما لكل شاعر وما ليس له فإن ما يثير الانتباه بالأساس هو ما يجمع ويوحد ويؤلف بين التجربتين بالأساس وهي روح المشترك الشعري لشخصين مختلفين على ائتلافهما ومؤتلفين على اختلافهما.
مصطفى الشاوي