"الغابة النروجية" هي الرائعة الرابعة التي أقرأها لـ "هاروكي موراكامي" بعد "كافكا على الشاطئ"، و"سبوتنيك الحبيبة"، و "رقص، رقص، رقص"، انتهيتُ منها مستمتعاً للغاية، والخاطر الذي انتابني، مباشرة بعد الفروغ من الرواية، هو الاستعانة بيوتيوب، للاستماع لمعزوفة الخنافس les Beatls... هزتني المقطوعة، نعم، لكن أثر الرواية أعمق، الرّجات التي خلفتها، وكيف سرت أحداثها الغريبة في كياني كانت، بشكل من الأشكال، أشبه بدبيب نملة عملاقة تحمل زبالا وأنا وراءها أتعقبها ظناً مني -ومقتنعاً ربما- أنّ ما تحمله قطعة من لحمي، وعليّ استردادها، لهذا السبب، ربما، حين أجمع وقائع الرواية مع معزوفة "الغابة النرويجية" للمجموعة الموسيقية "الخنافس" les Beatls أحصل على خليط يجعلني شخصاً آخر يحزن بشكل أفضل...هل أعني ما أقول حين تحدثت عن نملة تجر قطعة لحم مني؟ لن أجزم بشيء، لكني، كغيري، وهم كثيرون، أحببت هاروكي، وغيره من الروائيين العظام، لأنه يقول) ويقولون )لنا أشياء مؤلمة باستخفاف يذهلنا... لحظة... إليكم هذه الأمثلة من رائعة "الغابة النروجية":
- "واتانابي" بطل رواية "الغابة" يعود، رفقة صديقته "ميدوري"، أباها المريض بسرطان الدماغ، وفي لحظات احتضاره يحدثه عن "يوربيدس"، يقول لِـ"واتانابي" وهو يأكل خيارة: "هل لديك فكرة عن يوربيدس؟ إنه يوناني قديم، أحد "الكبار الثلاثة" في المأساة اليونانية، بالإضافة إلى أسخيلوس، وسوفوكلس... إنه يتدخل لتقديم الحلول، وفي النهاية يجري كل شيء على ما يرام تماماً... يسمون هذا " إنزال الإله بآلة"... فكر في هذا الأمر، ماذا لو حدث "إنزال الالة بآلة" في الحياة الواقعية؟ سيكون كل شيء بمنتهى السهولة. إذا شعرت أنك في مأزق أو فخ، سيهبط الإله من عليائه ويحل جميع مشاكلك" ص 258 و259.
- تتصل "ميدوري" بصديقها "واتانابي" في السادسة والنصف صباحاً، لتخبره: "توفي أبي قبل دقائق"... يتأثر "وتانابي"، ويعرض خدماته في هذا الحدث الجلل، لكنها تطلب منه ألا يحضر المأتم، وبدلا من ذلك تسأله ما إذا كان سيأخذها إلى سينما إباحية. ص 267.
- تخبر ميدوري صديقها "واتانابي" وتقول له : " هل تعرف ما فعلته قبل فترة؟ تعريتُ تماماً أمام صورة أبي ( توفي منذ فترة قليلة بسرطان الدماغ)... نزعت كل قطعة ثياب على جسمي، وجعلته يلقي نظرة طويلة فاحصة عليّ. كأنما في وضع يوغا. وقلتُ له : "انظر يا أبي، هذه حلمتاي، وهذا فرجي" ص 312.
هذه بعض الأمثلة، وغيرها كثير ومثير في "الغابة النروجية"، ولا نعدم نظائر لها في الروايات الأخرى التي قرأتُ لهاروكي، بل وبشكل لافت، وصادم...
هاروكي، كغيره من الروائيين البارزين، يقول لنا، من خلال البطل "واتانابي" في "الغابة النروجية" أشياء مؤلمة وجدية عن الموت باستخفاف يذهلنا ، عبر لقطات سردية مثيرة عنه، لذلك نتأثر كثيراً بالمآل الذي آل إليه "واتانابي" ، الشاب الجامعي، الذي يفقد صديقه الحميم، فيعيش الموت كمفصل من مفاصل الحياة، وتتحول حياته إلى أخيلة جنسية ...و في كتب كثيرة لروائيين عالميين،غير هاروكي، نألف هذا الاستخفاف في قول أشياء كثيرة، ومثيرة عن الموت، والحب، والخيانة، والنجاح، والفشل، والفجائع، والمكاسب، والخسارة..."زوربا" ، مثلا، عندما كان عليه أن يبكي لموت ابنه، راح يرقص، وبطل " الغريب" لألبير كامو حكم عليه القاضي بالإعدام، لأنه لم يستطع أن يبرر عدم بكائه، عند دفن أمه، بل إنه يوم مأتمها، ذهب ليشاهد فيلماً، ويمارس الحب رفقة صديقة جديدة... وتشيكوف يبهرنا ،حقاً، من خلال البطل في قصة " كآبة" ، حين جرب" أيونا" / البطل أن يخبر الكثيرين عن موت ابنه، ولم يقابله هؤلاء سوى بالصد واللامبالاة، راح يحكي قصة موت ابنه "كوزما" لفرسه فارتاح (...).
إن أعظم الروايات - هكذا أحبُها على الأقل- هي تلك التي يسكن فيها الأبطال آلامهم عبر الاستخفاف به... لكن مع "الجنس" (أو ممارسة الحب كما يحلو لبعضهم أن يسميه) يختلف الأمر، فلا يجدي الاستخفاف به، لأنه مطلوب لإبطال ألم الجوع به، و بدل ذلك، يصبح الكشف عن "المكمن" في روايات كثيرة ، يفوق أفلام البورنو، إذ صار همُّ الشخصيات، في بعض الأعمال الروائية الرائجة، هو العري والكشف عن المكمن.
هل هي موضة الكتابة، اليوم، بحيث، لكي نكتب ما هو غريب، يجب أن نعري عن المكمن، ونبدأ في "الخضخضة"، حسب تعبير هاروكي موراكامي في "الغابة"، ثم نلملم الأحداث الغريبة (أحياناً تُقحم إقحاماً في" بعض" الأعمال الروائية)أعمال ردئية، وبعد أن تُمزج، مع أخرى تصبح لافتة؟ !
وهل هذه تخمة في الكتابة، وهل استوفينا قضايانا كافة، بحيث لم يعد لدينا ما نخوض فيه غير هذا النوع من "الخضخضة" في الأحداث، أم هذه "الخضخضة" مفيدة للحدث للتعبير عن قضايانا الشائكة؟..
وهل قارئ اليوم، مختلف فعلاً، وغارق في عالم الصيحة، والموضة، والأنترنيت بحيث لن يقبل إلا بما هو غريب وعجيب... هل هو قارئٌ عاشقٌ "للخضخضة"، وعن طريق الروايات؟!
روايات كثيرة تحدثت عن الحب، باحتشام، ولم تصل إلى درجة الحديث عن الاستمناء، أو لمستوى أن تطلب البطلة من صديقها -كما في غابة هاروكي -أن يفكر فيها حين يستمني؟
لكن ألا يحدث هذا فعلا؟ بل وأفظع مما يُنشر في مثل هذه الروايات، أو يُصور في أفلام سينمائية... ثم لماذا نقبل أحداثاً غريبة، وننتشي لها طالما هي بعيدة عن "العورة"، وإذا كُشفت هذه،و"تألق" البطل في " خضخضة" مكمنه مع الشريك، ملأنا الدنيا ضجيجاً وعجيجاً، وقلنا إن الحشمة مطلوبة لإبطال المنكر الذي ينخرنا؟.. إنها الغابة إذاً.. من يحسن "الخضخضة" لن يفترسه الأسد.
دعوني أعترف لكم: في الغابة، أنا ، لا " واتانابي" منْ غابَ ..
ولن أقول مثل الشاعر الألماني غونتر غراس :" لا تمضِ إلى الغابة، ففي الغابة غابة"..
بل امضوا إلى الغابة ،
فـفـي الـغـابـة .. غــابـــة ... لكنها غابة هاروكي موراكامي ..