أحمد أبو خنيجر - غواية الشر الجميل.. قصة قصيرة

.... و لم أستطع البقاء و كل الحبال تجرني، رأيت ثوب الحمى الذي تلبسني عصر اليوم قد بهت، و حلت بجسمي طاقة غريبة تدفعه للتحرك. وجدت الوسادة مبلولة من العرق، و الليل يفترش المكان طاغيا، صيف الدميرة الخانق يحاصر المكان بقسوة غير متسامح مع أي نسمة تود الانطلاق. بحثت بقدمي عن (الشبشب) تحت السرير، و تسحَّبت بهدوء كأني مُنوم أو مسحور، تاركا حمار النوم الرابض قرب السرير أن يخطفني فوق ظهره العريض، أسأله: أين أمي؟ فيقول: قدام.
صوت شخير أبي الراقد بجوار زوجته يأتي واضحا من آخر حوش البيت، الظلام يضرب بخيمته الغليظة فناءَ البيت فلا أرى غير الضوء الشاحب من الحجرة التي تنام بها أختي و أخي- من أبي- اقترب، بسمة هادئة مطمئنة أراها مرتسمة فوق وجه أختي، أخمن أنها تحلم بيوم فرحها الذي قرب من ابن عمها، ينقبض قلبي بشدة و أحس بأن الظلمة قد تكاثفت، و أنا أدير وجهي صوب الباب الخشبي العريض الذي أحسه يضغط الهواء اللزج من حولي فأزداد اختناقا.
- إحنا ما نديش بنتنا لواحد أمه كانت الشواطين راكباها.
فتحت الباب و شعرت بهواء الشارع الراكد تعبث فيه رائحة القرية، الليل يسحب القريةَ و ناسَها تحت طياته الكثيفة، هالني ما أرى من ظلام، وقفتُ مرتبكا، أغمض عينيّ و أفتحهما علّني مازلت نائما، و إنَّ ما أراه هو حلم غريب، لكن حمار النوم يواصل حركته بي. بجهدٍ استطاعت عيني أن تألف الظلام، الشارع ضيق و متعرج مليء بالقذارة و الوسخ تفوح منه رائحة عفن، أنظر للسماء علّني أري النجوم، على غير العادة بدت السماء سوداء و كأن ستائر الظلام قد حجبتها، تعثرت قدمي بشيء طري، انحنيت أبحث عنه فوجدت أنها حمامة، لا، بل ذكر الحمام، أعرفه بمنقاره و نعومة الريش عند الصدر، شعرت كأن سكينا قد غرزت بغتة في تجويف قلبي، قبلته و حملته معي، و أنا أنقل قدمي بحذر أن أنزلق، و أسأل حمار النوم: أين أمي؟ فيقول: قدام.
- لِمَ يضرب هذا الرجل أمي؟!.
يطن رأسي و بقايا الحمى تعبث به، يرتج بشدة و أحس كأنه ملقى به من هاوية، أضع يدي محاولا منعه من السقوط.. تنزلق رجلي على الأرض المبلولة بالوسخ، فيعلق بجلبابي الأبيض، ألعن الشارع و ساكنيه إلاك يا مريم. أكان لابد أن يجاورُ جدك جدي، في ذلك الزمن البعيد؟ هو أخوه، و أنت في الحساب ابنة عمي، ها باب بيتكم بضبته العريضة القاسية التي أحسها ثقيلة على صدري، و تكبس عليه كأنها ما فُتحت يوما، يواجهني الباب و اليد الخمسة و خميسة الدامية – رغم الظلام- أعرف أنها مُشهرة في وجهي كأنها تريد صفعي، أحس بلزوجة العرق على صدغي، و قلبي يدق عاليا و أنا أراك شعاعا من نور يخرج فوق سقف البيت- عند غروب ذلك اليوم البعيد- و لا يسع قلبي إلا أن يهتف: يا الله.
قوة هائلة تجبر قدمي على التحرك، ينعرج الشارع الخالي، ألتفت ورائي فلا أري شيئا، أتساءل: أين الجبل؟ و لم أندهش و العيال و الحريم و الرجال يملئون حوش الدار و أمي ترقد في الحجرة التي بها أختي الآن بجوارها الشيخ حسن و معه جريدة خضراء، و رأيتني و أنا الصغير- وقتئذ- أجري ما بين العيال مندفعا تجاه أمي، يتلقفني حضن خالي، أحاول الفكاك منه، يده الكبيرة الحانية تهدئ مني و أرى أبي باركا على الأرض، يضع رأسه بين كفيه، مغطيا رأسه بعمامة كبيرة فلا أرى وجهه، أنظر لأمي.. كومة من ملابس سوداء مطوحة فوق الحصير على الأرض، تبدو كعود بوص ناشف ألقت به رياح أمشير في يوم شديد البرودة، كانت رأسها على المخدة التي أنام عليها الآن، وجهها أصفر كما الكركم، عينها تنظر نحوي بنظرة لن تفارقني أبدا.
سكون مريب ينتاب القرية و أنا أمشي عبر دروبها، لا حركة و لا نفس، و كأن القرية دخلت سباتها الأخير، أنظر لنفسي ذاهلا من قدمي التي تعرف الدروب كآخر مرة كنت أجري فيها و العيال تطاردني: وَدّ أم شواطين أهه.
أضع يدي على جبهتي و أشعر بالسخونة قد خفت و أن رعشة بدأت تعتري بدني، هممت أن أسال حمار النوم فسمعته يقول: قدام.
و ما كنت أملك ساعتها غير أن أُطيِّرَ حمامات قلبي نحوك و ألق لها بالحَب، و آخذ ذكر الحمام من العشة و أوصيه أمامك بأنثاه لكنه يفرفض و يطير من يدي كأنه يعاندني و يدخل في معارك صغيرة و يتركني لحيرة كبيرة، و أنا أراك تنزلين من فوق سطح بيتكم، و أحس بالجبل يبث فحيحه في وجهي، و أرى العيال و زعيقهم بما فيهم بنت الشيخ حسن الهبلة و هم يجرون خلفي، يدور رأسي، أجري و لا أحد يردُّهم عني، البكاء يملأ الصدر لكن العين جامدة، تخبط قدمي بالدروب و أحس بهم يلحقون بي فأدفع باب البيت و أدخل و أنا أرده بشدة، و بالضبة أقفله، أرتكن عليها و أترك لعيني أن تأخذ حقها من البكاء لكنها تأبى، و صوت العيال يخترق جسدي كسكاكين، سألت حمار النوم: هل هذا بيت أمي؟! فأجاب: نعم.
نظرت فعرفت أنه بيت جدي الخالي، أفلتت نسمة مشاكسة من مخالب الدميرة فهيجت تراب الأرض، فهب يدخلني، و أري جدي يجمعنا- نحن أحفاده- حوله بجوار الصفط، قالت لي أمي: أنت أشبه الناس به. لكنه بعد حزنه على ابنه، خالي، و أخي، أبنك يا أم، أختار اللحاق بهم، ليتركني لعيال الشارع و رعاية الحمام الذي يعاندني كثير، قال جدي: تأتي ليلة في العام ينام فيها البحر- النيل- و يشف و تصفو مياهه حتى يمكن رؤية القاع، يبدو مستويا كطبلية، لا أثر لموج، أو صوت للماء، من أسعده الحظ فوافق تلك الليلة و استطاع أن يشرب أو يعوم قبل أن يصحو البحر كتب له السعد في دنياه، و حلت ببدنه قوة لا يمكن لبشر أن يواجهها، أو يتزوج من عروس البحر التي تخرج في هذه الليلة، و تأخذه إلى ما لا عين رأت و لا خطر على قلب بشر، ثم راح يحكى عن أبو دراع الذي كانت عليه قوة تهد الجبل، و كيف أنه شال نخلة بحالها تحت إبطه من الزرع حتى البيت، و قال أن القوة تذهب لو استعملت في الشر و الافتراء. و كنت أنا اللابد في حجره أسأله عن عروس البحر، فيصمت طويلا قبل أن يحكي عن ابنه- خالي حسين- الذي تزوجته عروس البحر، و يصف لنا جمالها؛ فأري نفسي قد تملكتني تلك القوة فخافني العيال، و مريم صارت عروستي.
بكيت و غشيتني موجة من هواء بارد حرك ركود الرائحة من حولي، نفرت رجلي، وقفت و رحت أجوس خلال البيت الخَرِب، أدخل حجراته فأرىبعض الأسرة الجريد المتهالكة و الصومعة و الصفط و الفرن و برج الحمام، و طافت بخيالي صورة خالي و مريم و أمي و جدي، و فتحت الباب و خرجت.
يزداد تكاثف الظلام و الحر و لا أعرف إلي أين تقودني قدمي، أراني مخترقا الدروب غير آبه بما يعلق بالجلباب من وسخ، أداعب ذكر الحمام الذي بيدي، و أراه بين يديك تغنين له: " يا أمه حمامي يا أمه.... يا أمه حمام الواد على". و ساعتها أري قلبي يضحك مزغردا و أقول الفرح قريب. و أسألك يا خال: لِمَ يضرب هذا الرجل أمي؟ تقول: كنا ثلاثة إخوة و بنت واحدة هي أمك، و كانت أكبرنا، و عندما ولد خالد الأصغر و ماتت جدتك، شالت هي البيت على رأسها، كان جدك يعاملها على أنها ست البيت و أكبر الأولاد؛ كانت تسبقنا إلى الزرع و تضرب العيال إن هم تحرشوا بنا، و عندما نعود للبيت نجد كل شيء جاهزا، حتى جدك لم يشكُ منها أبدا، سألته لماذا لم يتزوج و هو الصغير وقتها، قال: أختك حساسة جدا و لا أريد أن آتي لها بضرة.
أي السكاكين تنزرع الآن بصدري و تفتحه بابا للريح، و حمار النوم سادرا في سحبي إلى حيث لا تعلم قدمي؟ أراني أتجه جنوبا و الحر يخنق المكان، رعدة خفيفة تسري في جسدي، كتلك الرعدة التي اعترتني و أنا أتأمل شعاع نورك يا مريم فوق سطح البيت، شعاع نورك الذي يحتويني، أنا الذي لم يرفع وجهه عن تراب الشارع و النوم من المغرب، أي وجع كان ممكنا ساعتها ليفرد لي جناحه و يخرجني للشارع رافعا رأسي، أنظر- لأول مرة- لوجوه البنات، فأراك بكل الوجوه، ارتبك و أعتاد الجلوس على رأس الموردة كي أشاهدك و أنت تحملين الجرة تتهادين بها حتى البحر، لأعرف ساعتها أني هالك، فأخجل و أخفض عيني؛ هل كان ساعتها ذكر الحمام قادرا على فهمي فيطير إليك حاملا شوقي على جناحه فتغنين " يا أمه حمامي يا أمه" فلا أقدر أن أصبر، و أتجه صوب أبي أقول له: أريد أن أتزوج.
أجتاز آخر بيوت القرية فتطل علىَّ الجبانة بوحشتها و رهبتها القاتلة، كنت أخاف دائما و أنا أمر بجوارها، و أعجب لقدمي التي أوقفتني عند قبر جدي، عن يمينه يقع قبر جدتي ثم قبر أمي، و في الناحية الأخرى قبر خالي الأصغر ثم قبر أخي، تذكرت أنهما- خالي و أخي- دُفنا في وقت واحد، عندما وجدوهما في صباح أحد الأيام شديدة الحرارة غرقى. كثرت الأقوال وقتها غير أن الذي علق بذهني: أن عروس البحر طلعت لهما، و عندما لمساها صُعقا. جريت أسأل جدي عن عروس البحر، فقال: أي عروس تريدها أزوجها لك. و ضمني أبي لصدره و أحسست بحضنه- لأول مرة- دافئا، بعد زواجه على أمي، فبكيت و قلت: يا مريم كل الأيام الفائتة من عمري لا أعرفها، لا أعرف من أيامي غير ذلك اليوم الذي احتواني فيه نورك و ضحكت عيناك، و قلت: ها الزمان بدأ ينصلح حاله، و أنت ابنة عمي في الحساب، و هو لن يمانع، و العيال لن يعيروني بأمي التي كان الشيخ يضربها بالجريدة الخضراء زاعقا فيها: "أحسن لك تخرج". و نظرتها في عيني لا تفارقني، تصرخ أمي من الألم، أحاول نزع نفسي من حضن خالي، و كرهت أبي البارك على الأرض دون حراك. عروس البحر لا تصعق أحدا، بل تأخذهم معها لجزر الفيروز و القصور التي حيطانها من ذهب، و الأسِرة مصنوعة من الأبنوس و فرشها ريش النعام، و كل ما تطلبه تجده حاضرا؛ فاكهة الصيف و الشتاء في آن واحد، قلت يا مريم من بين أصابعي أخلق صبايا أبيح لهن نفسي، و أعد لهن من ظلي متكأً، هذى البلاد قلبك، أنت التي جمعت بناتي و حمامي في قبضة يدك، و نظرة عينك حين تأتي في عيني تضحك، أحس بأن الأيام تزدهر و تريني وجهها الجميل، قلت لأبي: حدد معهم الفرح أن يكون يوم فرح أختي، فبيتنا يا أبي لم يدخله الفرح أبدا. قال: لا تستعجل.
تنزرع بقلبي جمرة التذكرة فتشتعل كل الأزمنة بداخلي، و تطاردني أشباح العيال، أُمني نفسي بالرجوع لكن حمار النوم يقود قدميّ عائدا بي، و يدفعني باتجاه الموردة، لم أكن أعرف يا مريم أن البنات اللواتي أخلقهن من بين أصابعي سأجدهن قد ذهبن للبحر لمليء جرارهن، و يمشين كاشفات عن سيقانهن، و كنت أحسبهن موقفات علىّ، فأحس بالخجل و أنا أراك تفعلين مثلهن و أشتعل.
قال خالي: خالك الأوسط- حسين- لا نعرف له طريقا، كان صيادا يمتلك القارب الذي وجدوا فيه خالك الأصغر و أخاك غرقى، كان دائم الغناء للسمك و عروس البحر، و أيضا قليل الصبر على الرزق، و كان صباح لم نجده، قالوا طفش من البلد.. خطفته جنية البحر. كان قد اعتاد الصيد ليلا، و وجدنا القارب مربوطا إلى جذع النخلة الذي كانت أمك تجلس عليه في أيامها الأخيرة تكلم البحر.
كرم النخل يبدو كسياج كثيف كأنه عساكر الجن التي تحاصر القرية التي ذكرها جدي في حكاياته، قال: الجن تعشش بين جريد النخل. يتنافر الجريد موحيا بالرهبة و الخشية؛ سألتك يا جريد النخل أيا عالي أن تميل قليلا و تسمعها سلامي و هي في طريقها للبحر، أتراك فعلت، أم كنت مثل أبيها: إحنا ما نديش بنتا لواحد أمه كانت الشواطين راكباها؟ قالها في وجهي، و تركني لحمي شديدة في عز حر الدميرة مكتويا وحدي بجروحي، و الشيخ حسن بعزم ما فيه يضرب أمي بالجريدة الخضراء، و البلد كلها تتفرج، يقول: أحسن لك تخرج. و كنت أسمع بعض الشفاه تقول: هي اللي غلطانة... إيه اللي خلاها تدوس عليه... يا عيني عليها... كل يوم تروح البحر و تقعد تكلمه ساعتين و أكتر. و خالي لا يريد فكاكي، و أبي بارك كمن كُبَ طحينه، لم تكوني ساعتها موجودة يا مريم، فقد كنت صغيرة، و كنت أنا ابن العشر سنوات أجري من العيال و أحبس نفسي في الدار و أوقفها على الزرع و البيت، و أهب عيني لتراب الشارع و للبنات اللواتي أخلقهن من طين و أرصهن في الشمس كي يستوين، لكنهن تشققن؛ أقول لذكر الحمام حين أراه قد خاصم أنثاه: عيب. و أمي تصرخ و دموعها تنزل على المخدة و الناس تتفرج عليها و يرن بأذني صوتها حين غرق خالي و أخي: " ياللى شبابك زين و خساره...... زهر الجناين طاح نواره".

* * *
توقف حمار النوم، قال: تقدم. و دفعني.
موجة برد شديدة زلزلت البدن و جعلتني أرتجف بشدة، فيفلت ذكر الحمام من يدي، متخبطا في حفرة الظلام الممتد إلى آخر حدود الشوف، شعرت كأني في لجة من طين غليظ القوام يحط بي، أبحث عن ذكر الحمام فلا أتمكن من الالتفات للخلف، و بدت أشياء تنسل من جسدي و تخرج محلقة في سماء عيني الضيقة خالقة أشباح و عفاريت يمسكون بجريد النخل و يتمرجحون أمام وجهي، لهم ضحكات كريهة و رائحة كلب ميت، وجدت نفسي كذبابة وقعت داخل شبكة عنكبوت محكمة؛ قلت: الجن نصبت لي فخا و وقعت فيه.
كل شيء أسود قاتم كملابس النساء في البلد و هن ينحن على أمي و يلسن عليها بالكلام، و كنت أنا غير الفاهم ما أزال مرتاعا من آثار ضربات الجريدة الخضراء على ظهر أمي، كان ظهرها عبارة عن قراميط سوداء منتهية برءوس داكنة عند الأماكن التي انبثق منها الدم، تقول أمي: اعدلني. فأكره الشيخ حسن و بنته الهبلة المتروكة بغير علاجه في الشوارع لتلم العيال حولي ليبدأوا مطاردتي كأني بعوضة أحدق بها دخان الروث، فأفر متخبطا بالدروب؛ و كلما حاولت وضع يدي لأعدل أمي كانت تصرخ، فأبكي و أنا الطفل، و أبي لا ينتظر أكثر من شهرين و يأتي بامرأة أخري موسعا مساحة الصمت بيننا، قال: كان بيداويها يا ولدي. و الناس تتفرج، و لجة الظلام الطينية يزداد قوامها، و أحس بالتعب يهاجمني كالسؤال الذي دائما يباغتني بإبره ليلا و يوقظني عرقانا غير قادر على إخراج النفس، فأمنيه بزوج من الحمام إن هو استكان، لكنه ما يلبث ليشكني فاتحا الجرح للنزف و التقيح، أقفل على نفسي و لا أخرج للشارع، و صمت كبير يحتل البيت إلا بغرفة أبي و زوجته، و تركته يضربني دون صوت مني حين طلب أن أحضر له معسل من الدكان، و حمدت الله أن بيتنا بطرف البلدة و لا يجبرني على المرور بدروب البلدة كبيت جدي حيث كنت أنظر للعيال بريبة و كأنهم على وشك مطاردتي غير منصتين لبكائي و لا لصوت أمي و هي توصيني: النخلة.. البحر.. عروسة. و لم أفهم، قال خالي: هي تخاريف الحمي. هي اعتادت الجلوس على جذع النخلة بالبحر، و حين سألته عن العروس، و جم و لمع بريق عينه و أصر على أنها تخاريف حمى.
يتزايد الألم عاصرا أعضائي فأصرخ و لا أسمع صوتي الضائع في الظلام، و أراه مشنوقا بين جريد النخل الأسود المتدلي كجثث متعفنة، مزق صغيرة تنسل من جسدي و تغادرني، أحاول استعادتها فأجد يدي لا تقبض إلا على خواء، يظل الجسم يلف و يدور و عقلي معه، تتساقط ذكرياته و حلمه بالصبايا اللواتي خلقتهن من طين، و سويتهن بنات بجرار و مناديل و سيقان يتعرين فوق البحر هامسات بأسمى، كما أمي حين كانت تنادي على خالي، تزداد الدورات و الضربات تخرج بدمها من ظهر أمي، و الجني لا يريد أن يفارقها- كما قال خالي- و أبي لم يحرك مياه الصمت الراكدة بيننا، و أنا أخذت في الانفراد بنفسي غير سامح للنسوة و البنات اللواتي يحضرن إلى زوجة أبي بأن يمارسن هوايتهن و يتلصصن على جسدي بعيونهن غير المستحية؛ و أوقفت قلبي على بناتي و عليك يا مريم أيامي الأخيرة، و الآن عمي- أبوك- يرفض فاتحا كل المهاوى لقلبي و لأن يتمزق جسدي على حدة صخوره- كما الآن- و أنا غير قادر على استعادته هو و ذكر الحمام الذي حط على عشتكم و باح، و انتشلت عيني من تراب الأرض و مسحتها بنورك الذي لا أراه الآن، ليزداد ألمي مستحضرا صوت جدي حين غرق خالي و أخي، أتاني الصوت مضعضعا به مسحة من بكاء غير قادر على حبس النفس و العين من دموع تود الانطلاق:
"نور العيون راح و أتلم و الجرح فاق الحد
يا للي ابتليت بالهم ما تكلم م اليوم حد".
غلّقت على نفسي، و ازداد استحكام الظلام علىّ، كأني أسبح و رجلي لا تمس أرضا، كقشة تتقاذفها الريح معرضة للتحطم عند الاصطدام بأول نخلة، قال خالي: اخرج. قلت لأبي: لا .. لن أخرج. و أنين أمي بالليل يمزقني قطعا صغيرة تتوزع حولها، تمد يدها الكليلة تطبطب على ظهري، قلت العيال ينتظروني بالشارع، و أبي خرج للشيشة كي يعمر دماغه، و أمي ليلة موتها تلملم بقايا جسدها المحطم بعصا الشيخ تقول: أسندني. و أخاف أن تخبط يدي بآثار العصا على ظهرها و هي تتوكأ علىَّ و تقودني تجاه النخلة المدلاة بالبحر، النيل، تستند على حائط و تقول: صعبان علىًّ أسيبك. و تلمع بعينها حبات دمع تنزل على خديها، و لا أفهم، فأندفع لحضنها فأشعر بها تتأوه فأبتعد و أجلسها فوق النخلة.
الليل و صوت الجنادب و الضفادع و الهوام حولنا، أبحث عن الخمر المختنق وراء السحاب الداكن فلا أري أضواء على صفحة الماء الراكدة، كأن البحر تحول للجة من طين فبدت المياه سوداء، و أحسست بجسدي يقشعر و يتخشب، و أمي الجالسة فوق النخلة تبكي، تخطفني لحجرها و تضمني بشدة حتى أحس بضلوعها و نهنهة البكاء تتردد بين جنباتها، تلقي بكلمات قليلة للبحر المستكين تحت قدميها، لم أعي ما قالت، و عاودت البكاء، و أخذني الدفء و جثا ملاك النوم يداعب وجهي و عيني التي بدأت تغمض، و تخايلت بوجه أبي كعفريت منكوش الشعر و عيناه في وسط رأسه يزعق بأمي: إيه اللي جابك هنا تاني؟ و لم ترد، و كنت قد استيقظت، و كانت نهنهة ضلوع أمي قد سكتت، و أبي يقول كلاما زاعقا فينا و دفعها حين وجد أنها لا ترد عليه، فسقطنا سويا، أنا و أمي، في الماء و شعرت بالطين في حلقي، و أمي كانت قد ماتت، و لم اقدر على البكاء و أبي يحملها نحو البيت، و خالي يقول: ابك يا على.. أرح نفسك بالبكاء. لكني لم اقدر، و امتثلت بذهني كلمات سمعتها من أمي يوم مات جدي كانت تقولها و قد فكت شعرها و شالت عليه التراب، اجتاحتني رائحة عفنة كرائحة الظلام الملتف حولي الآن و جسدي يتوزعه الألم و التحشرج فأنطق الكلمات مخنوقة، و كأن الصوت لسواي غير قادر على سماعه و تبين نبراته.
تشيط بجسدي حمى ترقدني فوق سريرك يا أم أعاني هذيان ميراث مجنون يطلقني في فضاء الأرض مشلولا، و محطما عرائسي الطينية اللواتي تشققن حين طلعت عليهن الشمس، لأختفي من شوارع بها العيال ينتظروني ليلعبوا بي، و أترك حلقي لطعم الطين، و ظلام كريه يلتف حولي.

* * *
ضربة خفيفة أتتني من الخلف أطارتني، و ألقت بي في ألق باهر للعيون، نظرت لنفسي مبهورا، كأنني اغتسلت للتو، جلبابي ناصع البياض غير عالق به أي شيء، و رائحة طيبة تدخلني و تغمرني، لا أدري إن كانت تفوح من الجلباب أم تفوح من جسدي أم من الجو حولي، و الألق المتعدد الألوان يغطى الأرض و السماء، نظرت خلفي فرأيت سياج الظلام قائما يفصل القرية عني، و رأيت ذكر الحمام يأتي إلىَّ طائرا و يحط على كتفي، استغربت عودته حيا و هزتني الرائحة التي تفوح منه، كأني مخدر بدأت أسير للأمام غير عارف بوجهتي.
الأضواء تزداد و الجو يأخذ في الصفاء متحليا بنسمات طرية منعشة، قدمي لا تمس الأرض إلا بالكاد، بدت لي أنها تعرف وجهتها جيدا، و النسمات الذكيات تهب من كل مكان، و ذكر الحمام يتلفت يمينا و شمالا مغنيا بهديل جميل، و طل ندى يغمر رأسي و يغسلني بألوانه و رائحته، فأشعر بخدر يسري بأوصالي و أنا أطل على البحر المتألق بألوان رائقة و مياه صافية تتراقص على ضوئها- في البعيد- جزيرة من بللور مضاءة بألوان تبهج العين و تشدها نحوها، و لا تفكها و تجعلها عالقة بها، و رأيت نفسي أخطو تجاه النخلة المدلاة في البحر، و عيني على الجزيرة، أنظر لهندسة مبانيها و شوارعها المنسقة، كل شارع بلون مغاير دون تناقض أو تنافر، بدت الجزيرة كفراشة بديعة التكوين و هي محاطة بزهور من نور كالنور الذي طلع فوق بيتكم يا مريم و احتواني و غير فصول حياتي.
هالني أن النخلة قد تحولت إلى عرش مذهب، اقتربت أتحسسه فوجدته طريا ناعم الملمس، منمنم الزخرفة، تتعاشق الألوان ببهائها في تكوين رائع، و رأيت على سيقان العرش نقوشا لحدائق زاهية يجري وسطها جدول ماء رائق اللون، ينساب كالحليب الناصع، تمتد على جوانبه مروج من اخضر و سندس، تتكئ عليها عرائس ذوات جمال باهر، ملامحهن تقارب ملامح عرائسي الطينيات، و تحت شجرة عالية و كبيرة جلس عاشقان على أريكة يتناجيان، دققت النظر، فوجدت فيه صورة: خالي و أخي و جدي و خالي، و صورتي. دعكت عيني و نقلتها تجاه الفتاة المبتسمة و المانحة نفسها لحضن الفتي، ناظرة إلى عينيه بابتهال شهى، هي مريم، لا، هي أمي، تأوهت و تأججت النار بقلبي، و شاطت بجسدي حرارة لم أقو على احتمالها، فأدرت وجهي صوب الماء فهزني لونه، و خلعت جلبابي و نزلت و أنا أشعر بعطش شديد.
الماء بارد كأنه السلسبيل، و كأني ما شربت منذ ألف عام، أعب و لا أجد شبعا من حلاوة الماء، فاختصرت المسافة و ألقيت بجسدي في الماء، فأصدر صوتا كجمرة من نار ألقيت في الماء، و تصاعدت أبخرة من جسدي، كنت أشعر بعدها بأن جسمي صار أكثر خفة و تألقا، أخذت أنفاسي في الهدوء و أنا أري الماء يدخل صدري يغسله من الداخل، و رأيت أشياء و سوائل تخرج منه، كانت تحترق بمجرد مغادرتها جسدي، و أغمضت عيني و أنا أحس كأن أمي تمد يدها و تثبتني و تحممني من رأسي حتى قدمي، و يدها تدعك كل جسدي.
تلفت و أنا أفتح عيني، الجزيرة يزداد تألقها فيلمع بشدة في عيني، أدرت وجهي نحو العرش و خرجت، و جدت جسدي جافا لا اثر للماء و لا لعومي منذ قليل و كأن شيئا لم يحدث، بدا العرش أكثر أبهة و جمالا و ذكر الحمام يرقبني من فوق الكرسي بعد أن غطس بالماء مثلي، و نفش ريشه فبدت ألوان لأول مرة أراها فيه، لكنها تتكامل مع الألق المحيط بهذا الجو.
غير مصدق وضعت جسدي بالعرش المهيأ لاستقبالي، وجدتني أغوص في ليونته، و خدر لذيذ يسري بالبدن يدفعني تجاه النوم، و عيني معلقة هناك على الجزيرة، و خُيلَ لي أني أري قاربا أخذ في الابتعاد عن الجزيرة متجها نحوي، و أنا ببطء أغمض عيني و أستسلم لنوم قادم.
على نقرات خفيفة من ذكر الحمام صحوت، و سمعت الغناء الجميل: " يا أمه حمامي يا أمه....... يا أمه حمام الواد على". هيجني الصوت المبطن بالشجن، و به رنة من بكاء ناعم، تلفتت علَّني أعرف مصدر الصوت المنبعث من كل مكان، و المتسلل لجسدي، ليرقد به و يتمدد هادئا و جميلا؛ أدرت عيني و رأيت القارب قد رسا على مقربة مني، حوريات بلباس رقيق و شفاف يحطن بعروس في ملابسها البيضاء، كانت توليني ظهرها، و أري الحوريات يحملن شعرها الطويل، و تاقت روحي لرؤية وجهها، ببطء راحت تستدير تاركة دهشة هائلة تقع علىَّ، إنها مريم تغني: " يا أمه حمامي يا أمه... خلط ويا حمام الواد على".
آه يا لهذا الصوت. لم أقو على القيام، و رأيت ذكر الحمام الذي صار ملونا يطير و يحط على كتفها، فتأخذه بين يديها و تقبل رأسه و منقاره، أدوخ، فأغمض عيني؛ علَّني استيقظ إن كنت أحلم، لكني أري مريم خارجة من قاربها و حولها الحوريات، تنظر نحوي و تغني بمليء روحها، و الحوريات- اللواتي يشبهن عرائسي الطينيات- يرددن خلفها، و كم بدا أسمي جميلا و مريم تردده بعذوبة فائقة، و هي تتقدم نحوي، و أنا بالكاد أقوي على القيام متنسما روائحها التي تدخلني.
مدت يدها نحوي، و عينها تتملاني بنظرات حانية و مشجعة، فأمد يدي ليدها، تأخذني الطراوة إلى حضنها المبتهل، و تقودني ببطء تجاه القارب، و ذكر الحمام يرفرف فوقنا، و الحوريات حولنا يغنين و ينثرن رذاذا معطرا، و القارب يهيئ نفسه لاستقبالنا.
أعلى