سألني أبي ذاتَ يوم ( هل الشاعر يحبُ الحياةَ أم يكرهها ؟) كان في حينها سؤالاً مبطّنا بالتذمر بعد أنْ إكتشف أنّ ابنه الطالبَ في المرحلة الإعدادية يكتبُ قصائد ويصطحبُ للبيت كتباً لاعلاقةَ لها بدراسته ، فقد كانَ رحمه الله لايُحبّ الشعرَ ولا الغناء بجميع أنواعهما ، لم يحتفظْ بسوى بيتين لشاعرين ، أحدهما للمتنبي
إذا رَايْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً
فلاتَظنّنَّ أنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ
وبيت آخر وجدته مكتوباً في دفتر صغير للمصاريف اليومية :
وَإِذَا غَلَّا شَيْءٌ عَلِيَّ تَرْكتُهْ..
فَيَكُونُ أَرَخَصَ مَا يَكُونُ إِذَا غَلا
للمتصوف إبراهيم بن أدهم (المُتوفّى سنة 162 هجرية) دون أنْ يعرف من هما قائلاهما بالطبع . فالشاعر بالنسبة لوالدي شخص خفيف طريف غير جاد يفتعل المعاناة ،اذا حلّ بمجلس يكون حديثه مؤنساً فقط، لايؤتمن جانبه على مالْ أو عِرض، ومنهم من يتطاول على الله ويتبع السلاطين، لايكتب فكرا ولا يأتي بحكاية .. وغيرها من مصطلحات التحامل التي تهدف الى تحذيري من الوقوع في شرك الشعر ، تدعم رؤى أبي هذه أنباء متفرقة ومبالغات عن شعراء في مدينتي هربوا من عوائلهم أو اندفعوا الى الخمرة وأهملوا أنفسهم وأصبحت البهدلة والصعلكة وعدم الالتزام العام هويةَ المثقفِ والأديبِ في الناصرية ، الناصرية التي كانت وطناً لجميع كتب ونظريات وادباء وفلاسفة وصعاليك الأرض ونجومها وآثار حروبها الكونية ، ما نَزَحَ لها مطاردٌ هارب أو مُبعدٌ معاقَبْ أو جندي مساق الى معسكراتها أو شاعر لم يختمر بعد، حتى مسّه السحرُ منها ، تدلهم على الحياة ، وتحرضهم على طلاقها ! .
أمام هذه البانوراما المفزعة لأبي فَزَعَ ان يطلق على ابنه البكر يوما لقب شاعر ، اشتعل لهيب الخلاف بيننا، ومع حبّي له، لأصالته ونبله وكفاحه في الحياة ، وتفهمي لخوفِه علي ، عزّتْ عليّ قطيعتُه فغدوتُ صبياً حائرا بين جنّة سلطته وجحيمِ حريتي والعكس كذلك .
حاولت طمأنته بتفصيل بسيط يُخفف الهوة التي اتسعت بيننا ، بان الشعَر ليس كما تتصوره يا أبي ، ليس لغوا وطرافة وخفة ظل وعيشاً رخيصاً ، الشعر الذي تعلمتُه ثورةٌ من داخل الحياة وليس عليها ، أنت يا أبي شاعر حين تريد غير ما أنتَ فيه ، الله الذي نَعرفه أو الذي نفترضه شاعر عظيم وهو يُنتج عالَماً معقداً محفوفاً بالأسرارٍ والتوازنات الغامضة، لايعرف جدواها الاّ هو سبحانه. الأنبياء شعراء في اختراقهم ثوابت أقوامهم، لا لايقلقك لقب الشاعر ياأبي ، واتفقُ معك كثيراً بأنّه مخجلٌ اذا ما اقترَنَ بنماذج سطحية مبتذلة تسمعها أو تراها ، الشعر هو السؤال، لماذا وُلِدْت؟ ولماذا تُضطهد ؟ وتعذّب وتجوع ولماذا تزرع لتاكل؟ وتاكل لتكبر؟ وتحب وتنجب وتهرم وتغادر ؟ أنا أحبك يا أبي ، لم أهربْ من سلطتك حسب بل احتج على جميع السلطات التي ورّطتْ الإنسانَ بحياة كهذه ،وبضمنها الدين ، فالدين في أصوله رحمةٌ وشِعرٌ يا أبي ، لكن تُجّارَه قتلةٌ وكذّابون ومخرفون ، العِلْمُ شِعرٌ يا أبي وهو يحرث في العَدمْ لينجز مالم يكن متوقعاً ، الجَمالٌ والطبيعةُ شعر يا أبي ، والحبُ شعر ، اترك الأسم قليلاً ارجوك ، انا ايضا لا اميل اليه ، لقب ( شاعر ) لقب كوميدي يصادر أحقية جميع الكائنات الساحرة الشاعرة والنظرات الاستثنائية المدهشة في الوجود به ، من الفلاّح الى النملة والأفعى والموسيقار ، الشعر هو الكينونة الخالصة ، قوة الذات ، هو الحرية ، هو مايبقى فقط .
لا أعرف هل اقنتع أبي بكلامي ؟ ، هل تحول خوفُه عليّ الى خَوفٍ مني بعد أن تركتُه نهائيا وهربتْ؟، وأخيراً هل فهم إجابتي وهو يموت بين يدي متسلّلا الى منفاي في السابع من نيسان عام 2003 ؟، ليراني بعد غياب طويل طويل لم يعرف الى أين استقرتْ وجهتي خلاله .
إذا رَايْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً
فلاتَظنّنَّ أنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ
وبيت آخر وجدته مكتوباً في دفتر صغير للمصاريف اليومية :
وَإِذَا غَلَّا شَيْءٌ عَلِيَّ تَرْكتُهْ..
فَيَكُونُ أَرَخَصَ مَا يَكُونُ إِذَا غَلا
للمتصوف إبراهيم بن أدهم (المُتوفّى سنة 162 هجرية) دون أنْ يعرف من هما قائلاهما بالطبع . فالشاعر بالنسبة لوالدي شخص خفيف طريف غير جاد يفتعل المعاناة ،اذا حلّ بمجلس يكون حديثه مؤنساً فقط، لايؤتمن جانبه على مالْ أو عِرض، ومنهم من يتطاول على الله ويتبع السلاطين، لايكتب فكرا ولا يأتي بحكاية .. وغيرها من مصطلحات التحامل التي تهدف الى تحذيري من الوقوع في شرك الشعر ، تدعم رؤى أبي هذه أنباء متفرقة ومبالغات عن شعراء في مدينتي هربوا من عوائلهم أو اندفعوا الى الخمرة وأهملوا أنفسهم وأصبحت البهدلة والصعلكة وعدم الالتزام العام هويةَ المثقفِ والأديبِ في الناصرية ، الناصرية التي كانت وطناً لجميع كتب ونظريات وادباء وفلاسفة وصعاليك الأرض ونجومها وآثار حروبها الكونية ، ما نَزَحَ لها مطاردٌ هارب أو مُبعدٌ معاقَبْ أو جندي مساق الى معسكراتها أو شاعر لم يختمر بعد، حتى مسّه السحرُ منها ، تدلهم على الحياة ، وتحرضهم على طلاقها ! .
أمام هذه البانوراما المفزعة لأبي فَزَعَ ان يطلق على ابنه البكر يوما لقب شاعر ، اشتعل لهيب الخلاف بيننا، ومع حبّي له، لأصالته ونبله وكفاحه في الحياة ، وتفهمي لخوفِه علي ، عزّتْ عليّ قطيعتُه فغدوتُ صبياً حائرا بين جنّة سلطته وجحيمِ حريتي والعكس كذلك .
حاولت طمأنته بتفصيل بسيط يُخفف الهوة التي اتسعت بيننا ، بان الشعَر ليس كما تتصوره يا أبي ، ليس لغوا وطرافة وخفة ظل وعيشاً رخيصاً ، الشعر الذي تعلمتُه ثورةٌ من داخل الحياة وليس عليها ، أنت يا أبي شاعر حين تريد غير ما أنتَ فيه ، الله الذي نَعرفه أو الذي نفترضه شاعر عظيم وهو يُنتج عالَماً معقداً محفوفاً بالأسرارٍ والتوازنات الغامضة، لايعرف جدواها الاّ هو سبحانه. الأنبياء شعراء في اختراقهم ثوابت أقوامهم، لا لايقلقك لقب الشاعر ياأبي ، واتفقُ معك كثيراً بأنّه مخجلٌ اذا ما اقترَنَ بنماذج سطحية مبتذلة تسمعها أو تراها ، الشعر هو السؤال، لماذا وُلِدْت؟ ولماذا تُضطهد ؟ وتعذّب وتجوع ولماذا تزرع لتاكل؟ وتاكل لتكبر؟ وتحب وتنجب وتهرم وتغادر ؟ أنا أحبك يا أبي ، لم أهربْ من سلطتك حسب بل احتج على جميع السلطات التي ورّطتْ الإنسانَ بحياة كهذه ،وبضمنها الدين ، فالدين في أصوله رحمةٌ وشِعرٌ يا أبي ، لكن تُجّارَه قتلةٌ وكذّابون ومخرفون ، العِلْمُ شِعرٌ يا أبي وهو يحرث في العَدمْ لينجز مالم يكن متوقعاً ، الجَمالٌ والطبيعةُ شعر يا أبي ، والحبُ شعر ، اترك الأسم قليلاً ارجوك ، انا ايضا لا اميل اليه ، لقب ( شاعر ) لقب كوميدي يصادر أحقية جميع الكائنات الساحرة الشاعرة والنظرات الاستثنائية المدهشة في الوجود به ، من الفلاّح الى النملة والأفعى والموسيقار ، الشعر هو الكينونة الخالصة ، قوة الذات ، هو الحرية ، هو مايبقى فقط .
لا أعرف هل اقنتع أبي بكلامي ؟ ، هل تحول خوفُه عليّ الى خَوفٍ مني بعد أن تركتُه نهائيا وهربتْ؟، وأخيراً هل فهم إجابتي وهو يموت بين يدي متسلّلا الى منفاي في السابع من نيسان عام 2003 ؟، ليراني بعد غياب طويل طويل لم يعرف الى أين استقرتْ وجهتي خلاله .