د. عادل الأسطة - قراءات في أدب إلياس خوري.. القسم الثاني

(5) – 1 أولاد الغيتو (اسمي آدم):
"أولاد الغيتو..اسمي آدم" 2016 هي آخر أعمال الروائي اللبناني إلياس خوري -نشر جزء منها في مجلة بدايات (ع.12، صيف وخريف 2015 تحت عنوان أيتام الغيتو-، واختار لها الموضوع الفلسطيني ، مثل روايته "باب الشمس"1998، الرواية التي لم ترق لبطل " أولاد الغيتو" الفلسطيني:
"قلت لصديقي حاييم ، إن هذا الرجل كاذب،يدعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته ،مع أنه فلسطيني،وهويته الفلسطينية هذه كانت حجته الكبرى ضد روايتي،كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين "(ص14).
يحصل إلياس خوري على دفاتر هذا الفلسطيني الذي يملك مطعما للفلافل في نيويورك ، من خلال طالبته الكورية (سارانغ لي ) التي كانت معجبة بادم، وباستاذها الياس. وحين يموت ادم تؤول الدفاتر الى الياس فتكون الرواية.
والحق ان رواية الياس هذه اعادتني الى نص كتبته انا في العام 1997. والى نصوص روائية عربية شاعت منذ العام 2006. ذلك ان هناك تشابها بين هذه النصوص لافت/ا، واللافت ان اربعة منها حصلت على جائزة بوكر للرواية العربية،او وصلت للقائمة القصيرة للجائزة.
في العام 1996 زرت بون لمدة شهر ، ودفعتني اشكالية الحصول على (الفيزا)-التاشيرة ، واشكالية السفر والاقامة هناك الى تدوين ملاحظات، قررت ان اجمعها معا في كتاب اسميته " خربشات ضمير المخاطب "، وادرجته لاحقا على مواقع عديدة منها موقع جامعة النجاح الوطنية ، وموقع ديوان العرب. وكتبت تحت العنوان عنوانا فرعيا اخر هو "يقدم لها الكاتب ويعلق عليها ويكتب ما سمعه منه منها " (نابلس ،1997).ولم انشر الكتاب ورقيا حتى اللحظة.
في العام 2006 سينشر علي بدر العراقي روايته "مصابيح اورشليم،رواية عن ادوارد سعيد"، وراويها عراقي كان في 80ق20 جنديا يحارب على الجبهة العراقية -الايرانية ، وله صديق اسمه علاء خليل كان ايضا جنديا،وقد تعرف على الفلسطيني ايمن مقدسي الذي كان يدرس الادب المقارن في جامعة كولومبيامع ادوارد سعيد، وكان ايمن يريد ان يكتب رواية عن ادوارد،وقد اعطى اوراقه للراوي العراقي واختفى، ليكتب الراوي الرواية.
هل اختلفت رواية يوسف زيدان المصري " عزازيل"2008، في فكرة بنائها كثيرا عما سبق؟
في مقدمة الرواية مقدمة للمترجم الذي ترجم عن السريانية مجموعة لفائف (رقوق) اكتشفت قبل 10سنوات بالخرائب الاثرية الحاافلة ،،الواقعة الى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب.الرقوق عليها كتابات سريانية قديمة (ارامية )) كتبت في النصف الاول من القرن 5الميلادي ،وتحديدا قبل 1555 من سنين هذا الزمان.كانما لم يكن ليوسف زيدان الا جهد الترجمة ليس اكثر.رواية زيدان فازت بجائزة البوكر العربية.
والرواية التي فازت ايضا ،مباشرة ،بعد رواية زيدان،كانت رواية السعودي عبده خال "ترمي بشرر"(2009).في ص385"مقطع من جلسة سبقت السرد"يروي خال كيف انجز روايته .كان يتجول داخل منتزه(الايس لاند) فراه طارق واخذ يقص عليه قصته من الفها الى ما قبل يائهابقليل،وسيكتب خال ما قصه عليه طارق بالتمام والكمال،ولن يضيف اليه الا القليل.الرواية رواية ترجمة ذاتية،وهي ضرب من اعترافات بطلها.
بعد عام من فوز رواية خال بالجائزة ستصل رواية الجزائري بشير مفتي "دمية النار "(2010)الى القائمة القصيرة للجائزة.ومن ص5-21يحكي الروائي قصته مع مناضل جزائري هو رضا شاويش.يكتب رضا قصته مع الثورة،ويرسلها الى بشير الذي ينشرها كما هي"دون زيادة اي حرف".
في العام 2014 ستصل ايضا رواية المغربي عبد الرحيم لحبيبي الى القائمة القصيرة لبوكر.الرواية تضم مقدمة قد تكون المدخل وقد تشبه الخاتمة.وتحكي قصة روائي يعثر
على مخطوط يعود الى 100عام وبضع سنوات،وسيختار الروائي عنوانا للمخطوط،كما،وسيختار الروائي عنوانا للمخطوط،كما سيضع له عناوين الفصول،بعد ان يحققه:"المخطوطة الفريدة او مخطوطة سوق العفاريت".
والسؤال هو :هل كان اللاحق من هؤلاء الروائيين اطلع على نتاج السابق؟وهل يعود فوز هذه الروايات بالجائزة الى فكرة بنائها ام الى موضوعها؟ اعتقد ان الامر يستحق متابعة.
هل اقول انني ارسلت المخطوط الى شاعرنا محمود درويش لينشره في الكرمل؟ وماذا يضيف هذا؟
(5) – 2 أولاد الغيتو: مواصلة اللعب الروائي
لما صدرت رواية إلياس خوري "يالو" (2002) أنجزت عنها مقالاً طويلاً تحت عنوان "إلياس خوري يواصل اللعب الروائي" (16 و23/6/2003 في الأيام الفلسطينية) وسوف أنجز العديد من المقالات عن روايات لاحقة وسابقة للكاتب نفسه (مملكة الغرباء، وباب الشمس، وكأنها نائمة، وسينالكول) بل وسيلفت نظري ما قاله، ذات نهار، لسامي كليب في قناة الجزيرة في برنامج "زيارة خاصة" حول أطرف ما سمعه عن روايته "باب الشمس".
كان إلياس في باريس يلقي ندوة عن روايته، وفي نهاية المحاضرة ستقترب منه سيدة باريسية وتسأله عن مصير البطلة الروائية نهيل، وعندما أجابها بأنه لا يعرف ردّت عليه السيدة الباريسية قائلة: أنت إذن تكذب وانصرفت. وسوف أعتمد على هذه القصة لأكتب مقالة في "الأيام" تحت عنوان "في الكذب الروائي" (3/6/2007).
ولسوف تذكرني المقدمة التي كتبها الروائي لروايته الأخيرة "أولاد الغيتو: آدم" (2016) بهذا كله، فإلياس يأتي على نصيب الحقيقة والخيال فيما يكتب. فعل هذا في "كأنها نائمة" ويفعل الشيء نفسه هنا ـ أي في "أولاد الغيتو".
يأتي إلياس على الخلاف بينه وبين بطله آدم حول مفهوم الرواية، ويصرخ، بنزقه الأحمق الذي غالباً ما سبب له الكوارث، في وجه آدم، وينعته بأنه رجل تافه، وأنه ـ أي آدم ـ هاجم رواية "باب الشمس" لأنه لم يفهم شيئاً. فأنا ـ يكتب إلياس ـ لم أكتب تاريخاً، بل كتبت قصة، لذا فأنا لا أعرف معنى المصائر الحقيقية لشخصيات من صنع الخيال. ـ هنا تتشابه القصة مع قصة المرأة الباريسية ـ، ويتابع إلياس "لا أدري لماذا أصرّ الرجل على الادعاء بأنه يعرف شخصيات روايتي، وبدا كمجنون يهذي، وكان علي أن أقرأ هذه النصوص كي أفهم معنى كلامه".
إن لعبة الواقع ـ الخيال التي مارسها إلياس في "باب الشمس"، عاد ومارسها في "يالو" و"كأنها نائمة".
وأيضاً في "أولاد الغيتو"، وهي لعبة تذكرنا بعنوان كتاب الناقد المرحوم جورج طرابيشي "لعبة الحلم والواقع في أدب توفيق الحكيم -توفي طرابيشي في 16/3/2016.
وإلياس الذي حاول إيهام القارئ بأن شخصية آدم هي شخصية حقيقية، وبأنها التقت بإلياس، وتمكن الأخير من الحصول على دفاتر آدم الذي أخذ يروي قصته، إلياس نسي هذا كله على ما يبدو فأفسد لعبه الروائي ـ هكذا أرى ـ وذلك من خلال آخر صفحة في الرواية، ص421، وهي الصفحة التي أشار فيها إلى مجموعة إشارات قالت لنا إن آدم هو في النهاية إلياس نفسه مستفيدا من قراءاته، وأن شخصية آدم شخصية مخترعة.
يكتب إلياس في الإشارات "كما أشكر ماهر جرار الذي ساعدني على دخول العوالم الساحرة لحكاية وضاح اليمن..." و"وفي النهاية، فإن هذه الرواية لم تكن ممكنة لولا قراءاتها لشهادات إسبير منير وفوزي الأسمر وأعمال وليد الخالدي وعارف العارف وإدوارد سعيد وسليم تماري وإيلان بابيه وآمنون راز كار كو تزكين وآخرين، ونصوص من الأدبين الفلسطيني والعبري".
إن هذه الإشارات تقول لنا بصراحة: إن دفاتر آدم التي أحضرتها (سارانغ لي) لإلياس من آدم، والتي أوهمنا الروائي في مقدمة روايته بأنها حقيقية، ليست سوى كذب روائي، وأن شخصية آدم هي من اختراع إلياس، وأن ما يقصه آدم عن الشاعر وضاح اليمن هو محصلة قراءات إلياس خوري، اتكاءً على مصادر ومراجع وفرها له د. ماهر جرار. وأن انا المتكلم ـ أي آدم ـ في النص الروائي هو هنا أنا إلياس خوري نفسه ـ أي أننا نقرأ لإلياس، لا لآدم.
وما يرويه آدم عن وضاح هو أشبه بدراسة الشخصية الشاعر تذكرنا بأسلوب طه حسين، بل وتذكرنا ببعض روايات (ميلان كونديرا) حيث يتخذ الشكل الروائي شكل الدراسة، وهذا ما تنبه له إلياس الذي وإن أدرج على غلاف كتابه لفظة رواية، إلاّ أنه أشار في المقدمة إلى حيرته في تصنيف عمله الذي يراوح بين الرواية والسيرة الذاتية "فهو يمزج الكتابة بكتابة تمهيدية، ويخلط السرد بالتأمل." إلياس خوري في روايته الجديدة يواصل لعبه الروائي.
(5) – 3 إلياس خـوري: وبطلـه آدم و .. أنـا
استوقفتني عبارة إلياس خوري في مقدمته «أولاد الغيتو: اسمي آدم» ودفعتني للتفكير بها ملياً، وذكرتني بقصص وروايات وحكايات:
«قلت لصديقي حاييم، إن هذا الرجل كاذب، يدّعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته، مع أنه فلسطيني، وهوُيّته الفلسطينية هذه كانت حجّته الكبرى ضد روايتي، كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين». (ص14، ص15).
حاييم أعادني إلى رواية إلياس «مملكة الغرباء» فهو حاضر هناك، و»روايتي» تعيد، بوعي، إلى «باب الشمس» و»كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين» تعيد إلى ثلاثة عناوين أناقشها مع الطلاب، بداية كل فصل دراسي أدرس فيه مساق الأدب الفلسطيني: الأدب الفلسطيني الحديث، وفلسطين في الأدب العربي، والأدب العربي في فلسطين.
وتندرج كتابات إلياس تحت العنوان «فلسطين في الأدب العربي» لا تحت العنوانين الآخرين.
ولست أدري إن كان هناك من يحظر على أديب عربي أن يكتب عن فلسطين.
مرة أتيت على رواية حسن حميد «مدينة الله» وتساءلت: كيف يكتب أديب عن مكان لا يعرفه عن قرب؟ وقامت قيامة حسن حميد، وهو فلسطيني، ووقف إلى جانبه عدنان كنفاني الذي كتب أيضاً رواية أو أكثر عن فلسطين المحتلة دون أن يقيم فيها.
كانت وجهة نظري هي أن يكتب الكاتب عن مكان مألوف ومعروف، وربما لهذا لم أثر السؤال وأنا أكتب عن رواية «باب الشمس»، فأكثر أحداثها تجري في لبنان، لا فلسطين، وهو له علاقة بالفلسطينيين هناك وعمل في مؤسساتهم، بل إنه انتمى لحركة فتح في بداية حياته.
هل تختلف «أولاد الغيتو: اسمي آدم» عن «مدينة الله» في أنها تكتب عن اللد التي لم يرها إلياس؟
ربما أجد نفسي هنا بعض آدم، وربما أثير سؤاله ولكن بصيغة أخرى: كيف يكتب إلياس عن مكان لم يزره أو يقيم فيه؟
إن أحداث رواية «أولاد الغيتو» تجري في أماكن عديدة، بل وفي أزمنة مختلفة منها ما يعود إلى العصر الأموي.
ومن الأمكنة مدينة نيويورك التي يقيم فيها الكاتب بين فترة وفترة منذ عقود. هنا تتشابه مع رواية علي بدر «مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد».
إن (علي) لم ير القدس ولم يقم فيها، وكتب عنها اتكاءً على روايات إسرائيلية وعلى خريطة (غوغل)، وهي تجري أحداثها أيضاً في غير مكان.
وهناك كتّاب عديدون كتبوا عن أماكن لم يعيشوا فيها، وهذا ما يثير حقا استغرابي ودهشتي ويذكرني بنجيب محفوظ والطاهر وطار.
لم يكتب محفوظ روايات تجري أحداثها بعيداً عن القاهرة. هناك رواية واحدة جرت أحداثها في الإسكندرية هي رواية «ميرامار»، ولما كتب وطار «الزلزال» التي تجري أحداثها في قسنطينة، فقد زار المدينة وتعرّف إليها ورسم صورة لها.
حتى اللحظة لم أقرأ رواية رضوى عاشور «الطنطورية» ولم ترق لي «ثلاثية غرناطة».
اشتريت «الطنطورية» وترددت في قراءتها لأن كاتبتها لم تعرف المكان إلاّ من الحكايات والكتب، شأنها شأن حسن حميد، وأحسست وأنا أقرأ «مصابيح أورشليم» أنني أقرأ روايات عبرية، لأن (علي) بدر أعاد وصف المكان اتكاءً على الروايات العبرية.
كأن كلام آدم بطل رواية إلياس كلامي، في جانب منه، فيم يخص الكتابة عن اللد، ولكنه لم يكن سؤالي أبداً وأنا أقرأ «باب الشمس».
ولسوف أفكّر في عبارة إلياس «إن هذا الرجل كاذب، يدّعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته، مع أنه فلسطيني» جيداً، ولسوف تعيدني إلى سنوات عشتها في ألمانيا وعرفت فيها بعض فلسطينيي الداخل.
إن ملاحظة إلياس هذه ملاحظة دقيقة لا يلم بها إلاّ من خبر بعض هؤلاء وسلوكهم، فلكي ينجحوا، في غرب متعاطف مع إسرائيل، في إقامة علاقة مع فتاة، يدعون أنهم إسرائيليون. وأما مطعم آدم، فقد ذكرني بمطعم (أوبرجينيا: الباذنجان) في المدينة التي درست فيها (بامبرغ)، وكان أصحابه عرباً ويهوداً. كأنني بعض آدم، ولكنني أيضاً كأنني بعض إلياس.
(5) -4 توفيق الحكيم وفن الرقص
وأنا أقرأ "أولاد الغيتو" تذكرت كتاب "زهرة العمر" لتوفيق الحكيم.
في إحدى رسائله إلى "أندريه" يأتي الحكيم على مدرسي اللغة العربية في زمنه والأثر الذي تركوه على الطلاب إزاء العربية، وبدلاً من أن يحبب المدرسون الطلبة باللغة العربية كرهوهم بها، لأنهم، من خلال فهمهم للغة والنصوص التي اختاروها بناء على هذا، لم يفهموا معنى اللغة على الإطلاق.
وجهة نظر الحكيم لا تقتصر على المدرسين، فالنصوص التي اختاروها ليدرسوا اللغة من خلالها، نصوص تحفل بالصنعة، من محسنات وسجع وبديع و.. و..، وأقصوا ـ أي المدرسين ـ النصوص السهلة البسيطة التي تحبب الطلاب باللغة.
يأتي الحكيم، وهو يوضح الأمر، على ذكر أدباء كانت لغتهم بسيطة واضحة لا تكلف فيها، ومن هؤلاء الجاحظ وابن المقفع، ويرى الحكيم أن الأخير "تصنع في أسلوبه، ولكن بخفة ومهارة، وطلاه وجمّله ولكن بذوق وكياسة، فلم يبد عليه سماجة التكلف ولا ثقل الصناعة"، وكان ابن المقفع يجهد في أسلوبه ليخفى أثر الجهد. إنه تلك الراقصة الرائعة التي تخفي حركاتها العسيرة، فلا تبدو لنا منها إلاّ تموجات رشيقة يسيرة.
يعتمد الحكيم في رأيه على رأي لفنان هو (جويو)، وكان هذا يقول: "إن الرشاقة في فن الرقص هي أداء الحركة الجثمانية العسيرة دون تكلف يشعرك بما فيها من مجهود... تلك أولى خصائص الأسلوب السليم في كل فن.. حتى الحاوي الماهر هو ذلك الذي يخفي عن الأعين مهارته، ويحدث الأعاجيب في جو من البساطة والبراءة".
ولا أدري إن كان الكاتب الروائي اللبناني/ الفلسطيني الهوى، قرأ هذا الرأي لتوفيق الحكيم، ولا أدري ما هو موقفه منه، وإن كنت أرى أن رواياته غالباً ما تبتعد عما اقترحه الحكيم ورآه.
وروايته الأخيرة "أولاد الغيتو" خير شاهد ودليل على أن ما اقترحه الحكيم لا يتحقق لدى إلياس.
يدرك إلياس خوري أن روايته فيها من الجهد ما أرهق مؤلفها الضمني: آدم/ ناجي، وإذا كنا نرى أن في آدم الكثير من إلياس، وأن الأخير يختفي وراء الأول، كأن آدم في تنظيراته النقدية وقراءاته الأدبية هو قناع إلياس، وإذا كنا نرى هذا، فإننا سنرى في الرأي التالي لآدم رأي إلياس نفسه، وأن الجهد الذي بذله آدم وأرهقه، هو الجهد الذي بذله إلياس وأرهقه في تأليف روايته.
يقول آدم: "أرهقني العمل على تأليف نفسي، لكنه، والحق يقال، كان عملاً ممتعاً". (ص272)
هل اقتصر الجهد الذي سبب الإرهاق لآدم، ومن ورائه إلياس خوري، له وحده فقط أم أنه سينتقل تلقائياً إلى القارئ؟
أظن أنني ذهبت مرة، إلى أن إحدى روايات إلياس، وهي "كأنها نائمة"، وربما أيضاً (سينالكول)، سترهق قارئها وستذكره برواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" (1966).
لقد تساءل كنفاني بعد أن أنجز الرواية التي راقت للنقاد، وكانت صعبة على القراء، السؤال التالي: "لمن أكتب أنا؟". وأضاف: "هل أكتب لفئة قليلة محددة أم أكتب للتواصل مع الجماهير؟".
ورأى كنفاني أنه يمكن قول الأشياء العميقة بأسلوب بسيط. وهنا يتلاقى كنفاني مع توفيق الحكيم جزئياً.
سأكرر شخصياً ما قاله آدم: "أرهقني العمل [في] [قراءته]، ولكنه، والحق يقال، كان عملاً ممتعاً".
(الكلام بين [ ] هو مني، بعد تعديل في كلام آدم).
حقاً لقد أرهقني العمل في صفحاته الـ250 الأولى، ومع ذلك استمتعت في القراءة، وما زلت أواصلها، وقد يكون استمتاعي عائداً إلى أن كثيراً من النصوص التي يستشهد بها آدم/ إلياس، وهي من الأدبين الإسرائيلي والفلسطيني، معروفة لي، بل وأنجزت عنها دراسات أو قراءات، ولكن هل القراء العرب، من غير المثقفين، قرؤوا هذه النصوص التي لا يمكن فهم الرواية إلاّ من خلالها، فثمة تناص كبير فيها، ومتعدد، عدا نزوع الكاتب نحو المجاز والدلالات المجازية، وهذا كله يجعل من العمل عملاً مرهقاً لقارئه أيضاً.
ولا أدري لماذا تذكرت أيضاً تنظير خليل بيدس لفن الرواية (1924): إن الرواية تكتب للعامة أصلاً. هل فكر إلياس وهو ينجز روايته بالقارئ العادي؟
أستطيع أن اكتب عن رواية إلياس "أولاد الغيتو" عاماً كاملاً في زاويتي في الأيام، فهل يتسع صدر الصحيفة لهذا؟
(5) – 5 الأدب العربي والأدب الإسرائيلي
في صيف العام 1992 ألقيت محاضرة في مقر اتحاد الكتاب في الرام عنوانها "الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني"، وبينت فيها مدى حضور نصوص من الأدب العبري في النص الأدبي الفلسطيني.
وتوقفت أمام أسماء هي: إبراهيم طوقان وغسان كنفاني ومعين بسيسو ومحمود درويش وأفنان القاسم، وفيما بعد سأتوسع في الموضوع لأكتب عن أميل حبيبي وروايته "المتشائل".
كان من بين الحضور في تلك المحاضرة الشاعر عبد اللطيف عقل، وقد ذهل مما سمع، وعقّب قائلاً: لم أكن أعرف أنهم اخترقوا أيضاً نصنا الأدبي إلى هذا الحد.
الأسماء الأدبية المذكورة اطلعت على الأدب العبري من خلال اللغة العبرية -درويش وحبيبي) ومن خلال اللغة الإنجليزية (كنفاني وبسيسو) ومن خلال الترجمة إلى العربية (طوقان).
في روايته الأخيرة يشير إلياس خوري إلى أن روايته ما كانت كتابتها ممكنة لولا مراجع عديدة من بينها نصوص من الأدبين الإسرائيلي والفلسطيني، وإشارته هذه تنبه القارئ الدارس إلى ظاهرة التناص مع الأدبين المذكورين.
وما فعله إلياس فعله بطله آدم، إذ إنه ذكر أيضاً أنه درس الأدب العبري [مرة يذكر أنه درسه في جامعة تل أبيب (ص42)، وثانية في جامعة حيفا ص103] وعليه "حفظت شعر بياليك، وقرأت روايات يزهار، وسحرني آغنون، وأدهشني بنيامين تموز...." (ص125)، ولا يكتفي آدم بهذا، إذ إنه لاحقاً يفصل ويتوسع ويأتي على أفكار خاصة بالأدب العبري وحده، مثل فكرة قتل الأب ابنه "ولم أعثر على هذه العقدة إلاّ في الأدب الإسرائيلي اليهودي المعاصر الذي يركز على فكرة التضحية بالابن" (ص163)، بل إنه ـ أي آدم ـ يستشهد بنصوص من الأدب العبري، ولا يكتفي بهذا، بل إنه يصدر أحكام قيمة حولها، وهو ما يبدو حين أتى على رواية يزهار سيملانسكي "الأسير":
"اعتقدت، ولا أزال عند اعتقادي رغم مرور السنوات بأن رواية يزهار عمل أدبي رائع" (ص203)، [في مكان آخر من الرواية يشير آدم إلى الترجمة العربية لرواية يزهار ونشرها في 70 ق20 في مجلة شؤون فلسطينية، ويركز على فكرة أن الفلسطينيين صاروا يهود اليهود، ويرى أن صورة الفلسطيني في إحدى روايات يزهار عن حرب 1948، وهي صورة الفلسطيني الأخرس أصبحت "أحد ثوابت الأدب الإسرائيلي" ص260].
وليس يزهار. س هو الأديب العبري الوحيد الذي يذكره آدم/ إلياس، بالاسم. فعدا ذكر أسماء المؤرخين الجدد، ومنهم ايلان بابيه، يأتي على إحدى روايات عاموس عوز وهي "ميخائيلي"، فحين يصغي آدم إلى مراد العلمي يحدثه عن مجازر اللد في تموز 1948، يأتي على اثنين هما نبيل وكميل، وهما توأمان هربا من مدينة القدس إلى اللد، خوفاً من تعقُّب عصابات صهيونية لهما بحجة أنهما حاولا اغتصاب فتاة يهودية.
قصة التوأمين المقدسيين تذكر آدم/ إلياس/ مراد العلمي برواية عاموس عوز والتوأمين عزيز وخليل فيها:
"لم أصدق هذه الحكاية إلى أن قرأت رواية عاموس عوز (ميخائيلي) التي تروي حكاية حنة غونين وتهويماتها حول الولدين الفلسطينيين. هل يعقل أن تكون الحكاية صحيحة، وأن الروائي الإسرائيلي قام بتغيير اسمي التوأمين الفلسطينيين من نبيل وكميل إلى خليل وعزيز؟" (ص395).
طبعاً عدا الروايات يأتي آدم/ إلياس على فيلم (شواه) [ص408] الذي ترك أثراً كبيراً فيه، وألجأه إلى عقد مقارنة بين ما شاهده في الفيلم وما سمعه عن حرق الجثث في اللد في 18 تموز 1948.
ما سبق من كتابة عن نصوص يزهار وعوز يمكن اعتباره نصاً حاضراً، ولكن هل كانت هذه النصوص التي ورد ذكرها هي النصوص الوحيدة من الأدب العبري الحاضرة في رواية إلياس؟
حين غادر آدم ـ المؤلف الضمني للرواية ـ اللد وأقام في حيفا مع أمه وزوجها عبد الله الأشهل، قرر أن يترك البيت لأنه لم ينسجم مع زوج أمه، وهكذا وجد نفسه يبحث عن عمل وسكن، ووجدهما في كراج (غابرييل)، وسيحب آدم ابنة صاحب الكراج و.. و.. .
قصة آدم السابقة تذكر قارئ الأدب العبري برواية (أ. ب. يهوشع) "العاشق" التي ترجمها المرحوم محمد حمزة غنايم إلى العربية في (1984). إن نعيم العربي في الرواية يعمل في كراج يهودي هو آدم ـ يا لتشابه الأسماء ـ ويحب ابنة صاحب الكراج و... و... ويعد نص "العاشق" فيما أرى، نصاً ذا حضور في رواية إلياس رغم أنه لم يأتِ على ذكر الرواية، والموضوع يطول.
(5) – 6 بنيامين تموز: قصة منافسة سباحة
هل رواية إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم» هي فسيفساء من نصوص الآخرين؟
لما تسلم محمود درويش جائزة من هولندا، وأجريت معه مقابلة سُئل فيها عن أشعاره، قال: إن أشعاري هي فسيفساء من نصوص الآخرين»، وأظن أن هذا الرأي ينطبق على أشعاره منذ «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» (1995)، إلى حد ما.
خوري هو توأم درويش، أو توأم روحه، وأظن أن التعبير لدرويش نفسه، وأجزم أن هناك تقاطعات كبيرة جداً بين الاثنين، تبرز أكثر ما تبرز في الرواية الأخيرة لإلياس.
ثمة (موتيفات) تتكرر: الضحية/ الجلاد، الذاكرة، كتابة الحكاية، النص المتكون من نصوص.
هناك عبارات دالة جداً في رواية إلياس سأقتبس بعضها.
في ص127 ترد فقرة مهمة جداً: «وضعت الميراث في حقيبتي ومضيت، وعندما قرأته في الغرفة الضيقة، حيث أقمت داخل كراج الخواجة غبريال أحسست لأول مرة أنني أشبه شخصية في رواية، ولست إنساناً حقيقياً»، وهو ما لاحظناه في رواية «العاشق» لـ (أ. ب. يهوشع).
وفي ص151 يقول آدم: «فأنا كاتب ممتلئ» بالنصوص التي قرأتها، وأتعامل معها بوصفها حقيقية، موظفاً خيال الآخرين، من أجل خدمة خيالي.»
وأظن أن التعبير هذا ينطبق 100% على إلياس في روايته هذه، وإن لم يكن كلام آدم هذا كلام إلياس نفسه، حيث ينطبق على حالته، فكلام من سيكون؟ محمود درويش، فوزي الأسمر، أنطون شماس مثلاً؟ إن التقاطعات بين آدم بطل الرواية وشخصيتها المحورية وإلياس خوري كاتب الرواية كثيرة جداً، والتطابق بينهما أكثر من الاختلاف. والقول السابق من التطابقات بينهما.
وفي ص 152 يتابع آدم «قررت أن أتوقف عن الكتابة عبر تحويل الكتابة إلى لغة شخصية من خلال هذا النص الذي أشعر وأنا أكتبه بأنني أعيد كتابة جميع الروايات التي أحببتها.»
هل تختلف عبارة آدم هذه عن إشارات إلياس خوري في ص421 التي أوردتها في مقالات سابقة، ومنها: «وفي النهاية فإن هذه الرواية لم تكن ممكنة لولا قراءتي،.... ونصوص من الأدبين الفلسطيني والعبري»؟
أجزم أنها لا تختلف إطلاقاً. يكتب آدم في ص125 «حفظت شعر بياليك وقرأت روايات يزهار، وسحرني آغنون، وأدهشني بنيامين تموز...». وإذا كان آدم قرأ هذه الكتابات باللغة العبرية، حيث درس الأدب العبري، فإن قارئ مقالي قد يسألني: هل يعرف إلياس خوري العبرية ويجيدها لتطابق بين آدم وإلياس؟
يقر إلياس بعنصر الخيال في الرواية، وبممارسة آدم اللعب، وهو ما يمارسه إلياس، وهذا ضرب من اللعب الروائي، والدليل أن إلياس لم يلتفت جيداً إلى الجامعة التي درس فيها بطله الأدب العبري، فهي تارة حيفا، وهي طوراً تل أبيب. وإلياس يجيد غير لغة: الإنجليزية وأظن الفرنسية، ومن خلال هاتين قرأ الأدب العبري المترجم إليهما، بل والمترجم إلى العربية.
يقر آدم بأن (بنيامين تموز) أدهشه، فهل كان لقصص هذا حضور في رواية «أولاد الغيتو»؟
وأنا اقرأ عن مأساة الفلسطيني مفيد شحادة (ص241 وما بعدها) تذكرت قصة (تموز) «منافسة سباحة».
مفيد شحادة مواطن فلسطيني كان والده يقيم علاقات مع يهود من خلال بيع الخضار، وكان يعرف أستاذاً يهودياً بنى مستعمرة للتعايش بين اليهود والفلسطينيين هو (سيغفريد ليهمان)، وعلّم هذا (شموئيل كوهين) الذي نفذ الطرد الجماعي لسكان مدينة الخضر، وارتكب فيها أكبر مذبحة حصلت في حرب النكبة العام 1948.
وكان (ليهمان) أعطى والد مفيد ورقة قال له فيها أن يعطيها لـ (شموئيل) إذا ما ساءت الظروف، وقد تذكر مفيد هذه الورقة في أثناء حصار اللد وطرد سكانها وحصار من تبقى من السكان فيها، وقد أمل أن يساعده (شموئيل كوهين)، ولكن دون جدوى، فقد أطلقت النيران على مفيد وقتل دون أن يحرك (شموئيل) ساكنا.
قصة مفيد شحادة لا تختلف عن قصة عبد الكريم في قصة (تموز).
كانت ثمة علاقات صداقة تربط بين أسرتي عبد الكريم وأسرة سارد قصة «منافسة سباحة»، ولم يفعل السارد شيئاً ليحول دون قتل عبد الكريم في الحرب، ما يذكر بما قاله جد مفيد له: « ما يتامن لهم لليهود هيدول بلا شرف».
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى أكثر من هذا.
(5) – 7 بنيامين تموز: عرب طيبون ولكن ....
هل تقتصر صورة العربي في الأدب الصهيوني على تلك التي أبرزها غسان كنفاني في كتابه “في الأدب الصهيوني” (1966)؟
يخلص كنفاني، بعد قراءته الأدب الصهيوني، باللغة الإنجليزية طبعاً، إلى أن صورة العرب ظهرت في ذلك الأدب على النحو الآتي:
“العرب خبراء في البناء فوق حضارات الأمم الأخرى” و”هم لم ينتجوا شيئاً يستحق المشاهدة إلاّ كباريهات وكرتات بوستات حقيرة، من طنجة إلى طهران، في الألف سنة الأخيرة” وهم إذا خاضوا معركة ليس لديهم أي حافز لها وإذا ماتوا فإنما في سبيل حكامهم وأفنديهم أو في سبيل النهب..”، ولا يغفل كنفاني الكتابة عن نماذج أخرى تبرز في الروايات الصهيونية تمدح العرب، ولكن هذا المديح، من وجهة نظره، هو مديح أكثر سوءاً من التهجم ذاته، فبعض العرب رحبوا بالصهيونية باعتبارها الخلاص الأوحد للشعب العربي.
وهذا النموذج برز، ابتداءً، في رواية (هرتسل) “أرض قديمة ـ جديدة” (1902) ممثلاً في شخصية رشيد بك.
للكتابة عن العرب في الأدبيات الصهيونية، على قتامة الصورة التي تبرزها تلك الأدبيات، وجه آخر ينقض تلك الأدبيات من داخلها، إذ تبطل الكتابة المقولة الصهيونية التي أرادت الحركة الصهيونية، من خلالها، إقناع الغرب بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الصورة التي تبرزها تلك الأدبيات لفلسطين، من أنها صحراء قاحلة ومستنقعات تكثر فيها الملاريا والبعوض، تنقضها صورة أخرى حفلت فيها بعض الأدبيات التي كتبت لاحقا وعن مشاهدة حقيقية لفلسطين.
كأن الأدبيات الصهيونية ينقض بعضها بعضا.
إن قراءة مثلا لقصة (بنيامين تموز): “منافسة سباحة” (1951) تنقض تلك الصورة التي أبرزها (هرتسل) في روايته (1902)، تماماً كما أن ما جرى في قصة (تموز) من قتل للعربي ينقض ما ورد في رواية (هرتسل) الذي دعا إلى التعايش مع سكان البلاد.
أيعود السبب إلى أن (هرتسل) أراد أن يتمسكن حتى يتمكن؟ أم يعود إلى أنه لا يجدر أن يجاهر بحقيقة ما يخفيه المشروع الصهيوني، وما يخبئه لسكان البلاد، حتى لا يثور هؤلاء في وجه القادمين الجدد، قبل أن يتمكن هؤلاء ويصبحوا قادرين على المواجهة؟
تثير رواية إلياس خوري أسئلة عديدة حول دفاتر آدم المؤلف الضمني للرواية، ولكن هذه الأسئلة سرعان ما تتعثر بإجاباتها، فتفصح عن المراجع الحقيقية للدفاتر، وتحيل أحياناً إلى مراجع أخرى يعرفها قارئ الأدب العبري.
ومن هذه المراجع الأخرى، كما ذكرت من قبل، قصة (تموز) “منافسة سباحة”.
حفلت القصة المذكورة بترجمات عديدة إلى لغات عديدة، ومنها العربية، وقد ترجم د. أحمد حماد أستاذ الدراسات العبرية بجامعة عين شمس/ القاهرة كتاب (إيهود بن عيزر” صورة العربي في الأدب العبري: في وطن الأشواق المتناقضة” (2001)، وضمّ الكتاب قصصاً مختارة من الأدب العبري، منها قصة (تموز)، ومن المؤكد أن القصة نشرت، أيضاً، بالإنجليزية، وقد ترجمت إلى الألمانية في كتاب عنوانه “Ich ging durch meer und steiine” وصدر في 1989 (أعدته ايتا كاوفمان).
وكما ذكرت، فإن ما ألم بالعربي مفيد شحادة في رواية “أولاد الغيتو: اسمي آدم” يذكر بما الم بعبد الكريم في قصة (تموز)، حيث لم يتوانّ الإسرائيليون في 1948 عن قتل عرب عرفوهم وكانت علاقتهم بهم ودية إلى حد ما.
وهذا ما أتى عليه (إيلان بابيه) في كتابه “التطهير العرقي”، وشكل الكتاب مرجعاً اعتمد عليه خوري في بناء روايته.
إن كتاب (بابيه) دفتر آخر من دفاتر آدم.
ما يهم هنا هو ما تقوله قصة (تموز). إنها قصة تفصح عن أن الحركة الصهيونية في سبيل تحقيق أهدافها ما كانت تتوانى عن القتل والطرد حتى لأولئك الذين استقبلوا اليهود في بيوتهم وأقاموا معهم علاقات ودية.
وكما قتل مفيد في رواية خوري، علماً بأن أباه كان على علاقات تجارية حسنة مع اليهود، فإن عبد الكريم الذي كانت أمه استضافت الممرضة اليهودية وأكرمت وفادتها وابنها، فإن عبد الكريم قتل، أيضاً، ولم تشفع له ذكريات الأيام الماضية.
وما يهم، أيضاً، في قصة (تموز) أنها نفسها تأتي على أراض خضراء فيها برك سباحة وبيوت جميلة يملكها الملاكون العرب، وأن فلسطين بالتالي لم تكن أراضي خربها العرب، بعد ترك اليهود لها، وحوّلوها إلى مستنفعات يكثر فيها البعوض والملاريا.
(5) – 8 النكبة المستمرة
لم يخطر ببالي، وأنا أقرأ "أولاد الغيتو" أن أثير السؤال الذي أثاره إلياس في تقديمه الرواية.
فلم أسأل لماذا كتب كاتب لبناني في الموضوع الفلسطيني. بل ربما ما خطر السؤال ببالي، من قبل، وأنا أقرأ روايته "باب الشمس" (1998).
كان الموضوع الفلسطيني، وما زال، جزءاً من الواقع العربي واللبناني، ولإلياس نصيب منه وفيه، فهو غير بعيد عنه. ربما كان السؤال الذي راودني، وأنا أقرأ "أولاد الغيتو" هو: لماذا يكتب إلياس عن اللد؟ وعن فترة لم يكن شاهداً عليها؟ وعن مكان صلته به معدومة؟ علماً بأن زمكان الرواية ليس بعيداً كلياً عن حياة إلياس، فهو يكتب أيضاً عن نيويورك التي يقيم فيها ويدرس في جامعاتها.
كان إلياس قبل أن يكتب روايته "يالو" (2003) فكر في أن يكتب الجزء الثاني من "باب الشمس" (1998) لكنه عجز، فتحول إلى كتابة "يالو"، ولما رأى لاحقاً دفاتر آدم بطله الروائي فكر في أن يسرقها وينشرها و"هكذا أكون قد حققت حلمي في كتابة الجزء الثاني من رواية "باب الشمس" وهو أمر عجزت عن القيام به".
لم تكن فكرة السرقة تعني نشر النص الحرفي، بل إعادة كتابته واعتباره مادة أولية، فهو يعلم طلابه أن كل كتابة هي شكل من أشكال إعادة الكتابة.
كأنه هنا يتبنى رأي (غوتة) الآتي: "ليس الأدباء الكبار أدباءً كباراً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، ولكنهم أدباء كبار لأنهم أبرزوا الأشياء، كما لو أنها تظهر لأول مرة.
وربما كان السؤال هو: كيف ستكون رواية عن مجازر اللد في 1948 جزءاً ثانياً متمّماً لرواية صورت الواقع الفلسطيني في لبنان بعد العام 1967، وبعد (أوسلو) 1994 وما تلاه؟
يعود آدم المؤلف الضمني للرواية على موضوع المجازر بعد زمن طويل جداً، ويتساءل هو عن السبب الذي جعل اللد المدينة التي هجرها صغيراً تستفيق في نهاية عمره.
وهو فوق هذا ليس لداوياً، وإن ولد في المدينة المنكوبة التي صارت أحياؤها القديمة التي يعيش فيها الفلسطينيون، محششة.
إن عائلة أبيه تعود في أصولها إلى قرية دير طريف التي امحت وبني في مكانها موشاف بيت عريف. (ص413).
وكان آدم، من قبل، وهو يكتب دفاتره، يأتي على النكبة باستمرار، وكان بعض معارفه، مثل د. مأمون، يأتون عليها أيضاً في دراساتهم ومحاضراتهم. وكان مأمون يحاضر في نيويورك عن شعر محمود درويش وشعر النكبة، وكان يرى أن أدب النكبة ظل يكتب، وما لم يكتب فيه كان أكثر بلاغة، بل إن ما كتب منه في فترات لاحقة كان تنويعاً على الكتابة الأولى. وهنا نشير ثانية إلى رأي إلياس ورأي (غوتة): الكتابة هي إعادة كتابة.
يأتي آدم على الأدب العبري وعلى روايات يزهار، ويرى أن هذا كان أول من أعلن الفلسطينيين يهوداً ليهود إسرائيل، وهذه كانت رسالة روائية، أما هو ـ أي آدم ـ فهو يتساءل عما يريد: هل أرثي شعبي كما رثى إرميا شعبه؟ هل كل كتابة فلسطينية عن النكبة هي تنويع على المراثي التي صاغها نبي الهزيمة؟ أم ماذا؟ (ص261).
هل يستعير آدم كلمة مذابح مما حدث في ألمانيا وما ارتكب بحق اليهود؟ إنه لا يرى نفسه قادراً على استخدام كلمة أخرى مكانها، وهو يكتب عن نكبة 1948 "فهذه الكلمة لا تلائم ما حصل في فلسطين 1948 فقط، بل تمتد مع هذه النكبة المستمرة منذ أكثر من خمسين عاماً في مذبحة متواصلة لم تتوقف حتى الآن" (ص310).
النكبة مستمرة ولم تنته.
هل تعد رواية "أولاد الغيتو" تنويعاً على أدب النكبة الذي كتب من قبل؟
للشاعر راشد حسين الذي يذكر في الرواية قصيدة كتبها العام 1963 عنوانها "يافا.. والغيتو"، يأتي فيها على فكرة الضحية/ الجلاد، وعلى ما ألم، بعد 1948، بيافا، وأكاد أجزم أن هناك تقاطعات بين الرواية والعقيدة، ونحن نعرف أن إلياس كتب دراسة أيضاً عن أشعار راشد حسين نشرت في كتابه "الذاكرة المفقودة"، وكما كتب إلياس في المقدمة فإن كل كتابة هي إعادة كتابة.
حقا لماذا عاد إلياس إلى 1948 ليكتب عن اللد؟!
(5) – 9 الضحية/ الجلاد: بذور الفكرة
أين تكمن بذور لازمة/ فكرة الضحية/ الجلاد؟ ومن كان أول من وظفها؟
ربما يتذكر قرّاء الأدب العربي رواية ناصر الدين النشاشيبي "حبّات البرتقال" (1964)، ففيها يأتي بطلها سابا على ما فعله معه اليهود الصهيونيون في ألمانيا، إذ اتهموه، بعلاقاته الجيدة مع فتيات يهوديات يرفضن الهجرة إلى فلسطين، بالنازية، وسيرحِّلُونه من ألمانيا إلى فلسطين، وسيكون ضحيتهم.
لم تحقق رواية النشاشيبي انتشاراً واسعاً، وبالكاد يذكرها القرّاء، وستحقق رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) انتشاراً أوسع، وفيها يأتي بطلها سعيد. س على ما فعله النازيون باليهود، وعلى ما فعلته الصهيونية بالفلسطينيين، ولكن معالجة كنفاني لم تقف بأسلوب مباشر أمام اللازمة: الضحية التي تحوّلت إلى جلاد.
بعد 1982 وكتابة درويش "مديح الظل العالي" سيكرّر قرّاء كثيرون أسطره:
"ضحية/ قتلت/ ضحيتها/ وكانت لي هويتها
و"أنادي إشعيا: اخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا،/ أزقة أورشليم تعلّق اللحمَ الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم/
وتدّعي أن الضحية لم تغيّر جلدها" (ص148)
وستلغي هذه الأسطر على أكثر، إن لم يكن كل، ما كتب قبلها، حتى لخيّل إليّ أن اللازمة/ الفكرة هي درويشية بامتياز.
إلياس خوري، كما لاحظنا من قبل، يرى رأياً آخر، ويذهب إلى أن الكاتب الإسرائيلي (يزهار سميلانسكي) في روايته "خربة خزعة" (1949) هو أول من أعلن الفلسطينيين يهود اليهود، كما ورد على لسان بطل روايته ـ رواية إلياس ـ آدم.
هل كانت رواية (يزهار) هذه هي التي أوحت للشاعر راشد حسين بكتابة قصيدته "الحب والغيتو" (1963).
في "أولاد الغيتو" يأتي آدم/ إلياس على راشد في غير موضع، ويبدي رأيه فيه وفي شعره، وهذا شيء آخر على أية حال. (ترد الكتابة عن راشد في الصفحات 40 و181، وصفحات أخرى إن أحسنت الرصد).
في "الحب والغيتو" يأتي راشد على ما ألمّ بمدينة يافا وسكانها بعد العام 1948 "كانت مدينة مهنتها تصدير برتقال، وصارت مدينة مهنتها تصدير لاجئين" وكانت مدينة مزدهرة، وصارت مدخنة للحشيش. ويحب أنا المتكلم فتاة يهودية اسمها أيضاً يافا هربت هذه من ألمانيا ونجت وعلى ذراعها وشم رقمها، ويحاورها أنا المتكلم ويحدثها عمّا يجري ذاهباً إلى أن الفرن الذي أحرق فيه اليهود في معسكرات الإبادة يشبهه فرن صغير هنا في فلسطين يحرق فيه الفلسطينيون.
"يا شرطي الله.. هل سلخت ساعدي/ لترفع السواعد التي مزقها سواي/ يا شرطي الله.. هل قتل كواكبي/ سيشعل الكواكب التي أطفأها سواي" وعلى لسان اليهودي الضحية:
"كنت بلا جلد.. بلا نجم.. بلا وطن/ أحرقني النازي/ فليدفع هذا الفتى الثمن!!" (ص475).
كان آدم بطل "أولاد الغيتو" قرأ الأدب العبري بالعبرية، وكان أقام في نيويورك، وكان راشد يتقن العبرية، وكان أقام في نيويورك، وفيها مات بظروف غامضة، وإلياس يختلف عنهما ويتشابه معهما. لم يقم في فلسطين، ولكنه أقام في نيويورك وقرأ (يزهار) مترجماً إلى العربية، من خلال ترجمة توفيق فيّاض لـ"خربة خزعة" ونشرها في مجلة شؤون فلسطينية في بيروت.
إن فكرة الضحية التي تحوّلت إلى جلاد تبرز في رواية إلياس في مواطن كثيرة، على لسان آدم، ولكن من قال إن آدم ليس هو إلياس في جوانب كثيرة؟
والمرء يقرأ "أولاد الغيتو" سيتذكر الناقد الفرنسي (سانت ييف) ومنهجه مراراً، وربما تذكر أيضاً (هيوبوليت تين). كان (ييف) حين يدرس كاتباً أو سياسياً أو امرأة يجمع عنها المعلومات من تحقيقات كثيرة وهذا ما يتحقق في "أولاد الغيتو" بامتياز، وكان يقول: إن القدماء الذين ماتوا تماثيل مهشّمة، لأن معاصريهم باتوا، وإلياس أو بطله حين يكتب عن اللد يشير مراراً إلى أنه يكتب عن مدينة لم يلتق بمن شاهدوا الجريمة فيها، إلاّ أقلهم. (ص 202، 203، 237، 115، 189، 191، 299 و304). إنها صفحات تعثر فيها على ما يؤيد ما أذهب إليه: من الصعب الفصل بين إلياس وآدم.
(5) – 10 علي بدر ومصابيح أورشليم
في الرواية الفلسطينية وعلاقتها بالرواية الصهيونية والإسرائيلية ما يشبه التناص الخفي، وكنت شخصياً ألتفت إلى هذا في رسالة الدكتوراه «اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و1987» (1991) حين درست رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» (1969) في ضوء كتابه «في الأدب الصهيوني» وقراءاته، بالإنجليزية، للأدب الصهيوني، ومعين بسيسو في مسرحيته «شمشون ودليلة» (1971) في ضوء دراسته للأدب الإسرائيلي، وقراءته، أيضاً بالإنجليزية، كتابات (ياعيل دايان)، وتحديداً كتابها «مذكراتي الحربية». وكان ابراهيم طوقان، قبل هذين، رد على الشاعر اليهودي (رئوبين) الذي هجا العرب بقصيدة نقلت إلى العربية.
في العام 2000 سألتفت إلى رواية السوري ممدوح عدوان «أعدائي» وسأنظر إلى صورة اليهود فيها، لأخلص إلى أنها صورة فسيفسائية تضم تصور اليهود لأنفسهم، في نصوصهم، وتصور الآخرين لليهود أيضاً في نصوصهم، أي نصوص الآخرين. كأن ممدوح عدوان اطلع على خلاصات الأدب العالمي في موضوع تصور اليهود، وعبّر عنه في روايته.
في العقد الأوّل من القرن 21 سيلتفت الأدباء العرب أكثر وأكثر إلى الأدب الصهيوني والعبري، وسيقرؤونه مترجماً إلى العربية أو إلى لغات عالمية، كالإنجليزية او الألمانية أو الفرنسية، وقليلون هم الذين قرؤوه بالعبرية، ويعد الفلسطيني أنطون شماس، بعد أميل حبيبي ومحمود درويش، من أهم هؤلاء، وهو ما انعكس في روايته «عربسك» التي قرأها إلياس خوري وأُعجِبَ بها، وأتى على ذكرها في روايته «أولاد الغيتو: اسمي آدم»، ولا أظنّ أنها غابت عن ذهن العراقي علي بدر.
في رواية بدر «مصابيح اورشليم: رواية عن ادوارد سعيد» (2006) حضور مكثف للرواية العبرية، وبدرجة اقل للرواية الصهيونية المكتوبة بالانجليزية. ولا يخفي بدر النصوص التي قرأها. انه يأتي على ذكرها، ما يعني انه يقوم بتناص علني ظاهر مع الادب الاسرائيلي. انه هنا يختلف عن كنفاني وايميل حبيبي ومحمود درويش ايضا.
تحفل رواية بدر بأسماء روائيين إسرائيليين وبأسماء رواياتهم أيضاً، ويستطيع المرء، إذا أراد، أن يقوم بإحصاء تلك الأسماء. هنا سأعتمد على الذاكرة: عاموس عوز، أ. ب. يهوشع، ديفيد غروسمان، يورام كانيوك، عميحاي، وأيضاً هرتزل. ولا أعرف بأية لغة قرأ بدر روايات هؤلاء وبعض سيرهم الذاتية.
ويلفت الانتباه في رواية بدر توقفه أمام ثلاثة موضوعات أساسية تخصّ الصراع العربي الإسرائيلي: مرايا الآخر، صورة القدس، وفكرة الضحية ـ الجلاد، والمشترك بين خوري وبدر بعض هذه الموضوعات، ومنها موضوع/ لازمة الضحية/الجلاد التي أتيت عليها. هنا لا يتبنى بدر ما ذهب إليه إلياس خوري من أن (يزهار سميلانسكي) هو الذي رأى في الفلسطينيين يهود اليهود، وإنما يتوقف أمام رأي (عاموس عوز) في هذا الجانب. يرد في الرواية على لسان (عاموس عوز).
«في حياة الأفراد والناس أيضاً أسوأ النزاعات.. تندلع أغلب الأحيان بين الجلاد والضحية.. ولكننا نختلف مع العرب فلسنا الجلاد.. وهم ليسوا الضحية.. لا هم جلادونا ولا نحن ضحاياهم.. ومن الممكن أن نتحد ضد مضطهد عديم الرحمة.. ضد مضطهدنا المشترك.» (ص146).
يواصل (عوز)، من خلال المقابلة التلفازية، تفصيل رأيه في الحكاية. في تصور العرب لليهود، وفي تصور اليهود الناجين من المذبحة في أوروبا للعرب في فلسطين، ويخلص إلى أن من قتل اليهود والعرب، إن أحسنت أنا الفهم، هم الكبار هناك في أوروبا. «قتلتنا الكبار هنا.. قتلتنا الكبار هناك»(ص147).
ينظر العرب إلى اليهود القادمين من أوروبا على أنهم مستعمرون، وينظر اليهود الناجون من أوروبا إلى عرب فلسطين على أنهم لاساميون ظهروا ثانية بشوارب وكوفية في أرض إسرائيل(؟).
كنت، وأنا أكتب عن صورة اليهود في الأدب الفلسطيني، وأيضاً عن صورة الإنجليز في الأدب الفلسطيني، كنت رأيت بعض الكتاب في فلسطين يرون أن العرب واليهود كانوا يعيشون معاً في فلسطين، ولم يفرق بينهم إلاّ المستعمر، وتحديداً الإنجليز.
لم يتوقف خوري، خلافاً لبدر، أمام صورة القدس، ولكنه أبرز نماذج إسرائيلية، وأتى على لازمة الضحية/الجلاد. والسؤال هو: هل كانت رواية علي بدر من قراءات إلياس الذي أشار إلى إفادته من نصوص الأدبين الفلسطيني والإسرائيلي؟ والكلام يطول.
(5) – 11 يورام كانيوك: تناسل النصوص وتناص التناص
يكتب آدم، وهو كما ذهبت، المؤلف الضمني لرواية «أولاد الغيتو» أنه قرر أن يكتب حكاية المكان الذي ولد فيه، وهو اللد، وحكايته هي حقيقية مائة بالمائة، وهي تستند إلى ما روته أمّه له، مراراً وتكراراً، لدرجة أنه، لكثرة رواية أمّه لتلك الحكايات التي حدثت عام ولادته ـ أي 1948 ـ أخذ يشعر بأنه لم يستمع إلى تلك الحكايات بأذنيه، بل عاشها وشاهدها.
بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لدرجة أنه أخذ يرى أن ذاكرته هي التي تتذكر، لا ذاكرة أمّه.
وبالإضافة إلى ذاكرة أمّه، استعان آدم «بمجموعة من الكتب والشهادات، من بينها كتابات إسبر منير عن اللد ومذكرات رجائي بصيلة، ودراسة ميخائيل بالومبو عن طرد الفلسطينيين، ورواية ايتيل مانين «الطريق إلى بئر السبع» ودراسات وكتب لا تحصى عن فلسطين عثرت عليها في مكتبة جامعة نيويورك... إلخ» (ص189).
وإذا ما أحصينا الكتب والروايات التي ذكرها آدم في متن نصّه عددنا عشرات فقط من الكتب. هذا يعني أن هناك عشرات أخرى لم يرد ذكرها مباشرة، ولكنها كتبٌ كان لها حضور وتأثير في حكاية آدم التي يرويها ويريد أن يكتبها، الحكاية التي هي رواية إلياس خوري «أولاد الغيتو، اسمي آدم».
والسؤال الذي أودّ إثارته هنا هو: هل كانت بعض أعمال الروائي الإسرائيلي (يورام كانيوك) من تلك الكتب؟
ذكر آدم/ إلياس أسماء روائيين إسرائيليين وأسماء روايات إسرائيلية، لكن قارئ الأدب العبري، أو قارئ الدراسات التي أُنجزت عنه سرعان ما يتذكر روائيين آخرين وروايات أخرى، قد يكون لها حضور في «أولاد الغيتو».
من الروائيين الإسرائيليين الذين يخطرون على بال قارئ الأدب العبري (يورام كانيوك)، ومن رواياته (عربي جيد) وكتابه «1948». صدر الأول بالعبرية في 1985، وبالإنجليزية في 1988، وصدرت الترجمة العربية للثاني في 2011، وهو أغلب الظنّ صدر بالعبرية في بدايات هذا القرن، ولا أعرف إن صدر بالإنجليزية.
كان لرواية (عربي طيّب) حضور لافت في الأدب العربي، وقد أتى عليها الشاعر سميح القاسم في إحدى رسائله إلى محمود درويش (رسالة أخطاء وخطايا، 27/9/1986) (الرسائل، ص98)، وكتب عنها درويش بالتفصيل في رسالته «هو.. أو هو» التي ردّ فيها على رسالة سميح (رسائل، ص100).
وفي هاتين الرسالتين يأخذ المرء فكرة عن رواية (كانيوك)، فكرة لا بأس بها. (وليس هناك من شك في أن إلياس قارئ جيد لدرويش).
وأعتقد أن رواية (كانيوك) هذه كان لها حضور في رواية أنطون شمّاس (عربسك) التي صدرت بالعبرية في 1986 وسرعان ما ترجمت إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية ـ تقريباً بعد عامين من صدور رواية (كانيوك) ـ . وفي رواية شمّاس حضور لشخصية روائية إسرائيلية نحلم بأن يحلم كاتب عربي، حين يكتب عن اليهود، يا ليهود كما يحلم الكاتب اليهودي، حين يكتب عن العرب، يالعرب.
الشخصية المحورية في رواية (كانيوك) هي من أبّ عربي وأمّ يهودية، وتذهب لتقيم في باريس، لأن العرب ينظرون إليها على أنها ابنة يهودية، واليهود ينظرون إليها على أنه ابن عربي، ويرفضون أن يخدم في الجيش الإسرائيلي. (تراجع رسالة محمود درويش «هو.. أو هو» ص100 من كتاب الرسائل).
وممّن أتوا على رواية (كانيوك) في الأدبيات العربية علي بدر في «مصابيح أورشليم»، وقد ذكرها في مكانين أو ثلاثة (ص159، 166، ص241)، تماماً كما أتى بدر على رواية شمّاس.
لا أذكر أن إلياس ذكر بصراحة اسم (كانيوك)، لكنه أتى على شمّاس وأبدى إعجابه الشديد بروايته، بل إنه خصّ شمّاس بالذكر في الإهداء «إلى جاد ثابت وأنطون شمّاس».
وإذا كان شمّاس دخل بحالة تناصّ، مباشرة أو غير مباشرة، مع «عربي طيّب»، فإن رواية خوري تكون تناصت مع رواية (كانيوك) من خلال رواية شمّاس.
يتوزّع بطل (عربي طيّب) على عالمين، عالم العرب واليهود.
إنه عربي من جهة الأبّ ويهودي من جهة الأمّ، ويعاني من الاغتراب.
آدم في رواية خوري يتخيل نفسه يهودياً عاش الهولوكست وقدم إلى فلسطين من أوروبا فترة المذبحة هناك. إنه يوزع نفسه على عالمين أيضاً. أين يكمن العربي فيه، وأين يكمن اليهودي الإسرائيلي فيه؟
في «1948» يأتي (كانيوك) على اللد وما ألمّ بها في عام النكبة، بل ويأتي على الرملة، وما ألمّ بالمدينتين من دمار وتخريب وإحلال يهود قادمين من أوروبا محل السكان الفلسطينيين، ومن سلب ونهب، ويذكر المشهد بالمشهد في «أولاد الغيتو».
لكأنك، وأنت تقرأ الصفحات الأخيرة من رواية إلياس ورواية (كانيوك)، تقرأ رواية واحدة، فهل كانت رواية الأخير من قراءات الأول؟؟!!
(5) – 12 الأكاديمي روائياً.. الناقد روائياً
ثمة سؤال يراود قارئ، رواية «أولاد الغيتو» ودارسها، ويلح عليه هو: ما هو شكل الرواية التي يكتبها أكاديمي وناقد؟ وما هو موضوعها؟ وهل تحضر فكرة الرواية في الرواية؟ وهل يلح الشكل الروائي على ذهن بطل الرواية؟ وكم من المقولات النقدية تحضر في المتن؟ وكم رواية يمكن أن يكتب الأكاديمي والناقد الروائي؟
أسئلة عديدة في سؤال واحد لا شك، وهذا كله له حضور في رواية إلياس، وأولها إشكالية التجنيس التي حضرت في المقدمة التي كتبها المؤلف، ثم حضرت في المتن على لسان آدم. ولما كنا نوحد، أحياناً، بين إلياس وآدم، وأحياناً لا نوحد، فقد أفسد علينا إلياس مهمتنا ومهنتنا حين أقرّ في مقابلة حديثة معه أنه هو آدم:
«لكنك تخترع ألعاباً تتعلق بتضمينك جزءاً من سيرتك الذاتية، أثناء اشتغالك على الرواية، مثلاً في بداية «اسمي آدم». (كلمات، 21/5/2016، ملحق كلمات) يسأل مازن معروف إلياس، فيجيبه:
«هذه خدعة طبعاً. إلياس خوري هو الذي كتب هذه الوثائق. هو الذي اخترع شخصيات آدم وغيره. بعض الناس اتصلوا بي قائلين: أين وجدت آدم؟ وأين يعيش الآن؟ عرفنا به؟ فأجبتهم: آدم هو شخصية من ابتكاري. هل يعقل أن أكون وجدته وآخذ حكايته وأضعها تحت اسمي؟ شو أنا نصّاب؟»
في مقدمة الرواية يثير إلياس سؤال التجنيس:
«سوف يلاحظ القارئ أن هذه الدفاتر تتضمن نصوصاً غير مكتملة، تراوح بين الرواية والسيرة الذاتية، وبين الواقع والتخييل، وتمزج النقد الأدبي بكتابة الأدب. لا أعرف كيف يمكنني تصنيف هذا النص من حيث الشكل أو المضمون، فهو يمزج الكتابة بكتابة تمهيدية، ويخلط السرد بالتأمل، والحقيقة بالخيال، كأن الكلمات تصير مرايا الكلمات، وإلى آخره..» (ص16) ويعود الكاتب لإثارة بعض هذه التساؤلات والأفكار في ص151 وص290 وفي صفحات أخرى 29، 98، 109، 99، ولكن على لسان الشخصية الرئيسة آدم. ولا عجب في هذا، بعدما أقر إلياس أن آدم من اختراعه. وهنا يمكن أن نسأل: أما كان الأجدر بالمؤلف أن يتخلى عن كتابة المقدمة، بل والإشارات التي أوردها في ص421 من الرواية؟
لقد أعفى إلياس خوري ناقده من مهمة البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين المؤلف والسارد والشخصية، ولما كان السارد في الرواية، غالباً، هو الشخصية، فيمكن دمج السارد والشخصية معاً، إلاّ في الحالات التي كان يروي فيها راو آخر، مثل مراد العلمي. هكذا في هذه الرواية نجد أنفسنا أمام مؤلف وسارد/ شخصية ـ أي أمام اثنين، لا أمام ثلاثة: سارد وكاتب وشخصية، فالسارد هو الشخصية، وكان يروي بضمير الأنا، وبعد إقرار إلياس، في المقابلة، بأنه هو آدم أمكننا أن نوحد بين الثلاثة بلا تردد، وزال الحذر الذي كنت ـ بوصفي ناقداً ـ أمارسه وأنا أكتب عن الرواية.
وأنا أقرأ «أولاد الغيتو» أخذت أتساءل، بعد أن أيقنت أن إلياس هو آدم: كم رواية كتب إلياس خوري حقاً؟ وتذكرت جبرا إبراهيم جبرا ورواياته وما رآه الناقد حسن خضر حين كتب مرة عن رواية «يوميات سراب عفان»: سيرة ذاتية/ روائية متواصلة، وقلت: هل كتب إلياس أيضاً في مسيرته الروائية رواية واحدة؟ وربما أعود إلى هذا السؤال، لاحقاً، لأجيب عنه، وذلك من خلال تتبع سارد إلياس في رواياته، وهو سارد مهما اختلف واختلفت ثقافته يبقى إلياس نفسه.
حقاً كم رواية يكتب الأكاديمي، وإلياس يُدرّسُ في جامعة نيويورك، حين يكتب الرواية؟ وإذا كان الأكاديمي ناقداً فكم من النقد يحضر في روايته، بل في رواياته التي يكتبها؟
إلياس خوري والناقد (سانت ييف):
(سانت ييف) ناقد فرنسي عاش في القرن 19، وعرف بصانع الصور، ولم يَدْرُس إلاّ معاصريه، ورأى في القدماء تماثيل مهشّمة، وكان منهجه يقوم على أساس جمع المعلومات عن الأديب المدروس، أو السياسي المدروس، أو المرأة المدروسة، من كل من له صلة به؛ من أصدقائه وتلامذته ومعارفه وأساتذته وأعدائه.
والحقيقة أنني وأنا أقرأ رواية إلياس هذه استحضرت (سانت ييف) مرات عديدة. كأن (سانت ييف) كان في لاوعي إلياس وهو يكتب روايته. وسوف أقتبس العبارات التالية التي تذكر بمنهج الناقد الفرنسي وطريقته في الكتابة:
«ووجدت أن من العبث أن أتحقق من حكاية مات شهودها جميعاً» (ص115)، «كما اتصلت بكثير من الناس الذين يقيمون في اللد من أجل جمع شهاداتهم عن تلك الأيام» (ص189)، «فأنا لا أكتب شهادة، بل أكتب حكاية مأخوذة من مزق الحكايات، أرتقها...» (ص293)، وَيُسَرُّ آدم حين يلتقي في نيويورك بمراد العلمي الذي عاش في غيتو الرملة، لأن آدم يريد أن يكتب حكاية اللد «وأبحث عن شهود لأيام الغيتو» (ص371)، والكتابة تطول....
(5) – 13 الرواية والبعد المعرفي: الطريق إلى بئر سبع وأولاد الغيتو نموذجاً
يعترف إلياس خوري لمازن معروف بأنه قارئ يكتب رواية، والقارئ للرواية «يقرأ عن أشياء لا يعرفها. لو كان يعرفها ما كان سيرغب بالقراءة. الأدب منذ نشأته يحمل جانباً معرفياً وليس فقط وعاءً للجماليات والاستعارات» ويضيف: «القارئ حين يقرأ يتعرف على أشياء لا يعرفها، يتعرف على العالم، الألوان والروائح، فيعيد تأليف الكتاب بتأويله له».
ولعلّ السطر الأهم فيما سبق هو السطر الذي يركز على أن الأدب يحمل جانباً معرفياً، وأنه ليس وعاءً للجماليات والاستعارات فقط. وهذا يعيدنا إلى ما قاله محمود درويش في المقابلة التي أجريت معه في مجلة «الشعراء» (العددان 4 و5/ربيع وصيف 1999) وفيها يذهب إلى أن النص الشعري إذا كان لا يحمل تجربة إنسانية... فلا حاجة للقارئ به، مهما كانت شعريته» (ص27). بل ويعيدنا إلى بدايات فن الرواية في العالم العربي، في نهاية ق19 وبداية ق20، وموقف المثقفين من الرواية، حيث كان هؤلاء يخجلون من وضع أسمائهم على مؤلفاتهم الروائية، وهو ما قام به صاحب رواية «زينب» (1914) محمد حسين هيكل. وقد عزز نجيب محفوظ هذا، حين أتى على موقف مثقفي 30 و40 ق20 من الفنون والنظر إليها:
«وكان المفكرون هم الذين يحظون بالاحترام في هذه الفترة، طه حسين، العقاد، وغيرهما، أما الأدب فقد اعتبرته هواية جانبية، كان الاحترام للفكر، للمقالات، للنقد، للعرض، وليس للقصة.... كان الجانب المحترم في الحياة الأدبية المقال، أما القصة فغير محترمة، ولهذا كنت لا أفكر في التفرغ للأدب والقصة.» (نجيب محفوظ... يتذكر، إعداد جمال الغيطاني، ص26).
ولا أعرف إن كان إلياس خوري التفت إلى هذا الأمر في بداية حياته الكتابية، فآثر كتابة النقد والمقال على كتابة الرواية.
واللافت أنه ما عاد يكتب النقد إلاّ نادراً، وإن واصل كتابة المقال السياسي والفكري، ولكنه، كما أظن، يفضل، الآن، أن يعرف نفسه روائياً بالدرجة الأولى، وقد حققت له رواياته شهرة عالمية، ما كان للمقال النقدي أو السياسي أن يحققها.
ونحن نعرف أن الرواية العربية، الآن، تحقق انتشاراً واسعاً، وأنها كانت طريق العرب إلى نيل (نوبل)، وهذا ما لم يتحقق لناقد أو حتى لمفكر أو شاعر، على الرغم من أن كثيرين من أساتذة الجامعات ما زالوا لا يعترفون بفن الرواية، وما زالوا يدرسونها على خجل، بل إن قسماً منهم لا يقرؤها على الإطلاق، وما زال ينظر إليها نظرة أساتذة الجامعات إليها في 30 و40 ق20.
تختلف نظرة إلياس خوري لفن الرواية عن نظرة الناس إليها في بدايات نشوئها في العالم العربي، فما عاد ينظر إليها على أنها تكتب للتسلية وحسب. إنها تكتب لتثقف قارئها ولتمدّه ببعد معرفي، وهناك من يرى أن 70% من معارفنا تكتسب من خلال قراءاتنا للروايات. إنها تمدنا بمعلومات عن تاريخ الشعوب وعاداتها وتقاليدها وبيئتها الاجتماعية والجغرافية، وعن أحداث مهمة جسيمة ألمّت بها، وفيما يخص «أولاد الغيتو» فإنها تعرفنا، كما لاحظنا، على الأدب الإسرائيلي، والأدب الأموي، والأدب الفلسطيني، وفوق هذا كله على ما ألمّ بالشعب الفلسطيني في العام 1948 وما تلاه. (ولكن كما تساءلت من قبل: ألا يغدو هذا الكمّ المعرفي عبئاً على القارئ؟)
إن الأبعاد المعرفية التي تحفل بها رواية إلياس هذه، كما ذكرت من قبل، هي خلاصات قراءاته للآداب المذكورة ولتجاربه الشخصية أيضاً، وهي تجارب غنية، بل هي خلاصات ما كتب عن مجزرة اللد، في تموز من العام 1948، في غير لغة؛ الإنجليزية والعربية وما ترجم من العبرية أيضاً.
إنها أيضاً تحيلنا إلى روايات عالمية وتدفعنا إلى قراءتها، لنتعرف على مواقف روائيين عالميين مما جرى في فلسطين.
من خلال رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» سأعود إلى مسرحية (برتولد بريخت) «دائرة الطباشير القوقازية»، بل وإلى قصة سيدنا سليمان مع الأم والمربية، وإلى الأدب الصهيوني المكتوب بالإنجليزية والمترجم إلى لغات عالمية، وسأقرأ «الخروج» لـ (ليون أوريس) و»لصوص في الليل» لـ (آرثركوستلر) و»أرض قديمة ـ جديدة» لـ (ثيودور هرتسل)، ومن خلال «أولاد الغيتو» سأتذكر قراءاتي للأدب الإسرائيلي، وهذا ما أتيت عليه من قبل، بل وسأعود إلى رواية «الطريق إلى بئر سبع» لـ (آيثيل مانين)، وهي رواية أتى إلياس، في روايته، على ذكرها، لأنه أفاد منها.
تختلف رواية (مانين) عن روايات كتبها أوروبيون عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، في أن كاتبتها الايرلندية متعاطفة مع الفلسطينيين، وهذه الرواية التي نقلت إلى العربية في 1986 كتبت في العام 1963.
وأعتقد أنها تصلح لأن تكون مادة للمقارنة مع رواية إلياس، ففيها أحداث أعمل فيها إلياس خياله لتبدو مختلفة، لكنها أحداث أوحت له بعض ما كتب: الطفل الرضيع مع أمه تحت شجرة الزيتون، ومجزرة جامع اللد، وشخصية الأعمى أمين/ مأمون و.. و.. هل كنت أعرف عن مجزرة اللد ما أعرفه الآن قبل قراءة «أولاد الغيتو»؟
(5) – 14 إلياس خوري وأدب الواقعية الاشتراكية
قبل أشهر قليلة أصدر الشاعر خليل توما، من بيت لحم، أعماله الشعرية الكاملة، ما دفعني لأن أكتب عنها مقالة قلت فيها: إن دارس هذه الأشعار يجب أن يدرسها مراعياً زمن نشرها الأول وما كان سائداً في حينه من مفاهيم نقدية.
وكان الشاعر كتب أشعاره في 70 و80 ق20، ثم توقف عن كتابة الشعر، وقد كتب أشعاره يوم كان شيوعياً ملتزماً، ويوم كانت الواقعية الاشتراكية مذهباً أدبياً له حضوره.
ولما قرأ الشاعر ما كتبته اتصل بي متسائلاً ولائماً وموضحاً: هل يعني هذا أن كل ما كتب، عالمياً وعربياً وفلسطينياً، من أدب يساري ما عادت له قيمته وأهميته، وأنه ذهب أدراج الرياح.
في 90 ق20 ترجمت عن الألمانية دراسة كتبها أستاذ ألماني في جامعة (بون) عن رواية غسان كنفاني «أم سعد»، وكان عنوانها: «الضمير المعذب للثوري»، وفيها أتى على أدب الواقعية الاشتراكية وموقف الأوروبيين الغربيين منه، وذهب إلى أنهم ما عادوا يقرؤون هذا الأدب، وما عاد يلفت نظرهم، هم الذين أعجبوا في ذلك الوقت بأدب الواقعية السحرية القادم من أميركا اللاتينية، وبروايات كتّاب يساريين منشقين مثل (ميلان كونديرا).
ولما كنت أنجزت مقالة نقدية طويلة عن رواية إلياس خوري (يالو) (2003) فقد توقفت أمام المقابلة التي أجراها معه سامر أبو هواش ونشرها في مجلة «الطريق» اللبنانية (عدد 1، سنة 60، 2001) وأتيت فيها على موقف إلياس من الأدب الملتزم، وهو موقف مناهض له، وكانت المجلة جريئة، وهي تصدر عن الحزب الشيوعي اللبناني، حين نشرت هذا الرأي، بل وحين خصصت عدداً خاصاً بإلياس، ولا بأس من تكرار رأيه. يقول:
«الأدب الملتزم كما قدم نفسه لا أحبه، أي الأدب المرتبط بالواقعية الاشتراكية، ببساطة لأنه ليس أدباً، لأن الأدب ليس لديه رسالة. أنا أكتب المقال السياسي كمواطن وهذا الرأي أكتبه كاملاً لكن الأدب شيء آخر، الأدب ليس رأياً، بل حالة، الأدب يختمر في قلبك وروحك ونفسك على نحو أعقد من الرأي...».
وهو هنا يسير على غرار اميل حبيبي بعد أن ترك اميل الحزب.
لقد كان اميل يقول إنه يكتب الأدب حين لا يقوى على كتابة ما يريد قوله في مقال سياسي، وأنه في السياسة يحاور ويناور، ولكنه حين يريد قول الصدق يلجأ إلى الأدب.
ولا أظن أن محمود درويش، في مرحلة مدريد، اختلف رأيه عن هذا الرأي، فحين توقف النقاد أمام سطره الشعري «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار» و»لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار» وذهبوا إلى أنه يعبر عن مواقفه من مدريد، ثار واستهجن الأمر، وقال إنه لو أراد أن يعلن موقفاً سياسياً لأعلنه في مقال، وأنه إنما يعبر عن حالة هي خروج العرب من الأندلس.
في رواية «أولاد الغيتو» ما يعيد القارئ إلى رأي إلياس في الأدب الملتزم، وإن كان الكلام صدر عن الشخصية الروائية ـ أي آدم ـ وكما ذهبت مراراً فإن آدم فيه من إلياس الكثير، وكلما قرأ المرء الرواية أو أعاد النظر في صفحات منها اكتشف أن إلياس يقف وراء بطله فيما يخص التنظير الأدبي والموقف من الأدباء الذين قرأ لهم، حين كتب روايته.
في ص188 من الرواية يقول آدم: «لا تصدقوا أصحاب الرسالات من الأدباء فهم مجرد أنبياء كذبة وعرّافين فاشلين»، وهذا الرأي يذكّر بما أورده (رينيه ويليك) و»(أوستن وارن) في كتابهما «نظرية الأدب» حول النقاد الماركسيين.
وفي ص239 يقول آدم: «والفنان لا يصنع أعمالاً أو يكتب نصوصاً والفنان هو مجرد وسيط لا حول له. لذا ينتهي الأمر بالكاتب أن يتكتب لا أن يكتب. ألم يكن هذا هو مصير غوغول؟ ألم ينته الأمر باميل حبيبي إلى تصديق أدبه وتكذيب حياته؟...»، وهذا لا شك يخالف ما تذهب إليه الواقعية الاشتراكية التي تقول بحزبية الأدب والأديب، وأن الكاتب يقع على مهمته تغيير الواقع.
وفي ص293 يقول آدم: «لست مؤرخاً ولا أدّعي ذلك، ومع احترامي وتقديري لأعمال مؤرخين، فأنا أشعر أن التاريخ وحش أعمى، حين أتذكر الآن الكلام الذي كان يردده أصدقائي الشيوعيون عن الحتمية التاريخية التي تقود إلى تحرر الشعوب أشعر بالشفقة، فالذي عاش طفولة اللد وتفتّح وعيه في كاراج الخواجة غبريال في حيفا لا يستطيع أن ينظر إلى التفاؤل التاريخي إلاّ بصفته غباءً».
وكم كان الأدب الواقعي الاشتراكي يحفل بالتفاؤل، ويأتي على الحتمية التاريخية.
ولعلّ أهم من كل ما سبق هو موقف آدم/ إلياس من قضيتي الشكل والمعنى.
وإذا كانت الواقعية الاشتراكية تركز على أولوية المحتوى، فإن آدم/ إلياس يقول: «من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي، فحلمي الدائم هو الوصول إلى نص بلا معنى»(ص418).
ترى من المصيب خليل توما أم إلياس خوري؟!
(5) – 15 الروائي بين الكم والنوع
ثمة مقولة نقدية شائعة مفادها أن الروائي يكتب رواية واحدة ناجحة في حياته هي سيرته.
ولو طبق الروائيون ما ورد في المقولة لقرأنا رواية واحدة لكل واحد منهم، أو بمعنى آخر لقرأنا سيرة الروائي في عمل روائي.
أعادتني تلك المقولة إلى فقرة في رواية إلياس خوري "كأنها نائمة" (2007)، نصها: "هل أخبرت ميليا الحكاية مثلما حصلت؟ بالطبع لا، إذ لا يستطيع أحد أن يخبر حكاية بوقائعها وتسلسلها، وإلاّ سوف يقضي الإنسان عمره كله في إخبار حكاية واحدة" (ص176).
وأنا، منذ قرأت مقولة نظرية التلقي: "إن قراءة نص أدبي واحد من القارئ نفسه في زمنين مختلفين، تؤدي إلى قراءتين وكتابتين مختلفتين" أخذت أكرر ما قاله سارد إلياس، بل وأخذت أتوقف أمام أفكار، لدى شعراء، ومنهم محمود درويش، كتبها أصحابها في زمنين مختلفين.
هنا أشير إلى قصيدتي درويش "ريتا والبندقية" و"شتاء ريتا الطويل"، وهناك أكثر من 20 عاماً تفصل بين كتابة الأولى والثانية.
وغالباً ما تعيدني تجربة إلياس الروائية إلى تجربة درويش الشعرية. كأنني أنا أيضاً سأكرر الكتابة، وتكرار الكتابة يؤرق الكاتب حقاً، ولذلك قال درويش عن هذا:
"هذا حكمي أيضاً على نص أكتبه وأخبئه في الدرج شهوراً ثم أعود إليه، فإذا وجدت فيه شبها بي أعتبر أنني لم أعمل شيئاً، وأما إذا أحسست بأن شخصاً آخر كتبه بالنيابة عني، إذا قرأته وكأنه شعر آخر، أحس بأني عملت شيئاً (مشارف، تشرين 1، عدد 3، 1995، ص106).
وحين يقول الشاعر المتوكل طه لدرويش التالي: "أقصد أنه لا توجد بذرة فقط في العمل السابق، بل وتوجد إعادة هذه البذرة من ديوان لآخر؟" يجيب درويش: "نعم هذا موجود، فهذا تراكم، ليست هناك قطيعة". (الشعراء، رام الله، عدد 4 و5، ربيع وصيف 1999، ص32).
ولا أدري إن كانت هذه القضية، قضية الكم والنوع تؤرق إلياس كما كانت تؤرق درويش.
وبذور فكرة التشابه والاختلاف والتجديد ومساءلة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى