اقرأ لنا قصيدة يا ناظم حكمت.
قرأ:
أنا شيوعي
أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي
الحبّ أن ترى، تفكر، تفهم
الحبّ طفل يولد في مطلع فجر أحمر
الحبّ ارجوحة معلقة بين نجمتين متألقتين في السماء
الحبّ أن تعرف كيف تسقي فولاذ الجسد
أنا شيوعي
أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي
وأنا أتجول في أزقة مدينة إزمير القديمة خلف كورنيش ساحة كوردون أبحث فيها عن مطارح خطت فيها أقدام الشاعر ناظم حكمت عندما أقام هنا بعض الوقت. ألمح هناك في الزاوية ذلك المقهى الذي حكى عنه في كتابه "العيش شيء رائع يا عزيزي" هل هو المقهى نفسه يا ترى؟ هل شرب الشاي وتناول الفطائر بالجبنة هنا في أحد المقاهي المطلة على شاطئ ساحة كوردون في إزمير؟ هل خطى في تلك الأزقة القديمة والتي تغيرت معالمها ومالت ملامحها نحو الحداثة أكثر فأكثر. عشرات المقاهي مصفوفة جوار بعضها في الأزقة المتوارية خلف كورنيش كوردون. يجلس روادها لتناول الشاي والحديث. اقتربتُ من إحدى النادلات الجميلات، ونصيحتي لكم أن تسألوا، دائماً، النادلات الجميلات، فعندهنَّ الخبر اليقين. سألتها:
أنا آسف يا سيدتي لتطفلي، ولكن، هل تناول شاعرنا الكبير ناظم حكمت الشاي في مقهاكم؟
ابتسمت بود. وقالت:
أنا آسفة يا سيدي، ربما، من يدري؟
تركتني النادلة في حيرة من أمري وذهبت لشأنها. وها أنا أخطو على هذه الحجارة السوداء التي ترصف الطرقات هل هي الحجارة نفسها التي سار عليها ناظم حكمت متجهاً صوب البحر؟ البحر لم يتغير. مياه بحر خليج مدينة إزمير ما زالت تخفق خفقاً خفيفاً في الريح. هل استنشق ناظم حكمت من هذه النسمات الطريات التي تعبق برائحة البحر؟ لسان من الماء يمتد في عمق اليابسة تحيط به المرتفعات الجبلية وتُحلِّق النوارس جماعات في سماء زرقاء صافية.
يقول:
ولدتُ في اليوم السابع من شهر فبراير//شباط عام 1902 بمدينة سالونيك التي تقع في شمال اليونان. لم أعد أبدًا إلى مسقط رأسي، أنا لا أحب الرجوع إلى الوراء، عندما كنتُ في الثالثة كانت وظيفتي في الحياة هي أن أكون حفيد حكمت ناظم باشا مدير المطبوعات وقنصلاً في وزارة الخارجية العثمانية، وكان جدي ناظم باشا ذات يوم والياً على حلب. وأمي عائشة جليلة خانم أرستقراطية والدها أنور باشا تربوي عظيم، كانت رسامة وتجيد الفرنسية كما كانت عازفة بيانو مُجيدة. كتاباتي منشورة في ثلاثين أو أربعين لغة، لكنها ممنوعة في بلدي تركيا، بلغتي التركية، السرطان لم يقترب مني بعد، وليس شرطًا أن يقترب، لن أكون رئيس وزراء أو شيئاً من هذا القبيل، أبداً، ولا أهتم أصلاً بهذه الأشياء، لم أدخل حربًا، ولم أنزل إلى المخابئ في منتصف الليل، ولم أمش في طريق تحت طائرات منقضّة، لكنني وقعت في الحب في الستين تقريباً، باختصار يا رفاق، حتى إذا كنتُ اليوم أئنّ من الحزن، يمكنني أن أقول إنني عشتُ كإنسان، ومَنْ يدري، كم سأعيش أكثر، وماذا سيحدث لي أيضًا. فاشهد يا شعب تركيا، وآن لكَ أن تشهد.
أُعيدتْ له الجنسية عام 2009 بعد مرور 46 عاما على وفاته، والتي حدثت في موسكو إثر أزمة قلبية في اليوم الثالث من شهر يوليو/تموز عام 1963. يُعد ناظم حكمت واحداً من الأسماء البارزة في الشّعر التركي المعاصر، حيث كان في شعره وحياته مُخلصاً لأفكاره وتوجهاته ومخلصاً لجميع القضايا الإنسانية، رافضاً عدم المساواة، والأنانية، والبربرية التي تنتهجها الرأسمالية في شكليها القديم الكلاسيكي أيام ماركس أنجلز ولينين والحديث بعد الحرب العالمية الثانية، كان داعية في شعره وفي نصوصه النثرية المسرحية منها والروائية إلى المحبة الخالصة والأخوة الصافية والطهر والبراءة. وقد تُرجمت أشعاره إلى أكثر من خمسين لغة، وحصلت أعماله على الكثير من الجوائز.
أتابع بحثي في الأزقة القديمة والشوارع الحديثة على كورنيش كوردون في إزمير علني أجد لوحة، إشارة، خطوات مطبوعة في حجر الطريق، سهماً يرشدني إلى: من هنا مرَّ الشاعر ناظم حكمت. أنفاسه المعطَّرة برائحة التبغ والتنباك تعبق بالمكان، وأصوات تحريك ملاعق السكر في كاسات الشاي ترن في الآذان، والكلام يتدفق من أفواه المارة حلواً، رقيقاً، كتدفق السكر في كفة ميزان. هذا عالم ناظم حكمت الحقيقي. كم أحبَّ الناس، وكم كتب عنهم. كان ذلك يكفيني لأفرح بأنني أمشي على خطاه. وأتنفس الهواء الذي كان يتنفس منه.
كنتُ يافعاً حين قرأتُ أول مرة سيرة حياة هذا الشاعر الكبير، أين قرأتُ ذلك؟ أنا لا أتذكر الآن. ربما في مجلة كانت تصدر في بيروت وتصل إلى مدينة إدلب في الشمال السوري. هل هي مجلة الطريق التي كان يُصدرها الحزب الشيوعي اللبناني؟ أيضاً، ربما. لا أستطيع تأكيد الأمر الآن في غربتي بعد أن شردتنا الحرب الضروس عن ديارنا.
من المصادفات العجيبة التي سرتني كثيراً أن يتم العثور على مذكرات ناظم حكمت الخاصة التي دوّنها أثناء فترة سجنه، والتي قضى منها مدة لا تقل عن أربعة عشر عاماً، ثم هرب عن طريق البحر الأسود إلى موسكو. الآثار الجديدة المكتشفة من مسودات دفاتر ناظم حكمت كتبها في سجونه المختلفة. صدرت هذه الدفاتر بعد العمل عليها وتهذيبها في سبعة كتب عن دار "كريدي كابي" للنشر بإسطنبول عام 2018، وهي من إعداد هاندن دروغوت، وتغطي الفترة من 1937 إلى 1942 في سجون إسطنبول وأنقرة وشانكاري وبورصة. لماذا سُجن ناظم حكمت أصلاً؟
يا سيدي حكاية سجنه حكاية، كان صغير السن حين أصبح شيوعياً. يُقال بأنه بدأ نشاطه السياسي مسؤولاً في تحرير جريدة الحزب الشيوعي التركي "المطرقة والمنجل". هل هذا صحيح؟ لا نستطيع تأكيد ذلك لأن العمل في الجريدة كان سرياً. ولكن وردت إشارات تفيد بذلك في كتابه الأخير "العيش شيء رائع يا عزيزي" والذي طبع بعد وفاته بالفرنسية. ففي ربيع عام 1963 أرسل النصَّ، مُنقحاً، إلى باريس قبل شهور من وفاته. في الصفحات الأولى من الكتاب تجد ناظم حكمت مع رفيق له في مدينة إزمير في مطرح قريب من كورنيش كوردون يطبعون الجريدة بسرية تامة على ماكينة طباعة قديمة. يختبؤون نهاراً من عيون الشرطة ويعملون ليلاً على ضوء مصباح الكاز.
درس ناظم حكمت الثانوية في مدينة إستنبول، ثمَّ التحق بالمدرسة العسكرية الحربية لصبح ضابطاً بحرياً. ترك بيت والده والتحق في صفوف جنود حرب الاستقلال ضد الحلفاء بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وبعد انتهاء الحرب منحه أتاتورك بعثة للدراسة في موسكو في كلية علم الاجتماع في جامعة كوتيف وهي جامعة طلاب شعوب الشرق. وعاد من موسكو عام 1924 بعد إعلان الجمهورية في تركيا. وفي هذا العام انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي التركي. في عام 1929 نشر ديوانه المشهور "835 سطراً" مجَّد فيه أبطال حرب الاستقلال.
بعد عام 1938 بدأت مرحلة جديدة من حياة الشاعر ناظم حكمت فقد قُبض عليه وأودع السجن وقُدم إلى محكمة الشرطة العسكرية وحكم عليه بالسجن ثمانية وعشرين عاماً. سأله القاضي في المحكمة: هل أنتَ شيوعي يا ناظم. أجاب ناظم حكمت: أنا شيوعي من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي. وكان قد أُلقي القبض عليه بتهمة نشر دعاية شيوعية في الجيش.
الكتابات الجديدة التي عُثر عليها احتوت تراثاً نادراً عن الكيفية التي كان يكتب فيها ناظم حكمت أعماله في السجن. وتعطينا فكرة عن كتابات السجن خلال هذه الفترة، وتوضح لنا كيف عاش في هذه الفترة العصبية، وكذلك ما الذي كان يشغله ويفكر فيه على الدوام. وكذلك في كونها المسودات الأولى لأعماله التي ظهرت فيما بعد. تظهر هذه الكتابات أن ناظم حكمت كان يكتب شعره بسهولة. كما تكشف عن مراحل تطوُّر القصيدة لديه من كلمة أو من صورة صغيرة. أي كيف تتطوّر القصيدة وتصير شعراً مكتملاً، وكذلك كيف يتطوّر الفكر والخيال عنده من خلال تصويباته التي تتجاوز أحياناً عشرات المرات.
دوّن ناظم حكمت في الكتاب الأوّل من الدفاتر أحداث عام 1937، وهو بعنوان "رحلة سفينة يوسف الحزينة إلى برشلونة" وشغل الكتاب الثاني أحداث مدرسة الحرب عام 1938، وجاء بعنوان "رسائل رجل في الحبس الانفرادي". واشتمل الدفتر الثالث على مسودات قصائده في هذه الفترة. وعن فترة سجنه في سجن سلطان أحمد وفترة سجنه في شانكاري. جاء الدفتر الرابع ومعظمه أشعار مختصة بهذا السجن، ومسودات هذا الدفتر ستكون فيما بعد كتاباً بعنوان " أراني في الأربعة من سجوني". أما الدفتر الخامس فهي رسائل لزوجته بعنوان "رسائل إلى بيرايا من شانكاري". أما الدفتر السادس فهو يشغل عام 1941، ويحتوي على المسودات الأولى من الديوان الذي سيصير "مناظر بشرية من بلدي" والذي ترجمه فاضل لقمان إلى العربية في أربعة أجزاء تحت عنوان "مشاهد إنسانية". أما الدفتر السابع جاء في حوالي ثلاثمئة صفحة، وهو شبه فهرس يحتوي على معلومات عن الدفاتر الستة السابقة وتوضيحات ومزود بملحق غني بالمعلومات والصور عن ناظم حكمت.
اقتربتُ من رجل عجوز قارب الثمانين من عمره يجلس على مقعد حديقة في ساحة كوردون يقرأ في جريدة. قلت وقد اختلطت كلماتي العربية بالتركية:
مرحباً يا رفيقي، هل تعتقد أن شاعرنا الكبير ناظم حكمت مرَّ من هنا؟
ترك الرجل العجوز قراءة الجريدة، ثمَّ نظر في وجهي ملياً، تأملني من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي. هل أعجبه أن أقول شاعرنا الكبير ناظم حكمت؟ سألني:
هل ما زالت شيوعياً يا أخي في آخر هذا الزمان؟ أجبته وكانت الكلمات تتدفق تدفق السكر في كفة ميزان:
أنا شيوعي من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي.
قال وقد تهلل وجهه وبَسَمَ في وجهي واستوى في مقعده:
اجلس هنا جانبي يا أخي.
وأشار إلى المقعد، فجلستُ. وغبنا عن الدنيا وأهلها في حديث شيِّق طويل. كان يًتقن العربية الفصحى ويحفظ المصحف في صدره. أخذنا الحديث إلى تلك الفترة التي عاش فيها ناظم حكمت في مدينة إزمير وعن الأماكن التي من المحتمل بأنه مرَّ بها. نعم، كان حديثاً ممتعاً قال الرجل العجوز في نهايته وأنا أودعه: آمل أن تجد يا أخي، ذات يوم، لوحة في ساحة كوردون في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة كتب عليها: من هنا مرَّ شاعرنا الكبير ناظم حكمت.
"دقيقة واحدة" أغنية من شعر ناظم حكمت:
ساحة كورنيش كوردون وازقتها في مدينة إزمير"
قرأ:
أنا شيوعي
أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي
الحبّ أن ترى، تفكر، تفهم
الحبّ طفل يولد في مطلع فجر أحمر
الحبّ ارجوحة معلقة بين نجمتين متألقتين في السماء
الحبّ أن تعرف كيف تسقي فولاذ الجسد
أنا شيوعي
أنا الحبّ من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي
وأنا أتجول في أزقة مدينة إزمير القديمة خلف كورنيش ساحة كوردون أبحث فيها عن مطارح خطت فيها أقدام الشاعر ناظم حكمت عندما أقام هنا بعض الوقت. ألمح هناك في الزاوية ذلك المقهى الذي حكى عنه في كتابه "العيش شيء رائع يا عزيزي" هل هو المقهى نفسه يا ترى؟ هل شرب الشاي وتناول الفطائر بالجبنة هنا في أحد المقاهي المطلة على شاطئ ساحة كوردون في إزمير؟ هل خطى في تلك الأزقة القديمة والتي تغيرت معالمها ومالت ملامحها نحو الحداثة أكثر فأكثر. عشرات المقاهي مصفوفة جوار بعضها في الأزقة المتوارية خلف كورنيش كوردون. يجلس روادها لتناول الشاي والحديث. اقتربتُ من إحدى النادلات الجميلات، ونصيحتي لكم أن تسألوا، دائماً، النادلات الجميلات، فعندهنَّ الخبر اليقين. سألتها:
أنا آسف يا سيدتي لتطفلي، ولكن، هل تناول شاعرنا الكبير ناظم حكمت الشاي في مقهاكم؟
ابتسمت بود. وقالت:
أنا آسفة يا سيدي، ربما، من يدري؟
تركتني النادلة في حيرة من أمري وذهبت لشأنها. وها أنا أخطو على هذه الحجارة السوداء التي ترصف الطرقات هل هي الحجارة نفسها التي سار عليها ناظم حكمت متجهاً صوب البحر؟ البحر لم يتغير. مياه بحر خليج مدينة إزمير ما زالت تخفق خفقاً خفيفاً في الريح. هل استنشق ناظم حكمت من هذه النسمات الطريات التي تعبق برائحة البحر؟ لسان من الماء يمتد في عمق اليابسة تحيط به المرتفعات الجبلية وتُحلِّق النوارس جماعات في سماء زرقاء صافية.
يقول:
ولدتُ في اليوم السابع من شهر فبراير//شباط عام 1902 بمدينة سالونيك التي تقع في شمال اليونان. لم أعد أبدًا إلى مسقط رأسي، أنا لا أحب الرجوع إلى الوراء، عندما كنتُ في الثالثة كانت وظيفتي في الحياة هي أن أكون حفيد حكمت ناظم باشا مدير المطبوعات وقنصلاً في وزارة الخارجية العثمانية، وكان جدي ناظم باشا ذات يوم والياً على حلب. وأمي عائشة جليلة خانم أرستقراطية والدها أنور باشا تربوي عظيم، كانت رسامة وتجيد الفرنسية كما كانت عازفة بيانو مُجيدة. كتاباتي منشورة في ثلاثين أو أربعين لغة، لكنها ممنوعة في بلدي تركيا، بلغتي التركية، السرطان لم يقترب مني بعد، وليس شرطًا أن يقترب، لن أكون رئيس وزراء أو شيئاً من هذا القبيل، أبداً، ولا أهتم أصلاً بهذه الأشياء، لم أدخل حربًا، ولم أنزل إلى المخابئ في منتصف الليل، ولم أمش في طريق تحت طائرات منقضّة، لكنني وقعت في الحب في الستين تقريباً، باختصار يا رفاق، حتى إذا كنتُ اليوم أئنّ من الحزن، يمكنني أن أقول إنني عشتُ كإنسان، ومَنْ يدري، كم سأعيش أكثر، وماذا سيحدث لي أيضًا. فاشهد يا شعب تركيا، وآن لكَ أن تشهد.
أُعيدتْ له الجنسية عام 2009 بعد مرور 46 عاما على وفاته، والتي حدثت في موسكو إثر أزمة قلبية في اليوم الثالث من شهر يوليو/تموز عام 1963. يُعد ناظم حكمت واحداً من الأسماء البارزة في الشّعر التركي المعاصر، حيث كان في شعره وحياته مُخلصاً لأفكاره وتوجهاته ومخلصاً لجميع القضايا الإنسانية، رافضاً عدم المساواة، والأنانية، والبربرية التي تنتهجها الرأسمالية في شكليها القديم الكلاسيكي أيام ماركس أنجلز ولينين والحديث بعد الحرب العالمية الثانية، كان داعية في شعره وفي نصوصه النثرية المسرحية منها والروائية إلى المحبة الخالصة والأخوة الصافية والطهر والبراءة. وقد تُرجمت أشعاره إلى أكثر من خمسين لغة، وحصلت أعماله على الكثير من الجوائز.
أتابع بحثي في الأزقة القديمة والشوارع الحديثة على كورنيش كوردون في إزمير علني أجد لوحة، إشارة، خطوات مطبوعة في حجر الطريق، سهماً يرشدني إلى: من هنا مرَّ الشاعر ناظم حكمت. أنفاسه المعطَّرة برائحة التبغ والتنباك تعبق بالمكان، وأصوات تحريك ملاعق السكر في كاسات الشاي ترن في الآذان، والكلام يتدفق من أفواه المارة حلواً، رقيقاً، كتدفق السكر في كفة ميزان. هذا عالم ناظم حكمت الحقيقي. كم أحبَّ الناس، وكم كتب عنهم. كان ذلك يكفيني لأفرح بأنني أمشي على خطاه. وأتنفس الهواء الذي كان يتنفس منه.
كنتُ يافعاً حين قرأتُ أول مرة سيرة حياة هذا الشاعر الكبير، أين قرأتُ ذلك؟ أنا لا أتذكر الآن. ربما في مجلة كانت تصدر في بيروت وتصل إلى مدينة إدلب في الشمال السوري. هل هي مجلة الطريق التي كان يُصدرها الحزب الشيوعي اللبناني؟ أيضاً، ربما. لا أستطيع تأكيد الأمر الآن في غربتي بعد أن شردتنا الحرب الضروس عن ديارنا.
من المصادفات العجيبة التي سرتني كثيراً أن يتم العثور على مذكرات ناظم حكمت الخاصة التي دوّنها أثناء فترة سجنه، والتي قضى منها مدة لا تقل عن أربعة عشر عاماً، ثم هرب عن طريق البحر الأسود إلى موسكو. الآثار الجديدة المكتشفة من مسودات دفاتر ناظم حكمت كتبها في سجونه المختلفة. صدرت هذه الدفاتر بعد العمل عليها وتهذيبها في سبعة كتب عن دار "كريدي كابي" للنشر بإسطنبول عام 2018، وهي من إعداد هاندن دروغوت، وتغطي الفترة من 1937 إلى 1942 في سجون إسطنبول وأنقرة وشانكاري وبورصة. لماذا سُجن ناظم حكمت أصلاً؟
يا سيدي حكاية سجنه حكاية، كان صغير السن حين أصبح شيوعياً. يُقال بأنه بدأ نشاطه السياسي مسؤولاً في تحرير جريدة الحزب الشيوعي التركي "المطرقة والمنجل". هل هذا صحيح؟ لا نستطيع تأكيد ذلك لأن العمل في الجريدة كان سرياً. ولكن وردت إشارات تفيد بذلك في كتابه الأخير "العيش شيء رائع يا عزيزي" والذي طبع بعد وفاته بالفرنسية. ففي ربيع عام 1963 أرسل النصَّ، مُنقحاً، إلى باريس قبل شهور من وفاته. في الصفحات الأولى من الكتاب تجد ناظم حكمت مع رفيق له في مدينة إزمير في مطرح قريب من كورنيش كوردون يطبعون الجريدة بسرية تامة على ماكينة طباعة قديمة. يختبؤون نهاراً من عيون الشرطة ويعملون ليلاً على ضوء مصباح الكاز.
درس ناظم حكمت الثانوية في مدينة إستنبول، ثمَّ التحق بالمدرسة العسكرية الحربية لصبح ضابطاً بحرياً. ترك بيت والده والتحق في صفوف جنود حرب الاستقلال ضد الحلفاء بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وبعد انتهاء الحرب منحه أتاتورك بعثة للدراسة في موسكو في كلية علم الاجتماع في جامعة كوتيف وهي جامعة طلاب شعوب الشرق. وعاد من موسكو عام 1924 بعد إعلان الجمهورية في تركيا. وفي هذا العام انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي التركي. في عام 1929 نشر ديوانه المشهور "835 سطراً" مجَّد فيه أبطال حرب الاستقلال.
بعد عام 1938 بدأت مرحلة جديدة من حياة الشاعر ناظم حكمت فقد قُبض عليه وأودع السجن وقُدم إلى محكمة الشرطة العسكرية وحكم عليه بالسجن ثمانية وعشرين عاماً. سأله القاضي في المحكمة: هل أنتَ شيوعي يا ناظم. أجاب ناظم حكمت: أنا شيوعي من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي. وكان قد أُلقي القبض عليه بتهمة نشر دعاية شيوعية في الجيش.
الكتابات الجديدة التي عُثر عليها احتوت تراثاً نادراً عن الكيفية التي كان يكتب فيها ناظم حكمت أعماله في السجن. وتعطينا فكرة عن كتابات السجن خلال هذه الفترة، وتوضح لنا كيف عاش في هذه الفترة العصبية، وكذلك ما الذي كان يشغله ويفكر فيه على الدوام. وكذلك في كونها المسودات الأولى لأعماله التي ظهرت فيما بعد. تظهر هذه الكتابات أن ناظم حكمت كان يكتب شعره بسهولة. كما تكشف عن مراحل تطوُّر القصيدة لديه من كلمة أو من صورة صغيرة. أي كيف تتطوّر القصيدة وتصير شعراً مكتملاً، وكذلك كيف يتطوّر الفكر والخيال عنده من خلال تصويباته التي تتجاوز أحياناً عشرات المرات.
دوّن ناظم حكمت في الكتاب الأوّل من الدفاتر أحداث عام 1937، وهو بعنوان "رحلة سفينة يوسف الحزينة إلى برشلونة" وشغل الكتاب الثاني أحداث مدرسة الحرب عام 1938، وجاء بعنوان "رسائل رجل في الحبس الانفرادي". واشتمل الدفتر الثالث على مسودات قصائده في هذه الفترة. وعن فترة سجنه في سجن سلطان أحمد وفترة سجنه في شانكاري. جاء الدفتر الرابع ومعظمه أشعار مختصة بهذا السجن، ومسودات هذا الدفتر ستكون فيما بعد كتاباً بعنوان " أراني في الأربعة من سجوني". أما الدفتر الخامس فهي رسائل لزوجته بعنوان "رسائل إلى بيرايا من شانكاري". أما الدفتر السادس فهو يشغل عام 1941، ويحتوي على المسودات الأولى من الديوان الذي سيصير "مناظر بشرية من بلدي" والذي ترجمه فاضل لقمان إلى العربية في أربعة أجزاء تحت عنوان "مشاهد إنسانية". أما الدفتر السابع جاء في حوالي ثلاثمئة صفحة، وهو شبه فهرس يحتوي على معلومات عن الدفاتر الستة السابقة وتوضيحات ومزود بملحق غني بالمعلومات والصور عن ناظم حكمت.
اقتربتُ من رجل عجوز قارب الثمانين من عمره يجلس على مقعد حديقة في ساحة كوردون يقرأ في جريدة. قلت وقد اختلطت كلماتي العربية بالتركية:
مرحباً يا رفيقي، هل تعتقد أن شاعرنا الكبير ناظم حكمت مرَّ من هنا؟
ترك الرجل العجوز قراءة الجريدة، ثمَّ نظر في وجهي ملياً، تأملني من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي. هل أعجبه أن أقول شاعرنا الكبير ناظم حكمت؟ سألني:
هل ما زالت شيوعياً يا أخي في آخر هذا الزمان؟ أجبته وكانت الكلمات تتدفق تدفق السكر في كفة ميزان:
أنا شيوعي من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي.
قال وقد تهلل وجهه وبَسَمَ في وجهي واستوى في مقعده:
اجلس هنا جانبي يا أخي.
وأشار إلى المقعد، فجلستُ. وغبنا عن الدنيا وأهلها في حديث شيِّق طويل. كان يًتقن العربية الفصحى ويحفظ المصحف في صدره. أخذنا الحديث إلى تلك الفترة التي عاش فيها ناظم حكمت في مدينة إزمير وعن الأماكن التي من المحتمل بأنه مرَّ بها. نعم، كان حديثاً ممتعاً قال الرجل العجوز في نهايته وأنا أودعه: آمل أن تجد يا أخي، ذات يوم، لوحة في ساحة كوردون في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة كتب عليها: من هنا مرَّ شاعرنا الكبير ناظم حكمت.
"دقيقة واحدة" أغنية من شعر ناظم حكمت:
ساحة كورنيش كوردون وازقتها في مدينة إزمير"