أ. د. محمد كريم الساعدي - مهيمنات الصورة والتأثير الثقافي

يمارس الفكر الذي يشكل صورة الخطاب في تحمل معطيات الهيمنة في ثناياها صوب المستقبل لبناء منظومة خاصة تنطلق في تعبئة الجمهور نحو هدف معين ، إذ تأتي الهيمنة في إطار ممارسة منهجية لأفعال البناء المعرفي من اجل السيطرة والتوجيه ، لذلك فأن الهيمنة ليست شيء يأتي من الخارج فجأة ، بل هو ممارسة لأفعال الإقناع بأساليب مختلفة ، بطرائق مباشرة أو غير مباشرة ، أو بطرائق ترغيبية وأخرى تخويفية وترهيبية من خطر قادم، مرة بحجة ممارسة الثقافة والتمييز نحو الأفضل الظاهري ، والمغلف بطبقات من التوجيه المخفي الذي يحمل في ثناياه هدف معين ، ومرة أخرى إبعاد الذي يقع عليه فعل ممارسة الهيمنة من الوصول الى الوعي الحقيقي والواقعي بحادثة ، أو معلومة ، أو أمر يغير المفاهيم الرئيسية التي بنت عليها المؤسسة المعنية أهدافها ، لذلك فأن الخطاب وطبيعة الهيمنة فيه يعود الى بناء صورة قائمة على مرجعيات يعتقد أنها صحيحة إذا طبقت بشكل معين في ظروف محددة ، تحاول المؤسسات القائمة عليها على هندسة البناء الفكري لصالحها ، حتى وان كانت تعمل على تزييف الحقائق والوقائع على الأرض، بأخرى مفبركة ،أو مغايرة للحقائق المخفية.

إن ممارسة الهيمنة تعود الى المنظومة الكامنة وراء الممارسة ذاته ، لذلك فأن مفهوم الهيمنة يأتي من خلال التأثير والإخضاع الواعي من قبل المؤسسة ذاتها ، وفي المقابل الاستقبال المموه الذي جعلته المؤسسات منهجاً، فالتمويه والتأثير والأساليب المصاحبة لهما من امتناع بأفعال الشر المقابلة ،أو الأفعال غير المتحضرة التي يقوم بها الآخر الموصوف في السير التاريخية ، أنتج ردود لدى المتلقي الجمعي قائمة على التخويف والترهيب ، بأن الأمر المغاير لا ينتهي لهذه الصور الحضارية والقيم العليا التي تدعيها الحضارة صاحبة التفوق ، لذلك فهي كمؤسسة ضخمة تمارس التخويف والترهيب من الآخر تجاه جمهورها ، الذي هو جزء من منظومتها والمقتنع بأساليبها والمحقق لأهدافها في مختلف المجالات لذلك فأن الايطالي انطونيو غرامشي(1891-1937) ، يرى بأن الهيمنة هي ممارسة وتكريس لأفعال المؤسسات السلطوية وطبقاتها المسيطرة على المجتمع ، أي ان الهيمنة تمارس تأثيرها على الجماهير عبر الاستعمال الرهيف واللاواعي ، ايضاً، لعملية الإقناع . ويلعب فرض نمط من اللغة ، وانجاز الكتابة الأدبية والتاريخية عبرها ، دوراً هاماً في إنشاء أنظمة ومؤسسات تكرسُ أيديولوجيا الطبقة المسيطرة وترسيخها. يضطلع الأدب والتاريخ البريطانيان ، مثلا، وبالقدر ذاته اللغة الانجليزية ، كحامل للثقافة الانجليزية ، بمهمة الأفكار التي تساهم في سيطرة طبقة على أخرى عبر وسائط الهيمنة. ومن هذا المثال السابق نرى مدى بريطانيا العظمى ساهمت بالسيطرة الثقافية على العالم لقرون عديدة خلال حكمها الإمبراطوري القائم على أفعال الاستعمار المختلفة ، وما مسرحيات (شكسبير) الا دليل واعي على هذه الأفعال ،ذات السيطرة الثقافية في هذا الشأن ، التي الى الآن هي المثال الحي على عالمية ومرجعية اللغة الانكليزية وثقافتها الغربية صاحبة الهيمنة المعرفية ، وفي هذا المجال يسوق لنا بعض من الذين وقعوا تحت القهر الثقافي الغربي ، ومارسوا عليه تطبيق مفهوم المرجعيات العالمية للثقافة التي مارست أفعال الهيمنة على كلا الطرفين من يقبع تحت هيمنتها في إغراءه بأنه صاحب الكعب الاعلى ،والأخر الذي مُورست عليه الهيمنة الثقافية ، فالأول وقع تحت تضخيم الأنا الراغبة في السيطرة كونها تضخمت بفعل بث صور متعددة فيها لتشكيل الاشتغال الأكبر الذي ينحو نحو التأكيد لأفعال السلطة ومؤسساتها ، وهذه الصور من التخويف والترهيب والتشويه للأخر وبناء منظومة قيمية متفوقة عليه جعلت اللاوعي عن الجمهور العام الغربي يعتقد بضرورة التفوق لأجل الحماية اولاً ،وتسويق فكرة دمج الآخر بالحضارة ذات القطب الواحد ثانياً ، لذلك فقد قبعت أمم وحضارات تحت هذا الاضطهاد الثقافي والهيمنة الثقافية عليه بحجة التطوير والدمج والتغيير ، ومن هذه الصور ما كان مقرراً ان يُدرس في المدارس والجامعات وغيرها من المؤسسات التعليمية ، التي تقع خارج أسوار الحضارة الغربية فيسوق لنا (نغوجي واثيونغو) حول متطلبات الدراسة في المؤسسات التعليمية بأفريقيا ، وخصوصاً القائمة على تبني الفكر الغربي ولغته الرسمية وهي الانجليزية ، إذ أصبح من يتقنها في هذه المؤسسات يرتدي (عباءة حمراء) لتمييزه عن باقي الأفراد الدارسين فيها كعلامة تفوق وبالتالي فأن هذه اللغة ، أي الانجليزية صارت اللغة المسيطرة تقرر الدراسة الأدبية ، وتعزز السيطرة، توقفت دراسة أدب اللغات الكينية الشفاهي . وأنا اقرأ ، الآن ، في المدرسة الابتدائية النصوص المبسطة لديكنز ، وستيفن ، الى جانب رايدر هاجارد ، وصار جيم هوكنز ،واوليفر تويست ، وتوم براون – لا الأرنب والنمر والأسد – رفاق يومي في عالم الخيال . وفي المدرسة الثانوية ، سكوت وبرنار شو ، مع الكثير من رايدر هاجارد وجون بكان ، والآن باتون ، وكابتن و.ي.جونز. في ماكيريري درست الانكليزية : من تشوسر الى ت.س.اليوت مع شيء من جراهام غرين . من هنا كانت اللغة والأدب يأخذاننا ابعد فأبعد عن أنفسنا نحو نفوس أخرى ، من عالمنا الى عوالم أخرى ، كذلك الأمم الأخرى ومنها العربية التي وقعت تحت هيمنة الخطاب الغربي ،وأصبحت العالمية كمفهوم ومرجع للثقافة هي الأساس في رسم الصور القادرة بالتحكم بأي منتج أدبي وفني وحتى في العلوم المجردة ، إذا لم يأتي التأكيد من المرجع الثقافي الغربي ، بأن هذا الأديب ،أو الفنان ،أو المهندس ،أو الطبيب هو منتمي فكرياً وثقافياً الى المؤسسات الغربية ، حتى وان كان في داخل بلده ويزكى على نتاجه الثقافي من احد المؤسسات العربية لا يكون متفوقاً وناجحاً ويُهتم به عالميا من دون الإمضاء الغربي ، لذلك فأن ما قدم ثقافياً عن الآخر العربي المسلم خاصة والشرقي ومن يقع خارج الحضارة الغربية عامة ، دّون على وفق رغبة المؤسسات الغربية وليس من صنع الذات المحلية ، لذلك فأن نغمة الانتقاص مستمرة في أكثر الأحيان حول الآخر ، بحجة انه يقع خارج خارطة الفكر الغربي، وهذه الصورة كخطاب مهيمن يعبر عنها (جابر عصفور) في كتاب (الهوية الثقافية) في أنها واقع تمثل العالم (كما يمثله الغربي) هو المبدأ الذي يفتح أبواب الوقوع في اسر نزعة المركزية الأوربية الأمريكية ، اولاً :لأنه مبدأ يعني تحيزاً جغرافياً سياسياً ، ضمناً ،أو صراحة ، ويختزل صفات الإنسانية في دائرة بعينها لا تجاوز غرب أوربا في كتاب (العقاد) و (طه حسين) الباكرة على الأقل . وثانياً: لأنه مبدأ يتحرك على أساس تسليم مضمر مُؤداه ان تمثل العالم (كما يمثله الغربي) هو أسرع سبيل واضمنه الى التقدم الواعد . وثالثاً: لأنه ينطوي على تسليم مواز بثنائية الاعلى والأدنى ، ويرد صفه الاعلى الى مصاف (غربي) الذي لابد ان يصعد اليه كل من يريد مجاوزة وهاد (الشرقي) المتخلف الذي يستبدل به الصعود مقابلة أو نقيضه(الغربي).

إن هذه الحقيقة جعلت من الهيمنة كمفهوم ثقافي يأخذ عمقاً ابعد من نقط إلغاء ثقافة الآخر أو دمجها في ثقافة المرجع الثقافي العالمي (الغربي)، بل ان العملية تأخذ طابع ابعد مكمل لإلغاء الهوية الثقافية المحلية ، وهو ان عملية صياغة شكل وطبيعة ثقافة الآخر الجديدة قائمة أساساً على نسف كل نتاجه الثقافي والفكري الذي لا يتطابق حسب فهمهم مع المرجع الثقافي الغربي ، لذلك نرى بأن صورة العربي المسلم تأخذ ملامح أخرى في هذه الثقافة العالمية ، وعندما يذكر المسلم ذات الملامح العربية والشرقية ، تأتي منهم جاهزة ومعدة سلفاً تتطابق مع هويته كونه متخلف وبعيد عن الثقافة كون ثقافته المحلية قائمة على القتل والإرهاب وكون هذه الثقافة هي متجذرة وتعود الى طبيعته وقيمة أخلاقه ومنظومته الفكرية ، وبالتالي أصبح هذا الخطاب وصورته العالقة في ذهن الجمهور الغربي ، الذي هو صناعة المؤسسات المهيمنة بامتياز ، ملئ بهذه الأوصاف الدونية مقابل الصفات العليا صاحبة الحضارة للمواطن الغربي ، ومن هنا يجب على المواطن الغربي التسليم لهذه الأوصاف واعتناقها والاعتقاد بها ، وهي لم تأتي مباشرة ، أو تصنع في القرن الحالي ، بل هي نتيجة لما حفل به العقل الغربي وفكره المتعالي ضد الآخر العربي الشرقي المسلم . ومن هنا إذا أردنا ان نتأكد نحن العرب كمسلمين وشرقيين , نقرأ ما كتب عنا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وإذا أردنا ان نعرف مدى تطبيق الثقافة الغربية علينا كمرجع لتقليدها فلندقق في عدة جوانب ، منها : ان ما يُدرس في مدارسنا من لغات أوربية وغربية ليست فيها قصصنا وتراثنا وأخلاقنا وقيمنا ، بل ما يوجد هو القيم الغربية والأخلاق الغربية والعادات والتقاليد الغربية ، حتى ان الدارس العربي للغات الأوربية والأمريكية ، يلاحظ ان التغيير يشمل ملبسه ومأكله ، وكلما نذكر أمامه الثقافة العربية يستهجنها ويستشهد دائماً بالثقافة الغربية . ومن جانب أخر إذا أردنا ان نختبر صورة العربي في الثقافة الغربية ما علينا الا ان نقرأ مسرحية (عطيل) لشكسبير ونشاهد التمييز الذي يقع بحق (عطيل) الشرقي صاحب البشرة السمراء عن ثقافة المحيط الأوربي ، وكيف ان غيرته ، التي تُعد عيباً في الغرب قد قضت عليه ، وكيف ان عقله مغيب وهو قاتل البراءة الغربية المتمثلة بـ(دزدمونة) . كذلك إذا أردنا ان نرى ونتصور شكل البطل الغربي السوبرمان والمخلص نقرأ مسرحية (العاصفة) لشكسبير ايضاً ، أو رواية (روبنسون كروزو) للكاتب (دانيال ديفو) وهذه الإعمال وخصوصاً لشكسبير أصبحت من أوليات الدرس في مدارسنا وجامعاتنا وذلك لتأكيد مفهوم التفوق الغربي حتى في داخل المناهج الدراسية وتثبت صورة التفوق في عقول وأذهان أبناءنا والأجيال القادمة كما رُسخت هذه المعلومات فينا وفي من كانوا قبلنا ، لماذا لم تتناول المدارس وغيرها قصص من تاريخنا العربي في دراسة الأدب الانجليزي؟ ولماذا لم تدرس القيم السليمة التي يحملها المسلم العربي في المناهج الدراسية الغربية ؟ أم نحن يجب ان ننفذ ما يُطلب منا ويساق لنا ثقافياً وحضارياً دون ان نبحث عما في داخله ، وما ورائه من مقاصد ، فهل أدبنا قاصر ؟ أم غير جيد؟.

أن هذه التساؤلات وغيرها من حقنا ان نوجهها للأخر الغربي ونطلب منه تغيير الصورة السلبية عنا وعن رموزنا ومنهم (الرسول محمد ص) ، الذي أصبح مثار سخرية في الصحف الغربية ذات الحرية في التعبير، حتى على مقدسات الآخرين علماً إنهم علمونا ان الحرية في التعبير تنتهي عند حرية الآخرين وحدودهم الفكرية والدينية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها ، فلو كان الغربي جاد في بناء صورة جديدة عن الإسلام ورسوله وعن العربي الشرق أوسطي ، دون ان يكون هنا مقاصد خفية وراء استبعاد التغيير في المناهج الغربية ، واقصد المناهج التي تعدل من الصورة السلبية عن الشرق وحضارته وديانته ورموزه وأولهم الرسول محمد (ص) لكانت صور التعايش أفضل مما نشهده اليوم ، لكن من المستحيل ان تتغير صور الإساءة والتشويه التي جُبُل عليها الذهن الغربي ومؤسساته وسلطانه في كونها قائمة على نظام الهيمنة في رسم سياسات العالم نحو هدف محدد ، مفاده ان تبقى صور التعالي والتفوق باقية وفي مقابلها الانتقاص والإساءة والتشويه باقية ضد الآخر ، وما هيمنة الخطاب الغربي ثقافياً ومعرفياً ، هو صوره من صور الاستمرار بهذه الهيمنة ، وبالتالي إيجاد صورة سلبية أو ما يسمى بحسب المفهوم الغرامشي بـ(الحس العام) وهو مصطلح مطلق السلبية على وفق مفهوم (غرامشي) للهيمنة والذي جعل من المؤسسة الغربية قادرة على خلق أساطير للسيطرة على الآخر وتمكين سلطتها من بسط نفوذها وإرساء هيمنتها وحكمها بكافة المجالات ومنها الثقافية ، وبذلك استطاعت من خلق (حس عام) لدى مواطنيها عملت على تأكيده في رسم صورة الآخر ، بأنه مناقض وغير قادر على بناء نفسه فكرياً وثقافياً ، وهذه الصورة عملت على تأكيدها ايضاً في ثقافة الآخر نفسه وجعله يعتقدها فعلاً ، لذلك فأن مثال الحالة الثانية ، جاء على وفق ردود الأفعال التي لم تكن بالمستوى الحقيقي لازمة الرسوم المسيئة واكتفت الجماهير الشرقية والعربية المسلمة ، بالشجب والاستنكار ، دون الرد على هذا التشويه بأفعال حقيقية منها المقاطعة الاقتصادية والثقافية التي تجعل من المؤسسة الغربية تحاسب من قام بهذه الأفعال بشكل جدي ، لكن ردود الأفعال جاءت حتى على المستوى السياسي غير لائقة بهذه المصيبة الأخلاقية والإنسانية التي تعرض لها رسول الإسلام (محمد ص) ، وهي ليست الأولى على مر التاريخ ولا اعتقد بأنها الأخيرة ايضاً ، مادامت الهيمنة الثقافية مسيطرة علينا ، وكذلك مترسخة في ثقافتنا ، وغير قابلة للتغيير في الذات الغربية ومؤسساتها التي مازالت تسوق الصور المسيئة والمشوهة عن الإنسان الشرقي وأخلاقه وقيمه مستهدفة بذلك ديانته الإسلامية وخصوصاً عن العرب ، الذين اكتفوا بالشجب والاستنكار دون ان يطوروا وسائل الرد المناسب على هذه الإساءات ، بل حتى دون ان يفّعلوا قوانين ازدراء الديانات ، كما هو حاصل مع من يعتدي على (السامية/اليهود) عالمياً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى