لقد استدعى خاطر طفيف العودة إلى مقال التفكيكية، وفيه أشارة إلى المعطيات النقدية الأربعة:
الاختلاف
نقد التمركز
نظرية اللعب
علم الكتابة
الحضور والغياب
ويمكننا ان ندمج الحضور والغياب في الإختلاف أو كأثر للإختلاف.
إن الخاطرة طفيفة جداً، ولن احاول تطويرها، لأن الغرض منها ليس سيكولائي، بل توقيعي وتوثيقي. فلربما سنحت سانحة أرحب للتوسع فيها توسعاً شافياً.
البادِرة:
أورد أبو زيد، في مفهومه مقولة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن:
(كل ما جاء به القرآن حق، ويدل على الإختلاف، فالقول بالقدَر صحيح وله أصل من الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل من الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين، وسئل يوماً عن أهل القدَر وأهل الإجبار فقال: كل مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله. قال: وكذلك القول في الأسماء، فكل من سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب، ومن سماه كافراً فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأن القرآن قد دلَّ على هذه المعاني)(أبو زيد، نصر، مفهوم النص١٩٩٠،ص٢٤).
هذا منطلق جيد لتأسيس الإسقاط التفكيكي على النص القرآني، والذي ازاح فيه ابو نص تمركزية التأويل، في مبتدر دراسته الموضوعية، نافياً انتحاءه لاستبعاد المركزية، بذات الاتجاه التفكيكي، إذ يقول:
(إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية، ومتفقاً عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكر -من ثمَّ- إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص. إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة. أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها) (ابو زيد، ص٢٧).
لقد استغل محمد عمارة الجزء الأول من كلام أبي زيد، في مناظرته معه، وأحجم عن ذكر باقي النص، وهذا ما حفز المتطرفين للهجوم على نصر حامد ابو زيد، ورميه بالكفر، وكان ذلك إما لعدم فهمٍ من عمارة أو لسوء نية، والغالب عندي هو الثاني.
أنظر المناظرة:
إذا فأبو زيد لم ينفي الجذر اللاهوتي عن القرآن، بل نفى التمركزية اللاهوتية، وأعاد النص إلى محيطه الثقافي لإفساح مسارات التأويل الذي سماه (الفهم العلمي).
هكذا وضع ابو زيد التفكيك منهجاً أولياً، وكان بإمكان عمارة أو غيره أن يستفيدوا من ذلك لتجديد تأويلاتهم أولاً ولعدم غلق النص في التراث.
على أية حال؛ ففي خاطرتنا هذه سنتناول تطبيقات تفكيكية من التراث نفسه، نحددها في سياقات ثلاثة:
١- الأحرف السبعة. (التمركز النسبي)
٢- حركة الدوال، الإحتمالات أو (الاختلاف، والتأقيت والإحالة).
٣- التأثُّر الفقهي..الأحكام.
ويجدر التأكيد على نقطة ارتكازية، تتعلق بالنص وثقافته، أي تلك الثقافة الحيوية التي تولّد عنها النص وخالل حراكها، فأنشأ دواله، ومفاهيمه (الماصدقية) وحدوده ورسومه. إذ أن توافقية اللغة، هي التي تزخم المعنى، وتوجه القارئ، حتى أنه يبدو من الصعوبة بمكان أن نفهم الكوميديا الدانتية، دون التبحر في محيط أليجيري الثقافي، ولا يمكن أن نفهم الفردوس المفقود قبل أن نُلم بثقافة جون ميلتون..، كما لن نفهم النص العربي إلا من خلال تموضعه الزمكاني.
١- الأحرف السبعة:
لا أحد يجزم بمدلول حاسم للأحرف السبعة، لقد تعددت الآراء، بل هناك عشرات التأويلات لهذه المصطلح الذي أحيط به غموض أراه تاريخياً، والمسألة تحتاج لبحث دقيق، بحثٍ يغوص في الماضي، وليس في المعاجم، بل في التراث، وفي التأثيل، وبمناهج تتجاوز الوصفية والتاريخية إلى المقارنة والتحليلية. بل تحتاج دراسة هذه المسألة الخطِرة إلى التغلغل في علم المخطوطات، والبحث الأركيولوجي، وقد لا يجدي كل ذلك نفعاً بعد كل تلك المشاق. والأوفق هو طرح أقوى الفرضيات ثم تحليلها -ليس الفرضيات نفسها- بل باعتبارها محاججات، وديالكتيك، سوف نرى الرأى الذي يرى الأحرف السبعة هي لغات قبائل العرب، قريش وكنانة وهذيل...الخ. ومن يراها تقسيما سيكولائياً، احكاماً وأمثالاً..، ومن يدمج بينها وبين القراءات السبع ، ومن يراها إختلافات في النحو،..الخ.
ولنعد لمنشأ هذا المصطلح؛ أي السنة النبوية، وفق الصحاح المتعددة؛
فقد ورد بصحيح مسلم:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ عبدالْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
وانتهى الحديث دون تبيان لمعنى تلك الأحرف، والاحتمالات تتعدد، فإما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أدرك كنه تلك الأحرف، فلم يكن النبي بحاجة للشرح، أو أنه سكت مضضاً.
وننتقل إلى رواية أخرى:
حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عبيداللهِ بْنُ عبداللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا، لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ.
ويقصد ابن هشام هنا أن لا يتعلق الاختلاف بالأحكام الشرعية، إنما ينصب على ما لا تأثير له عليها، ولا على التوحيد من باب أولى، وهو قول لم يسنده ابن هشام بسند، بل رد عليه المؤَوِّلون بأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل من الإختلاف رخصة وتيسيراً، وما لا يتعلق بالأحكام لا رخصة فيه ولا تيسير على الأمة فنقضه الحديث.
ورواية ثالثة:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبداللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عبداللهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ ﷺ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ فَرَقًا، فَقَالَ لِي: "يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ﷺ".
ونرى أبي بن كعب، وقد خالطه الشك، فارعوى بعد تفسير الرسول ﷺ، ولكن الحديث لم يمتد ليشرح الأحرف السبعة شرحاً يقطع في المسألة.
وهنا نرى ان الرسول ﷺ قد أزاح النص عن تمركزيته القريشية دون أن يزيحه عن مركزيته الألوهية. وهكذا أثبت ثقافية النص، وفي نفس الوقت أوسع من نطاقها. لقد أربك ذلك المشهد كل من عمر بن الخطاب وأُبَيِّ بن كعب، حيث كانا ينظران للنص من خلال تمركزية مطلقة، وليست تلك سوى بداية الإختلاف حول المفهوم، التي توسعت حتى مسألة خلق القرآن فيما بعد. وفيما بينهما وما بعدهما كذلك، نشأت المذاهب والطوائف والتفاسير، وانطلق التأويل حتى بلغ مبلغاً جاوز فيه النص نفسه، كما يفعل الأحمديون، وما يقول به المعاصرون، وبما ترفع له السيوف. فلم يكن تفكيك النص تفكيكاً هانئاً هادئاً، لم يك تأويلات معرفية، بل فعلاً في التاريخ، بما هو صراعٌ تتداخل فيه العوامل النفسية بالسياسية بالإجتماعية، فخلق ذلك نصوصاً أخرى، تنجب بدورها نصوصاً فنصوصاً. فكان التفكيك مسيرة ومصيراً، متجاوزاً مجرد التنظيرات الدريدية وشروحاتها (إذ التفكيك كفلسفة ليس محصناً ضد نفسه).
٢- حركة الدوال، الإحتمالات التأويلية؛ (الإختلاف والتأقيت والإحالة):
أسلفنا القول، أن هذه الخاطرة هي توقيعية وتوثيقية؛ إذ ليس الغرض منها الدراسة بقدر أن الغرض منها هو خطاطة وانتباه، تمهيداً لتطويرها إلى ما يجب أن تكون عليه. وهذا اللزوم لازم لكي لا نؤاخذ بمعايير تفوق حجم الجهد اليسير هذا، وأما الطاعنون والمتربصون فهم غالبة لم تتغلب إلا بالترصد دون تمحيص أو فهم. ولذا جاز لنا أن نتناولَ مسألة حركة الدوال، التي أشارت لها التفكيكية، تطبيقاً فعلياً، وسنتلمس تلك الحركة في كلمة أو كلمتين؛ ولنأخذ لأجل ذلك كلاً من (أبِّا) و (مهطعين)، فإن تيسر لنا أن نزيد زدنا وإلا فلا.
سنرى في هاتين الكلمتين، تلك الحركة التي أشارت إليها التفكيكية، الحركة التي تبدأ بالإختلاف، ويحيل الإختلاف إلى المستقبل، وبالتالي يبقى التأويل في الراهن في حالة تأقيت مستمر:
لقد وردت كلمة أبَّا في سورة عبس في الآية (٣١)، "وفاكهة وأبَّا"
لقد انقسم المفسرون إلى طرائق قددا، فمنهم من اعتبر الأبَّ كل ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وفي رواية هو الحشيش للبهائم، وهو الكلأ، وأوسع آخرون فقالوا: هو كل ما نبت على وجه الأرض لحيوان أو لغير حيوان، واستثنى البعض منه الفاكهة (لأنها اقترنت به فلم يجز الترادف). وجاء في الأثر أن أبابكر الصديق حين سئل عنها قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وكذلك حين سأل ابن الخطاب أنكر عليه البعض السؤال.
وهنا نلاحظ مسألة هامة، وهي أن النص (إن صح خروجه عن علم الصحابة) فهو خارجٌ عن الثقافة التي نشأ فيها، فكان معطلاً عن الفعالية، لذلك حاول المفسرون أن يعيدوا إدخاله إلى دائرة الفعالية عبر التأويل السياقي. وهم يحمون النص، بالتحوط الرسولي؛ أي الأحرف السبعة. فيمكننا تلخيص ذلك التحوط بمقولة: ليس كل ما تجهله غير موجود. لقد ألقت الأحرف السبعة عن كاهل المُأوِّلين عبء التثبت من إنتساب النص لمحيطه الثقافي الأصلي (القريشي). لقد بات النص نصاً بذاته، ورغم ذلك لم يعزل عن كونه توافقاً مجتمعياً. لكننا سنجد أن هذا الأمر وإن صح نظرياً، لكنه لم يصح عملياً، أي عند الإنتقال إلى عملية استنباط الأحكام الشرعية كما سنورد لاحقاً.
وننتقل إلى مثال آخر هو كلمة "مهطعين" إذ لم يختلف وضعها كثيراً عن سابقتها، والتي وردت في سورة إبراهيم في الآية الثالثة والأربعين:
"مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ" (43)
وأما قوله ( مُهْطِعِينَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم: معناه: مسرعين.
ذِكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدّب ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ( مُهْطِعِينَ ) قال: النَّسَلان ، وهو الخبب ، أو ما دون الخبب ، شكّ أبو سعيد ، يخبون وهم ينظرون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مُهْطِعِينَ ) قال: مسرعين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة ( مُهْطِعِينَ ) يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون: معنى ذلك: مديمي النظر....، وقيل التحميج: أي التحديق المستمر، ومن لا يرفع رأسه.
ثم نرى عودتهم للمحيط الثقافي للقرآن فنجدهم يستدلون على الإسراع كمعنى للهطع من قول شاعر عربي:
وبمهطع سُرُحٍ كأن زمامه
في رأس جذع من أوال مشدب
وقول آخر:
بمستهطع رَسْلٍ كأن جديله
بقيدوم رعن من صوام ممنَّع.
وهكذا يبدو كل تأويل مؤقت، حيث ينفتح النص على المستقبل، فيحيل إليه، أي يقبع في إحتماليته.
نحن هنا استخدمنا ما هو واضح الوقوع في صميم التفكيكية..ولكننا لن نلمس المعضلة إلا حين ننتقل من التأويل الأدبي، إلى التأويل الحُكمي، أي ذلك الذي ينبني عليه الحكم الشرعي.
٣- التأثُّر الفقهي (التفكيكية والأحكام):
الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى الموجه إلى المكلفين، والذي يتخذ صورتي (التكليف والوضع) ولن نهتم بالوضع هنا كثيراً. ومجمل المجمع عليه من الكليات: الواجب والندب والإباحة والتحريم والكراهة). وهو مناط عمل الفقه، والفقه ليس له من عمل سوى بلوغ حكم أو أكثر من هذه الأحكام المترتبة على فعل بشري..إن بلوغ الفقيه للحكم، يمر بقواعد أصولية، ضمَّنها علماء أصول الفقه لضبط الاجتهاد الفقهي البشري. ومع ذلك، فالفقيه لا يعتمد على تلك الضوابط البيروقراطية فقط، بل لابد له من التأمل في مصادره المعتمدة (القرآن، السنة القياس الإجماع) وباقي المصادر المختلف حولها.
أي التبحر في النص لفظاً ومعنى، لتأويله التأويل الذي يرجِّحه على غيره من التأويلات.
وسنتخذ من لفظ السرقة نموذجاً للربط بين النص والتفكيك الدريدي.
كلمة سرقة أصلها من سرق يسرق سرِقة وسرَقة وسُراقة...
هذا اللفظ ورد إسم فاعله في سورة المائدة:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (38)
لكن كلمة سرق، وفعل السرقة، تدور في مناطها الزمكاني، أي معايير التواضع المجتمعي، سنجد مثلاً، أن عامة الناس يرون كل من يأخذ حقوقهم المالية دون وجه حق سارقاً، بل قد تستخدم تلك الكلمة لوصف أفعال آخرى، كسرقة الثورة، أو سرقة الأفكار، أو سرقة الانتخابات...الخ. فهي كلمة تختلف في المعنى وإن اتفقت في المبنى من مكان لمكان ومن زمان لزمان. ففي الحضارات القديمة، تستخدم لوصف كل فعل يحوز فيه شخص مال شخص دون وجه حق، وهو مفهوم واسع، امتد حتى الفترة الرومانية المسيحية، وأخذ يضيق ويتسع، بحسب توجهات الأنظمة المجتمعية والسياسية. ولذلك كان على الفقه الإسلامي أن يتعامل مع تلك المفردة دون موجهات سماوية (المركزية الإلهية) في التأويل.
لقد اختلفوا اختلافاً كبيراً، فمن حيث الفعل نفسه (الأخذ)، اشترط البعض فيه أن يكون خفية حتى يتميز عن النهب والغصب، وحتى هؤلاء، اختلفوا إن كانت الخفية -إن كانت مطلوبة- أهي ابتداءً وانتهاءً أم ابتداءً فقط، فرأى بعضهم هذا ورأى بعضهم ذاك، وهل كل أخذ خفية سرقة؟ فقال البعض أن يقع على مال؟ ولكن ما هو المال؟ اختلفوا حول ذلك فهل هو مال مادي أم معنوي، فهل يجوز سرقة الأفكار، وبراءات الإختراع، والنقود غير المادية؟ ثم اختلفوا إن كان لهذا المال قيمة مشروطة، فبعضهم اشترط النصاب وبعضهم لم يشترطع وبعضهم اشترطه في الذهب والفضة دون غيره، ثم اختلفوا في النصاب نفسه، ثم اختلفوا في اشتراط أن يكون المال محرزاً، ثم اختلفوا في نوع الحرز، ثم اختلفوا في مسائل المِلكية اختلافاً كبيراً، فأضحت "السرقة" كلمة بلا ضابط حاسم. إن النص ظل ثابتاً، ولكنه حاضرٌ في الغياب، مفتوح على لا نهاية المدلولات، او فلنقل في صيرورة دائمة وتزويد الفقهاء بسيل من الاحتمالات. فهنا لا مكان للمفاهيم التي تتسم بالبساطة والوضوح والفرادة والحضور الدائم والعزلة والتوافق والصياغة المطلقة وتواجد الحقيقة بشكل دائم والتواصل الدلالي....الخ.
هنا يمتاز النص القرآني بميزته كنص لغوي، أي بالقابلية للنمو والانكماش والتضخم. بل ويزداد ارتباطاً بمواضعاته الزمكانية، بل والفردية السيكولوجية والعقائدية والمواقفية والمذهبية والطائفية والسياسية والثقافية...دون توقف. إن النص لا يمكن استنزافه أبداً، والسارق والسارقة، اسم الفاعل والمفهوم من سَ رَ قَ أم من سارق، وبحسب التموضعات اللا نهائية يرى البعض (كما ورد في شرح المهذب) أن السارق هو من أشتهر بالسرقة، وهكذا نقع في دائرة أخرى من التأويل، ثم نرى حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ينقلنا من السرقة بمعناها اللغوي إلى معنى شرعي جديد إذ تكون الخيانة في عقود الأمانة سرقة، أم أنها لا تكون؟ هكذا تبعثرت التأويلات الفقهية أمام نص واحد: (والسارق والسارقة).
إن المركزية المطلقة انتهت بوفاة ناقل الرسالة (النص)، وانتقلنا من النص الإلهي المحمدي إلى التأويل البشري غير المعتمد، لقد انتقلنا من الإسلام المحمدي (عندما نحصر الإسلام في الرسلة (النص)، إلى إسلامات المُأوِّلين، فالتفكيكية لم تتحقق كنظرية بل كصيرورة أي (حدث تاريخي)، لا نعرف إن كانت قد بلغت ذروتها في عصرنا هذا أم لم تبلغها.
الاختلاف
نقد التمركز
نظرية اللعب
علم الكتابة
الحضور والغياب
ويمكننا ان ندمج الحضور والغياب في الإختلاف أو كأثر للإختلاف.
إن الخاطرة طفيفة جداً، ولن احاول تطويرها، لأن الغرض منها ليس سيكولائي، بل توقيعي وتوثيقي. فلربما سنحت سانحة أرحب للتوسع فيها توسعاً شافياً.
البادِرة:
أورد أبو زيد، في مفهومه مقولة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن:
(كل ما جاء به القرآن حق، ويدل على الإختلاف، فالقول بالقدَر صحيح وله أصل من الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل من الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين، وسئل يوماً عن أهل القدَر وأهل الإجبار فقال: كل مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله. قال: وكذلك القول في الأسماء، فكل من سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب، ومن سماه كافراً فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأن القرآن قد دلَّ على هذه المعاني)(أبو زيد، نصر، مفهوم النص١٩٩٠،ص٢٤).
هذا منطلق جيد لتأسيس الإسقاط التفكيكي على النص القرآني، والذي ازاح فيه ابو نص تمركزية التأويل، في مبتدر دراسته الموضوعية، نافياً انتحاءه لاستبعاد المركزية، بذات الاتجاه التفكيكي، إذ يقول:
(إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية، ومتفقاً عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكر -من ثمَّ- إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص. إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة. أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها) (ابو زيد، ص٢٧).
لقد استغل محمد عمارة الجزء الأول من كلام أبي زيد، في مناظرته معه، وأحجم عن ذكر باقي النص، وهذا ما حفز المتطرفين للهجوم على نصر حامد ابو زيد، ورميه بالكفر، وكان ذلك إما لعدم فهمٍ من عمارة أو لسوء نية، والغالب عندي هو الثاني.
أنظر المناظرة:
مناظرة الدكتور/ نصر حامد أبو زيد والدكتور/ محمد عمارة
تابعونا على صفحتنا على الفيسبوك : http://on.fb.me/1isQBbC
shorturl.at
هكذا وضع ابو زيد التفكيك منهجاً أولياً، وكان بإمكان عمارة أو غيره أن يستفيدوا من ذلك لتجديد تأويلاتهم أولاً ولعدم غلق النص في التراث.
على أية حال؛ ففي خاطرتنا هذه سنتناول تطبيقات تفكيكية من التراث نفسه، نحددها في سياقات ثلاثة:
١- الأحرف السبعة. (التمركز النسبي)
٢- حركة الدوال، الإحتمالات أو (الاختلاف، والتأقيت والإحالة).
٣- التأثُّر الفقهي..الأحكام.
ويجدر التأكيد على نقطة ارتكازية، تتعلق بالنص وثقافته، أي تلك الثقافة الحيوية التي تولّد عنها النص وخالل حراكها، فأنشأ دواله، ومفاهيمه (الماصدقية) وحدوده ورسومه. إذ أن توافقية اللغة، هي التي تزخم المعنى، وتوجه القارئ، حتى أنه يبدو من الصعوبة بمكان أن نفهم الكوميديا الدانتية، دون التبحر في محيط أليجيري الثقافي، ولا يمكن أن نفهم الفردوس المفقود قبل أن نُلم بثقافة جون ميلتون..، كما لن نفهم النص العربي إلا من خلال تموضعه الزمكاني.
١- الأحرف السبعة:
لا أحد يجزم بمدلول حاسم للأحرف السبعة، لقد تعددت الآراء، بل هناك عشرات التأويلات لهذه المصطلح الذي أحيط به غموض أراه تاريخياً، والمسألة تحتاج لبحث دقيق، بحثٍ يغوص في الماضي، وليس في المعاجم، بل في التراث، وفي التأثيل، وبمناهج تتجاوز الوصفية والتاريخية إلى المقارنة والتحليلية. بل تحتاج دراسة هذه المسألة الخطِرة إلى التغلغل في علم المخطوطات، والبحث الأركيولوجي، وقد لا يجدي كل ذلك نفعاً بعد كل تلك المشاق. والأوفق هو طرح أقوى الفرضيات ثم تحليلها -ليس الفرضيات نفسها- بل باعتبارها محاججات، وديالكتيك، سوف نرى الرأى الذي يرى الأحرف السبعة هي لغات قبائل العرب، قريش وكنانة وهذيل...الخ. ومن يراها تقسيما سيكولائياً، احكاماً وأمثالاً..، ومن يدمج بينها وبين القراءات السبع ، ومن يراها إختلافات في النحو،..الخ.
ولنعد لمنشأ هذا المصطلح؛ أي السنة النبوية، وفق الصحاح المتعددة؛
فقد ورد بصحيح مسلم:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ عبدالْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
وانتهى الحديث دون تبيان لمعنى تلك الأحرف، والاحتمالات تتعدد، فإما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أدرك كنه تلك الأحرف، فلم يكن النبي بحاجة للشرح، أو أنه سكت مضضاً.
وننتقل إلى رواية أخرى:
حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عبيداللهِ بْنُ عبداللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا، لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ.
ويقصد ابن هشام هنا أن لا يتعلق الاختلاف بالأحكام الشرعية، إنما ينصب على ما لا تأثير له عليها، ولا على التوحيد من باب أولى، وهو قول لم يسنده ابن هشام بسند، بل رد عليه المؤَوِّلون بأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل من الإختلاف رخصة وتيسيراً، وما لا يتعلق بالأحكام لا رخصة فيه ولا تيسير على الأمة فنقضه الحديث.
ورواية ثالثة:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبداللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عبداللهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ ﷺ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ فَرَقًا، فَقَالَ لِي: "يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ﷺ".
ونرى أبي بن كعب، وقد خالطه الشك، فارعوى بعد تفسير الرسول ﷺ، ولكن الحديث لم يمتد ليشرح الأحرف السبعة شرحاً يقطع في المسألة.
وهنا نرى ان الرسول ﷺ قد أزاح النص عن تمركزيته القريشية دون أن يزيحه عن مركزيته الألوهية. وهكذا أثبت ثقافية النص، وفي نفس الوقت أوسع من نطاقها. لقد أربك ذلك المشهد كل من عمر بن الخطاب وأُبَيِّ بن كعب، حيث كانا ينظران للنص من خلال تمركزية مطلقة، وليست تلك سوى بداية الإختلاف حول المفهوم، التي توسعت حتى مسألة خلق القرآن فيما بعد. وفيما بينهما وما بعدهما كذلك، نشأت المذاهب والطوائف والتفاسير، وانطلق التأويل حتى بلغ مبلغاً جاوز فيه النص نفسه، كما يفعل الأحمديون، وما يقول به المعاصرون، وبما ترفع له السيوف. فلم يكن تفكيك النص تفكيكاً هانئاً هادئاً، لم يك تأويلات معرفية، بل فعلاً في التاريخ، بما هو صراعٌ تتداخل فيه العوامل النفسية بالسياسية بالإجتماعية، فخلق ذلك نصوصاً أخرى، تنجب بدورها نصوصاً فنصوصاً. فكان التفكيك مسيرة ومصيراً، متجاوزاً مجرد التنظيرات الدريدية وشروحاتها (إذ التفكيك كفلسفة ليس محصناً ضد نفسه).
٢- حركة الدوال، الإحتمالات التأويلية؛ (الإختلاف والتأقيت والإحالة):
أسلفنا القول، أن هذه الخاطرة هي توقيعية وتوثيقية؛ إذ ليس الغرض منها الدراسة بقدر أن الغرض منها هو خطاطة وانتباه، تمهيداً لتطويرها إلى ما يجب أن تكون عليه. وهذا اللزوم لازم لكي لا نؤاخذ بمعايير تفوق حجم الجهد اليسير هذا، وأما الطاعنون والمتربصون فهم غالبة لم تتغلب إلا بالترصد دون تمحيص أو فهم. ولذا جاز لنا أن نتناولَ مسألة حركة الدوال، التي أشارت لها التفكيكية، تطبيقاً فعلياً، وسنتلمس تلك الحركة في كلمة أو كلمتين؛ ولنأخذ لأجل ذلك كلاً من (أبِّا) و (مهطعين)، فإن تيسر لنا أن نزيد زدنا وإلا فلا.
سنرى في هاتين الكلمتين، تلك الحركة التي أشارت إليها التفكيكية، الحركة التي تبدأ بالإختلاف، ويحيل الإختلاف إلى المستقبل، وبالتالي يبقى التأويل في الراهن في حالة تأقيت مستمر:
لقد وردت كلمة أبَّا في سورة عبس في الآية (٣١)، "وفاكهة وأبَّا"
لقد انقسم المفسرون إلى طرائق قددا، فمنهم من اعتبر الأبَّ كل ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وفي رواية هو الحشيش للبهائم، وهو الكلأ، وأوسع آخرون فقالوا: هو كل ما نبت على وجه الأرض لحيوان أو لغير حيوان، واستثنى البعض منه الفاكهة (لأنها اقترنت به فلم يجز الترادف). وجاء في الأثر أن أبابكر الصديق حين سئل عنها قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وكذلك حين سأل ابن الخطاب أنكر عليه البعض السؤال.
وهنا نلاحظ مسألة هامة، وهي أن النص (إن صح خروجه عن علم الصحابة) فهو خارجٌ عن الثقافة التي نشأ فيها، فكان معطلاً عن الفعالية، لذلك حاول المفسرون أن يعيدوا إدخاله إلى دائرة الفعالية عبر التأويل السياقي. وهم يحمون النص، بالتحوط الرسولي؛ أي الأحرف السبعة. فيمكننا تلخيص ذلك التحوط بمقولة: ليس كل ما تجهله غير موجود. لقد ألقت الأحرف السبعة عن كاهل المُأوِّلين عبء التثبت من إنتساب النص لمحيطه الثقافي الأصلي (القريشي). لقد بات النص نصاً بذاته، ورغم ذلك لم يعزل عن كونه توافقاً مجتمعياً. لكننا سنجد أن هذا الأمر وإن صح نظرياً، لكنه لم يصح عملياً، أي عند الإنتقال إلى عملية استنباط الأحكام الشرعية كما سنورد لاحقاً.
وننتقل إلى مثال آخر هو كلمة "مهطعين" إذ لم يختلف وضعها كثيراً عن سابقتها، والتي وردت في سورة إبراهيم في الآية الثالثة والأربعين:
"مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ" (43)
وأما قوله ( مُهْطِعِينَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم: معناه: مسرعين.
ذِكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدّب ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ( مُهْطِعِينَ ) قال: النَّسَلان ، وهو الخبب ، أو ما دون الخبب ، شكّ أبو سعيد ، يخبون وهم ينظرون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مُهْطِعِينَ ) قال: مسرعين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة ( مُهْطِعِينَ ) يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون: معنى ذلك: مديمي النظر....، وقيل التحميج: أي التحديق المستمر، ومن لا يرفع رأسه.
ثم نرى عودتهم للمحيط الثقافي للقرآن فنجدهم يستدلون على الإسراع كمعنى للهطع من قول شاعر عربي:
وبمهطع سُرُحٍ كأن زمامه
في رأس جذع من أوال مشدب
وقول آخر:
بمستهطع رَسْلٍ كأن جديله
بقيدوم رعن من صوام ممنَّع.
وهكذا يبدو كل تأويل مؤقت، حيث ينفتح النص على المستقبل، فيحيل إليه، أي يقبع في إحتماليته.
نحن هنا استخدمنا ما هو واضح الوقوع في صميم التفكيكية..ولكننا لن نلمس المعضلة إلا حين ننتقل من التأويل الأدبي، إلى التأويل الحُكمي، أي ذلك الذي ينبني عليه الحكم الشرعي.
٣- التأثُّر الفقهي (التفكيكية والأحكام):
الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى الموجه إلى المكلفين، والذي يتخذ صورتي (التكليف والوضع) ولن نهتم بالوضع هنا كثيراً. ومجمل المجمع عليه من الكليات: الواجب والندب والإباحة والتحريم والكراهة). وهو مناط عمل الفقه، والفقه ليس له من عمل سوى بلوغ حكم أو أكثر من هذه الأحكام المترتبة على فعل بشري..إن بلوغ الفقيه للحكم، يمر بقواعد أصولية، ضمَّنها علماء أصول الفقه لضبط الاجتهاد الفقهي البشري. ومع ذلك، فالفقيه لا يعتمد على تلك الضوابط البيروقراطية فقط، بل لابد له من التأمل في مصادره المعتمدة (القرآن، السنة القياس الإجماع) وباقي المصادر المختلف حولها.
أي التبحر في النص لفظاً ومعنى، لتأويله التأويل الذي يرجِّحه على غيره من التأويلات.
وسنتخذ من لفظ السرقة نموذجاً للربط بين النص والتفكيك الدريدي.
كلمة سرقة أصلها من سرق يسرق سرِقة وسرَقة وسُراقة...
هذا اللفظ ورد إسم فاعله في سورة المائدة:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (38)
لكن كلمة سرق، وفعل السرقة، تدور في مناطها الزمكاني، أي معايير التواضع المجتمعي، سنجد مثلاً، أن عامة الناس يرون كل من يأخذ حقوقهم المالية دون وجه حق سارقاً، بل قد تستخدم تلك الكلمة لوصف أفعال آخرى، كسرقة الثورة، أو سرقة الأفكار، أو سرقة الانتخابات...الخ. فهي كلمة تختلف في المعنى وإن اتفقت في المبنى من مكان لمكان ومن زمان لزمان. ففي الحضارات القديمة، تستخدم لوصف كل فعل يحوز فيه شخص مال شخص دون وجه حق، وهو مفهوم واسع، امتد حتى الفترة الرومانية المسيحية، وأخذ يضيق ويتسع، بحسب توجهات الأنظمة المجتمعية والسياسية. ولذلك كان على الفقه الإسلامي أن يتعامل مع تلك المفردة دون موجهات سماوية (المركزية الإلهية) في التأويل.
لقد اختلفوا اختلافاً كبيراً، فمن حيث الفعل نفسه (الأخذ)، اشترط البعض فيه أن يكون خفية حتى يتميز عن النهب والغصب، وحتى هؤلاء، اختلفوا إن كانت الخفية -إن كانت مطلوبة- أهي ابتداءً وانتهاءً أم ابتداءً فقط، فرأى بعضهم هذا ورأى بعضهم ذاك، وهل كل أخذ خفية سرقة؟ فقال البعض أن يقع على مال؟ ولكن ما هو المال؟ اختلفوا حول ذلك فهل هو مال مادي أم معنوي، فهل يجوز سرقة الأفكار، وبراءات الإختراع، والنقود غير المادية؟ ثم اختلفوا إن كان لهذا المال قيمة مشروطة، فبعضهم اشترط النصاب وبعضهم لم يشترطع وبعضهم اشترطه في الذهب والفضة دون غيره، ثم اختلفوا في النصاب نفسه، ثم اختلفوا في اشتراط أن يكون المال محرزاً، ثم اختلفوا في نوع الحرز، ثم اختلفوا في مسائل المِلكية اختلافاً كبيراً، فأضحت "السرقة" كلمة بلا ضابط حاسم. إن النص ظل ثابتاً، ولكنه حاضرٌ في الغياب، مفتوح على لا نهاية المدلولات، او فلنقل في صيرورة دائمة وتزويد الفقهاء بسيل من الاحتمالات. فهنا لا مكان للمفاهيم التي تتسم بالبساطة والوضوح والفرادة والحضور الدائم والعزلة والتوافق والصياغة المطلقة وتواجد الحقيقة بشكل دائم والتواصل الدلالي....الخ.
هنا يمتاز النص القرآني بميزته كنص لغوي، أي بالقابلية للنمو والانكماش والتضخم. بل ويزداد ارتباطاً بمواضعاته الزمكانية، بل والفردية السيكولوجية والعقائدية والمواقفية والمذهبية والطائفية والسياسية والثقافية...دون توقف. إن النص لا يمكن استنزافه أبداً، والسارق والسارقة، اسم الفاعل والمفهوم من سَ رَ قَ أم من سارق، وبحسب التموضعات اللا نهائية يرى البعض (كما ورد في شرح المهذب) أن السارق هو من أشتهر بالسرقة، وهكذا نقع في دائرة أخرى من التأويل، ثم نرى حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ينقلنا من السرقة بمعناها اللغوي إلى معنى شرعي جديد إذ تكون الخيانة في عقود الأمانة سرقة، أم أنها لا تكون؟ هكذا تبعثرت التأويلات الفقهية أمام نص واحد: (والسارق والسارقة).
إن المركزية المطلقة انتهت بوفاة ناقل الرسالة (النص)، وانتقلنا من النص الإلهي المحمدي إلى التأويل البشري غير المعتمد، لقد انتقلنا من الإسلام المحمدي (عندما نحصر الإسلام في الرسلة (النص)، إلى إسلامات المُأوِّلين، فالتفكيكية لم تتحقق كنظرية بل كصيرورة أي (حدث تاريخي)، لا نعرف إن كانت قد بلغت ذروتها في عصرنا هذا أم لم تبلغها.