في عام 1976 قدّمَ برنارد بمورانس في مسرحيته «الرجل الفيل»، الطبيب "ترايفز" الذي يحاول علاج جون ميريك من تشوه فظيع بالوجه جعله عاجزا عن مواجهة العالم، فيقول الطبيب أنه لا سبيل غير العلاج حتى وإن كان سيتسبب في موتك، ما يعني أنك كي تعيش معنا عليك أن تكون مثلنا.
لا تخرج مسرحية «الرجل الفيل» عن ثنائية العلاج أو الموت، فرغم مساعدات الطبيب لتحويل "ميريك" من شخص عاجز إلى صحيح قادر، إلا أنه يحمّله كامل المسؤولية في الشفاء من مرضه، وهكذا يتم تهيئة الجمهور لعدم الارتياح مع أولئك الذين يستسلمون للعجز الكامل ولا يسعون إلى العلاج.
ولعل هذه النظرة التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية، لم تتصالح مع المعاق في ذاته تماما، ولكنها انتقدت الاستسلام والخنوع للإعاقة. وساعد انتشار نظرية "داروين" -حيث ينص الانتخاب الطبيعي أن البقاء للأصلح- على إعادة التفكير بشأن المعاقين إذا كانوا ضمن مفهوم "الأصلح" أم لا، ونادى بعض المفكرين بوقف المُساعدات لهذه الفئة، ونمى تيار "نيتشة" الذي ينادي بالجنس المتفوق، واعتبار المُعاقين مجرد عالة على المجتمع، لا يقدرون على إدارته، ولا خدمته، ولا يمثلون له أية إفادة تُذكر.
ومنذ مطلع القرن العشرين بدأت دعوات تنادي بتجاوز النظرة القديمة إلى المُعاقين، واستبدال لفظ "المعاق" بذوي الاحتياجات الخاصة، وألحت ظروف الحربين العالميتين على بحث سبل عملية لمكانة المُعاق في المجتمع، وظهر في ذلك فريقان، الأول طالب بالنظر إليهم كمجتمع مستقل، وبحث سبل لدمجهم في المجتمع من خلال دراسة التقاطعات والاحتياجات المتبادلة، أما الآخر فقد طالب بضرورة تكثيف البحث العلمي لإيجاد سبل جديدة لعلاجهم وجعلهم أصحاء، وانتشر شعار إما العلاج.. أو الموت.
ولقد استوعب المسرح الأوروبي هذه التغيرات الاجتماعية والثقافية، ولأول مرة صار "المعاق" بإمكانه أن يمتلك خشبة المسرح لساعة من الزمن، نراه فيها على حقيقته، وندخل إلى عالمه، ونعرف بماذا يشعر، وكيف يفكر، سواء كان هذا المُعاق شخصًا أو شخصيةً درامية. وعلى الجانب الآخر؛ اجتهد كُتاب الدراما لتقريب المسافة بين القادرين والعجزة ليفهم كل منهم الآخر، فالعجز عن الفهم إعاقة أيضًا، وتعد مسرحية أبناء الصمت لـ مارك ميدوف، من أبرز النماذج في هذا المضمار، حيث تناولت محاولات مدرس لتعليم اللغة المنطوقة لمجموعة من الصم وضعاف السمع، مُبتكرًا في ذلك أساليب جديدة، لكن إحدى الطالبات ترفض الخضوع لتجارب المدرس، والتي تراها نوعًا من العنصرية يمارسها المجتمع مدعيا القوامة على من يختلف عنهم، فإن كان هناك من يعجز عن التواصل بلغة الإشارة، فهو المعاق وليس نحن.
إن الإنسان على مر تاريخه لم يتخلص من النظر إلى نفسه بنرجسية، ومحاولة تنميط الكون على قدر أدواته، والنظر إلى أي اختلاف على أنه شذوذ وينبغي التخلص منه، وربما هذا ما واجهه كولومبس في تعامله مع الهنود الحُمر، فما يراه كولومبس وشعبه ثمينا ونفيسَا، يدوسونه هم بالأقدام، وهكذا غلب فهمه واحارب من أجل فرض قوانينه عليهم. ويمكن النظر إلى عمليات زراعة القوقعة للصم مرحلة الطفولة تحديدًا، أي المرحلة التي يعجزون فيها عن تقييم قرارتهم بالقبول أو الرفض، بأنه إحدى مظاهر الإبادة العرقية.
ولقد سعى بعضُ كُتاب مدرسة العبث إلى تقريب المساحات الإنسانية المشتركة، وتقويض العجز الناجم عن اللغة المُعتادة عبر التنبيه لإمكانية خلق سُبل تواصل جديدة، وقدرة الصمت على قيادة ملحمة درامية كاملة، ولعل عرض "ليل وأحلام" لصمويل بيكيت خير مثال على ذلك، حيث يسعى شخص أعمى للتواصل مع كسيح، بطريقة تسقط معها اللغة المنطوقة، ويحلمُ أحدهما أنه يتخطى جميع الحواجز، فيشاركه الآخر حلمه، وهكذا عندما يصغي الإنسان إلى ذاته يرتد إلى جوهرِه الأوليّ.
وقد عرضت الباحثة إيما ماكلين بعض نماذج الدراما في القرن العشرين، ما أسمته بـ "مسرح النقاهة" حيث يعرض لنماذج من العجز الجسدي، بعضها يتعافى على مدار المسرحية، وبعضها يشفى تلقائيًا، ما يجعل أن السعي إلى الشفاء من العجز الجسدي هو جوهر الدراما. تقول الروائية والباحثة إديث م. ستيرن، إن المسألة لا تكمُن في أن تزول الإعاقة بالفعل، ولكن أن تزول نتائجها التي تتمثل في الضعف والخنوع والاستسلام للعجز. وتشير إلى ضرورة توفير الأمان والاعتماد على النفس، والقضاء على الشعور بالاختلاف، حينها يمكن أن يفيد التعليم في تهيئته للتعامل معه إعاقته، وإيجاد أساليب جديدة للقراءة والاستماع وإنعاش المخيلة بكل ما يمكن أن تصل له الحواس، باختصار أنه كلما ساهمنا في توفير بيئة من الاهتمام والتقدير للشخص العاجز فحينها لن يكون عاجزًا.
تروي الممثلة والكاتبة الفرنسية إيمانويل لابوري، في مذكراتها، أن أكبر الأزمات التي شعرت بها ليس في أنها صمّاء عاجزة عن السمع والكلام، ولكن عجز الآخرين عن التواصل معها هو الجحيم بعينه. وتوضح "لابوري"، أن التعامل معها كشخص هامشي ليس له الحق في الفعل، بل دائمًا يكون مفعولا به كما يشاؤون، هو الذي يمكن أن يستثير لديها الشعور بالدونية، وبالتالي السخط على المُجتمع ككل، فهل ينبغي أن يتعلّم الأصم الكلام؟ أم يتعلم المتكلم لغة الإشارة؟ هل السعي يكون من طرف واحد؟
"لقد دفعوني دفعًا نحو الوحدة، نحو الزمن الذي كنت أجذب فيه أمي من كمها كي تنصت إليّ، إلى زمن كانت أصغر تكشيرة من والدي تقلقني، الوقتُ الذي كان فيه عالم الذين يسمعون يُمثلُ غموضًا هائلا، ومجموعة من أشكال عدم التفاهم المُتعدد، كوكب غير معروف، وخطير. لو كانوا تركوني أتكلم بإيقاعي وبصوتي لو احترموا الفرد الذي أمثلُه، ما كانت هذه الكومة من عدم الفهم لتظهر، ولما شعرتُ بأشكال الظلم وربما هدأ تمردي، وحمقي".
يُعتبر الجزء الأروع في مذكرات إيمانويل لابوري، هو عندما تشرح كيف بدأت علاقتها بالتمثيل على المسرح، وكيف استطاعت هذه الخشبة الساحرة أن تُذيب الكثير من السخط لديها، وأن تلفت نظرها إلى أن لها موقعًا محددًا خاصًا بها، فالممثلون مهما كانت أدوارهم في العرض، فلكل موقعه الخاص على الخشبة، وهذا ما دفعها لتنظر إلى نفسها من جديد، وتتعرف على طاقات جديدة للتواصل الإنساني؛ تفوقُ اللغةَ المنطوقةَ عُمقًا وفلسفة، هي طاقة الجسد.
"وأخيرًا وجدتها! أمر خلاب! إنني أستشعرُ الذبذبات الإيجابية أو السلبية، حرارة الجمهور أو برودته. ها أنا أكتشفُ شيئًا لا يُمكن تفسيره. لا بالكلمات، ولا بالإشارات. إنه شيء فيما وراء المفردات، والكلام، والأصوات. إنه... ربما هو نوع من الامتزاج الغامض. لا أعرف ما هو تحديدًا، ولكنني وجدته، وأمسكتُ به! كان النقد رائعًا... شكرًا لاعترافهم بي ممثلة كوميدية. الممثلون المحترفون قي المسرح والسينما، والمتأثرون بكل ما يتعلق بمجال الصوت وكيف أنه وسيلة للتعبير عن المشاعر، يعرفون بذلك أمرًا يُصرّ الممثلون المحترفون الصم على رفضه. ضج المسرح بالتصفيق لنا كل ليلة. عرفتُ أن أحد المتفرجين الذي كان أبا لطفلة صماء، قرر أن يعلم ابنته لغة الإشارات. فقد كان رافضا لذلك بشكل قاطع، حتى اليوم الذي شاهد فيه مسرحيتنا قال لنا إنه بكى وفهم. وبكيت معه. ثم انطلقنا وحلقنا. وذهبنا بعيدًا. ومثّلنا بعيدًا. يدفعنا النجاح والحب أيضًا، فلم أعد "أنا" بل أصبحتُ "نحن".
في مسرحية بعنوان «أولادنا»، قدّم الكاتب جونثان لويس، ستة من قدامى المحاربين في الجيش، يعانون من تشوهات جسدية بشعة، تعوقهم عن الحركة بطبيعية. ورغم الحديث طوال المسرحية عن النظام الطبي، والالتزام بالعلاج، إلا أننا لا نرى طبيبا مطلقا، ومع ذلك يستمر الرجال في الالتزام بالعلاج والإرشادات الطبية، من أجل الاستشفاء وحتى يمكن إطلاق سراحهم من المشفى. ويشعر المشاهد أنه مجرد فقاعة تحت المظهر الخارجي، والرسالة واضحة: العيش كشخص معاق لا يمثل وسيلة للعيش.
كل هذه المسرحيات تفترض أن القدرة الجسدية هي الخيار الأفضل، إن لم يكن الوحيد لحياة جيدة، وينهض البناء الدرامي على ثنائية القدرة الجسدية في مواجهة الإعاقة المتأخرة، وتصرح الشخصيات بأنها تفضل الموت على الحياة بعجز. ويميل المسرح الأوروبي حاليًا إلى تطوير الدور التفاعلي للفن، ولقد لُوحظ مؤخرًا أن الجماهير تتفاعل أكثر مع التشوه الجسدي الظاهر، وأنه كلما كان الارتكاز على إعاقة ظاهرية/ جسدية كان ذلك له دور كبير في توضيح دلالات هذه الإعاقة وخلق سبل تواصل مستمر مع المُشاهدين. ويعرض براين كلارك في مسرحية "من يمتلك الحياة؟"، لشخص تعرض لإعاقة جسدية كاملة، بسبب حادث سيارة، ألزمه الفراش لستة أشهر، ما جعله يفضل الموت على الاستمرار في الحياة على سرير.
وفي مسرحية "أوقات جريتي الطيب" لـ جون بيلوسو*، يعاني "جريتي" من شلل الأطفال لأكثر من 15 عامًا، ويصبح الموت أكثر شيئًا مرغوبا له، ما يجعل المشاهد غير مستعد للتفاعل مع الشخص "المعاق" الخانع المستسلم للحياة، ويؤكد للمشاهد أيضًا أن الحياة العاطلة للشخص الصحيح تشابه تماما حياة شخص على كرسي مُدولب.
وفي عام 1945 وضع الكاتبُ الأمريكي تينسي ويليامز، مسرحية الحيوانات الزجاجية، حيثُ قدّمَ أسرة تتكون من أم وابنها وابنتها العرجاء "لاورا" والتي تعيش في عزلة مع حيواناتها الزجاجية، في انتظار عريس يأتي لخطبتها، ولكن ذلك لا يحدث، ويصبح الانتظار مأساة تقود إلى مأساة جديدة، وهنا يطرق "ويليامز" على مسألة أن الإعاقة التي تقود إلى الارتكان والخنوع، تنتقص من المرء إنسانيته ولن تؤدي به إلا إلى هلاكٍ مُبين.
لقد حرصَ الكاتبُ المسرحي في أوروبا منذ منتصف القرن الماضي، على إثارة قضية "مكانة ودور ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع والقوانين"، وساهم في تهيئة خشبة المسرح لاستقبال آلام ومعاناة فئة ظلت مهمشة كثيرا عن الدراما المسرحية. أما المسرح العربي فقد عانى فترة طويلة من نمطية إبداعية، تحكمت فيها ظروف الحرب والاستعمار، والفقر، ومازالت تنقصه النظرة الإنسانية إلى آلام المجتمع العربي، وتركيز العدسة على رصد فئات جديدة من المُهمشين ودعوة معاناتهم للصعود على خشبة المسرح.
لا تخرج مسرحية «الرجل الفيل» عن ثنائية العلاج أو الموت، فرغم مساعدات الطبيب لتحويل "ميريك" من شخص عاجز إلى صحيح قادر، إلا أنه يحمّله كامل المسؤولية في الشفاء من مرضه، وهكذا يتم تهيئة الجمهور لعدم الارتياح مع أولئك الذين يستسلمون للعجز الكامل ولا يسعون إلى العلاج.
ولعل هذه النظرة التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية، لم تتصالح مع المعاق في ذاته تماما، ولكنها انتقدت الاستسلام والخنوع للإعاقة. وساعد انتشار نظرية "داروين" -حيث ينص الانتخاب الطبيعي أن البقاء للأصلح- على إعادة التفكير بشأن المعاقين إذا كانوا ضمن مفهوم "الأصلح" أم لا، ونادى بعض المفكرين بوقف المُساعدات لهذه الفئة، ونمى تيار "نيتشة" الذي ينادي بالجنس المتفوق، واعتبار المُعاقين مجرد عالة على المجتمع، لا يقدرون على إدارته، ولا خدمته، ولا يمثلون له أية إفادة تُذكر.
ومنذ مطلع القرن العشرين بدأت دعوات تنادي بتجاوز النظرة القديمة إلى المُعاقين، واستبدال لفظ "المعاق" بذوي الاحتياجات الخاصة، وألحت ظروف الحربين العالميتين على بحث سبل عملية لمكانة المُعاق في المجتمع، وظهر في ذلك فريقان، الأول طالب بالنظر إليهم كمجتمع مستقل، وبحث سبل لدمجهم في المجتمع من خلال دراسة التقاطعات والاحتياجات المتبادلة، أما الآخر فقد طالب بضرورة تكثيف البحث العلمي لإيجاد سبل جديدة لعلاجهم وجعلهم أصحاء، وانتشر شعار إما العلاج.. أو الموت.
ولقد استوعب المسرح الأوروبي هذه التغيرات الاجتماعية والثقافية، ولأول مرة صار "المعاق" بإمكانه أن يمتلك خشبة المسرح لساعة من الزمن، نراه فيها على حقيقته، وندخل إلى عالمه، ونعرف بماذا يشعر، وكيف يفكر، سواء كان هذا المُعاق شخصًا أو شخصيةً درامية. وعلى الجانب الآخر؛ اجتهد كُتاب الدراما لتقريب المسافة بين القادرين والعجزة ليفهم كل منهم الآخر، فالعجز عن الفهم إعاقة أيضًا، وتعد مسرحية أبناء الصمت لـ مارك ميدوف، من أبرز النماذج في هذا المضمار، حيث تناولت محاولات مدرس لتعليم اللغة المنطوقة لمجموعة من الصم وضعاف السمع، مُبتكرًا في ذلك أساليب جديدة، لكن إحدى الطالبات ترفض الخضوع لتجارب المدرس، والتي تراها نوعًا من العنصرية يمارسها المجتمع مدعيا القوامة على من يختلف عنهم، فإن كان هناك من يعجز عن التواصل بلغة الإشارة، فهو المعاق وليس نحن.
إن الإنسان على مر تاريخه لم يتخلص من النظر إلى نفسه بنرجسية، ومحاولة تنميط الكون على قدر أدواته، والنظر إلى أي اختلاف على أنه شذوذ وينبغي التخلص منه، وربما هذا ما واجهه كولومبس في تعامله مع الهنود الحُمر، فما يراه كولومبس وشعبه ثمينا ونفيسَا، يدوسونه هم بالأقدام، وهكذا غلب فهمه واحارب من أجل فرض قوانينه عليهم. ويمكن النظر إلى عمليات زراعة القوقعة للصم مرحلة الطفولة تحديدًا، أي المرحلة التي يعجزون فيها عن تقييم قرارتهم بالقبول أو الرفض، بأنه إحدى مظاهر الإبادة العرقية.
ولقد سعى بعضُ كُتاب مدرسة العبث إلى تقريب المساحات الإنسانية المشتركة، وتقويض العجز الناجم عن اللغة المُعتادة عبر التنبيه لإمكانية خلق سُبل تواصل جديدة، وقدرة الصمت على قيادة ملحمة درامية كاملة، ولعل عرض "ليل وأحلام" لصمويل بيكيت خير مثال على ذلك، حيث يسعى شخص أعمى للتواصل مع كسيح، بطريقة تسقط معها اللغة المنطوقة، ويحلمُ أحدهما أنه يتخطى جميع الحواجز، فيشاركه الآخر حلمه، وهكذا عندما يصغي الإنسان إلى ذاته يرتد إلى جوهرِه الأوليّ.
وقد عرضت الباحثة إيما ماكلين بعض نماذج الدراما في القرن العشرين، ما أسمته بـ "مسرح النقاهة" حيث يعرض لنماذج من العجز الجسدي، بعضها يتعافى على مدار المسرحية، وبعضها يشفى تلقائيًا، ما يجعل أن السعي إلى الشفاء من العجز الجسدي هو جوهر الدراما. تقول الروائية والباحثة إديث م. ستيرن، إن المسألة لا تكمُن في أن تزول الإعاقة بالفعل، ولكن أن تزول نتائجها التي تتمثل في الضعف والخنوع والاستسلام للعجز. وتشير إلى ضرورة توفير الأمان والاعتماد على النفس، والقضاء على الشعور بالاختلاف، حينها يمكن أن يفيد التعليم في تهيئته للتعامل معه إعاقته، وإيجاد أساليب جديدة للقراءة والاستماع وإنعاش المخيلة بكل ما يمكن أن تصل له الحواس، باختصار أنه كلما ساهمنا في توفير بيئة من الاهتمام والتقدير للشخص العاجز فحينها لن يكون عاجزًا.
تروي الممثلة والكاتبة الفرنسية إيمانويل لابوري، في مذكراتها، أن أكبر الأزمات التي شعرت بها ليس في أنها صمّاء عاجزة عن السمع والكلام، ولكن عجز الآخرين عن التواصل معها هو الجحيم بعينه. وتوضح "لابوري"، أن التعامل معها كشخص هامشي ليس له الحق في الفعل، بل دائمًا يكون مفعولا به كما يشاؤون، هو الذي يمكن أن يستثير لديها الشعور بالدونية، وبالتالي السخط على المُجتمع ككل، فهل ينبغي أن يتعلّم الأصم الكلام؟ أم يتعلم المتكلم لغة الإشارة؟ هل السعي يكون من طرف واحد؟
"لقد دفعوني دفعًا نحو الوحدة، نحو الزمن الذي كنت أجذب فيه أمي من كمها كي تنصت إليّ، إلى زمن كانت أصغر تكشيرة من والدي تقلقني، الوقتُ الذي كان فيه عالم الذين يسمعون يُمثلُ غموضًا هائلا، ومجموعة من أشكال عدم التفاهم المُتعدد، كوكب غير معروف، وخطير. لو كانوا تركوني أتكلم بإيقاعي وبصوتي لو احترموا الفرد الذي أمثلُه، ما كانت هذه الكومة من عدم الفهم لتظهر، ولما شعرتُ بأشكال الظلم وربما هدأ تمردي، وحمقي".
يُعتبر الجزء الأروع في مذكرات إيمانويل لابوري، هو عندما تشرح كيف بدأت علاقتها بالتمثيل على المسرح، وكيف استطاعت هذه الخشبة الساحرة أن تُذيب الكثير من السخط لديها، وأن تلفت نظرها إلى أن لها موقعًا محددًا خاصًا بها، فالممثلون مهما كانت أدوارهم في العرض، فلكل موقعه الخاص على الخشبة، وهذا ما دفعها لتنظر إلى نفسها من جديد، وتتعرف على طاقات جديدة للتواصل الإنساني؛ تفوقُ اللغةَ المنطوقةَ عُمقًا وفلسفة، هي طاقة الجسد.
"وأخيرًا وجدتها! أمر خلاب! إنني أستشعرُ الذبذبات الإيجابية أو السلبية، حرارة الجمهور أو برودته. ها أنا أكتشفُ شيئًا لا يُمكن تفسيره. لا بالكلمات، ولا بالإشارات. إنه شيء فيما وراء المفردات، والكلام، والأصوات. إنه... ربما هو نوع من الامتزاج الغامض. لا أعرف ما هو تحديدًا، ولكنني وجدته، وأمسكتُ به! كان النقد رائعًا... شكرًا لاعترافهم بي ممثلة كوميدية. الممثلون المحترفون قي المسرح والسينما، والمتأثرون بكل ما يتعلق بمجال الصوت وكيف أنه وسيلة للتعبير عن المشاعر، يعرفون بذلك أمرًا يُصرّ الممثلون المحترفون الصم على رفضه. ضج المسرح بالتصفيق لنا كل ليلة. عرفتُ أن أحد المتفرجين الذي كان أبا لطفلة صماء، قرر أن يعلم ابنته لغة الإشارات. فقد كان رافضا لذلك بشكل قاطع، حتى اليوم الذي شاهد فيه مسرحيتنا قال لنا إنه بكى وفهم. وبكيت معه. ثم انطلقنا وحلقنا. وذهبنا بعيدًا. ومثّلنا بعيدًا. يدفعنا النجاح والحب أيضًا، فلم أعد "أنا" بل أصبحتُ "نحن".
في مسرحية بعنوان «أولادنا»، قدّم الكاتب جونثان لويس، ستة من قدامى المحاربين في الجيش، يعانون من تشوهات جسدية بشعة، تعوقهم عن الحركة بطبيعية. ورغم الحديث طوال المسرحية عن النظام الطبي، والالتزام بالعلاج، إلا أننا لا نرى طبيبا مطلقا، ومع ذلك يستمر الرجال في الالتزام بالعلاج والإرشادات الطبية، من أجل الاستشفاء وحتى يمكن إطلاق سراحهم من المشفى. ويشعر المشاهد أنه مجرد فقاعة تحت المظهر الخارجي، والرسالة واضحة: العيش كشخص معاق لا يمثل وسيلة للعيش.
كل هذه المسرحيات تفترض أن القدرة الجسدية هي الخيار الأفضل، إن لم يكن الوحيد لحياة جيدة، وينهض البناء الدرامي على ثنائية القدرة الجسدية في مواجهة الإعاقة المتأخرة، وتصرح الشخصيات بأنها تفضل الموت على الحياة بعجز. ويميل المسرح الأوروبي حاليًا إلى تطوير الدور التفاعلي للفن، ولقد لُوحظ مؤخرًا أن الجماهير تتفاعل أكثر مع التشوه الجسدي الظاهر، وأنه كلما كان الارتكاز على إعاقة ظاهرية/ جسدية كان ذلك له دور كبير في توضيح دلالات هذه الإعاقة وخلق سبل تواصل مستمر مع المُشاهدين. ويعرض براين كلارك في مسرحية "من يمتلك الحياة؟"، لشخص تعرض لإعاقة جسدية كاملة، بسبب حادث سيارة، ألزمه الفراش لستة أشهر، ما جعله يفضل الموت على الاستمرار في الحياة على سرير.
وفي مسرحية "أوقات جريتي الطيب" لـ جون بيلوسو*، يعاني "جريتي" من شلل الأطفال لأكثر من 15 عامًا، ويصبح الموت أكثر شيئًا مرغوبا له، ما يجعل المشاهد غير مستعد للتفاعل مع الشخص "المعاق" الخانع المستسلم للحياة، ويؤكد للمشاهد أيضًا أن الحياة العاطلة للشخص الصحيح تشابه تماما حياة شخص على كرسي مُدولب.
وفي عام 1945 وضع الكاتبُ الأمريكي تينسي ويليامز، مسرحية الحيوانات الزجاجية، حيثُ قدّمَ أسرة تتكون من أم وابنها وابنتها العرجاء "لاورا" والتي تعيش في عزلة مع حيواناتها الزجاجية، في انتظار عريس يأتي لخطبتها، ولكن ذلك لا يحدث، ويصبح الانتظار مأساة تقود إلى مأساة جديدة، وهنا يطرق "ويليامز" على مسألة أن الإعاقة التي تقود إلى الارتكان والخنوع، تنتقص من المرء إنسانيته ولن تؤدي به إلا إلى هلاكٍ مُبين.
لقد حرصَ الكاتبُ المسرحي في أوروبا منذ منتصف القرن الماضي، على إثارة قضية "مكانة ودور ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع والقوانين"، وساهم في تهيئة خشبة المسرح لاستقبال آلام ومعاناة فئة ظلت مهمشة كثيرا عن الدراما المسرحية. أما المسرح العربي فقد عانى فترة طويلة من نمطية إبداعية، تحكمت فيها ظروف الحرب والاستعمار، والفقر، ومازالت تنقصه النظرة الإنسانية إلى آلام المجتمع العربي، وتركيز العدسة على رصد فئات جديدة من المُهمشين ودعوة معاناتهم للصعود على خشبة المسرح.