هل يستمر صمود الإمبريالية الناعمة، وهي تغذ خطاها حثيثة نحو التعامل المباشر مع القاعدة البروليتارية، بدلاً عن المنهج الانتلجنسوي القديم عبر خطابات شعبوية تبدو أبسط من واقعها؟
لقد لاحظت أثناء الثورة السودانية، ذلك التماهي الهابط، في خطاب تجمع الوهميين، والذي -قد نجح بمساعدة ما- في إستقطاب الجماهير إلى مصطلحات لا يعرف معناها، لكنها كانت تمثل له مخرجاً محتملاً، من الأزمة تماماً كخطاب الحركة الإسلامية (الإسلام هو الحل) والذي تبعه الشعب حتى أنهكه التعب. وهي خطابات شبيهة بما تم تدجينه عالمياً منذ الحرب الباردة. لا يعرف الكثيرون معنى الديموقراطية، ولم يعد يُقبل طرح أي سؤال حول حقيقتها. إنها شيء جيد فقط. والعدالة، جوهرها المثالي، كالحرية تماماً جيدة. وكالحكومة المدنية هي أيضاً جيدة، ...الخ.
إنها في الحقيقة منتجات النصر الرأسمالي، التي تساوت بالمنتجات الميتافيزيقية (الله، الدين) أي تلك الخطابات التي تمثل الإجابات الكلية التي لا تحتمل الإثبات او الدحض. وبالتالي لا تقبل النقاش. وكأنما العالم قد استقر تماماً، أو بلغ نهاية التاريخ كما ادعى فرانسيس فوكاياما قبل ثلاثة عقود وبالتحديد عام ١٩٩٢ وبالتحديد بعد استقرار الهزيمة الشيوعية على المستوى العالمي، وبداية الحرب الجديدة على الإرهاب أي الأسلام نفسه بلا شك.
ادوات الخطاب الجديد:
الخطاب السياسي ما بعد الحداثي، لم يعد خطاباً حماسياً، وعلى النقيض من الخطاب الحداثي فهو ليس عقلانياً البتة. إنه خطاب (مخيالي) محض. أي يعتمد على التركيب الصوري واللفظ. وهو الخطاب المستلهم من الدعايات التجارية التلفزيونية، لا يحتاج هذا الخطاب إلى شرح قد يعرضه للنقد والتفكيك، ولا نصوص وجمل طويلة أو حتى قصيرة، إنه خطاب "الكلمة الواحدة"، والصور الكثيرة. ربط الديموقراطية بصور ناطحات السحاب في نيويورك، والرفاهية السويسرية، والتطور التكنولوجي الياباني. وعلى العكس؛ ربط الدكتاتورية، بالصور الشاحبة والباهتة في كوريا الشمالية، وكوبا، والصين. ربط كورونا بالصيني الذي يأكل الخفافيش والعقارب، وربط الحرية بصورة شاب أسود وفتاة بيضاء، وربط حقوق الإنسان بشاب يقف بثبات أمام المستشارة الألمانية ميركل، وربط الانتخابات بالوجه الجميل لترودو في كندا، وربط العلمانية بجوقة عازفين من الأطفال الشقر الرائعين، وربط الإسلام بوجه إرهابي قبيح، أو رأس مقطوع،..الخ.
هذا يكفي تماماً في الخطاب السياسي ما بعد الحداثي، وأموضعه في الحقبة المابعد حداثية، لأنه ينفي الركيزة الأولى للحداثة وهي العقلانية. فهو يعتمد على الصورة، التي يتم تكثيف نشرها على مستويات متعددة، متضمنة الكلمة المطلوب أن تلاك بألسنة الطبقات الأقل قدرة أو حتى ميلاً للنقد. إذ لا يعتمد الخطاب على الإفهام، بل الإشعار. الإشعار بأن ناطحات السحاب، الهاتف المحمول، السيارات الفارهة، السعادة، ترتبط بالديموقراطية أو الحرية أو باختصار (المفاهيم النسبية) ارتباطاً وثيقاً. وبالتالي تنال قيمتها المعيارية المطلقة.
فالخطاب السياسي، يأتي تالياً للصورة، مكملاً لها وليس العكس. إنه خطاب مستمد من منهج الكتب المقدسة، التي تصور لنا الفردوس وهو ثري بالأشجار والفواكه والنساء والحليب والخمور، بل وحتى الغلمان، مقترنة بكلمة الإيمان أو ما يُلخص ب(الترغيب)، والصورة المقابلة أي تلك المرتبطة بالجحيم ودرجاتها وصور عذابها (كما صورها دانتي) ببراعة..لتقترن تلك الصوَر بكلمة الكفر (الترهيب).
تأتي الصورة في المقدمة، ثم الخطاب في المؤخرة، ويتراكبان ليحققا الإتحاد الذهني في عقل الإنسان متضع القدرات. وهو إنسان لا يحبذ الشرح، لأنه غالباً لن يفهم حتى لو تلقى شرحاً مستفيضاً.
هكذا يتم تشكيل درع من البروليتاريا حماية لأدوات الإمبريالية الناعمة. وتقلب ميزان الوعي، إذ أن العقل النقدي هو من يتعرض للتهميش والنبذ والتكفير من قبل العقل غير النقدي والذي تتميز به الطبقات الدنيا (وهي الغالبية). لتكون هذه الطبقات الحارس للمركب الخطابي الذي يسرقها هي نفسها.
إن هذا الخطاب هو الأشد عنفاً في تاريخ البشرية، لأنه يسخر كل أدوات الرأسمالية للسخرية من العقل، وحض الشعوب على الاستقرار في قاع الجهل برضى تام. هو خطاب إنتهازي، يستعبد البشرية؛ (الغالبية التي لا تنتقد) و(الأقلية التي تقصى). وهكذا ينفتح الطريق واسعاً لسيطرة القوى الإمبريالية على العالم.
يعتمد هذا الخطاب على الخفة، أي الخفة الشديدة، فهو ليس خطاباً معقداً، بل يتم بناؤه على مستوى هابط من الوعي. لأنه مستوى الغالبية، خلافاً للخطابات التنويرية والتقدمية، لقد كتب ماركس تبسيطاً لفلسفته الإشتراكية ليتمكن العمال من فهم ما يريد، مع ذلك ظل ذلك التبسيط معقداً جداً بالنسبة لهم. وهذا ما جعل الإتحاد السوفيتي يفشل ويتفكك، إذ لم يربط خطابه بالصورة. صورة التقدم الصناعي لروسيا، بعد أن كانت دولة زراعية متأخرة، أو صورة التكنولوجيا الطبية العالية، أو التقدم في التكنولوجيا العسكرية وحرب الفضاء. في الوقت الذي اعتمدت فيه أمريكا على هوليوود أكثر من خطابات نيكسون أو كيندي، أو كلينتون...ففي الوقت الذي عرف العالم بأسره ناطحات السحاب والكاوبوي ومكدونالد ومحمد علي كلاي وأوباما (ربط الصورة بالحريات في أمريكا)، لا يعرف الكثيرون بوجود ناطحات سحاب في الإتحاد السوفيتي، بل يعرفون فقط مشاهد السجون والمعتقلات ذات الزنازين الحديدية الصدئة والمتعفنة بالدماء والغائط والبول والعرق. (الصورة التي عكستها هوليوود) في أفلامها. لتقرن بينها وبين (الشيوعية). عكس ما كانت تفعل عندما تقرن النيوليبرالية بالفخامة والأبهة والأمل والطموحات الفردية والحلم الأمريكي بالرولزرويس البريطانية والهامر الأمريكية وحياة مليارديرات بيفرلي هيلز..الخ.
للصورة في الخطاب السياسي الما بعد حداثي هدفان:
الأول: الإثبات.
الثاني: المخيال (أي تجنب النقد).
فهو خطاب حلولي معنوي، يتم قذفه داخل العقل، ثم تتم رعايته بالمزيد من الصور والصور ثم الصور.
هكذا يمكن لهذا الخطاب أن يجعلك تعتقد أن والدك شيطاناً ومن قتل والدك ملاكاً. فهو لا يقنعك بالعقل، بل بالخيال. وهذا الخيال يتم بالضخ.
في مؤلفات علم الإجرام، يؤكد علماء الإجرام، بأن التحقيقات طويلة المدة مع المشتبه به، وسماعه لتكرار قصة الجريمة، قد تفضي به لتصديق أنه قد ارتكب الجريمة فعلاً، ويستطيع المشتبه به أن يعترف باقترافه للجريمة (التي لم يقترفها أساساً)، بل ويشرح طريقة ارتكابها بالتفصيل الدقيق، من كثرة سماعه لقصة الجريمة، سواء من المحققين أو التلفزيون والصحف أو اقربائه الذين يزورونه أو حتى زملائه في الحبس الاحتياطي أثناء فترة التحقيق.
وهذا بالفعل هو المنهج الذي يستخدمه الخطاب السياسي ما بعد الحداثي.
وهذا الخطاب هو خطاب غربي بامتياز، إذ يحقق الهدف الأساسي وهو ترسيخ معايير تخدم المنظومة الغربية لتحمي مصالحها، فهو ليس موجهاً فقط، بل موجهٌ حتى للشعوب الأمريكية والأوروبية. وذلك لتحقيق مزيد من السيطرة، والتأكيد على أن كل شيء على ما يرام..
ولذلك أيضاً، انحرف الفكر الفلسفي من السرديات الكبرى إلى الشذرات، لأنه واجه عنف الخطاب السياسي الما بعد حداثي، وكان عليه أن يغير هو كذلك من ادواته. فيجيب تغييب أي توجه نقدي جاد، يمكن أن يندفع كالنازية والأناركية والشيوعية إلى الأمام أكثر مما يجب. يجب إخماد اي بادرة للانتشار، ليس عبر القمع، بل عبر ربط الخطاب الرأسمالي بالصورة بعد تبسيطه. ولكي يحدث ذلك، كان من الضروري، نقل المؤسسات التعليمية إلى مستوى آخر من المنهج، وهو المستوى الأداتي النفعي. وهذه النقلة تحدث بالتقليل من شأن الكليات الأدبية، والرفع من قيمة الكليات التكنولوجية. ثم بدأ عصر التحلل من الجامعة، عبر الدراسات عن بعد ومراكز التدريب، ودمج العلوم بالتسلية..ثم أخيراً وليس آخرا، تحفيز التباعد الإجتماعي فيها، أي تقليل التواصل. وقلة البرامج النقدية الجادة في التلفزيون، وضعف تواجد المناظرات، وبساطة الخطاب الإخباري، وزيادة الاعتماد على الصورة للإبهار والترسيخ...الخ.
لقد لاحظت أثناء الثورة السودانية، ذلك التماهي الهابط، في خطاب تجمع الوهميين، والذي -قد نجح بمساعدة ما- في إستقطاب الجماهير إلى مصطلحات لا يعرف معناها، لكنها كانت تمثل له مخرجاً محتملاً، من الأزمة تماماً كخطاب الحركة الإسلامية (الإسلام هو الحل) والذي تبعه الشعب حتى أنهكه التعب. وهي خطابات شبيهة بما تم تدجينه عالمياً منذ الحرب الباردة. لا يعرف الكثيرون معنى الديموقراطية، ولم يعد يُقبل طرح أي سؤال حول حقيقتها. إنها شيء جيد فقط. والعدالة، جوهرها المثالي، كالحرية تماماً جيدة. وكالحكومة المدنية هي أيضاً جيدة، ...الخ.
إنها في الحقيقة منتجات النصر الرأسمالي، التي تساوت بالمنتجات الميتافيزيقية (الله، الدين) أي تلك الخطابات التي تمثل الإجابات الكلية التي لا تحتمل الإثبات او الدحض. وبالتالي لا تقبل النقاش. وكأنما العالم قد استقر تماماً، أو بلغ نهاية التاريخ كما ادعى فرانسيس فوكاياما قبل ثلاثة عقود وبالتحديد عام ١٩٩٢ وبالتحديد بعد استقرار الهزيمة الشيوعية على المستوى العالمي، وبداية الحرب الجديدة على الإرهاب أي الأسلام نفسه بلا شك.
ادوات الخطاب الجديد:
الخطاب السياسي ما بعد الحداثي، لم يعد خطاباً حماسياً، وعلى النقيض من الخطاب الحداثي فهو ليس عقلانياً البتة. إنه خطاب (مخيالي) محض. أي يعتمد على التركيب الصوري واللفظ. وهو الخطاب المستلهم من الدعايات التجارية التلفزيونية، لا يحتاج هذا الخطاب إلى شرح قد يعرضه للنقد والتفكيك، ولا نصوص وجمل طويلة أو حتى قصيرة، إنه خطاب "الكلمة الواحدة"، والصور الكثيرة. ربط الديموقراطية بصور ناطحات السحاب في نيويورك، والرفاهية السويسرية، والتطور التكنولوجي الياباني. وعلى العكس؛ ربط الدكتاتورية، بالصور الشاحبة والباهتة في كوريا الشمالية، وكوبا، والصين. ربط كورونا بالصيني الذي يأكل الخفافيش والعقارب، وربط الحرية بصورة شاب أسود وفتاة بيضاء، وربط حقوق الإنسان بشاب يقف بثبات أمام المستشارة الألمانية ميركل، وربط الانتخابات بالوجه الجميل لترودو في كندا، وربط العلمانية بجوقة عازفين من الأطفال الشقر الرائعين، وربط الإسلام بوجه إرهابي قبيح، أو رأس مقطوع،..الخ.
هذا يكفي تماماً في الخطاب السياسي ما بعد الحداثي، وأموضعه في الحقبة المابعد حداثية، لأنه ينفي الركيزة الأولى للحداثة وهي العقلانية. فهو يعتمد على الصورة، التي يتم تكثيف نشرها على مستويات متعددة، متضمنة الكلمة المطلوب أن تلاك بألسنة الطبقات الأقل قدرة أو حتى ميلاً للنقد. إذ لا يعتمد الخطاب على الإفهام، بل الإشعار. الإشعار بأن ناطحات السحاب، الهاتف المحمول، السيارات الفارهة، السعادة، ترتبط بالديموقراطية أو الحرية أو باختصار (المفاهيم النسبية) ارتباطاً وثيقاً. وبالتالي تنال قيمتها المعيارية المطلقة.
فالخطاب السياسي، يأتي تالياً للصورة، مكملاً لها وليس العكس. إنه خطاب مستمد من منهج الكتب المقدسة، التي تصور لنا الفردوس وهو ثري بالأشجار والفواكه والنساء والحليب والخمور، بل وحتى الغلمان، مقترنة بكلمة الإيمان أو ما يُلخص ب(الترغيب)، والصورة المقابلة أي تلك المرتبطة بالجحيم ودرجاتها وصور عذابها (كما صورها دانتي) ببراعة..لتقترن تلك الصوَر بكلمة الكفر (الترهيب).
تأتي الصورة في المقدمة، ثم الخطاب في المؤخرة، ويتراكبان ليحققا الإتحاد الذهني في عقل الإنسان متضع القدرات. وهو إنسان لا يحبذ الشرح، لأنه غالباً لن يفهم حتى لو تلقى شرحاً مستفيضاً.
هكذا يتم تشكيل درع من البروليتاريا حماية لأدوات الإمبريالية الناعمة. وتقلب ميزان الوعي، إذ أن العقل النقدي هو من يتعرض للتهميش والنبذ والتكفير من قبل العقل غير النقدي والذي تتميز به الطبقات الدنيا (وهي الغالبية). لتكون هذه الطبقات الحارس للمركب الخطابي الذي يسرقها هي نفسها.
إن هذا الخطاب هو الأشد عنفاً في تاريخ البشرية، لأنه يسخر كل أدوات الرأسمالية للسخرية من العقل، وحض الشعوب على الاستقرار في قاع الجهل برضى تام. هو خطاب إنتهازي، يستعبد البشرية؛ (الغالبية التي لا تنتقد) و(الأقلية التي تقصى). وهكذا ينفتح الطريق واسعاً لسيطرة القوى الإمبريالية على العالم.
يعتمد هذا الخطاب على الخفة، أي الخفة الشديدة، فهو ليس خطاباً معقداً، بل يتم بناؤه على مستوى هابط من الوعي. لأنه مستوى الغالبية، خلافاً للخطابات التنويرية والتقدمية، لقد كتب ماركس تبسيطاً لفلسفته الإشتراكية ليتمكن العمال من فهم ما يريد، مع ذلك ظل ذلك التبسيط معقداً جداً بالنسبة لهم. وهذا ما جعل الإتحاد السوفيتي يفشل ويتفكك، إذ لم يربط خطابه بالصورة. صورة التقدم الصناعي لروسيا، بعد أن كانت دولة زراعية متأخرة، أو صورة التكنولوجيا الطبية العالية، أو التقدم في التكنولوجيا العسكرية وحرب الفضاء. في الوقت الذي اعتمدت فيه أمريكا على هوليوود أكثر من خطابات نيكسون أو كيندي، أو كلينتون...ففي الوقت الذي عرف العالم بأسره ناطحات السحاب والكاوبوي ومكدونالد ومحمد علي كلاي وأوباما (ربط الصورة بالحريات في أمريكا)، لا يعرف الكثيرون بوجود ناطحات سحاب في الإتحاد السوفيتي، بل يعرفون فقط مشاهد السجون والمعتقلات ذات الزنازين الحديدية الصدئة والمتعفنة بالدماء والغائط والبول والعرق. (الصورة التي عكستها هوليوود) في أفلامها. لتقرن بينها وبين (الشيوعية). عكس ما كانت تفعل عندما تقرن النيوليبرالية بالفخامة والأبهة والأمل والطموحات الفردية والحلم الأمريكي بالرولزرويس البريطانية والهامر الأمريكية وحياة مليارديرات بيفرلي هيلز..الخ.
للصورة في الخطاب السياسي الما بعد حداثي هدفان:
الأول: الإثبات.
الثاني: المخيال (أي تجنب النقد).
فهو خطاب حلولي معنوي، يتم قذفه داخل العقل، ثم تتم رعايته بالمزيد من الصور والصور ثم الصور.
هكذا يمكن لهذا الخطاب أن يجعلك تعتقد أن والدك شيطاناً ومن قتل والدك ملاكاً. فهو لا يقنعك بالعقل، بل بالخيال. وهذا الخيال يتم بالضخ.
في مؤلفات علم الإجرام، يؤكد علماء الإجرام، بأن التحقيقات طويلة المدة مع المشتبه به، وسماعه لتكرار قصة الجريمة، قد تفضي به لتصديق أنه قد ارتكب الجريمة فعلاً، ويستطيع المشتبه به أن يعترف باقترافه للجريمة (التي لم يقترفها أساساً)، بل ويشرح طريقة ارتكابها بالتفصيل الدقيق، من كثرة سماعه لقصة الجريمة، سواء من المحققين أو التلفزيون والصحف أو اقربائه الذين يزورونه أو حتى زملائه في الحبس الاحتياطي أثناء فترة التحقيق.
وهذا بالفعل هو المنهج الذي يستخدمه الخطاب السياسي ما بعد الحداثي.
وهذا الخطاب هو خطاب غربي بامتياز، إذ يحقق الهدف الأساسي وهو ترسيخ معايير تخدم المنظومة الغربية لتحمي مصالحها، فهو ليس موجهاً فقط، بل موجهٌ حتى للشعوب الأمريكية والأوروبية. وذلك لتحقيق مزيد من السيطرة، والتأكيد على أن كل شيء على ما يرام..
ولذلك أيضاً، انحرف الفكر الفلسفي من السرديات الكبرى إلى الشذرات، لأنه واجه عنف الخطاب السياسي الما بعد حداثي، وكان عليه أن يغير هو كذلك من ادواته. فيجيب تغييب أي توجه نقدي جاد، يمكن أن يندفع كالنازية والأناركية والشيوعية إلى الأمام أكثر مما يجب. يجب إخماد اي بادرة للانتشار، ليس عبر القمع، بل عبر ربط الخطاب الرأسمالي بالصورة بعد تبسيطه. ولكي يحدث ذلك، كان من الضروري، نقل المؤسسات التعليمية إلى مستوى آخر من المنهج، وهو المستوى الأداتي النفعي. وهذه النقلة تحدث بالتقليل من شأن الكليات الأدبية، والرفع من قيمة الكليات التكنولوجية. ثم بدأ عصر التحلل من الجامعة، عبر الدراسات عن بعد ومراكز التدريب، ودمج العلوم بالتسلية..ثم أخيراً وليس آخرا، تحفيز التباعد الإجتماعي فيها، أي تقليل التواصل. وقلة البرامج النقدية الجادة في التلفزيون، وضعف تواجد المناظرات، وبساطة الخطاب الإخباري، وزيادة الاعتماد على الصورة للإبهار والترسيخ...الخ.