البروفيسور عادل الأسطة - حزيران الذي لا ينتهي ) 53 : ( ليلة القبض على سر السكين )

كانت بيوتنا الفقيرة في المخيم ، والبسيطة أيضا ، تكتظ بالأبناء ؛إخوة وأخوات . وكما ذكرت ، فأنا من أسرة منجابة مخلافة ولادة ، فلي سبعة إخوة ذكور ، وست أخوات ، ويبدو أن الأخير من الذكور أدرك مأساة كثرة الإخوة ، فآثر الانسحاب مبكرا ، فقد ولد ميتا .
كان بيتنا متواضعا ، و يكبر باستمرار ، وقلما مر عام دون أن يجري أبي إضافات إليه أو تغييرات فيه ، ولشد ما كان هذا يزعجني ، ويزعج أمي و إخوتي وأخواتي ، فالترميمات في البيت وهو مسكون شيء لا يحتمل ، ولكنها الضرورة .
أذكر أنه كان في الدار شجرة ليمون وشجرة خوخ ، وكان ثمة نباتات وياسمينة ذات رائحة فواحة . ولكن هذه كلها ، مع نهاية 60 ق 20 غدت من الماضي ، فقد حلت محلها غرف جديدة وصالون ، وكان لا بد من غرفة للبنات وأخرى للذكور ، وكانت المشكلة الكبرى يوم تزوج أخي الذي يكبرني ، وأقام معنا في غرفة خاصة به .
عندما كنت أريد الدراسة ، كنت أنتظر الليل . أنام في السابعة مساء لأصحو في العاشرة ليلا ، حيث يغلق أبي جهاز التلفاز ،بناء على طلبي ، وأسهر في الصالون حتى الثانية فجرا ، بخاصة في أيام الشتاء .
كانت المشاكل ، في البيت ، تزداد حين نعود من المدرسة ، حيث يكتظ البيت بنا ، فيؤدي الاجتماع معا إلى حركشات ، من هنا وهناك ، وهكذا تصرخ أمي بي طالبة مني أن أخرج من البيت فهو لم يخلق للرجال . ولم أكن أعصي لها أمرا ، تلافيا للمشاكل ورغبة في الخروج من الأمكنة الضيقة ، و كنت أخرج إلى الشارع أو إلى النادي ، حيث كان يفتح أبوابه في الثانية ظهرا ، وحتى يحين الوقت كنت أركن ، مع آخرين ، إلى سور مدرسة الذكور .
في المساء ، حين يحل الليل ويغلق النادي أبوابه ، أذرع ، مع أصدقائي ، الشوارع .
كان ثمة مساحات في المخيم ، وكان هناك شارع رئيس واسع ، بين مدرسة الذكور ومدرسة الإناث ، وهكذا نصبح مهندسي شوارع ، وقد لا نعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة ، بخاصة إذا لم يكن الجو ممطرا .
ذات ليلة وأنا أسير مع صديقي عاطف - و أهله من اللد ، وله أخ في عمان انتمى للجبهة الشعبية - باح لي بما كان يفكر فيه .
كان عاطف يتأبط سكينا ، مثل تأبط شرا ، ويكزدر في الشارع يتربص بأحد الأشخاص ، ممن دارت حولهم الشبهات ، وأخبرني أنه سوف يطعن ذلك الشخص ، وانتهى الأمر بأن ذهب كل واحد منا إلى بيته ، ومر الأمر بسلام . ولم أفش هذا السر لأحد إلا بعد انتقال عاطف إلى الرفيق الأعلى .
مع بداية حزيران تفتح وعينا على أمرين : المقاومة والعملاء . وكنا نعرف عن المقاومين ، بعد أن يسجنوا ، وأما العملاء فكنا نعرف عنهم من خلال ما يشاع عنهم ، ومن خلال صلتهم بالحكم العسكري وتعاونهم معه ، فقد كان هؤلاء يستصدرون التصاريح للمغتربين ، وكانوا أيضا يسعون في لم شمل بعض العائلات ، مقابل مبالغ مالية عالية .
في فترة من الفترات شعر هؤلاء المتعاونون بأهميتهم ، فقد غدوا موضع سؤال كثيرين من الناس الذين يمنعون من السفر أو الذين يريدون لم شمل بعض أقاربهم ، بل وكانوا يسيرون مرفوعي الرأس ، كما لو أنهم
يقدمون حلولا لمشاكل مستعصية ، كما لو أنهم منقذون لورطات هذا الشعب ، ولا يعني هذا أنهم لم يتعرضوا لمحاولات اغتيال أو لحرق سياراتهم وبيوتهم .
في العام 1976 عينت معلما في المدرسة الصلاحية في نابلس ، وأخذ بعض الطلاب يحذرونني من زملاء لهم تدور حولهم الشبهات .
في هذه البيئة نشأنا وكبرنا وكبر معنا الشك وأخذت حياتنا تتسمم ، ولم يكن الأمر في الجامعة الأردنية مختلفا ، فقد لازمنا أيضأ الشك والحذر والخوف ، ليس من عملاء الاحتلال وحسب ، بل أيضا من طلاب يعملون لصالح المخابرات الأردنية التي كانت تنشط في الجامعة فلم يكن ايلول وأحداث 1971 غائبا عن الذهن ، وأذكر أن أحد أبناء إحدى العائلات النابلسية ، حين درس في الجامعة الأردنية ، غدا أشهر من نار على علم في هذا الجانب ؛أعني إخلاصه للمخابرات الأردنية ، وكان يشار إليه بالبنان ، واستقر به المقام هناك وما عاد يزور نابلس إلا في فترات متباعدة .
ما من عاطل عن العمل إلا دارت حوله شبهات ، وما من شخص يدخن الحشيش او يتعامل به ، يبيعه أو يوزعه إلا دارت حوله الشبهات ، بل إن الشبهات نالت من أشخاص كانوا منحرفين أخلاقيا ، وفي فترات متأخرة ، حين أخذت الفصائل تتكاثر وتتناحر فيما بينها لأجل انتخابات نقابة أو ناد دارت الشبهات حول بعض أفرادها ، حيث أخذ كل فصيل يشوه الآخر .
في أثناء الانتفاضة الأولى ، هرب بعض المتعاونين إلى داخل فلسطين ، بخاصة من كانت أوراقهم مكشوفة ، ومات هؤلاء هناك ، ولم يعز فيهم ، حين أقام بعض أقاربهم بيوت عزاء ، إلا القليلون.
ما زلت اتذكرني أنا وعاطف نسير معا ، في الشارع الرئيس وسط المخيم ، وهو يفضي إلي بالسر .
هل كان عاطف مكلفا من احد ؟ هل كان ينتمي إلى فصيل ؟ وما الذي جعله يفضي إلي بالسر ؟ وربما كانت مشاعرنا الوطنية الفياضة وحديثنا المستمر عن المقاومة وتعاطفنا معها هي ما جعلته يثق بي .

خربشات 18/7/2016


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى