البروفيسور عادل الأسطة - زياد عبد الفتاح في روايته الجديدة " الرتنو " :

آخر روايات الفلسطيني زياد عبد الفتاح ziad Abedelfattah هي رواية " الرتنو " الصادرة في العام 2018 عن دار النشر " كل شيء " في حيفا ، وتقع الرواية التي صمم لوحة غلافها الفنان حسني رضوان في 322 صفحة .
ويبدو عنوان الرواية غريبا ، وعموما فإن النص سرعان ما يزيل هذه الغرابة ، هذا إذا لم تكن التقيت بالكاتب في فندق " الرتنو " في رام الله ، وإن كنت التقيت به هناك فإنك لا تستغرب وستعرف المدلول ، ولكن الغرابة سوف تلازمك كما لازمت الروائي ، فلماذا اختار صاحب الفندق هذا الاسم عنوانا لفندقه ولم يختر اسما آخر .
لتوضيح معنى " الرتنو " عليك أن تقرأ تاريخ فلسطين القديم في كتب التاريخ أو عليك أن تقرأ الرواية التي تمزج بين الواقع والتاريخ . ولمن يستعجل معرفة المعنى فيمكن أن يبدأ بقراءة الصفحات الآتية : ( 26 / 45 / 78 / 81 / 186 ) ففيها إضاءات لمدلول الدال ، علما بأنها ليست الصفحات الوحيدة التي ترصد تاريخ فلسطين زمن مملكة " الرتنو".
" قبل أن يحل سعد الديراوي في فندق " رتنو " ، الذي نصح به أحد أصدقائه الذي استقر فيه شهرا ، سأله لماذا رتنو وماذا يعني ذلك الاسم ؟ بدا صاحبه متفاجئا ، كما لو أنه تلقى صفعة سؤالا . كان عليه أن يفطن له ويفكر فيه . قال " تصور أنني لم أتوقف عند الاسم ، على الرغم من غرابته ، ولم أسأل".
ولسوف تتوصل منذ الصفحات الأولى من الرواية إلى أن الفندق هو المكان الروائي الرئيس ، ولسوف تتذكر وأنت تقرأ الرواية رواية نجيب محفوظ " ميرامار " فإن لم تتذكرها ذكرك المؤلف الضمني بها وبغيرها من الروايات العالمية والعربية والفلسطينية التي جعلت من فندق ما بعدا مكانيا لها .
في الصفحة 53 يسرد المؤلف الضمني الفقرة الآتية:
" فيما هو يواصل الكتابة عن فندق " رتنو " ، تساءل في أي خانة يضعه . "
وتحدث هذا المؤلف الضمني عن علاقته بالفنادق التي عرفها أو تلك التي قرأ عنها ، فقد أقام في فنادق متفاوتة القيمة والمستوى و" قرأ في روايات عالمية ومحلية تحدثت عن الفنادق والنزل وعن ساكنيها وقاطنيها وركابها ، أو العابرين بها . وعندما راح يفكر أيها رتنو هل هو الفندق أم النزل أم البانسيون أم الموتيل أم الهوتيل أم ماذا؟ لم يجده . هل هو " بنسيون" نجيب محفوظ في الاسكندرية في روايته الخالدة " ميرامار" ؟ هل فندق العمة العجوز في رائعة الروائي الروسي ديستوفسكي " المقامر " أم هو موتيل " فولوس" في رواية زياد عبد الفتاح "ما علينا" .ليس هذا ولا هذا ولا ذاك ، وإنما كلهم جميعهم ، اختصرهم الرتنو في مسرح واحد.".
وعدا أن الفقرة الأخيرة تخص المكان ركنا من " أركان الرواية" ، فإنها تحيلنا إلى المبنى الذهني لروايات زياد عبد الفتاح.
ثمة مبنى ذهني واحد يجمع بين كثير من روايات الكاتب ينطلق منه الروائي في صوغ رواياته وهي أنه يجعل من نفسه مؤلفا روائيا في الرواية التي يكتبها ، وهكذا تنشق ذات زياد عبد الفتاح إلى ذاتين ؛ ذاته كاتبا روائيا ، وذاته المنشقة التي تتخذ لها في الرواية اسما آخر هو هنا أبو شهد سعد الديراوي ، وتحيل هذه الذات المنشقة إلى الإحالة إلى زياد عبد الفتاح ، فهي منشقة عنه ولكنها متوحدة معه تصوغ عباراته وتتمتع بما تتمتع به من خصائص كتابية تقريبا ، وكلتا الشخصيتين تكونان غالبا على صلة ، وغالبا ما تبدو الذات المنشقة منسجمة مع ذاتها الأخرى متصالحة معها ومعجبة فيها.
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تتذكر رأي عباس محمود العقاد في ابن الرومي :" إن أدبه ترجمة لحياته " و" إن ابن الرومي كان يدون تفاصيل حياته في شعره" و .. و..
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تجد نفسك أيضا وجها لوجه مع مقولات المنهج الوضعي في دراسة الأدب :" وحدة المؤلف والنص " و" كما تكون الشجرة يكون ثمرها "( سانت بيف ) و" لا يمكن الفصل بين بلزاك ونصوصه ، فلكي نفهم بلزاك .. " ( هيوبوليت تين) وكانت عبارة ( تين) إشارة واضحة إلى أعمال(بلزاك ) . إنها شيفرة.
وقد يذهب المرء وهو يقرأ "الرتنو" إلى ما هو أبعد ، فيتذكر طريقة ( إميل زولا ) في الكتابة الروائية . كان( زولا ) يوضح طريقته في الكتابة فيقول إنه يدرس الناس كعناصر بسيطة يلاحظهم ويرصد حركاتهم وردود أفعالهم ، ويهمه أن يكون طبيعيا صرفا ولا يعتمد على تعاليم كاثوليكية موروثة أو ملكية . والمؤلف الضمني أبو شهد سعد الديراوي يرصد زوار الفندق ويتابع سلوكهم وتصرفاتهم ويصغي إليه ، بعد أن يحتك بهم ، ومثله القاطنون في الفندق " سيتبين الديراوي الأمر ولن يتأخر . " فالرتنو " لا ينام طويلا على أسراره ، والقاطنون لا تفوتهم شاردة ولا واردة . يراقبون ويحللون ويزنون الأمور بميزان لا يخطيء " و " تساءل أبو شهد سعد الديراوي وهو يتأمل واحدة واحدة ، وواحدا واحدا . كيف تركبت هذه الخلطة المدهشة من البشر في هذا الكوكب الذي اتخذ له اسما عجائبيا "رتنو" ، ولسوف يمضي أبو شهد في تفكيك الشخوص، وإعادة تركيبها، وصياغتها من جديد كي يتلقى إجابات يطمئن إليها، وتملؤه بالرضا".
وتتوصل إحدى شخصيات الرواية إلى هذه الخصيصة في طريقته في الكتابة . إن ناهد العطار المواطنة الغزية التي تعرف إليها أبو شهد في "الرتنو" وساعدها ووقف إلى جانبها ونشأت بينهما علاقة قوية، إن ناهد تعجب برواياته وحين تدرس الدكتوراه في جامعة بير زيت (؟) تختار موضوع "الشخصيات "في رواياته موضوعا لأطروحة الدكتوراه وتنجز رسالتها وتناقشها وتخلص إلى الرأي الآتي:
" اكتشفت في رواياتك عمقا وأبعادا إنسانية واجتماعية لم أعثر عليها لدى الآخرين ثم لأنك تمسك بالشخوص من داخلها، تمعن فيها إبحارا، تستخرج ما فيها من خبايا وخفايا وعقد، تخضعها للتحليل النفسي الذي يقودنا إلى فهم أعلى للنزعات والأحلام والمشاعر والأحاسيس، والأوجاع التي ينام عليها الناس و .. " والكلام يطول هنا.
إن رواية "الرتنو" ترصد الواقع الفلسطيني في عهد الرئيس أبو مازن ، فرواد الفندق فلسطينيون من أبناء رام الله وقطاع غزة ومن الفلسطينيين المقيمين في الشتات ، وكل واحد من رواده له همومه ومشاكله وماضيه وعلاقاته الشخصية المعقدة، ويرصد أبو شهد- ومن ورائه زياد عبد الفتاح- هذا كله، وإذا كان في الرواية شيء جديد ومختلف في نتاج الكاتب فهو لا شك يكمن في رصد الواقع الفلسطيني والعلاقات التي بدأت تتعقد بين غزة والضفة، وفي العودة إلى تاريخ البلاد زمن الكنعانيين وعلاقة فلسطين بمصر في حينه ، أما بخصوص البناء الفني فالرواية هي نتاج المبنى الذهني لكاتبها،فقاريء روايات زياد سرعان ما يتذكر روايتيه "وما علينا" و"المعبر " .


الجمعة والسبت ١٩و٢٠ تموز ٢٠١٩


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى