محمد علي الحباشي - من الذاكرة الوطنية: حركة الطليعة... النهاية

لم تكد سنة 1972 تشرف على نهايتها حتى كانت المنابر الصحفية التي احتضنت حركة الطليعة قد توقفت او وقعت مقاطعتها.
فقد توقفت مجلة «ثقافة» بعد صدور 9 أعداد بين شتاء 69 وخريف 72 وصفحة «التجاوزات» بجريدة «الايام» بعد ان صدر من تلك الجريدة 16 عددا بين 8 مارس و21 جوان 71 وصفحة «ثنائيات» بجريدة «المسيرة» بعد ما صدر من تلك الصحيفة 13 عددا بين 27 سبتمبر و27 ديسمبر 71 وملحق «العمل الثقافي» بجريدة «العمل» بعد ان صدر منه 194 عددا بين 14 مارس 69 و16 جويلية 73. وكان توقف ذلك الملحق اثر نشر رسم كاريكاتوري لـ«شاعر الرئيس» احمد اللغماني.
و توقفت اخيرا جريدة «الناس» التي احتوت بين 10 جوان و26 اوت 72 كتابات متفرقة لبعض وجوه الطليعة.
ثم كانت مقاطعة مجلة «الفكر» التي كانت فتحت صفحاتها لكتاب الطليعة وشعرائها «وقد رأيت رأي كثير من رفاق الانتاج الا نعود الى النشر حيث لا يحترم حق الكاتب في التعبير الحر...» (الطاهر الهمامي . الشمس طلعت كالخبزة. المقدمة 1973).
تفرق الشمل
ومن عوامل احتجاب حركة الطليعة تخرج الجناح الطالبي والتحاقه بالوظيفة وارتباطه بالمؤسسات مع ما يتبع ذلك من تقلص لقاعدة الحياة الحرة وتفرق الشمل زيادة على انسداد فضاءات النشر.
ورافقت ذلك نبرة شاكية من تلك العوائق التي باتت تهدد باجهاض الحلم الطليعي المتمثل في تحويل الادب الى شان من شؤون كل الناس «هي حقيقة صارخة يحس بمرارتها كل كاتب حق يتوق الى تبليغ رسالته الى كل افراد الشعب.» (محمد بن صالح بن عمر. متى سيوزع الكاتب مؤلفاته بالمجان في الشوارع؟ المسيرة 8 فيفري 71).
و أمام واقع الحصار هدد بعضهم في لحظة من لحظات الانفعال الشديد باللجوء الى جدران « افريكا»- وكانت حديثة العهد بالبناء وقتها- حيث يكون الفحم اداته في كتابة اشعاره «هب ان دور النشر رفضت لسبب غير ادبي، طبع مجموعتك الشعرية مثلا، او تلكّأت في ذلك ، جوابك سيكون بسيطا تكتبها بالفحم على جدران « افريكا» مثلا.» (الطاهر الهمامي- كلمة بيانية رابعة في غير العمودي والحر. الفكر. اكتوبر 1970).
في ظل ذلك الاختناق والتخبط عمد البعض الاخر الى تصعيد لفظي داخل النصوص بما اعتبر مسا من الاخلاق العامة وقاد الى المحاكم من ذلك محمد المصمولي لما ورد في قصيدته المضادة «كاسي المومس» واحمد حاذق العرف في قصته «ليالي الارق» المنشورة بـ«الثقافة». العدد 7.
اجهد الطليعيون انفسهم في الوقوف على هذه العوامل وهم يشاهدون حركتهم تصل الى المازق وتتدرج نحو التلاشي، ففسر بعضهم ذلك بتفاقم مشاكلها الداخلية .يشير محمد المصمولي الى «التفكك المؤسف داخل المجددين الطلائعيين (نحو طليعة الطليعة) وفسر بعضهم الاخر الامر بالمصاعب والعراقيل الخارجية التي اصبحت تعوقها عن نشاطها وتطورها من ذلك ان محمد بن صالح بن عمر يعزو الانقطاع شبه الكلي لكتاب الطليعة عن نشر انتاجهم خلال موسم 1972 الى سببين، الاول رفض المجلات مبدا المقابل المادي، والثاني رفضها نشر الانتاج المكتوب بالدارجة (ادب الطليعة يمر بازمة نشر في تونس. الناس-1-7-72).
و ذهب اخرون الى تفسير الازمة باختيار كتاب الطليعة التخلي الطوعي عن الحركة ومجاوزة مفاهيمها وتصوراتها (محمد بن صالح بن عمر. نهاية حركة. الناس 15-7-72).
«الشخصية التونسية»
منذ انطلاقتها خاضت الحركة في مسائل شائكة مدارها الهوية. وجاءت عديد المقالات التنظيرية حاملة صفة «التونسي» واضحى تجلي «الشخصية التونسية» في الاثر الادبي هو المدار ووجد التنظير لهذه الفكرة ما كانت تنشره «الفكر» من مقالات رئيس تحريرها (البشير بن سلامة. مقومات «الشخصية التونسية». الفكر عدد 4. جانفي 71 و«حول معاني الشخصية والامة». الفكر عدد 6. مارس 71، و«في الادب الجاهلي التونسي- 20 مارس 70).
بيد ان الخلاف حول تصور هوية الحركة لم يلبث ان طفا على السطح، فعيب على اصحاب هذا المنظور «الانفصال المضحك عن الحركات التجديدية السابقة في تونس وفي الشرق العربي وفي الغرب واعتبر بعض الطليعيين «التونسة مشكلة زائفة ودعوة مشبوهة». وعبر اخرون عن احترازهم من ان تخدم «بعض الافكار الاجنبية» الساعية الى ربط الادب التونسي بالادب اللاتيني القديم على غرار ما فعل دعاة «الفرعنة» في مصر (حسين الواد. من مواقع الحوار 12-2-71).
هكذا اجاب الرواد عن سؤال الهوية. وانطلاقا من هذا الجواب كانت الدعوة الى مراجعة المفاهيم برفض «المشاعر الابوية الثقيلة» للمشارقة (عز الدين المدني. أدب عربي ام آداب عربية ؟ ثقافة. صيف 72) والدعوة في المقابل الى قراءة جديدة لتاريخ «الآداب العربية» تولي المغرب المكانة التي يستحق والى تركيز اهتمام التلميذ والطالب على «تاريخ بلاده وأدب بلاده وشخصية بلاده» وأضحى الأساسي في التنظير الطليعي هو البحث عن مفقود اسمه تونس.
في معنى الاصالة
وانتقلت الأصالة وفقا لمنظور «التونسة» من مدلولها التقليدي الماضوي الى الدلالة على انغراس الابداع في الحاضر زمانا ومكانا، فأضحت الأصالة التونسية بديلا في الاستعمال عن الأصالة العربية وبدت احيانا كالنقيض.
وتم التعريف بالأصالة بانها «تجاوز للتراث بواسطة النقد» وقياس أصالة الادب بمدى تجذره في عصره وناسه (الطاهر الهمامي. لماذا أصبحت أكتب بالتونسية؟ 19-5-72).
والاصالة «لا تعني الرجعية والتمسك بكل ما هو قديم على أساس انه خالد خلود الدهر» (محمد بن صالح بن عمر والهادي
بوحوش. - الفكر. فيفري 70).
وبناء على ذلك حاول الطليعيون رد تهمة انتفاء الاصالة عنهم. ودفعا لشبهة معاداة العروبة سارع الدعاة الى نفي «الاقليمية الضيقة والانطواء البغيض» والتأكيد على أن مصطلح «تونسي لا يتنافى مع عربي». وتجذيرا للحركة في التراث العربي تمت الدعوة الى استخدام أشكال القص القديم (حديث، خبر، مقامة) كما عاد البعض يبحث عبر الأدب التونسي المعاصر عن نَسَب وجده عند علي الدوعاجي (محمد بن صالح بن عمر. علي الدوعاجي في درب الاصالة. 6 فيفري 70) فيما اجاب البعض الاخر بصريح العبارة «الاصالة مشكل زائف ارادت به الرجعية تبرير جهلها». (سالم ونيس. الادب الطلائعي-المسيرة- 15 مارس 71).
و لكنه سيظل جوابا غير مقنع، ويظل بذلك اشكال الهوية قائما والانبتات «لعنة» تلاحق الحركة وكتّابها.


إعداد محمد علي الحباشي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى