محمد مصمولي - خمسينية حركة الطليعة الأدبية التونسية

1

.. خمسينية حركة الطليعة..!

.. أية طليعة؟

..إنّها.. «الطليعة الأدبية التونسية» التي تأسّستْ منذ نصف قرن من الزمن، أي في عام 1968 .. تحديدا..

.. لماذا أشعر بأنّ هذه الحركة قد عمّرتْ طويلا في ذاكرتي، كل هذه الأعوام، دون أن يصبح نسيانها بالشيء اليسير..؟ ألأنّها قضت نحبها في المهد؟

.. هل يعودُ هذا الشعور إلى كونها بنفس السرعة التي أقبلت بها على الساحة الثقافية.. قد رحلتْ عنها؟

.. أمْ لأنّها ظلت حاضرة، برغم الغياب، روحا طليعية تنبض في «البعد الخامس» لعروسية النالوتي، وفي «الرحيل الى الزمن الدامي» لمصطفى المدائني، أو في «امرأة الفسيفساء» لسُوف عبيد، أو في «عناقيد الفرح» لمنصف المزغني أو في «البحر في كأس» لمحمد أحمد القابسي بل إنّ هنالك من قال.. أنّ «طليعة الستينيات قد أفرزت «طليعة ثانية» في اتجاه «الأخلاء» للشاعر الصادق شرف الذي كتبتُ لهُ شخصيا كلمة تقديم لكتابه «الحبّ مع تأجيل التنفيذ».

.. وهل يمكن لأيّ واحد من هؤلاء الشعراء الذين حلّ ركبهم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أو في الثمانينيات أو التسعينيات أن يقولوا بأنّهم ليسوا جزءا من الطليعة أمثال حميدة الصولي ويوسف رزوقة ومحمد معالي وسميرة الكسراوي ومحمد بن صالح وادم فتحي وعلي دب ومختار اللغماني ومحمد أولاد أحمد ومحمد العوني وعبد الله مالك القاسمي وغيرهم. شخصيا لا أعتقد ذلك فلو تنكروا لحركة الطليعة الأدبية التونسية لجافوا.. الحقيقة كثيرا..!

خمسينية حركة الطليعة.. مرّت في عام 2018 الذي أكتب فيه هذه المذكرة. وأنا أتذكر أنني قبل لحظة التأسيس، قد نشرت مقالا في شهر جويلية 1968 بعنوان «أدبنا والمدار المغلق».

بل أنا أتذكر أنني قبل بروز حركة الطليعة. بستّ سنوات كنتُ أمارس في مجلة «الفكر» وخارجها «الاعتراض على عروض النظم» (كتابة وتنظيرا)، ثم بعد مشاركتي في تأسيس هذه الحركة.. أصبحت أمارس «الاعتراض على نظرية الأجناس الأدبية» (كتابة لـ«القصائد المضادة» وتنظيرا لها).

... كان الأدب بمثابة فعل التنفّس الممكن والوحيد.. لوقف الإختناق الذي نشعر به، نحن شبان مرحلة ما بعد الاستقلال، كتّاب الطليعة.. وشعراؤها.

... وفي تلك السنة كنّا نحمل في إحساسنا جراح السنة التي قبلها التي انهزم فيها العرب جميعا أمام الجيش الاسرائيلي وكنّا نصطدم بالتناقض السافر بين قيادة تبني الدولة الحديثة ثم تحيي عيد ميلادها بأنموذج جاهلي للعكاظيات المدحية.. المفتعلة..

كما كنّا نفكر في انتفاضة (ماي 68) الفرنسية التي قادها الشباب وأزعجت شارل ديغول.. وحرّكت السواكن في القيم والمؤسسات.

أما على صعيد مطالعتنا للكتب.. فكنّا نواكب بعض ما صدر خارج الحدود التونسية والعربية من مؤلفات لـ «جيل ديلوز» بعنوان «الإختلاف والتكرار» ... ولـ «سليولتسين» بعنوان «الدائرة الأولى».

كما كنّا نتابع كل صغيرة أو كبيرة في «اللاّ ـ رواية» الفرنسية اثر موجة (ماي 68)، واخبار جائزة نوبل التي فاز بها في عام 1968... الياباني «كواباتا سوناري».

وبالنسبة إليّ شخصيا... كنتُ أقرأ... وأعيد قراءة مؤلفات: لرائد «قصيدة النثر في فرنسا «شارل بودلير»، وللشاعر «سان جون بيرس» و«ريني شار» و«أراغون»... وذلك إلى جانب قراءات أخرى من بينها «للتوحيدي»، و«أبي فرج الأصفهاني»، و«ابن عبد ربه الأندلسي» و«محمود المسعدي»،... وأيضا مجلة «شعر» ومجلة «مواقف» لـ «أدونيس» التي صدر عددها الأول في 1968.

خمسينية .. حركة ... الطليعة...!

أية حركة?

إنّها حركة الطليعة الأدبية التونسية التي تأسست منذ نصف قرن من الزمن .. بداية 1968 وكانت أوّل حركة جماعية في تاريخ الأدب التونسي، بذلك الحجم الذي برزت به، وبالمعركة التي أثارتها في الساحة، وكادتْ ـ كما قال الدكتور الطاهر لبيب ـ «أن تحدث تغييرات جذرية في الأبعاد المفهومية للثقافة التونسية».

ثم إنّ هذه الحركة التي دامت أربع سنوات فقط من 1968 إلى 1972 قد أنتجتْ ما يُنَاهِزُ ستمائة نص، وذلك بمعدل نص واحد... كلّ يومين..

لماذا هذا الصمت عن خمسينية تيار طليعي.. فكري وإبداعي?


***

2

.... «الذاكرة المثقوبة»... بعد السنوات العجاب لحدث 14 جانفي 2011، بما تضمنته من شعارات جوفاء وتجاذبات حمقاء... وغير ذلك من «معارك ديكة» بين الفرقاء السياسيين... في اعتبار بعضهم من «الثوراجيين» أنّ ماضي دولة الاستقلال... مجرد استبداد وخراب، في حين أنّ بعضهم الآخر ... من الراكبين على ما سُمّيَ بالثورة في اعتبارهم أنّ مستقبل الثورة كَامِنٌ في الماضي الغابر الذي يريدون إحياءه من متاحف التاريخ... ومقابر التراث.

هذه «الذاكرة المثقوبة» عند الفرقاء السياسيين، عند جانب كبير من ممارسي الثقافة الذين عرفوا شيئا وغابت عنهم أشياء... جعلتهم... في جهل تام أو تجاهل متعمّد... يَنْسَونَ أو يتناسون خمسينية «حركة الطليعة الأدبية التونسية» (1968 ـ 1972) التي مثلت نقطة تحول في التاريخ التونسي للأدب، ومثلت حلقة متميزة من حلقات مَتْنِهِ... ونبضه الحي.

أما أنا، في إشارتي إلى هذا التيار الإبداعي والفكري بمناسبة خمسينية ولادته،. فأعترف بأن حدث 14 جانفي 2011 حين ذهب بنا الظن إلى أنّه... ثورة بحق، ثورة شبابية شعبية بحق، وليست «ثورة مغدورة» فقد أَعادَتْ لي مسيرات احتجاج الشباب ذكرى تأسيس حركة شبابية أخرى، قادها نفر من جيل شباب الاستقلال، جُلّهم في سِنّ الدراسة الجامعية، وأعني بهذه الثورة... ثورة حركة الطليعة الأدبية التونسية التي بلغت عنفوان تألقها لمدة أربع سنوات فقط (1968 ـ 1972)، ولم ينفرط عقد رُوادِها و... مبدعيها الطلائعيين.. إلا ليتواصل، إشعاعها في «طليعة ثانية» كما قال بعض الدارسين، وكأنّ هذا التيار التجديدي المتميز، تيار حركة الطليعة الأدبية، الذي مثل حلقة من أهم حلقات متن الادب التونسي.. لم ينته في بداية السبعينيات الا ليبدأ من جديد.. ربّما بزخم أكبر، وتنوع أكثر..

ولأنني توسّمتُ خيرا في حدث 14 جانفي 2011، وحسبتُ أنه ثورة شبابية بحق، فقد عدت بالذاكرة إلى ثورتنا الثقافية الشابة في (1968ـ1972،) وعدت الى نشر ما لم أنشره من نصوصي... فأصدرت مجموعة شعرية بعنوان (في الصمت متسع للكلام) بتاريخ 2012... وهي تتضمن نصوصا كتب بعضها في أواخر الستينيات، كما أصدرت الطبعة الثالثة من كتابي بعنوان (رافض والعشق معي) الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في 1972، وكذلك نشرت في 2014.. كتابا آخر بعنوان (من كناشات صاحب الغليون) متضمّنا نصوصا تنظيرية للشعر والأدب.. كتبت جلها في زمن الطليعة أو بعدها بقليل.. أما الكتاب الأول ضمن هذه السلسلة فقد صدر في 2012 بعنوان (ها أنت.. أيتها الثورة).

... أريد بهذه المناسبة أن أحيّي أرواح الكتّاب الطليعيين الذين سبقونا إلى المثوى الأخير من أمثال: محمود التونسي، وسمير العيادي، والطاهر الهمامي، وكذلك صالح القرمادي، ومختار اللغماني إضافة الى توفيق بكار الذي كان قريبا من الحركة، وكانت الحركة قريبة منه..

.. مثّلت حركة الطليعة الأدبية، أثناء ظهورها بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين بديلا ثقافيا لما كان قبلها في الساحة التونسية.. وهو بديل متكاملة مكوناته الشعرية والقصصية المسرحية والنقدية..

.. بل إنّه متكامل مع مكونات أخرى مثل الرسم (نجيب بلخوجة) والموسيقى (محمد القرفي)..

... كما يرتكز هذا البديل على وحدة في التنوع.. بين جبهات إختلاف على النحو التالي:

.. (1) جبهة (التجريب)، قصة ومسرحا (عزالدين المدني، سمير العيادي)

.. (2) جبهة (الشعر المعترض على عروض النظم) (القصيدة المضادة): ويمثلها محمد مصمولي، و(غير العمودي والحر) وويمثله الحبيب الزناد وفضيلة الشابي، والطاهر الهمامي، و(«أشعار بلا شعار») ويمثلها صالح القرمادي ومحمود التونسي وسمير العيادي... ونورالدين عزيزة وغيرهم.

... (3) ـ جبهة «التنظير النقدي» ويمثلها: عزالدين المدني، والبشير بن سلامة ومحمد مصمولي ومحمد صالح بن عمر والطاهر الهمامي، وأحمد حاذق العرف، وتوفيق الزيدي ونورالدين عزيزة وابراهيم بن مراد وأحمد مموّ وحسين الواد وسالم ونيس وغيرهم.

ولدت حركة الطليعة، حسب الناقد محمد صالح بن عمر، «استجابة منطقية لفراغ ايديولوجي ثقافي لم تقدر على ملئه الانتلجنسيا الرسمية بعد الاستقلال، وكانت السلطة قد أحسّت لأول مرّة بمدى خطره على الشباب عند نشوب الاضطرابات الطالبية واسعة النطاق التي أثارها العدوان الاسرائيلي على الأراضي العربية في حزيران 1967 والتي قادها تيّاران هما اليسار الماركسي والاتجاه القومي العربي...»

... لكنّ ناقدنا محمد صالح بن عمر يقول أيضا عن حركة الطليعة بأنها بديل ثقافي تونسي متكامل «إستمدّ أسسه ومقوماته من نظرية الأديب محمد مزالي مدير مجلة «الفكر» في التونسة والتعريب وحظي بتشجيع مباشر من رئيس تحرير المجلة نفسها الأديب البشير بن سلامة..»


***

3

... تمرّ الأعوام، على العَهْدِ بها، في عَجَلَةٍ مِنْ أمرها، وكأنها لا تبوح بسرّها الى أحد من الناس، لكنّ حركة الطليعة الأدبية التونسية التي تشعرني بأنّها كانت لحظات في حياتي ملتهبة... تظلّ إشْتِعَالاً... تأبى وقدته أن تنطفئ وذلك بالرغم من نقاط الالتقاء... ونقاط الإختلاف... التي كانت بيني وبين بعض زملائي الشعراء والكتاب/في/الحركة، وبالرغم أيضا من أشياء أخرى لا تقال....

... ولعلّ الأهم من كلّ شيء في حركتنا الأدبية تلك هو ما اعتبرته شخصيا ودعوت اليه وفشلت في تحقيقه حفاظا على ما يجمع بخيط رفيع جبهات الإختلاف، وفقا لوحدة في التنوع، هي وحدة التجريب والسعي الى التميز عن المعتاد والمألوف.. كما السعي الى تمايز بعضنا عن بعضنا الآخر...

وبكلام أوضح... فالأجمل، أستطيع أن أقول، في حركتنا... هو تلك الحركية، والدينامية... والحلم والمغامرة من أجل أن نفكّر بصوت عال وأن نحتجّ ضدّ ما هو مفروغ منه... ومتفق عليه أو مسكوت عنه... وأن نلقي بحجرة في البركة الآسنة...

فقد كان الجانب الكبير من زملائنا في الطليعة يتصوّر أنّ الأدب «التونسي» البديل للأدب «الرديء» الذي كان سائدا يَكمن في الخط الثالث للِاشرق وللاّغرب (كما ذهب إلى ذلك الزميل عزّ الدين المدني) أو في «التطعيم الإيقاعي» للفصحى بالدارجة (كما ذهب إلى ذلك رئيس تحرير مجلة الفكر) الأديب البشير بن سلامة، أو في الاستعاضة عن الفصحى بالعامية (كما ذهب إلى ذلك الشاعر الطاهر الهمامي) عندما اعتنق «المنحى الواقعي» ودعا إلى «الكتابة باللغة التونسية»... لتصبح الدارجة الشفوية بَدِيلا للغة الأم أي للغة الكتابة).

... صِيغٌ ثلاث لِتَوْنَسة واحدة... وهي صيغ مختلفة:

ـ الأولى تركز فيها الهوية المنشودة على أدب تونسي لا شرقي ولا غربي لكنّ لغته ليست بالضرورة ... عربية أو عامية، ويمكنها .. حتى أن تكون أجنبية!!

ـ الثانية ترتكز على مسألة الشخصية التونسية الوطنية ولكنّ لغة الأدب التونسي تقتضي تطعيمها إيقاعيا باللهجة الدارجة دون الاستعاضة عنها باللهجة الدارجة.

ـ الثالثة وهي الأخطر، تَدْعُو إلى الإستعاضة عن اللغة بالدارجة التونسية، وإلى الإستعاضة عن الإبداع بالإيديولوجيا وهي تذكّرنا لا فقط بما ألفناه في بعض الآداب الشيوعية من البحث عن «مخاطبة الشعب بلغة الشعب»، أي بالعامية، وإنّما تذكّرنا أيضا بأساليب الإستعمار في الماضي التي يُرِيد بها إقناع المجتمع العربي... بازدراء ثقافته العربية عن طريق حمله على الشكّ في لُغَتِهِ وإحتقارها، إيمانا منه ومن استراتيجياته الجهنمية بأن مَوطن القوة... ومراكز المقاومة هي الثقافة العربية لأنّ الذاتية العربية تتمحور، إلى جانب سِمَات أخرى حول لغتها العربية بِمَا تحمله مِن قيم سامية وتجارب غنية وإبداعات فكرية خالدة.

وأنا هُنَا لا أنطلق من إيديولوجيا قومية للردّ على إيديولوجيا شيوعية بل من إعتبار أنّ قضية اللغة، قضيّة أساسية على مستوى الشخصية الحضارية في المعنى الأنتوبولوجي، وعلى مستوى الشخصية الثقافية في المدلول الفكري...

* * *

.. تلك هي الاجتهادات التي كانت، باسم التونسة والأدب التونسي البديل فكنت شخصيا أقرب الى بعضها من قربي من بعضها الآخر، وهذا الاخر الذي جعلني أستقيل عن اللغة الأم، لغة الكتابة باللهجة العامية، وفي الاستعاضة عن الإبداع بالإيديولوجيا الشعبوية.

لكن هذا الاختلاف المبدئي مع الدعوة المشار اليها من قبل المرحوم الشاعر الطاهر الهمامي في بداية السبعينات لم يمنعني لدى إشرافي على دار الثقافة ابن رشيق في الثمانينات من القرن الماضي أن أستضيفه بمعية الناقد الطليعي محمد صالح بن عمر في نادي الشعر.. وبحضور شعراء آخرين أذكر من بينهم.. آدم فتحي ومحمد العوني ومنصف المزغني وآخرين.. ليدافع عن قناعاته في الشعر والأدب .. كما يريد..

بل إنني وبرغم إستقالتي التي عبرتُ عنها في كتابي الشعري الأول (رافض والعشق معي) الصادر في سنة 1972 وذلك بعد الانتكاسة التي عرفتها حركة الطليعة الأدبية... وبالخصوص غياب اتجاه (في غير العمودي والحر) الذي يمثله شاعرنا الراحل الطاهر الهمامي ظللت من المدافعين عن الطليعة.. أما موقفي من مفهوم «الأدب التونسي»، فهو يتمثل في أنّ تنوير اللغة فيه ينبغي ألاّ يكون على حسابها، والبحث عن بديل لها...

لكن هل يجوز القول بأنّ هناك أدبا تونسيا، وآخر جزائريا، وثالثا مصريا أو سوريا أو لبنانيا؟

وأتذكر أن كاتبنا الكبير محمود المسعودي سُئل ذات مرة عن الأدب التونسي فقال:

ـ :«الجواب الصحيح عن سؤالك.... أسألك بدوري هل في إنتاجنا التونسي ما يثبت وجود الأدب التونسي؟ وما هو؟ وعلى ذلك فإني أودّ شخصيا ألاّ يكون لنا أدب تونسي في المعنى الضيق كما يتصوره الناس.. عامة.. بل أتمنّى ألاّ يكون الا أدبا يكون فرعا من الأدب العربي عامة... ويكون ضمنه شعبة من الأدب العالمي.

***

4

... عندما تجرّني ذكرى حركة الطليعة الى وقت لم يذهب بعدُ، أي الى فجر سنوات السبعين من القرن الماضي، أراني كنت أحلم حياتي أكثر ممّا كنتُ أعيشها، وأرى بعيدا أمامي.. أحلاما لا يمكن أن تدفن في قبر، وتذكارات كالبلاسم التي لا تندمل، وذلك المنبر الإعلامي المتمثل في مجلة «ثقافة» التي تصدر عن دار الثقافة ابن خلدون، وتحتضن من شهوات القلب. نصوصا شعرية وأدبية نقدية لرفاق الكلمة والحرف ومن بينهم: عزالدين المدني، وسمير العيادي، ورضوان الكوني، وأحمد ممو، وابراهيم بن مراد، وصالح القرمادي، ومحمد صالح بن عمر، ومحمود التونسي والطاهر الهمامي، وفضيلة الشابي وعروسية النالوتي، والحبيب الزناد، ونور الدين عزيزة، وأحمد حاذق العرف الخ..

... بعض هؤلاء الرفق .. قد سبقتنا رحالهم الى المنازل الخفية وبعضهم الآخر من حركة الطليعة، مال ميزانهم وطفقت العتمة تتساقط عليهم أو انقطعت أخبارهم أو.. بدؤوا يدركون أنّ الأدب.. كالحب، أوّله تطلع الى الآتي.. وآخره إلتفات إلى الماضي (مثل.. ما أنا بصدده الآن في حديثي عن حركة الطليعة التي مرت خمسينية ميلادها.. في غفوة من «الذاكرة المثقوبة»).

تلك المجلة، أي مجلة «ثقافة» كانت ثاني منبر لكتاب حركتنا.. بعد مجلة «الفكر» التي كان لها شرف السبق في احتضان تطلعاتنا الأولى الى الإبداع.. حين كن نحسب أنّ الدنيا تبدأ منا.. أو... عليها أن تكون كذلك.. كما نريد.. ونهوى..

.. لكنّ مجلة «ثقافة» شاءت لها رياح المصادفات أن يبدأ عددها الأول بحوار أجراه معي رئيس تحريرها الأديب الراحل سمير العيادي، وأن يصادر عددها الأخير.. بشكوى رفعتها الى المحاكم جمعية «المحافظة على القرآن الكريم» ضد قصيدة بإمضائي وقصة بإمضاء احمد حاذق العرف.. وذلك بتهمة المسّ من «الاخلاق الحميدة» (حسب ما جاء في الشكوى).

.. أي أخلاق حميدة<

.. وما دخلُ الأخلاق في الأدب؟

.. فالرقابة التي مدّت سيقانها الوسخة فوق.. حرمة الفن، ومحراب الأدب، قد استهدفت من خلالي حركة الطليعة الأدبية التونسية.. وهذه المجلة، مجلة «ثقافة» التي ليس لها من ذنب سوى فتحها صفحاتها لأقلام.. تحلم بأدب آخر، وبشعر آخر، وبنقد آخر، وبقصة أخرى، وبمسرح مغاير.. وأيضا.. بواقع أفضل أكثر حرية...

... أقلام ثائرة ... فكريا وإبداعيا..

.. أقلام متمردة على المألوف والمعتاد...

... أقلام رافضة للمتفق عليه.. والمفروغ منه

.. أقلام تكتب صمتها بأصوات عالية.. ضدّ طقسية النمذجة للتكرر.. في الساحة الثقافية.. وفي ما جاورها.. من قريب أو من بعيد، أفقيا.. وعموديا..

.. هم يريدون أن يكون أدبنا الثائر جزية وضريبة ومشيا مستمرا على سطح من كبريت.. بأقدام حافية..

... تهمة المسّ من «الأخلاق الحميدة»، هكذا يقولون، فيا صدق التهمة، و.. يا نعْم السبة!

.. هل هؤلاء «الملتحون».. «المعمّمون» ، هم نفسهم الذين تهجّموا على زميلي في الطليعة الأدبية، وحرقوا ذلك العدد من مجلة «الفكر» المتضمن لقصة «الانسان الصفر» في الساحة العامة.. فقال عنهم «عزالدين المدني» ما يلي:

ـ «بعض رجال الدين الذين كانوا في الماضي من الأدباء الأردياء فلجؤوا الى الفقه البسيط.. واستخرجوا منه أحكامهم المسلحة.. وكأنّها محاكم التفتيش الكاتوليكية الجاهلية الرهيبة قصد القمع والقتل وهي ليستْ بأحكام الاسلام.. الدين المتنور.. وكأنهم بأفعالهم أكثر إسلاما.. وأعمق ايمانا... وأرسخ إعتقادا منا.. هيهات ثم هيهات..!».

... لكن ّ الفرق بيني وبين عز الدين المدني الذي تعرض لحملة مسعورة في الصحافة والمساجد هو أنّه لم يتعرّض مثلي إلى استنطاق بوزارة الداخلية... وإلى استنطاق آخر بالمحكمة الإبتدائية... بتونس العاصمة.

... وأنا.... في نظر هؤلاء الذين جروني إلى المحاكم.. قد أكون... «يساريا» مثل بعض كتاب أسرة تحرير مجلة (ثقافة) التي صادروها ومن بينهم الأستاذ صالح القرمادي.

وقد أتشرف بهذه التهمة لو كنتُ كذلك فعلا ... لكنّني في الحقيقة والواقع... لم أكن «يساريا» بالانتماء الحزبي بل... بالكتابة التي أردتها... معارضة ثقافية من خارج المعارضة السياسية... وسلطة ثقافية... من خارج سلطة السياسة.

.... وممّا أتذكره هو أنّ الكاتب التجريبي عز الدين المدني قد وصفنا، نحن كتاب حركة الطليعة، بـ «اليساريين/الثوريين» لكن على مستوى العقلية الأدبية، وكذلك على مستوى الأدب والكتابة والفن والفكر الجمالي... فقط...

... ولأنّ تهمة «اليسارية» تعني في أذهان المتطرفين بإسم الدين... قِلةَ الأدب والمسّ من الأخلاق الحميدة، والعلمانية والزندقة... فقد صَادَرُوا مجلة «ثقافة» بسبَبِي، وجروني إلى استنطاق البوليس والقاضي السيد «البشر كدوس» بالمحكمة الإبتدائية بالعاصمة.

... فهل هُمْ يُريدُون من الأدب أن يكون كالمرأة الحسناء المحجبة أو المنقبة التي لا حَقَّ لغير بَعلها أن يتمتع بجمالها?

... أليس الأدب، كما أردناه في حركة الطليعة الأدبية، إحداث خلخلة في الأشياء وفي المفاهيم والرؤى?

***

5

... أظنّ أنّ طاقتك على النسيان، مهما عظمت، بعد العقود من السنين التي عبرت حياتك تباعا، بحلوها ومرّها، لا تكفي لكيْ تنسى ما حصل لك... هنا وهناك من أحداث... ظلت... كالوشم على الذاكرة.

... بعض تلك الأشياء أفراح وأتراح

.... وبعضها الآخر... خليط من الأفراح التي يخالطها الألم، أو الأتراح التي تسجل لك اعترافا أدبيا بأنك موضوع اهتمام... ما... من الآخرين الذين يعاصرونك... مخاصمين، ويمرون من حولك... حاسدين... ناقمين.

... أحداث صغيرة أو كبيرة ليس نسيانها بالشيء البسيط... تتذكرها، بالرغم منك، فترتعش أو تسخر منها.

... ألم تشعر به إزاء ما فيها من ظلم أو قهر، أو مصادرة لحرية التعبير لديك.

... ألم، فأنت بعد انخفاض حدّته، تحس دون تضخيم صورته... بأنه كالفرح.

... شخصيا أرى أنّ ما لدي من طاقة للنسيان... لا تكفي لأنسى تلك الحالة التي جرّتني الى استنطاق، أول بوزارة الداخلية، وثان الى استنطاق... بالمحكمة الابتدائية... في سنة 1972.

استنطاقان إثنان من أجل قصيدة واحدة بإمضائي في مجلة (ثقافة).. وبتهمة واحدة هي: المسّ من الأخلاق الحميدة.

أما الطرف الوحيد الذي وقف وراء التهمة ورفع قضية ضدي فهو.. «الاسلام السياسي»... والمتمثل في جمعية المحافظة على القرآن الكريم..

ولك.. أن تتساءل عن العلاقة التي أراد هؤلاء أن يحشروا فيها الدين في الأدب، أو الأخلاق الحميدة في الشعر، أو القرآن الكريم.. في الفن؟

... أحسبُ أنّ تلك الحادثة التي كنت ضحيتها، أي حادثة المصادرة لحرية التعبير، كانت بداية مؤشر على دخول هذه الآفة في تونس 1972.. وبداية تشكّل ظاهرة الخلط بين المقدس (الدين) والمدنس (أي السياسة)..

.. وفي الحالة الثانية التي لا يكفي ما لديّ من النسيان لأنساها فقد وجدتني هدفا سهلا عن طريقها.. لمساومة خبيثة، تخضعني، ان أنا.. لم أوافق على تغيير صفتي من موظف قار بمؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية.. الى صفة متعاقد وقتي، فإنني أصبح مهددا بالطرد منها، هذا أوّلا، ومن جهة أخرى، إن أنا دافعتُ عن نفسي.. أصبح مهددا بتهمة «يساري» وهي تهمة كانت في ذلك الوقت من سنة 1975.. تؤدي حتما الى السجن مباشرة.

أما الطرفُ الوحيد الذي خيّرني بين الطرد والسجن فهو شاعر كنت أجلّ شعره.. ولا أرتاح لسلوكه، لا سيما في تقليده «للمتنبي»... وتصريحه للصحافة ذات مرة، بأنّه أفضل من الشاعر أبي القاسم الشابي في شعره..

وممّا زاد الخلاف بيني وبينه حدة.. هو كتابتي لمقالين أو ثلاثة في نقد شعراء المدح.. وكتابتي ذات مرة لمقال نقدي لديوانه الشعري، الاول.. وايضا لخلافي معه حول تهجمه على حركة الطليعة الأدبية التي كنت طرفا فيها..

ولما تحوّل هذا الشاعر الى مدير للإذاعة الوطنية التي كنت من أبرز منتجيها الثقافيين.. لم ير مانعا من إستغلال موقعه الرسمي لتسليط ضغوطات مباشرة وغير مباشرة على إنتاجي، ثم الالتجاء الى أسلوب آخر أراد به تغيير صفتي كموظف قار في المؤسسة الى صفة.. متعاقد وقتي وذلك بالرغم من أقدمية انتسابي الى هذه المؤسسة لمدة أكثر من عشر سنوات من الزمن في تلك السنة من منتصف السبعينات.

.. وطبعا فقد رفضت قراره الأول المتعلق بتغيير صفتي المهنية الى صفة متعاون خارجي.. وواصلتُ العمل، فعلمتُ في وقت لاحق، وعن طريق أحد زملائي المقربين منه، بأنّ هذا الشاعر المدير.. قد شرع في إعداد ملف يتعلق بتهمتي بالإنتماء الى اليسار، وهي نفس التهمة التي وجّهتها اليه جمعية المحافظة على القرآن الكريم في سنة 1972..

.. وهذه التهمة لو رفعها ذلك الشاعر المدير القريب جدا من القصر الرئاسي، في ذلك الوقت، لقام النظام البوليسي المكلف بمعاداة اليسار.. بواجبه معي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى