ولدتُ في التسعين من عمر العراق، كان دخان حرب ثمان سنوات مازال يصافح السماء، فشربت الحصار، وفتحت عيني على غزو الكويت وحرب الخليج. فطمتني أمي على صوت القنابل وعويل الأرامل، حملني همّ أبي إلى حقول الرز في المشخاب، لتخبرني أمي أنه غاب في حرب لا أذكرها وعاد مرة مخذولا، سألتْه : مابك؟ قال : لم أجد جثة أخي كاظم! ، عمي الذي ترك خلفه حفنة من الأولاد ، لقد بحث عنه في المحمرة ونهر جاسم بين وديان الجثث المصطفة على طابور المقبرة.
تنفست الصعداء عندما دخلت مدرسة ابن زيدون، نقتسم أنا وأخي لفة واحدة ، ومازلت أشم رائحتها، كنت الأول في صفوف الابتدائية، كثير من أصدقائي الآن يتذكرون ذلك، حتى دخلت الصف الخامس، فاضطررتُ لترك المدرسة كي أعمل في (بسطية) لبيع السجائر، في السوق القديم، فأخذ العمل مني نصاعة وجهي، كانوا ينادوني (تفاحة) لتورد خديّ، ثم ذبلت التفاحة، وعدت لأتعلم شرب السجائر في السادس الابتدائي مع صديقي الذي استشهد في حرب داعش، وكنت أقرأ مع صديقي الآخر الذي استشهد في (الفتحة) في حرب داعش أيضا، ونجحت لأدخل المتوسطة.
تركت المتوسطة أيضا لأعمل فوق رصيف السوق القديم نفسه، حاملا هموم أهلي و فطور البطاطس الذي لا يشبع جوعان.
في عصر أحد الأيام، اختباتُ أسفل درجٍ خائفا من صواريخ أميركا التي قصفت (الرادار) خلف بيتنا، لمحت لون الصواريخ لأنني سرقت نظرة للسماء، وبعدها بأيام عدة،٢٠٠٣م سمعت بمصطلح الحواسم، حيث بقينا أسبوعا بين جدران تهتز من صوت المدافع على بعد قريب منا، فاختلفت الحياة و أحيل أبي للتقاعد بعد خدمة طويلة في معمل الإطارات الذي أصبح الآن مكبّا للنفايات .
اشتغلت بائعا جوالا و كهربائيا و ندافا و عامل بناء و خبير بناء حتى ذقت مالم يذقه(ابن القصور) ، رأيتُ كيف ساعد المال أصدقائي ليصبحوا دكاترة و يركبوا سيارات و يتغنوا بأمجادهم لأنهم لم يعرفوا ثمن (سجائر السومر) ، فعدت للدراسة بعد أربع سنوات في ظل سخريتهم، أولئك الذين ظنوا أني متُّ من زمن بعيد، واستمر العمل صباحا و الدراسة مساءً لستّ سنوات، كنت حينها أقرأ وأتناول الغداء في حين واحد لأكون متميزا صادقا في عملي، لا أعرف معنًى للكذب أو الرياء أو التملق.
فقدت أبي ٢٠٠٩م ليقع الحِملُ على عاتق الأموات، انتهت صفحة من بقايا الأمل في الحياة، ومازلت حائرا بأجرة السيارة الذاهبة حيث الجامعة .
تركني نصف رفاقي شهداء في حرب داعش و نصفهم الآخر تفجيرا، استمررت بالدراسة والعمل، لا أدري أين رفاقي الآخرون حينها، ربما بعض منهم وجد له أبوه وظيفة جيدة، والآخر دراسة في الهند، والآخر زوجة من عالم سندريلا أو جاء له بسيارة حديثة، ولأنني لم أغشّ _مرّةًواحدة أو أتسلق على أكتاف الآخرين تخرجت من كلية التربية بمعدل جيد جدا - مرميا في سيارة تكسي أنقل رفاقي الميسورين الحبابين.
وعيتُ صباح أحد الأيام لأجد يديّ كلتيهما مكسورتين، وأخسر عملي في كل مكان من هذه البقعة المخرومة الذاكرة، فأجريت عمليتين فاشلتين لأخسر كل ما أملك وما لا أملك. ولم أقتنِ شيئا من حياتي غير كلمات الحب من رفاقي واهلي وأصدقائي .. ولكن ماجدوى ذلك؟!
لم يبق لي الدهر حبيبة في نصفي الآخر ، شُلّت يداي بينما كان كثير ممن كسروا قيود الرب واللارب يتسلقون الحياة بحبل متين، تملقا، أو كذبا، الخاسر الوحيد هو الصادق .
حملت نصف ماتبقى من العمر مكسورا ولم أدخل في تيار غير سيري في جانب الحائط، حاملا بقايا وجع الذكريات التي نهشت ماتبقى من الحيوية، لأعود خارجا من دائرة الوجود، رائيًا الذين يتوظفون ويرزقون و يعملون وينظّرون و يروجون و يحملون و يسرقون، يذاع صيتهم في الجانب الآخر من الوعي .
رأيت أصنافا عديدة في عملي سائقا للتكسي، واضعا شهادتي قرب ( السبير ) متنقلا بين الطبيب والبيت..
أخيرا، حتى اشتغلتُ مصححا لغويا و معد برامج في إذاعة للحشد الذي استشهد تحت لوائه أصدقائي الأثيرون، كلما مررت على بابيهما ورأيت أبناءهما يكبران يتامى أشعر أني في الطريق الصحيح!
ولكن، يبدو أن رحلة الدهر التي ابتدأت ب١٩٩٠ وتوسطت ٢٠٠٣ ونشأت ٢٠٠٩ و تحطمت ٢٠١٤ وانتهت ٢٠١٦ لا تفارق حظي الموبوء، فخرجتُ صباحا لأجدني بين رفاقي الذين ماتوا مبحوح الصوت، وأصدقائي الذين تسلقوا على ظهور آبائهم يكسرون الفستق على رؤوس الراحلين...
ربما ستعود التفاحة للخد، أو يموت الخد على الوادي، أو أرى _مرةً أخرى_وجها للحصار في عبوة حليب الأطفال، لكن اللعنة في هذه الشرنقة التي اقتنيتها لايبدو أنها ستزول، لذا حفظت لأول مرة ماقاله هشام الجخ:
أسبح باسمك الله
وليس سواك أخشاهُ
وأعرف أن لي قدرًا
سألقاهُ.....سألقاهُ
وحتى زمن قريب، وفي محاولة أخرى لترميم الذاكرة، لابد من هرمون الحب ، حيث يقول سراج:
قلْ هل أتاكِ حديث ما لا يفترى
إني أصدك كي أحبك أكثرا
وصولا لقوله :
نم يا بنيّ غدا لديك مواجع
إن المواجع تستفيق مبكرا.
ويتيه الباب مفتاحه لأتذكر ماكتبتُ قبل هاوية العمر :
أنا الفقير الذي لم يأكلِ الحلوى
ومن تسليهِ في أفراحِهِ نجوى
تسير بي حادثاتُ الوجدِ منتقلا
بين الجروحِ ندياتٍ إلى البلوى
حبيبتي قصةٌ قد مات كاتبُها
وصيرتني محامي يجهل الشكوى
أمير ناظم
كانون الأول٢٠١٩م
تنفست الصعداء عندما دخلت مدرسة ابن زيدون، نقتسم أنا وأخي لفة واحدة ، ومازلت أشم رائحتها، كنت الأول في صفوف الابتدائية، كثير من أصدقائي الآن يتذكرون ذلك، حتى دخلت الصف الخامس، فاضطررتُ لترك المدرسة كي أعمل في (بسطية) لبيع السجائر، في السوق القديم، فأخذ العمل مني نصاعة وجهي، كانوا ينادوني (تفاحة) لتورد خديّ، ثم ذبلت التفاحة، وعدت لأتعلم شرب السجائر في السادس الابتدائي مع صديقي الذي استشهد في حرب داعش، وكنت أقرأ مع صديقي الآخر الذي استشهد في (الفتحة) في حرب داعش أيضا، ونجحت لأدخل المتوسطة.
تركت المتوسطة أيضا لأعمل فوق رصيف السوق القديم نفسه، حاملا هموم أهلي و فطور البطاطس الذي لا يشبع جوعان.
في عصر أحد الأيام، اختباتُ أسفل درجٍ خائفا من صواريخ أميركا التي قصفت (الرادار) خلف بيتنا، لمحت لون الصواريخ لأنني سرقت نظرة للسماء، وبعدها بأيام عدة،٢٠٠٣م سمعت بمصطلح الحواسم، حيث بقينا أسبوعا بين جدران تهتز من صوت المدافع على بعد قريب منا، فاختلفت الحياة و أحيل أبي للتقاعد بعد خدمة طويلة في معمل الإطارات الذي أصبح الآن مكبّا للنفايات .
اشتغلت بائعا جوالا و كهربائيا و ندافا و عامل بناء و خبير بناء حتى ذقت مالم يذقه(ابن القصور) ، رأيتُ كيف ساعد المال أصدقائي ليصبحوا دكاترة و يركبوا سيارات و يتغنوا بأمجادهم لأنهم لم يعرفوا ثمن (سجائر السومر) ، فعدت للدراسة بعد أربع سنوات في ظل سخريتهم، أولئك الذين ظنوا أني متُّ من زمن بعيد، واستمر العمل صباحا و الدراسة مساءً لستّ سنوات، كنت حينها أقرأ وأتناول الغداء في حين واحد لأكون متميزا صادقا في عملي، لا أعرف معنًى للكذب أو الرياء أو التملق.
فقدت أبي ٢٠٠٩م ليقع الحِملُ على عاتق الأموات، انتهت صفحة من بقايا الأمل في الحياة، ومازلت حائرا بأجرة السيارة الذاهبة حيث الجامعة .
تركني نصف رفاقي شهداء في حرب داعش و نصفهم الآخر تفجيرا، استمررت بالدراسة والعمل، لا أدري أين رفاقي الآخرون حينها، ربما بعض منهم وجد له أبوه وظيفة جيدة، والآخر دراسة في الهند، والآخر زوجة من عالم سندريلا أو جاء له بسيارة حديثة، ولأنني لم أغشّ _مرّةًواحدة أو أتسلق على أكتاف الآخرين تخرجت من كلية التربية بمعدل جيد جدا - مرميا في سيارة تكسي أنقل رفاقي الميسورين الحبابين.
وعيتُ صباح أحد الأيام لأجد يديّ كلتيهما مكسورتين، وأخسر عملي في كل مكان من هذه البقعة المخرومة الذاكرة، فأجريت عمليتين فاشلتين لأخسر كل ما أملك وما لا أملك. ولم أقتنِ شيئا من حياتي غير كلمات الحب من رفاقي واهلي وأصدقائي .. ولكن ماجدوى ذلك؟!
لم يبق لي الدهر حبيبة في نصفي الآخر ، شُلّت يداي بينما كان كثير ممن كسروا قيود الرب واللارب يتسلقون الحياة بحبل متين، تملقا، أو كذبا، الخاسر الوحيد هو الصادق .
حملت نصف ماتبقى من العمر مكسورا ولم أدخل في تيار غير سيري في جانب الحائط، حاملا بقايا وجع الذكريات التي نهشت ماتبقى من الحيوية، لأعود خارجا من دائرة الوجود، رائيًا الذين يتوظفون ويرزقون و يعملون وينظّرون و يروجون و يحملون و يسرقون، يذاع صيتهم في الجانب الآخر من الوعي .
رأيت أصنافا عديدة في عملي سائقا للتكسي، واضعا شهادتي قرب ( السبير ) متنقلا بين الطبيب والبيت..
أخيرا، حتى اشتغلتُ مصححا لغويا و معد برامج في إذاعة للحشد الذي استشهد تحت لوائه أصدقائي الأثيرون، كلما مررت على بابيهما ورأيت أبناءهما يكبران يتامى أشعر أني في الطريق الصحيح!
ولكن، يبدو أن رحلة الدهر التي ابتدأت ب١٩٩٠ وتوسطت ٢٠٠٣ ونشأت ٢٠٠٩ و تحطمت ٢٠١٤ وانتهت ٢٠١٦ لا تفارق حظي الموبوء، فخرجتُ صباحا لأجدني بين رفاقي الذين ماتوا مبحوح الصوت، وأصدقائي الذين تسلقوا على ظهور آبائهم يكسرون الفستق على رؤوس الراحلين...
ربما ستعود التفاحة للخد، أو يموت الخد على الوادي، أو أرى _مرةً أخرى_وجها للحصار في عبوة حليب الأطفال، لكن اللعنة في هذه الشرنقة التي اقتنيتها لايبدو أنها ستزول، لذا حفظت لأول مرة ماقاله هشام الجخ:
أسبح باسمك الله
وليس سواك أخشاهُ
وأعرف أن لي قدرًا
سألقاهُ.....سألقاهُ
وحتى زمن قريب، وفي محاولة أخرى لترميم الذاكرة، لابد من هرمون الحب ، حيث يقول سراج:
قلْ هل أتاكِ حديث ما لا يفترى
إني أصدك كي أحبك أكثرا
وصولا لقوله :
نم يا بنيّ غدا لديك مواجع
إن المواجع تستفيق مبكرا.
ويتيه الباب مفتاحه لأتذكر ماكتبتُ قبل هاوية العمر :
أنا الفقير الذي لم يأكلِ الحلوى
ومن تسليهِ في أفراحِهِ نجوى
تسير بي حادثاتُ الوجدِ منتقلا
بين الجروحِ ندياتٍ إلى البلوى
حبيبتي قصةٌ قد مات كاتبُها
وصيرتني محامي يجهل الشكوى
أمير ناظم
كانون الأول٢٠١٩م